فورّى بقوله: مقطوعا الذي هو حكم السارق عن انقطاع نومه الذي هو ذهابه وعدمه.
وقول مجبر بن محمد:
فسقى محل الجزع من محل به ... غيث تدور على الربى كاساته
سفح سفحت عليه دمعي في ثرى ... كالمسك ضاع من القناة فتاته
فقد ورّى بضاع من الضياع عن ضاع من التضوع. كما قال ابن حيوس:
بمدح إذا ما ضاع في القوم نشره ... فما الند أهل أن يكون له ند
ومن مليح التورية قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
يعني الثريا بنت علي بن عبد لاه بن الحارث بن أمية الأصغر، وكانت نهاية في الحسن والجمال، وسهيل بن عبد الله بن عوف، وكان غاية في القبح والدمامة فمثلها بسمييهما، وأراد بعدهما وتفاوت محليهما. وكل هذا من أبيات المعاني.
في الإشارة إلى مدائح مولانا وفضائله وما ازدانت به الأرض من قصوره ومنازله
لما كان مولانا الملك - خلد الله ملكه - آية الله التي أبداها لعباده وأظهرها، ورحمته التي بعثها على بلاده ونشرها، ومعجزته الموضحة مستور الحكمة ومكنونها، وسريرته المستودعة من غامض علمه ما جعل كل آية دونها؛ فكأن البسيطة ما سطحت إلا لتجول فيها عساكره، وكأن البرية ما خلقت إلا لتنفذ فيها أوامره؛ وجب أن لا تخلو الدنيا من آثاره التي تمجيدها حتم، وتعظيمها فرض، وأن يدوم على هذه الخليقة بهاء المباهاة بها ما دامت السموات والأرض. وهذه الآثار التي انبعث شعاعها من فلك مملكته، وانبسطت أنوارها في آفاق دولته تنقسم إلى قسمين: أحدهما ما يتميز السمع بشريف ذكره، ويتشنف بنفيس جوهره وثمين دره، وهو الإخبار عن غامر عدله، والإبانة عن شامل فضله، والوصف لمواقفه التي كشفت الأعداء فيها وثباته، الذكر لسيرته التي بهر البشر تماديه عليها وثباته. وجميع هذه المناقب قد ثبت في اللوح المحفوظ، وتداولته الألسن فكله من الملفوظ غير الملفوظ، فما تترقى همة الإخلال إلى دراسته وتلاوته، ولا تتسلط السآمة على عذوبته في الأفواه وحلاوته، فقد أمن راويه من تطرق النسيان عليه والسهو، ونال من فضيلة إيراده ما أقام عذره في الخيلاء والزهو. والقسم الثاني ما وقع على حسنه الإجماع، وتنافست الأبصار فيه والأسماع، واكتست به الدنيا أفخر زينة، واستخف الافتتان ببهجته الألباب الرزينة، من المباني التي غدت على صدر الأرض وشاحًا، وأظهرت في محياها غررًا وأوضاحًا، وألبست جيدها عقدًا، ومفرقها تاجًا، واستوقفت الأبصار على بدائعها فلم تستطع عنها معاجا. وهذه موهبة قد جمعت بين فضيلتي ملوك العرب والعجم، واختص مولانا من شرفها بما لم ينله أحد في سالف الأمم، وذلك أن المحافظة على بقاء الذكر أمر قسمه الله بين أنبيائه الذين بعثهم وأرسلهم، وبين ملوك أرضه الذين اصطفاهم تعالى وفضلهم. أما الأنبياء فذكرهم باق ببقاء مللهم، وأما الملوك فبما اقتضته أحوالهم في ممالكهم ودولهم. فملوك العرب يعتمدون على تدوين مآثرهم بالفصاحة والبيان، وملوك العجم يعولون على إتقان العمارة وتشييد البنيان. وكل يعتقد أنه قد احتاط للذكر بما يضمن بقاءه سرمدا، ويجعل تناقله أمرا دائما لا ينتهي إلى مدى. ومولانا - خلد الله ملكه - فقد حاز ما لم يحرزه أحد من النوعين، وجمع منهما ما يبقى على الأبد لذة للسمع وقرة للعين؛ لأنه قد خدم من النظم والنثر بما لم يفز بمثله مخلوق، واستكثر من سمة الأرض بمنازله التي لكل منها من أنواره عيوق. وقد اشتملت بغير شك على المحاسن الملوكية، والصور الأرضية والفلكية، وحوت الغرائب من اجتماع الحيوان المتضاد من غير عدوى، والتسوية بينه في أهب الذهب تبرعا بالعطاء والجدوى، وأنى يكون اعتداء في أعمال مملكته فضلا عن قصوره، أو اجتراء لأحد بحضرته؟ والمهابة تقضي بعجزه عن ذلك وقصوره، وقد وصفها شعراء مجلسه العالي فيما صنعوه، وتنوعوا في ذكر ما خدموا به من ذلك ورفعوه، وعمل منه ما لم يشمله شرف العرض بالمقام العالي، ثبت الله سلطانه. فمما يرويه المملوك من ذلك قول محمود القاضي الموفق، ووصف التاج:
إن البسيطة قد أعدت شبابها ... حتى بدت وكأنها لم تهرم
لما غدت بك معصرًا ألبستها ... تاجا ترصعه سعود الأنجم
1 / 20