تشيد بناء الحمد والمجد بيضه ... وهن لأساس الهوادي هوادم
إذا صدرت عن مورد الموت خلتها ... بأغمادها وهي العواري العوارم
رقاق الظبى تجري بأرزاق ذا الورى ... وآجالهم فهي القواسي القواسم
وكان أبو طاهر الأطفيجي العابد اقترح عليه أن يقفه على شيء من منظومه. فعمل هذه القصيدة في مدح مولانا - خلد الله ملكه - وقال فيها مخاطبا للعابد:
صحائف أعداها الشباب بصبغة ... فهل أنت ماح ما تخط المآثم
إذا قائم السيف انثنى في ملمة ... ولم يغن أغنى وحده وهو قائم
ولا يعلم المملوك شابا مدح شيخا متعبدا، وحدثا اجتدى ناسكا متزهدا بأحسن من هذا. وإذا كان الناس قد أجلبوا بقول حبيب:
يمدون من أيدٍ عواص عواصمٍ ... تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضب
وهو بيت واحد؛ فما الظن بعدة أبيات سالمة من الضعف، بريئة من التسمج في الوصف؛ ألا إن ذلك بسعادة من خدم بها مقامه الأشرف، وإقبال من اتسعت مناقبه فغدا الخاطر يجري في ذكرها ولا يتوقف. وهذا النوع يسمى: التجنيس المركب. وقوم يسمونه: الناقص؛ لأن الحروف الأصلية في إحدى لفظتي التجنيس تنقص عن الأخرى، وقد أراد قوم جمع أقسامه فلم يحيطوا علما بها، وودوا حصر أنواعه لو أمنوا من تفرعها وتشعبها:
ولكنها صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منها أعقبت بسحائب
لأن أدباء كل وقت يحدثون من ذلك ما يقترحون له ألقابا، وعلماء كل عصر يولدون فيه ما يقصدون به تعاطيا وإغرابا. فمن مستحسن ما أتوا به تجنيس التنوين، كقوله:
أنا الذي لا ذو هوى ... ولا شجى ولا شجن
لاقى الذي لاقيت من ... محبتي فتى فتن
وفي هذا مناسبة لقول الميكالي:
ليت أجفاني به سعدت ... فترى الطرف الذي فترا
وقول الصقلي:
نهاك أهلك عني ... من أجل أهلِكِ أهلِك
وقول مجبر أحد شعراء المجلس العالي المالكي ثبت الله سلطانه:
غاروا فغار لحيني فيهم قمر ... هويته أفلا أبكي وقد أفلا
والمتقدمون يسمون هذا: تجنيس المماثلة، وقوم يعبرون عنه بتجنيس اللفظ والخط، ويجعلون قول أبى نواس في آل الربيع من أحسنه وهو:
عباس عباسٌ إذا حضر الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
ويروى: إذا احتدم الوغى، أي اشتد حره.
والمملوك يقول: إن الأمدح أن يكون إذا اشتد الوغى بساما لا عباسا، فإن قصد بعباس رجلا مشهورا بالشجاعة فهو وجه جيد، ويكون من باب قول الآخر:
حتى كأنك يا عليُّ علي
ومن الشجعان المشهورين: عباس بن مرداس السلمي، ورآه عمر بن معدي كرب فقال: أهذا عباس بن مرداس؟ لقد كنا نفرق به صبياننا في الجاهلية. اللهم إلا أن يكون أبو نواس أراد ما جاء في الحديث من قوله ﵇: (ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة) أي غلاظ، فهو وجه، فأما قول الأعشى:
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
فمن علماء الشعر من يجعله مجانسة؛ لأن أحدها رجل والآخر قبيلة، ومنهم من يقول بل معناهما واحد؛ لأنه قال: بني عامر، فأضاف البنين إليه، ولو قال: ساد عامرا، يعني القبيلة؛ لكان تجانسا غير مدفوع. وقد سلم ابن سعيد الحلبي من هذا التأويل في قوله:
آل غني ما لناديكم ... قد فقد الطارق والسامرا
وما لهذا البيت من عامر ... لم يبق بيتا للندى عامرا
ومما ولده المحدثون تجنيس التورية، كقول مهيار:
ومدير سيان عيناه والإب ... ريق فتكا وريقه والرحيق
والإبريق هاهنا السيف، وهو من أسمائه. قال أهل اللغة: إذا كان في السيف بريق فهو إبريق. ووجه التورية أنه لما قال: ومدير، ثم ذكر الإبريق حسن أن يعتقد فيه أنه آلة الخمر، ولما كان المعنى على السيف صار موريا عن غرضه بهذه اللفظة المشتركة. وهذا غرور في التجنيس ومثله قوله أيضًا:
فتى لا يريد المجد إلا لنفسه ... ولا المال إلا قسمة ومنائحا
ينازع أزمات الزمان بأنمل ... جوابر للأحوال تسمى جوارحا
فورّى بجوارح ضد جوابر عن الجوارح التي هي الأعضاء، وقصد ههنا الأيدي.
وقول عبد الله بن سعيد:
إذا سكنتم فقلبي زائد القلق ... وإن رقدتم فطرفي دائم الأرق
سرقت بالنوم وصلا من خيالكم ... فصار نومي مقطوعا على السرق
1 / 19