على أن الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظة؛ فله من شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الألهية، وعندي أن الشعر ينزل مرتديا ثوبه الكامل، وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزأ، وقدر ما تكون ثقافة الشاعر من الرقي والذوق الموسيقي في روحه يكون البيان راقيا في شعره، وهذه اللفظة التي يريدنا بول فاليري على أن نختارها تتكاتف العناصر الروحية فينا على اختيارها، فلا تكلفنا هذا العناء، أو تصرفنا عما تراه بصائرنا خلال الأحلام والرؤى، فكل ما يكتسبه المرء يصهره جوهر نفسه - القدرة الخارقة - فيصير عضوا فيه.
سوى أن فاليري ما لبث أن نقض نظريته في الوحي الشعري في محاضرة له عن «إلهامات البحر المتوسط»، وفي هذا دليل على فساد النظريات في الأدب؛ فقد وصف الشاعر الفرنسي الزوارق الماخرة عباب بحر الروم والجيف الحمراء، تتركها الأسماك المقبورة، وأهرام البرتقال المصدر من إسبانيا، ودلل على إقطاعات الروح البشرية والأساليب التي تتكون منها هذه الإقطاعات، وعلى تطور النور الناشئ والسماء والشواطئ، وأثر هذه المشاهد في روحه.
وشاء أن يحدثنا عن جميع العوامل والمؤثرات التي كان لها الفضل الأكبر في تكوين مخيلته وإحساسه، فأخبرنا أن جمال البحر جذبه في صباح يوم، وفيما هو يغتسل ويمتع الطرف والروح بتموج النور على سطح الماء، إذا بمشهد تقز له النفس يعترض نظره؛ فقد رأى على مقربة منه، في قعر الماء الصافي الشفاف، أشياء حمراء بلون الورد الخفيف أو الأرجوان العميق، وعلم بكثير من المقت أنها كتل فظيعة من أحشاء الأسماك التي طرحها الصيادون في البحر، ولم يقو على الهرب مما رأى، ولا على تحمله؛ لأن عاملين في نفسه كانا يتنازعان الشعور بالجمال الحقيقي الغريب في فوضى هذه الألوان الأصلية، وفيما هو مستسلم إلى المقت والرغبة في الاستفادة، يتقاسمه عامل الهرب وعامل التحليل، كان يفكر فيما يستطاع استنتاجه من هذا المشهد، ثم انتقل بالفكر إلى ما في شعر القدماء من الوحشية والدم، وتذكر أن الإغريق ما تورعوا عن وصف أفظع ما تقع عليه العين ... وأن الأساطير الإغريقية وشعر الملاحم والمآسي طافحة بالدم، ولكن الفن أشبه ما يكون بسطح الماء الصافي الذي رأى خلاله تلك الأشياء الفاحشة.
وانتقل بول فاليري إلى الدور الذي مثله البحر المتوسط، بما اتصف به من الخصائص المادية في تكوين الفكر الأوربي الذي حرر العالم البشري بأسره، ومما قاله إن طبيعة البحر المتوسط والعلاقات التي قررها أو فرضها كانت أساس التكوين النفساني والفني، هذا التكوين المدهش الذي استطاع ببضعة قرون أن يميز الأوربيين من سائر الخلق، والزمن الحاضر من الأزمان الغابرة، فأقوام البحر المتوسط هي التي خطت الخطوات الأولى الواثقة؛ لإيضاح الأساليب والبحث عن الظواهر الطبيعية باستخدام قوى الفكر.
وبعد أن وصف الشاعر مواقع البحر المتوسط ومزاياه الطبيعية، انتهى إلى القول بأن إبداع الشخصية البشرية ورفعها إلى مستوى من الرقي والتطور الأكمل، كانا من مبتدعات هذه الشواطئ، ويتضح لنا من هذا أن فاليري أصبح مؤمنا كل الإيمان ب «الوحي الشعري»؛ بدليل أن البحر والشمس والسماء هي مصدر تكوينه وتثقيفه، وأن طبيعة البحر المتوسط كانت أساس التكوين النفساني والفني الذي ميز الأوربيين من سائر الخلق ...
ولن أعمد هنا إلى مجادلة هذا الرأي في تمييز الأوربيين من سائر الخلق؛ فلكل في تمييز عنصره مدلول يخالف به الآخر؛ بل أقصر الكلام على الوحي الشعري من غير أن أذهب مذهب العرب القدماء في أن الوحي يلقن من فم شيطان، وأن الشياطين تسترق السمع وتلقيه على الألسنة.
فالوحي يتولد «على صفاء المزاج الطبيعي وقوة مادة النور في النفس» - على حد قول المسعودي - وأضرب مثلا على ذلك هذا الغدير الصافي؛ لا تشقى العين في رؤية السماء وغيومها وسحبها ونجومها ماثلة في قعره، كأن هذه السماء وما عليها هاتف في أعماق نفس الغدير، وللطبيعة الحكم المطلق في تصريف النفس البشرية، وأثرها الكامل في الحس، وليس في المبروءات النفسية والجسدية ما لا تحكمه الطبيعة.
وفي الطبيعة أسرار لطيفة لا يدركها الحس مهما دق، بل يشعر بها إذا قويت النفس، والنفس مهما قويت لا تستطيع قهر الطبيعة لاقتناص سرها اللطيف إلا إذا تجردت من أدران هذا العالم، وهذا مستحيل.
إذا تجردت النفس من هذه الأدران بلغت النسبة النورانية الكاملة، بلغت مستوى الطبيعة، بلغت ذات الله، والنفس النقية هي الله.
على أن للنفس هنيهات تصفو فيها، فينعكس عليها من الطبيعة جمال محجوب، وهذا الجمال يهتف في النفس أسرارا تنطق لسان الشاعر الثقيف بمعان شريفة، وعبثا نحاول معرفة هذه الأسرار، فهي من الغموض واللطف بحيث تدق على أدق حس، ويكفي أن نسمع من هذه الأسرار ما ينطق ألسنتنا، ويفتح أذهاننا لمشاهد نراها بأم العين.
صفحه نامشخص