وقد يعمد بعض هواة النظريات إلى تحديد الشعر بالطريقة الفلسفية، وفي هذا دليل على شك هذا البعض في الشعر نفسه: في جوهر الحياة؛ فالمرء لا يلزم جانب التفلسف إلا عندما يخالجه الشك، مزعزع الاعتقاد بمطابقة المدارك الحسية لحقيقة الأشياء المدركة، وهذا الشك الفلسفي ينم في حد ذاته على الاعتراف بعجز الوسائل العلمية وقصورها، وهذا الاعتراف يرغمنا في نهاية الأمر على التسليم بأننا لن نتمكن من معرفة حقايق الأشياء بوسائلنا المحدودة، وأن ضعف وسائلنا ناجم عن طبيعة تكويننا الناقص ... وعندئذ يصبح المجهول في نظرنا السر الغامض؛ أي الحد الأخير الذي يقف عنده الذكاء البشري.
هذا هو الشوط الذي تجتازه الفكرة الفلسفية عندما تصدر عن الشك، لتخلص إلى الشوق لمعرفة المجهول. وإذا أضفنا إلى هذه البيانات التأثير المخيب لتقلب الحياة في هذا العالم، ندرك في الحال أن من العبث والجهل الضائع التشبث في البحث عن الحقيقة المطلقة الثابتة وراء مظهر الوجود المتقلب، وعندئذ يغمرنا هذا الإدراك بكآبة عميقة، فنفهم السبب الحقيقي لذلك التشاؤم العميق الذي يستولي عادة على الشعراء.
إذن ثمة حقيقة غامضة من العبث البحث عنها لتحديدها، وقد قال الأب بريمون: «إن كل قصيدة مدينة بطابعها الشعري لتألق هذه الحقيقة الغامضة.» وربما أراد الأب بريمون أن يعني بهذه «الحقيقة الغامضة» الوحي، وهو في ذلك لم يجئ بنظرية، بل عبر عن شيء يجهله ولكنه يشعر به، خلافا لبول فاليري الذي تعمد الإتيان بنظرية عندما قال: «إذا آمن الشاعر بالوحي، قتل الإبداع.»
فإذا كان الوحي حالة من حالات النفس عند تأثرها المباشر بقدرة خارقة، وشئنا أن ننكر هذه الحالة، أنكرنا جوهر النفس ذاته؛ أنكرنا مبدأ الحياة. وأية غضاضة على الشاعر أن يكون وسيطا لهذه القدرة الخارقة؟ فالأنبياء كانوا يتسقطون كلام الله، والقدرة الخارقة ليست منفصلة عن الإنسان؛ فهي جوهر نفسه، فإذا أرسل الشاعر نظره في معرض الطبيعة، واجترت عيناه مشهدا من مشاهد هذا العرض، ثم خبزه على نار هذا الجوهر؛ فيكون قد أعطاك من نفسه، والنفس هي المصهر الداخلي الخفي لكل ما يحيط بالإنسان. فإذا كانت النفس مفطورة على الصفاء، وتهيأت لها العوامل الثقافية المكملة، تنقي الشعور من أدرانه، وتقوم بهذا العمل من تلقائها، فلا تكلفك إجهادا ولا تعملا ... شأن المعدة الصحيحة تهضم الطعام، وتتولى توزيع الدم النقي في الجسد وإخراج الفاسد منه.
قلت إن القدرة الخارقة ليست منفصلة عن الإنسان؛ فهي جوهر نفسه، فعلى هذا الجوهر تنصهر المرئيات، وتشترك في هذا العمل جميع الحواس؛ إذن فالقدرة الخارقة التي يتأثر بها الشاعر هي نفسه، والنفس قوة لم يدرك كنهها لتحد، فكيف ننفي الوحي الشعري ما دامت النفس مصهر الشعور؟!
ويقول فاليري أيضا إن الشاعر من يستطيع النظم ساعة يشاء، وليس الشاعر وقفا للمصادفة، وإنه لمن الخطل القول بأن الشاعر منفعل لا فاعل، ومتسقط ما يلقى عليه.
كأني ببول فاليري يريد أن ينزل الشاعر منزلة النجار أو الحداد يقبل على عمله ساعة يحين موعد العمل أو ساعة يريد العمل، فيكون فاعلا لا منفعلا، وهذا أبعد حدود الخطل وامتهان فاضح لجوهر الشعر، وأيان هو هذا الشاعر الذي يصطنع العاصفة اصطناعا ليعطيك كل ساعة إنتاجا، كالنجار يعطيك الخزانة في الوقت المتفق عليه؟!
أيان هو هذا الشاعر الذي لا يتأثر بما حوله ومن حوله، فلا هجر حبيب يؤثر فيه فيحرك شعوره، ولا موت صديق أو صديقة ولا نكبة عزيز، ولا كارثة أمة ولا فرح شعب، لا الظفر ولا الانكسار، لا الذل ولا الكرامة، لا ربيع الطبيعة ولا شتاؤها، لا صيفها ولا خريفها؟!
وأية غضاضة على قريحة الشاعر، إذا هي مرت بساعات خدر؟ أفيكون الشاعر ملتزم أشغال في يده مقياس الزمن لإنجاز عمله؟! ألا يتفق للقريحة أن تمر في ساعات خدر، فلا ترى ما تراه في ساعات اليقظة الروحية، ولا تحس ما تحسه في ساعات التأثر والانفعال؟ وإلا ففيم لا يترك الشعراء من الروائع إلا ثلاثا أو أربعا، لا تسلخ من العمر أكثر من سنة؟ قال أحد الشعراء الخالدين: إذا أحصي الوقت الذي وقفته على نظم قصائدي، فلا يعدو تسعة أشهر.
وقال فاليري أيضا: إن الشاعر الموهوب من يختار اللفظة الصالحة لإحداث الرعشة النفسية وإحياء العاطفة الشعرية.
صفحه نامشخص