كانت معالجة سميث لهذه الأخطاء تتمحور حول تحرير الأسواق من التدخلات التي غيرت آلية عملها الطبيعية. كان سميث يؤيد توسيع نطاق التبادل الحر للمخرجات المنتجة تنافسيا من أجل السماح بتحقيق المعدل الطبيعي للنمو الاقتصادي، وذلك مبدئيا عبر السماح للناس بضم ما لديهم من «أرض أو عمل أو رأس مال» إلى ما بحوزة غيرهم، من أجل إنتاج السلع التي تباع في الأسواق. وبعد دفع الإيجار إلى أصحاب الأراضي، والأجور للعمال، والأرباح للتجار والمصنعين، يقوم صاحب رأس المال بإعادة استثمار أرباحه الصافية في أنشطة إنتاجية إضافية، ويخلق - عبر جولات متعاقبة من الإنتاج والتبادل - ثروة حقيقية من الناتج السنوي للأرض والعمل في المجتمع، والذي سيستمر في النمو على نحو بطيء وتدريجي عبر الدوران المتعاقب ل «عجلة التداول العظيمة».
يتناول سميث في المجلد الخامس الأدوار المناسبة للحكومات، ويحدد وظائفها الأساسية: الدفاع، والعدل، والأشغال والمؤسسات العامة التي تسهل الأداء التجاري، وتعليم «الناس من كافة الأعمار»، وإجراءات مكافحة «الأمراض الكريهة والمثيرة للاشمئزاز»، والحفاظ على «الكرامة والسيادة»، وتمويل نفقات هذه المجالات عبر الضرائب والرسوم لصالح المستفيدين (وليس بما يصب في الدين العمومي).
لقد تعامل كتاب «ثروة الأمم» مع «مبادئ الاقتصاد السياسي» المركنتيلية الهدامة على نحو غير مسبوق في عصره، وذلك على مدار تطورها في سياق تعافي أوروبا من سقوط روما وظهور الدول القومية - خلال ألف عام - بفضل القادة العسكريين والإقطاعية. ولنا في القرنين السابقين أمثلة كثيرة عن مؤلفين قيموا كتابات سميث وبحوزتهم ثمار قرنين من العمل والبحث الإضافي، لكن كتابات سميث صمدت أمامها على نحو يثير الإعجاب.
كانت أغلبية الشعوب في أوروبا الغربية تعاني من فقر مدقع، وكان ما تتعرض له من فقر واضطهاد مطلقين دافعا رئيسيا للهجرة إلى أمريكا الشمالية، وجنوب أفريقيا، وأسترالاسيا، واستمر ذلك حتى العقود الأولى من القرن العشرين. أما سميث، فقد كانت نظرته تتعدى الفقر لتخترق أسبابه، وبالتحديد غياب خلق الثروة. فالعون لا يأتي إلا من داخل المجتمع، عبر قيامه بخلق الظروف التي تؤدي إلى تكوين الثروة. فوجه سميث مقاربته التاريخية لهذه المشكلة من أجل دراسة البشرية، وتكثر في كتابات سميث الأمثلة والاقتباسات من النصوص الكلاسيكية الإغريقية واللاتينية التي كان ملما بها إلماما كاملا. وكما هو حال جميع الأسماء اللامعة في حركة التنوير في القرن الثامن عشر، رجع سميث ببصره إلى الوراء ليبحث عن أصول المجتمع، بدلا من أن يمد بصره إلى الأمام متطلعا نحو نسخ من اليوتوبيا، فمثل هذا التفكير الرومانسي ازدهر في القرن التاسع عشر، وليس الثامن عشر.
لقد تدهورت الحضارة الأوروبية وانحطت إلى بربرية القادة العسكريين والإقطاعيين، لكنها شهدت أيضا، وعلى نحو بطيء وتدريجي (وهي عبارة تتكرر كثيرا في كتاب «ثروة الأمم»)، تعافي الناتج الزراعي، وزيادة أعداد السكان، وانتعاش التجارة مجددا في معارض وأسواق متناثرة. وفي الأعوام المائة التي سبقت عام 1760، كان نطاق المقتنيات المنزلية، حتى في أفقر بيت لعامل متواضع، يدلل على وجود «ثراء» نسبي (يعود معظمه إلى امتلاك مقتنيات مستعملة) يفوق ثراء قبائل الصيد في أمريكا الشمالية وأقوى «أمرائها». وباطلاعه على مدونات الرحالة، ومشاهداته الشخصية للمصانع والمصاهر الصغيرة القريبة المحيطة بكيركالدي، والتي كانت تنتج المسامير والدبابيس، رأى سميث كيف أن خلق الثروة الحقيقية لا يكون على هيئة سبائك من الذهب والفضة، وإنما يحدث عندما يتحول إنتاج وتوزيع الناتج الخام للأرض وجهود المجتمع إلى مقتنيات ملموسة في منازل الطبقة العاملة، وهو ما كان يعد مؤشرا حقيقيا لقياس الثراء النسبي في البلاد.
لم تبدأ أفكار سميث اللامعة باكتشاف تقسيم العمل، فهذا «الشرف» يعود إلى أفلاطون قديما، وإلى السير ويليام بيتي في العصر «الحديث» (1690)، لكن البداية كانت بملاحظة أهمية تقسيم العمل كوسيلة يمكن نشر الثراء الحقيقي بها فيما بين أغلبية السكان دون الاقتصار على أغنى أغنيائهم، وجعلهم جميعا أكثر ثراء على نحو متنام خلال بضعة أجيال.
قاده هذا إلى التساؤل: إذا كان تقسيم العمل هو المفتاح، فما الظروف التي من شأنها أن تزيد الناتج؟ كيف يمكن تحديد حصة كل شخص؟ والسؤال المصيري: ما العوائق التي تقف في وجه تحقيق ذلك؟ إن القفزة التي أنجزها سميث من الوصف إلى التحليل كانت خطوته الأولى تجاه وضع أسس علم الاقتصاد الجديد.
وفيما يلي أقدم للقارئ نبذة مختصرة عن نموذج سميث للاقتصاد التجاري الذي يعمل بحرية كاملة، وذلك كتكملة لما سيقرؤه فيما بعد من عرض رائع قدمه لنا إيمون باتلر؛ مؤلف هذا الكتاب.
إن المجتمع التجاري يطور تبادل السلع القابلة للتسويق والناتجة عن تقسيم العمل، وكانت المقايضة - وهي التبادل المباشر غير الفعال لسلعة مقابل سلعة أخرى - قد ظهرت قبل وقت طويل من ظهور التبادل غير المباشر الأكثر فاعلية باستخدام المال. ويشير سك النقود في الحضارات القديمة قبل عدة آلاف من السنين إلى الوجود المبكر للتجارة كنتيجة لتقسيم العمل (وإلا فلم الحاجة إلى سك النقود أصلا؟)
كانت التبادلات الأولى تتم بين منتجات الريف (كالغذاء والمواد الخام)، ومنتجات البلدات (كالأدوات والمقتنيات البدائية المصنعة)، وكانت أسعار السوق للسلع المتبادلة تتحدد وفقا للعرض والطلب الفعلي، وقد تختلف عما يدعوه سميث «الأسعار الطبيعية»، وفيها تكون العائدات التي يحصل عليها مالكو عناصر الإنتاج (الأرض والعمل ورأس المال)، المتعاونون في الإنتاج، متوافقة مع تكاليفهم بالضبط، بما في ذلك المعدل الطبيعي المحلي للربح. وأسعار السوق، التي لا تكف عن التأرجح حول نقطة التوازن الكامل دون أن تستقر عندها، ربما لا تغطي التكاليف، لكن تغير أسعار السوق يومئ للمشاركين بأن يدفعوا أكثر أو أقل مقابل السلع المتاحة، أو أن يزودوا السوق بالمزيد أو القليل منها، وهكذا لا بد للعرض الفعلي أن يعدل وفقا لهذه الإيماءات مع مرور الوقت، وهذا يشكل آليات الاقتصاد التنافسي.
صفحه نامشخص