نبذة عن المؤلف
تمهيد
شكر وتقدير
نبذة
مقدمة
1 - أهمية آدم سميث
2 - حياة سميث الشخصية والمهنية
3 - كتاب «ثروة الأمم»
4 - كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»
5 - محاضرات سميث وكتاباته الأخرى
6 - استطراد حول اليد الخفية
7 - من أقوال آدم سميث الشهيرة
8 - مراجع مختارة
تعقيب: آدم سميث اليوم
نبذة عن المؤلف
تمهيد
شكر وتقدير
نبذة
مقدمة
1 - أهمية آدم سميث
2 - حياة سميث الشخصية والمهنية
3 - كتاب «ثروة الأمم»
4 - كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»
5 - محاضرات سميث وكتاباته الأخرى
6 - استطراد حول اليد الخفية
7 - من أقوال آدم سميث الشهيرة
8 - مراجع مختارة
تعقيب: آدم سميث اليوم
آدم سميث
آدم سميث
مقدمة موجزة
تأليف
إيمون باتلر
ترجمة
علي الحارس
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
نبذة عن المؤلف
يتولى دكتور إيمون باتلر حاليا منصب مدير معهد آدم سميث، وهو بيت خبرة ذو تأثير يضع سياسات تشجع على الاختيار والتنافس في مجال توفير الخدمات الأساسية. ويحمل دكتور باتلر شهادات جامعية في الاقتصاد والفلسفة وعلم النفس، وقد حاز شهادة الدكتوراه من جامعة سانت أندروز في عام 1978، كما عمل في العاصمة الأمريكية واشنطن خلال السبعينيات على قضايا رواتب التقاعد والرعاية الاجتماعية لصالح مجلس النواب الأمريكي، وعندما عاد إلى المملكة المتحدة، تولى منصب رئيس تحرير مجلة «بريتيش إنشورانس بروكر»، ثم كرس جهوده بالكامل للعمل في معهد آدم سميث، الذي ساهم في تأسيسه. وألف دكتور باتلر الكثير من الكتب والمقالات حول الاقتصاد على الصعيدين النظري والتطبيقي، وشارك أيضا في تأليف عدد من الكتب عن الذكاء واختباراته.
تمهيد
لم يمر وقت طويل على تسلمي منصب أستاذ الاقتصاد التجاري والقانون التجاري - الذي اختصر لاحقا إلى أستاذ علم الاقتصاد - في جامعة إدنبرة، حتى تلقيت دعوة لعقد ندوة في جامعة هارفارد عام 1958، وكان ذلك بعد فترة وجيزة من صدور كتاب «مجتمع الوفرة» لكينيث جالبريث، وكان هذا الكتاب يحتوي على بعض كلمات الثناء بحق آدم سميث. كان جالبريث من الشخصيات التي كثر عليها الطلب لإلقاء الأحاديث وعقد المقابلات في تلك الأيام؛ ولذلك اعتقد أحد أصدقائي في هارفارد بأنه حقق «إنجازا» نوعا ما حين رتب أمر لقائي به على مأدبة غداء. ولتلطيف الأجواء، سألني صديقي: «آلان، ماذا يبدو عليه الحال عندما تكون متربعا على أهم كرسي للاقتصاد في العالم؟» أصبت بالحيرة، ثم ذكرت له أن شركة ميرشانت كومباني أوف إدنبرة قد أسست هذا الكرسي في الأصل، وقدمت التمويل له عام 1870 بسبب الاعتقاد السائد بأن الاقتصادي قادر على التنبؤ بمسار الدورات الاقتصادية. وهنا أدلى جالبريث بدلوه فقال: «لكنك تجلس على كرسي آدم سميث.» فأجبته: «آسف، لكنك أخطأت في الجامعة، والمادة، والقرن.» (فكلنا نعلم أن آدم سميث كان أستاذا للمنطق، ثم أستاذا لفلسفة الأخلاق في جامعة جلاسكو.) وهكذا لم تثمر المأدبة عن نتائج مرضية ...
أشعر بشيء من الندم على كشفي لجهل جالبريث؛ لأن آدم سميث كان على أي حال وثيق الصلة بجامعة إدنبرة، حتى وإن لم يتسلم أي منصب أكاديمي فيها. لقد دفن آدم سميث في إدنبرة، ويوجد بالجوار تمثاله الأول منتصبا في اسكتلندا تكريما لذكراه، وذلك بفضل الجهود الهائلة التي بذلها معهد آدم سميث، وخصوصا جهود إيمون باتلر الذي كتب هذا المدخل الرائع إلى فكر آدم سميث. يضاف إلى ذلك أنني، كالعديد ممن عبروا عن معرفتهم وإعجابهم واهتمامهم الخاص بما جاء به سميث - باعتباري اسكتلنديا - كنت أميل إلى تركيز انتباهي على ما ورد في كتابه «ثروة الأمم»؛ ولذلك فشلت فشلا ذريعا في إدراك أن كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» يشكل حجر الأساس، لا لمفهومه عن الأخلاق فحسب، وإنما لتحليله للآراء حول إدراك الأفراد لما يفترض وما يجب فعله في معاملاتهم اليومية بعضهم مع بعض.
يتناول هذا الكتاب التمهيدي العديد من القضايا، وكم أضافت إليه تلك المقدمة البارعة التي وفق في تأليفها البروفيسور كينيدي. وتكفي الإشارة إلى أن الكتاب يشير بوضوح إلى أنه لم يكن هناك في الحقيقة أي «مشكلة تخص آدم سميث» في التوفيق بين فلسفته الأخلاقية وتحليله الاقتصادي، وهذا يكذب الخرافة السائدة بأنه كان برجوازيا يختلق الأعذار ل «الرأسمالية» والتربح الاستغلالي (بيد أن كلمة الرأسمالية لم تذكر قط في أعمال سميث). وهذا يشرح جزئيا أحد المميزات غير الاعتيادية لهذا الكتاب، وهو التركيز المكثف على تفسير آراء سميث حول الأساس الأخلاقي للفعل البشري الوارد في كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»؛ مما يقدم تبريرا لادعاء دكتور باتلر بأن سميث يجب أن ينظر إليه باعتباره مختصا في علم النفس الاجتماعي في المقام الأول.
إن ما ورد يكفي للدلالة على أن هذه الدراسة التي أتاحها دكتور باتلر بين يديك ليست مجرد عرض ماهر لما عرف عن حياة سميث وعصره، وإنما تحتوي أيضا على التفاتات مهمة يقدر قيمتها المختصون. وإلى هنا تكتمل مهمتي الممتعة، فأنا لا أرغب في أن أؤخر استمتاع القارئ بهذا الكتاب مثلما استمتعت به شخصيا.
آلان بيكوك
أستاذ التمويل العام المتقاعد
كلية إدنبرة لإدارة الأعمال
جامعة هيريوت-وات
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر والتقدير للدكتور مادسن بييري، والأستاذ الجامعي جافن كينيدي لما أبدياه من ملاحظات، وإلى ليز ديفيز لما قدمته من عون في مجال الاقتباسات النصية.
نبذة
إن ثروة الأمة ليست - كما يعتقد أتباع المركنتيلية - ما تحتويه خزائنها من ذهب وفضة، وإنما هي محصلة هذه الأمة من الإنتاج والتجارة، أو ما ندعوه اليوم إجمالي الناتج المحلي.
في ظل التبادل الحر يكون الطرفان أفضل حالا وأكثر ثراء؛ إذ لن ينخرط أحد في التبادل إذا كان يتوقع الخسارة، وهكذا تكون الواردات مهمة لنا بقدر أهمية الصادرات لغيرنا. ولا حاجة إلى إفقار الآخرين لإثراء أنفسنا، بل إننا سنكسب أكثر إذا كان زبائننا أغنياء.
ضوابط التجارة غير جيدة الصياغة من الأساس وتأتي بنتائج عكسية؛ فالازدهار يهدد من قبل الضرائب، وتعريفات الاستيراد، وإعانات التصدير، وتفضيل الصناعات المحلية.
القدرة الإنتاجية للأمة تستند إلى تقسيم العمل، وإلى تراكم رأس المال الذي يتاح بفضل هذا التقسيم؛ حيث يمكن الحصول على زيادات ضخمة من المخرجات عبر تفتيت الإنتاج إلى الكثير من المهام الصغيرة التي تسند إلى الأيدي المختصة، وهذا يتيح للمنتجين فائضا يستفيدون منه في الاستثمار.
الدخل المستقبلي للبلاد يعتمد على معدل تراكم رأس المال. وكلما زاد استثمارنا في العمليات الإنتاجية الأفضل، اتسع نطاق الثروة التي يمكن إنتاجها في المستقبل.
عندما يكون هناك تجارة حرة وتنافس حر، فإن منظومة السوق تستمر تلقائيا في التركيز على الحاجات الأكثر إلحاحا؛ فعندما تكون الأشياء نادرة، يكون لدى الناس الاستعداد لدفع المزيد من أجلها، أي يكون هناك المزيد من الربح في تقديمها؛ ومن ثم يستثمر المنتج رأس ماله في المزيد من الإنتاج.
ينمو الازدهار بأسرع خطى له في ظل سوق تنافسي منفتح يسوده التبادل الحر ويغيب عنه الإجبار، وهنا تبرز الحاجة إلى الدفاع والعدل وحكم القانون للمحافظة على هذا الانفتاح. إن الحرية والمصلحة الشخصية لا تقودان إلى الفوضى بالضرورة، وإنما تؤديان إلى النظام والانسجام، وكأن «يدا خفية» ترشد خطاهما.
يستخدم أصحاب المصالح الشخصية السلطة الحكومية لتشويش منظومة السوق في سبيل تحقيق منافعهم الخاصة. وقد يدعو أرباب العمل وأصحاب المهن إلى ضوابط تعرقل التنافس، كموانع دخول السلع التي تحول دون ممارسة الناس تبادلات تجارية بعينها.
يجب أن تكون الضرائب متناسبة مع الدخل، وأن يكون دفعها أكيدا وبطريقة ملائمة. ويجب أن يكون تحصيلها منخفض التكلفة، وألا تعيق التجارة، وألا تكون مرهقة إلى الحد الذي يشجع على التهرب منها، وألا تتطلب زيارات متكررة من جباة الضرائب.
يشعر الإنسان ب «تعاطف» طبيعي (أو مشاركة وجدانية) تجاه الآخرين، وهذا يتيح له تهدئة سلوكياته والمحافظة على التناغم بينها وبين سلوكيات الآخرين. كما أن ذلك يمثل أساس التقييمات الأخلاقية للسلوك، ويعد منبع الفضيلة البشرية. فالطبيعة البشرية دليل يرشدنا إلى خلق مجتمع متناغم على نحو أفضل من المنطق المتعجرف الذي يتبعه أصحاب الرؤى الحماسية والخيالية.
مقدمة
جافن كينيدي1
أتاح لنا إيمون باتلر في هذا الكتاب مقدمة بارعة جديرة بالإعجاب إلى آدم سميث، فصوره لنا كإنسان وكفكر، وهي على حد علمي أفضل ما كتب من مقدمات موجزة تعرف بهذا الرجل، ومن شأنها أن تتيح للجميع التعرف على الوجه الحقيقي لآدم سميث.
ولقد كان باتلر موفقا في تحاشيه الجدل المثار حول الاقتصاد السياسي لدى سميث، والذي كتب عنه الكثيرون على مر السنين. ويعد الوصف المقدم لسميث، شخصا وأعمالا، تقييما دقيقا لمزيجه الفكري الفريد عن تطور المجتمع البريطاني حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
نشر آدم سميث كتابه الأقل شهرة «نظرية المشاعر الأخلاقية» قبل سبعة عشر عاما من إصدار كتابه «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم»، وهناك ما يؤكد على أن الفجوة الزمنية التي تفصل بين الكتابين تدل على أن سميث استعاض عن القيمة الأخلاقية لعمل الخير وأحل محلها المصلحة الشخصية اللاأخلاقية كمحفز للفعل البشري. ومن الملاحظات التي خطها طلاب لم تعرف أسماؤهم في العامين (1762-1763)، يمكننا أن نستدل على أن أجزاء كبيرة من محاضرات سميث قد عاودت الظهور، على نحو يكاد يكون حرفيا، في كتابه «ثروة الأمم» في 1776. كما نشر محاضراته التي ألقاها حول الأخلاق خلال الفترة الزمنية (1751-1764) بين دفتي كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1759)، وهذا يعني أن آدم سميث لم يحمل آراء متناقضة حول الدوافع البشرية.
كان سميث فيلسوفا في الأخلاق، ولم يكن الاقتصاد قد حظي في القرن الثامن عشر بمكانته كعلم منفصل كما أصبح عليه الحال في نهاية القرن التاسع عشر. ولا شك في أنه كان هناك الكثير من الكتاب السابقين لسميث والمعاصرين له ممن ألفوا كتيبات حول موضوعات اقتصادية (وتحتفظ جامعة ييل بعدة آلاف منها تعود إلى ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر)، وبعض هؤلاء المؤلفين قدموا إسهامات في علم الاقتصاد، لكن لا يوجد فيهم من قدم بحثا جامعا شاملا يصل إلى درجة ونوع البحث الذي جاء به آدم سميث.
كان علم الاقتصاد السياسي يركز قبل سميث على إثراء الملك والدولة بسبائك الذهب والفضة من أجل تمويل الحروب الخارجية. وعندما نشر كتاب «ثروة الأمم»، أعاد توجيه أنظار الاقتصاد السياسي إلى إثراء المستهلك من «الناتج السنوي للأرض والعمل». إن هذا الكتاب لم يكن كتابا دراسيا، بل يناقش موضوعا محددا، وهو طبيعة الثروة وما يدفعها إلى النمو.
إن المجلدين الأول والثاني من الكتاب يعرضان السمات المميزة للمجتمع البشري، كالميل إلى التبادل، وتقسيم العمل، وعوامل الإنتاج، وآليات الأسواق، وتوزيع العائد على المشاركين. أما المجلد الثالث، فيضع بريطانيا القرن الثامن عشر في سياق التطور الاجتماعي للمجتمع : من مرحلة «الصيد» البدائية، مرورا ب «الرعي» و«الزراعة»، وانتهاء بعصر التجارة، ويبين كيف أن سقوط روما في القرن الخامس أدى إلى عرقلة هذا التقدم «الطبيعي» في أوروبا الغربية.
وعندما بدأت أوروبا تتعافى بعد القرن الخامس عشر، عانت من عوائق السياسات التي كانت تعضد ما يدعوه سميث «التجارة المركنتيلية»، والتي ينتقدها المجلد الرابع من الكتاب نقدا لاذعا بسبب خطئها الرئيسي المتمثل في القول بأن ثروة البلاد تنبني من تراكم سبائك الذهب والفضة، وأن الميزان التجاري كان ضروريا لأن الدولة كان يتوجب عليها أن تصدر أكثر مما تستورد. والأسوأ من ذلك أن هذا المبدأ كان يعتقد بأن الاقتصاد المحلي يصير أقوى بفضل ممارسة الاحتكار الحمائية، والقيود المفروضة على مجال التوظيف وحركة القوة العاملة، والتدخلات في حريات الأسواق الطبيعية.
كانت معالجة سميث لهذه الأخطاء تتمحور حول تحرير الأسواق من التدخلات التي غيرت آلية عملها الطبيعية. كان سميث يؤيد توسيع نطاق التبادل الحر للمخرجات المنتجة تنافسيا من أجل السماح بتحقيق المعدل الطبيعي للنمو الاقتصادي، وذلك مبدئيا عبر السماح للناس بضم ما لديهم من «أرض أو عمل أو رأس مال» إلى ما بحوزة غيرهم، من أجل إنتاج السلع التي تباع في الأسواق. وبعد دفع الإيجار إلى أصحاب الأراضي، والأجور للعمال، والأرباح للتجار والمصنعين، يقوم صاحب رأس المال بإعادة استثمار أرباحه الصافية في أنشطة إنتاجية إضافية، ويخلق - عبر جولات متعاقبة من الإنتاج والتبادل - ثروة حقيقية من الناتج السنوي للأرض والعمل في المجتمع، والذي سيستمر في النمو على نحو بطيء وتدريجي عبر الدوران المتعاقب ل «عجلة التداول العظيمة».
يتناول سميث في المجلد الخامس الأدوار المناسبة للحكومات، ويحدد وظائفها الأساسية: الدفاع، والعدل، والأشغال والمؤسسات العامة التي تسهل الأداء التجاري، وتعليم «الناس من كافة الأعمار»، وإجراءات مكافحة «الأمراض الكريهة والمثيرة للاشمئزاز»، والحفاظ على «الكرامة والسيادة»، وتمويل نفقات هذه المجالات عبر الضرائب والرسوم لصالح المستفيدين (وليس بما يصب في الدين العمومي).
لقد تعامل كتاب «ثروة الأمم» مع «مبادئ الاقتصاد السياسي» المركنتيلية الهدامة على نحو غير مسبوق في عصره، وذلك على مدار تطورها في سياق تعافي أوروبا من سقوط روما وظهور الدول القومية - خلال ألف عام - بفضل القادة العسكريين والإقطاعية. ولنا في القرنين السابقين أمثلة كثيرة عن مؤلفين قيموا كتابات سميث وبحوزتهم ثمار قرنين من العمل والبحث الإضافي، لكن كتابات سميث صمدت أمامها على نحو يثير الإعجاب.
كانت أغلبية الشعوب في أوروبا الغربية تعاني من فقر مدقع، وكان ما تتعرض له من فقر واضطهاد مطلقين دافعا رئيسيا للهجرة إلى أمريكا الشمالية، وجنوب أفريقيا، وأسترالاسيا، واستمر ذلك حتى العقود الأولى من القرن العشرين. أما سميث، فقد كانت نظرته تتعدى الفقر لتخترق أسبابه، وبالتحديد غياب خلق الثروة. فالعون لا يأتي إلا من داخل المجتمع، عبر قيامه بخلق الظروف التي تؤدي إلى تكوين الثروة. فوجه سميث مقاربته التاريخية لهذه المشكلة من أجل دراسة البشرية، وتكثر في كتابات سميث الأمثلة والاقتباسات من النصوص الكلاسيكية الإغريقية واللاتينية التي كان ملما بها إلماما كاملا. وكما هو حال جميع الأسماء اللامعة في حركة التنوير في القرن الثامن عشر، رجع سميث ببصره إلى الوراء ليبحث عن أصول المجتمع، بدلا من أن يمد بصره إلى الأمام متطلعا نحو نسخ من اليوتوبيا، فمثل هذا التفكير الرومانسي ازدهر في القرن التاسع عشر، وليس الثامن عشر.
لقد تدهورت الحضارة الأوروبية وانحطت إلى بربرية القادة العسكريين والإقطاعيين، لكنها شهدت أيضا، وعلى نحو بطيء وتدريجي (وهي عبارة تتكرر كثيرا في كتاب «ثروة الأمم»)، تعافي الناتج الزراعي، وزيادة أعداد السكان، وانتعاش التجارة مجددا في معارض وأسواق متناثرة. وفي الأعوام المائة التي سبقت عام 1760، كان نطاق المقتنيات المنزلية، حتى في أفقر بيت لعامل متواضع، يدلل على وجود «ثراء» نسبي (يعود معظمه إلى امتلاك مقتنيات مستعملة) يفوق ثراء قبائل الصيد في أمريكا الشمالية وأقوى «أمرائها». وباطلاعه على مدونات الرحالة، ومشاهداته الشخصية للمصانع والمصاهر الصغيرة القريبة المحيطة بكيركالدي، والتي كانت تنتج المسامير والدبابيس، رأى سميث كيف أن خلق الثروة الحقيقية لا يكون على هيئة سبائك من الذهب والفضة، وإنما يحدث عندما يتحول إنتاج وتوزيع الناتج الخام للأرض وجهود المجتمع إلى مقتنيات ملموسة في منازل الطبقة العاملة، وهو ما كان يعد مؤشرا حقيقيا لقياس الثراء النسبي في البلاد.
لم تبدأ أفكار سميث اللامعة باكتشاف تقسيم العمل، فهذا «الشرف» يعود إلى أفلاطون قديما، وإلى السير ويليام بيتي في العصر «الحديث» (1690)، لكن البداية كانت بملاحظة أهمية تقسيم العمل كوسيلة يمكن نشر الثراء الحقيقي بها فيما بين أغلبية السكان دون الاقتصار على أغنى أغنيائهم، وجعلهم جميعا أكثر ثراء على نحو متنام خلال بضعة أجيال.
قاده هذا إلى التساؤل: إذا كان تقسيم العمل هو المفتاح، فما الظروف التي من شأنها أن تزيد الناتج؟ كيف يمكن تحديد حصة كل شخص؟ والسؤال المصيري: ما العوائق التي تقف في وجه تحقيق ذلك؟ إن القفزة التي أنجزها سميث من الوصف إلى التحليل كانت خطوته الأولى تجاه وضع أسس علم الاقتصاد الجديد.
وفيما يلي أقدم للقارئ نبذة مختصرة عن نموذج سميث للاقتصاد التجاري الذي يعمل بحرية كاملة، وذلك كتكملة لما سيقرؤه فيما بعد من عرض رائع قدمه لنا إيمون باتلر؛ مؤلف هذا الكتاب.
إن المجتمع التجاري يطور تبادل السلع القابلة للتسويق والناتجة عن تقسيم العمل، وكانت المقايضة - وهي التبادل المباشر غير الفعال لسلعة مقابل سلعة أخرى - قد ظهرت قبل وقت طويل من ظهور التبادل غير المباشر الأكثر فاعلية باستخدام المال. ويشير سك النقود في الحضارات القديمة قبل عدة آلاف من السنين إلى الوجود المبكر للتجارة كنتيجة لتقسيم العمل (وإلا فلم الحاجة إلى سك النقود أصلا؟)
كانت التبادلات الأولى تتم بين منتجات الريف (كالغذاء والمواد الخام)، ومنتجات البلدات (كالأدوات والمقتنيات البدائية المصنعة)، وكانت أسعار السوق للسلع المتبادلة تتحدد وفقا للعرض والطلب الفعلي، وقد تختلف عما يدعوه سميث «الأسعار الطبيعية»، وفيها تكون العائدات التي يحصل عليها مالكو عناصر الإنتاج (الأرض والعمل ورأس المال)، المتعاونون في الإنتاج، متوافقة مع تكاليفهم بالضبط، بما في ذلك المعدل الطبيعي المحلي للربح. وأسعار السوق، التي لا تكف عن التأرجح حول نقطة التوازن الكامل دون أن تستقر عندها، ربما لا تغطي التكاليف، لكن تغير أسعار السوق يومئ للمشاركين بأن يدفعوا أكثر أو أقل مقابل السلع المتاحة، أو أن يزودوا السوق بالمزيد أو القليل منها، وهكذا لا بد للعرض الفعلي أن يعدل وفقا لهذه الإيماءات مع مرور الوقت، وهذا يشكل آليات الاقتصاد التنافسي.
إن العمل إما أن يكون إنتاجيا أو غير إنتاجي، والتمييز بينهما يعتمد على ما إذا كان العمل، إضافة إلى رأس المال الثابت، يؤدي إلى إنتاج سلع تباع في الأسواق وتعوض تكلفتها، إلى جانب جلب أرباح المشروع. وتعد منتجات العمل غير الإنتاجي (مثل الخدم البسطاء الذين يقدمون الطعام لعائلة ثرية) - التي لا تباع في الأسواق لتعويض تكلفتها - استهلاكا من العائد، أما منتجات العمل الإنتاجي، فهي تعوض تكلفتها وتعيد إنتاج العائد الصافي (الربح)، والذي قد يستخدم للاستهلاك (الإسراف) أو الاستثمار الصافي (الاقتصاد في الإنفاق). وتصبح الأمم أكثر ثراء عندما تكون فيها نسبة أعلى من المنتجين المقتصدين، بالمقارنة مع نسبة المستهلكين المسرفين خلال مدة من الزمن. وبالاعتماد على المعدل السنوي للاستثمار الصافي، يزيد الاقتصاد من نطاق التوظيف (عن طريق زيادة أجور العمل، ونشر الثراء بين الأغلبية الأكثر فقرا)؛ مما يؤدي إلى زيادة الناتج السنوي من «ضروريات الحياة ووسائل الراحة والتسلية».
مما يؤسف له أن سقوط روما أدى إلى عرقلة هذه العملية الطبيعية، لكن ما إن تعافى الاقتصاد في الألفية اللاحقة واستفاد من التحسينات في تكنولوجيا الزراعة، ومن الإمكانيات التقنية الجديدة التي نتجت عن النهضة العلمية؛ حتى أنشأت المجتمعات مؤسسات سياسية، بما فيها الدوجمائية الدينية، والتي اشترعت أفكارا مركنتيلية زائفة عملت على تثبيط التطور الطبيعي للاقتصاد.
انتقصت الحرية الكاملة بسبب القوانين التي فرضت التعريفات والرسوم والمحظورات على التجارة الحرة، وكبلت أيضا من جانب رابطات عمالية بلدية وهيئات احتكارية حرفية أدت إلى تقليل المنافع الناتجة عن الجو التنافسي لدخول الأسواق والخروج منها بحرية. كما قامت تلك الهيئات أيضا بحظر الحق الطبيعي للعمل في مجالات لم تستغرق فيها مدة طويلة من التدريب، ومنعت الأفراد من بيع أو شراء السلع التي لم تنتج في مواقع محلية محددة، وفي سبيل السعي خلف السراب المركنتيلي للتوازن التجاري فرضت الرسوم، واستردت رسوم الاستيراد بعد تصدير السلع، ومنحت مكافآت على الصادرات والواردات على نحو يلحق الأذى بالمستهلك.
إن الحقيقة التي تبعث على الشعور بالقلق هي أن الكثير من العوائق التي تحول دون الحفاظ على معدل إيجابي للاستثمار الصافي - وهو ما كان سميث يهتم به - لا تزال قائمة حتى القرن الحادي والعشرين، ولا يزال يدعو إليها، على نحو مشابه، مجموعة من المشرعين ذوي العقول المركنتيلية، وتدعمها أكاذيب شائعة. أما اليوم، في ظل الاقتصاد العالمي الذي لم يعد فيه الفقر المطلق يمثل مشكلة في الدول المتقدمة كما كان عليه الحال في أيام سميث، فإن مشكلة الفقر المطلق والنسبي في الدول النامية وغير النامية يجب أن تحرك قلوب جميع الاقتصاديين، كما فعلت بقلب سميث وعقله من قبل، وهو الذي يعتبر أول خبير اقتصادي عرفه التاريخ.
إن جميع الالتفاتات المزعومة وكذلك الاستعراضات المفصلة الواردة في كتاب «ثروة الأمم»، والتي تجعله على الأرجح كتابا «صعبا» و«غير وثيق الصلة» بالقارئ الحديث؛ تنشأ من إساءة فهم ما كان يرمي إليه المؤلف؛ فهو لم يكن مؤلفا من الطراز الحديث يكتب كتابا عن «مبادئ الاقتصاد»؛ إذ لم يكن هذا الموضوع موجودا في أيامه، وإنما كتب تقريرا حول بحثه في المعنى الحقيقي للثروة الوطنية، وما الذي دفع الثروة إلى النمو، والمجتمع إلى التقدم تجاه الثراء. لقد كان هذا البحث يمثل ذكاءه وتراثه، وما كتبه إيمون باتلر في هذا العرض التقديمي يوفر لك أفضل فرصة لمعرفة السبب الذي يدعونا إلى قول ذلك.
هوامش
الفصل الأول
أهمية آدم سميث
آدم سميث (1723-1790) فيلسوف واقتصادي اسكتلندي مشهور بكتابه «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم» (1776)، وهو من أكثر الكتب تأثيرا في تاريخ الكتابة؛ حيث حول سميث به اتجاه تفكيرنا في مبادئ الحياة الاقتصادية من الشكل القديم إلى شكل حديث ومميز، وذلك استنادا إلى فهم جديد تماما للكيفية التي يعمل بها المجتمع البشري. (1) النظرة القديمة للاقتصاد
غير سميث أفكارنا أيما تغيير، حتى أصبح من الصعب وصف المنظومة الاقتصادية التي كانت سائدة في أيامه؛ وهذه المنظومة هي المركنتيلية التي كانت تقيس الثروة الوطنية بحسب ما تحتويه خزائن الدولة من ذهب وفضة. كان ينظر في تلك الأيام إلى استيراد السلع من الخارج باعتباره أمرا هداما؛ لأنه كان يعني ضرورة التخلي عن هذه الثروة المزعومة حتى ندفع مقابل الحصول على هذه السلع. على النقيض، كان ينظر إلى التصدير باعتباره أمرا طيبا؛ لأنه كان يعني استرداد هذين المعدنين الثمينين؛ فالتجارة آنذاك كانت تصب في مصلحة البائع فقط دون المشتري، ولم يكن بإمكان الأمة أن تصبح أكثر ثراء إلا إذا ازداد غيرها من الأمم فقرا.
على أساس هذه النظرة، شيد صرح ضخم من الضوابط للحيلولة دون جفاف منابع ثروة الأمة، منها: الضرائب على الواردات، ودعم المصدرين، وحماية الصناعات المحلية. ووصل هذا الأمر إلى حد تعرض المستعمرات الأمريكية التي تملكها بريطانيا للعقوبات في ظل هذه المنظومة؛ مما أدى إلى نتائج كارثية. وفي الواقع، كان ينظر إلى التجارة ككل بعين الريبة، وسادت ثقافة الحمائية الاقتصاد المحلي أيضا؛ فمنعت المدن حرفيي المدن الأخرى من الانتقال والعمل في اختصاصاتهم، وتقدم الصناعيون والتجار إلى الملك بالتماسات يطلبون فيها حماية ممارساتهم الاحتكارية، وتعرضت الآلات التي تختصر العمل - كآلة صناعة الجوارب الحديثة آنذاك - إلى الحظر باعتبار أنها تمثل تهديدا للمصنعين الراهنين. (2) إنتاجية التبادل الحر
أوضح سميث أن هذا الصرح المركنتيلي الهائل بني على خطأ؛ ولذا أتى بنتائج عكسية، ورأى أنه في ظل التبادل الحر يصبح كلا الطرفين أكثر ثراء. وببساطة، ما من أحد يمكنه اللحاق بركاب التبادل إذا كان يتوقع تحقيق الخسارة؛ فالمشتري يحقق الأرباح كما يحقق البائع الأرباح، وتعد قيمة الواردات في نظرنا مماثلة لقيمة الصادرات في نظر الآخرين، وليس هناك من حاجة لإفقار الآخرين في سبيل إثراء أنفسنا؛ ففي الواقع، يتسع الطريق للمزيد من الأرباح إذا كان المستهلك ثريا.
1
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة الراسخة بأن التبادل الحر ينفع كلا الطرفين، فلقد أكد سميث على أن التجارة والتبادل يؤديان إلى زيادة الازدهار على نحو مشابه بكل تأكيد لما ينتج عن الزراعة أو الصناعة. إن ثروة الأمة ليست مقدار ما تحتويه خزائنها من ذهب وفضة، وإنما هي إجمالي الإنتاج والتجارة، أي ما ندعوه في أيامنا هذه إجمالي الناتج المحلي.
كانت هذه الفكرة جديدة على الأذهان، لكنها كانت قوية وأدت إلى إحداث اختراق فكري كبير في الجدران التجارية التي أقيمت حول المدن الأوروبية منذ القرن السادس عشر، كما كان لهذه الفكرة نتائج عملية أيضا؛ إذ كان كتاب «ثروة الأمم» - بما فيه من نمط مباشر ومؤثر يتصف بالتحدي والحذاقة التهكمية ووفرة الأمثلة - في متناول الأشخاص العمليين القادرين على ترجمة أفكاره إلى فعل.
لم يأت هذا الكتاب في الوقت المناسب لإيقاف الحرب مع المستعمرات الأمريكية، غير أنه مهد الطريق أمام تأييد رئيس الوزراء ويليام بيت للتجارة الحرة وتبسيط الضرائب، ثم إجراءات رئيس الوزراء سير روبرت بيل التي هدفت إلى تحرير أسواق الزراعة؛ ولذلك يمكن القول بأن هذا الكتاب كان أساس العصر العظيم للتجارة الحرة والتوسع الاقتصادي في القرن التاسع عشر. واليوم، نجد أن المنطق وراء التجارة الحرة يلقى قبولا في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن المصاعب العملية التي تواجه تحقيقها. (3) النظام الاجتماعي القائم على الحرية
لم يكن سميث يتوقع أن يكون لكتابه كل هذا التأثير، لكن الثقة المتنامية في الحرية الشخصية والتجارية إنما نشأت بشكل مباشر من فهمه الجديد الجذري لكيفية عمل المجتمعات البشرية واقعيا. لقد لاحظ سميث أن التناغم الاجتماعي من شأنه أن ينشأ بشكل طبيعي من كفاح البشر لإيجاد طرق للعيش والعمل بعضهم مع بعض. إن الحرية والمصلحة الشخصية لا تقودان إلى الفوضى بالضرورة، وإنما تؤديان إلى النظام والانسجام، وكأن «يدا خفية» ترشد خطاهما.
كما أن من شأن الحرية والمصلحة الشخصية أن تؤديا إلى استخدام الموارد بأكثر السبل الممكنة كفاءة. وعندما يقوم الأشخاص الأحرار بالمساومة مع الآخرين، بهدف تحسين ظروفهم الخاصة فحسب، فإن ما لدى الأمة من أرض ورأس مال ومهارات ومعرفة ووقت ومشروعات وحس ابتكاري؛ سيتوجه بشكل آلي وحتمي نحو تحقيق الغايات والأهداف التي يمنحها الناس القيمة الأسمى.
وهكذا ، فإن الحفاظ على نظام اجتماعي مزدهر لم يكن يتطلب الإشراف المستمر من جانب الملوك والوزراء، وإنما ينمو جوهريا كنتيجة للطبيعة البشرية، لكن إذا أردنا له أن ينمو على النحو الأفضل وأن يعمل على النحو الأكفأ، فسيتطلب ذلك توفير سوق منفتح وتنافسي يسوده التبادل الحر ويغيب عنه الإجبار، كما يحتاج ذلك إلى قواعد للحفاظ على هذا الانفتاح، كالحاجة إلى الموقد لإيقاد النار. إلا أن هذه القواعد - أي قواعد العدل والأخلاق - تتصف بأنها عامة وغير شخصية، وهي بذلك تختلف تماما عن التدخلات المحددة والشخصية التي تصدر عن السلطات المركنتيلية.
ولهذا، فإن كتاب «ثروة الأمم» لم يكن مجرد دراسة لعلم الاقتصاد بحسب مفهومه المعاصر الذي نفهمه، وإنما كان بحثا ابتكاريا في علم النفس الاجتماعي الإنساني، يتطرق إلى الحياة ورفاهيتها، والمؤسسات السياسية، والقانون، والأخلاق. (4) علم نفس الأخلاق
جاء سميث في عصر كان من الممكن فيه على المفكر المتعلم أن يحيط بكل شيء علما: بالعلوم، والفنون، والأدب، والفلسفة، والأخلاق، والنصوص الكلاسيكية؛ فكان منه أن أحاط بكل ذلك، وجمع مكتبة ضخمة، وخطط لكتابة تاريخ الفنون العقلية، وألف كتابا حول القانون والحكومة. لم يكن «ثروة الأمم» أول كتاب يصنع سمعة لسميث في عالم الكتابة، وإنما صنعها أولا كتابه في الأخلاق «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وهو كتاب لا يحظى بالشهرة ذاتها، لكنه حظي في أيامه بمثل ما ل «ثروة الأمم» من تأثير على القارئ وأهمية لدى مؤلفه.
لقد حاول كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» أن يحدد الأساس الذي تقوم عليه عملية صياغة تقييماتنا الأخلاقية. وفي هذه المرة أيضا، كان سميث ينظر إلى الموضوع باعتباره قضية نفسية عميقة؛ فالإنسان يشعر ب «تعاطف» طبيعي (ندعوه اليوم ب «المشاركة الوجدانية») مع الآخرين، على نحو يتيح له فهم كيفية تهدئة سلوكه والمحافظة على التناغم، وهذا الأمر يشكل أساس التقييمات الأخلاقية حول السلوك، ويمثل منبع الفضيلة البشرية. (5) المصلحة الشخصية والفضيلة
يتساءل البعض في أيامنا هذه عن كيفية التوفيق بين المصلحة الشخصية التي توجه منظومة سميث الاقتصادية وبين «التعاطف» الذي يوجه أخلاقياته. وجواب ذلك يتمثل في أنه «مهما بلغت الأنانية بالإنسان، فلا شك أن هناك بعض المبادئ في طبيعته تجعله يهتم بثراء الآخرين، وتجعل سعادتهم ضرورية له، دون أن يكون هناك ما يستمده منها سوى متعة مشاهدتها».
2
بعبارة أخرى، إن طبيعة الإنسان معقدة؛ فالخباز لا يزودنا بالخبز بسبب حبه لعمل الخير، والمصلحة الشخصية ليست هي ما يدفع شخصا ما إلى إلقاء نفسه في النهر لإنقاذ شخص غريب من الغرق. إن كتب سميث هي محاولات متكاملة لتحديد كيف أن أصحاب المصلحة الشخصية يمكنهم - وهذا ما يفعلونه - العيش معا بسلام (في النطاق الأخلاقي)، وعلى نحو مثمر (في النطاق الاقتصادي).
لكن دون شك، لا يعني ذلك أبدا أن «ثروة الأمم» يدافع عن رأسمالية البقاء للأقوى، كما يصفه البعض بسخرية. فالمصلحة الشخصية ربما توجه الاقتصاد، لكن إذا كان هناك تنافس منفتح أصيل، إضافة إلى غياب الإجبار، فتلك قوة تعمل لصالح الخير. ومهما يكن من أمر، فإنسانية سميث وحبه للخير واضحان في كل صفحة من صفحات الكتاب؛ فهو يعلي من شأن رفاهية الأمة، ولا سيما الفقراء، فوق المصالح الخاصة للتجار والفئات القوية، غير أنه ينتقد المصنعين الذين يحاولون عرقلة التنافس الحر، ويدين الحكومات التي تساعدهم. (6) الطبيعة البشرية والمجتمع البشري
كان مفكرو القرن الثامن عشر يؤمنون بأنه يجب أن يكون هناك أساس أكثر صلابة للمجتمع من العقيدة التي يمررها رجال الدين أو الأوامر التي تصدر عن السلطات السياسية، وقد عمل بعضهم جاهدا لإيجاد منظومات «عقلانية» للقانون والأخلاق، أما سميث فقد رأى أن المجتمع الإنساني، بما فيه من علم ولغة وفنون وتجارة، متأصل في الطبيعة الإنسانية، وبين كيف أن غرائزنا الطبيعية تقدم دليلا أفضل من أي منطق متعجرف؛ فإذا أقدمنا على مجرد إزالة «كافة منظومات التفضيل أو التقييد»
3
والاستناد إلى «الحرية الطبيعية»، فعندها سنجد أنفسنا مستقرين، عن غير عمد لكن بكل ثقة، في ظل نظام اجتماعي متناغم وسلمي وفعال.
إن هذا النظام الاجتماعي الليبرالي لا يتطلب الانتباه المستمر من جانب الملوك والوزراء للحفاظ عليه، غير أنه يستند إلى احترام الأفراد لقواعد معينة متعلقة بالسلوكيات المتبادلة فيما بينهم، كالعدل واحترام حياة الآخرين وملكياتهم؛ وعندها ينبثق النظام الاجتماعي النافع الشامل بشكل طبيعي تماما. وقد كان سعي سميث منصبا على تحديد المبادئ الطبيعية للسلوك الإنساني، والتي تؤدي فعلا إلى هذه النتيجة الطيبة.
هوامش
الفصل الثاني
حياة سميث الشخصية والمهنية
كانت مارجريت دوجلاس حاملا بالفعل عندما مات عنها زوجها المحامي ذو العلاقات الواسعة وضابط الجمارك السابق في يناير 1723. وفي الخامس من يونيو، أضافت مارجريت في سجلات المواليد اسم طفلها الذي حمل اسم والده المتوفى: آدم سميث. مرت الأعوام ليصبح هذا الطفل فيما بعد واحدا من أهم مفكري عصره، ومؤلفا لأحد أكثر الكتب تأثيرا في التاريخ. (1) كيركالدي وجلاسكو
لا نعلم إلا القليل عن طفولة آدم سميث، ومن ذلك أنه في سن الثالثة تعرض للخطف لمدة قصيرة على أيدي الغجر، حتى استطاع خاله أن يعيده سالما. لكن كل يوم مر عليه في مسقط رأسه لا بد أنه قد زوده بالكثير من المعلومات التي استفاد منها في حياته العلمية فيما بعد. كانت كيركالدي ميناء اسكتلنديا على لسان فورث البحري في إدنبرة، وكانت مركزا تجاريا تفد إليه السفن المحملة بالأسماك، وتخرج منه لتصدير الفحم المستخرج من المناجم المحلية، وتعود بالحديد الخردة لصناعة الحديد.
1
وهكذا ترعرع سميث إلى جانب البحارة وتجار السمك ومصنعي المسامير وضباط الجمارك والمهربين، ووصف أنشطة هؤلاء جميعهم في كتابه «ثروة الأمم».
لكن الأحوال كانت تتغير؛ فالتجارة المتنامية مع الأمريكتين بسلع كالتبغ والقطن كانت تفضل موانئ غربية منشأة حديثا آنذاك - من أمثال جلاسكو - على الموانئ الشرقية القديمة مثل كيركالدي.
2
وفي كتاب سميث العظيم تجد ذكرا لأنماط الانتقال هذه التي شهدتها التجارة وحياة المجتمعات التي كانت تعتمد عليها.
أما في المدرسة، فقد لاحظ الجميع شغفه بالكتب وذاكرته الاستثنائية، كما أنه انخرط في الدراسة الجامعية في جامعة جلاسكو في سن الرابعة عشرة (وهو العمر الطبيعي لارتياد الجامعة في تلك الأيام)، وهناك درس على يد فيلسوف الأخلاق العظيم فرانسيس هاتشيسون، وهو مفكر عقلاني نفعي صريح يؤمن بحرية الإرادة، وكان مصدر إزعاج للسلطات ، ويبدو أن سميث قد تأثر ببعض خصاله. (2) أوكسفورد والحوافز
كان سميث متفوقا في دراسته الجامعية، ففاز بمنحة دراسية للدراسة في كلية باليول في جامعة أوكسفورد، وعندما بلغ السابعة عشرة في عام 1740، امتطى فرسه وبدأ رحلته التي امتدت لشهر كامل. وبعد أن انفتحت عيناه على الازدهار التجاري لجلاسكو بالمقارنة مع تخلف كيركالدي، رأى حينها في إنجلترا عالما مختلفا، فكتب عن عظمة بنائها وبدانة مواشيها التي لم تكن تشبه أبدا تلك الأنواع الهزيلة التي اعتاد رؤيتها في موطنه الاسكتلندي.
لكن منظومة التعليم في إنجلترا لم تنل إعجابه، بل إنها علمته درسا مهما في قوة الحوافز الضارة التي استعرضها باستهزاء في كتابه «ثروة الأمم». فقد كان أساتذة جامعة أوكسفورد يحصلون على أجورهم من عوائد الأوقاف الواسعة التابعة للجامعة، وليس من الرسوم التي يدفعها الطلبة؛ ولهذا كان «معظم الأساتذة العموميين قد تخلوا خلال هذه المدة الطويلة حتى عن التظاهر بالتعليم»،
3
وكان الهدف من الحياة الجامعية «المصلحة، أو بعبارة أنسب: راحة الأساتذة».
4
وفي خضم ذلك كان سميث يواصل دراسته للاقتصاد بوتيرة سريعة.
على الرغم من تلك الأجواء، فقد تمكن سميث - بفضل المكتبة الهائلة التي احتوتها كلية باليول - من دراسة النصوص الكلاسيكية والأدب ومواد أخرى. وفي عام 1746، ترك سميث أوكسفورد قبل نهاية المنحة الدراسية، وعاد إلى كيركالدي، حيث أمضى هناك عامين من الكتابة في الأدب والفيزياء والمنطق والأسلوب العلمي. (3) سنواته الأولى كمحاضر
بفضل الصلات العائلية، قام اللورد كامس - وهو محام ومفكر بارز - بدعوة سميث لإلقاء سلسلة من المحاضرات العامة في إدنبرة حول الأدب الإنجليزي وفلسفة القانون. ومن هذه المحاضرات، يمكننا أن نستنتج أن سميث حتى في عشرينياته كان يستنبط العديد من الأفكار الرئيسية (كتقسيم العمل)؛ مما سيؤدي لاحقا إلى تشكيل الأسس الجوهرية التي قام عليها كتابه «ثروة الأمم».
أحرزت المحاضرات نجاحا عظيما، ومهدت الطريق للنقلة اللاحقة في حياته المهنية. وعندما بلغ السابعة والعشرين في عام 1751، عاد سميث إلى جامعة جلاسكو لتدريس المنطق وفلسفة الأخلاق والأدب والبلاغة. (وفي ذلك الوقت، لم تكن البلاغة تعني شيئا مما تجسده الآن ، ولم يقصد بها حينها سوى دراسة أسلوب الحديث والتواصل.)
كان منهجه التدريسي في الفلسفة يغطي موضوعات اللاهوت والأخلاق وفقه القانون والسياسة العامة، وكانت محاضراته في فقه القانون والسياسة (والتي لم تصلنا إلا عبر ما دونه الطلبة من ملاحظات) تحتوي على العديد من أفكاره (كآلية عمل منظومة السعر، وعيوب الحمائية، وتطور المؤسسات الحكومية والاقتصادية)، وقد ظهرت هذه الأفكار بعد أعوام بين دفتي كتابه «ثروة الأمم» على نحو مطابق تقريبا.
لكن أفكار سميث التأملية حول الأخلاق كانت هي السبب في ذيوع صيته؛ ففي عام 1759 نشر سميث هذه الأفكار في كتاب تحت عنوان «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وهو كتاب يتمتع ببراعة الأسلوب وأصالة المحتوى، وقدم فيه سميث شرحا لتقييماتنا الأخلاقية من منظور علم النفس الاجتماعي. ويذكر هنا أن صديق سميث، الفيلسوف والمؤرخ ديفيد هيوم، أرسل نسخا من هذا الكتاب إلى عدد من أصدقائه، ومن هؤلاء كان السياسي تشارلز تاونسند، وأعجب تاونسند بالكتاب أيما إعجاب، إلى الحد الذي دفعه إلى توظيف سميث فورا بمرتب سخي قدره 300 جنيه استرليني طيلة الحياة، وذلك كمعلم خصوصي لابن زوجته، الدوق الشاب لمدينة باكلو. (4) رحلاته
على الرغم من ذكائه اللامع، لم يكن سميث خيارا متوقعا عندما يتعلق الأمر بوظيفة المعلم الخصوصي، حيث يصفه الكاتب جيمس بوزويل بأنه كان يملك «ذهنا تزدحم فيه كافة أنواع الموضوعات»؛ مما جعله شارد الذهن، حتى إنه أقدم ذات مرة - في غير وعي - على وضع الخبز والزبد في إبريق الماء الساخن بدلا من الشاي، وسار في حين آخر ثمانية أميال متفكرا في إحدى المشكلات قبل أن يلاحظ أنه أصبح في مدينة دانفيرملين، وفي إحدى المرات سقط في مصرف مياه لعدم تركيزه في الطريق.
لم يمض وقت طويل حتى انطلق سميث مع تلميذه في رحلة إلى فرنسا، حيث كان السفر جزءا من العملية التعليمية لكل شاب أرستقراطي في ذلك الوقت، واستمتع كلاهما في باريس بالصحبة الرائعة لديفيد هيوم الذي كان السكرتير الخاص للسفير هناك. لكن سميث لم يكن يتكلم الفرنسية بطلاقة، ووجد صعوبة في التواصل مع الآخرين ؛ فبدأ الضجر يتملكه وأخبر هيوم: «لقد بدأت بتأليف كتاب من أجل تمضية الوقت.»
5
ولم يكن هذا الكتاب إلا «ثروة الأمم».
وفي رحلاته التالية، عبر الجنوب الفرنسي، وإلى جنيف، والعودة إلى باريس، التقط سميث معلومة تلو الأخرى حول أوجه الحياة الأوروبية: ثقافيا وحكوميا وتجاريا واقتصاديا وفيما يتعلق بالقانون، وأعمل فكره في الفوارق بينها وبين الأوجه السائدة في أرض الوطن. وكان للمناقشات التي خاضها مع عدد من الأسماء البارزة في أوروبا القارية فضل في تشذيب الأفكار التي وردت في كتابه العظيم. (5) «ثروة الأمم»
رجع سميث مع تلميذه إلى لندن في عام 1766، وعاد سميث إلى كيركالدي ليقيم فيها، حيث استطاع توفير ما يكفي لشراء منزل فخم في شارع هاي ستريت، وعاش فيه مع والدته وابنة خاله جانيت. (ومن الجدير بالذكر أن سميث ظل يخصص جهوده لخدمة والدته حتى وفاتها في عام 1784، فلم يتزوج قط، لكن يبدو مما كتبه أنه كان على علاقة في وقت مبكر «بشابة على قدر كبير من الجمال واللباقة».)
6
أمضى سميث أعواما كثيرة في كيركالدي وهو يكتب وينقح ويصقل مخطوطته على حساب صحته، لكنه تحسن بعد مدة طويلة أمضاها في لندن من 1773 إلى 1776، مستمتعا بصحبة مفكرين عظماء آخرين، من أمثال الرسام السير جوشوا رينولدز، والمؤرخ الجليل إدوارد جيبون، والسياسي الراديكالي إدموند بيرك، وبوزويل، وحتى المعجمي الدكتور صامويل جونسون، رغم تعارض آراء سميث مع آراء الأخير.
نشر «ثروة الأمم» أخيرا في مارس 1776، وحقق نجاحا تجاريا هائلا، وطبع عدة مرات وبلغات متنوعة خلال بضعة أعوام فقط، كما أنه حقق نجاحا تطبيقيا أيضا؛ فالوصفات التي قدمها، كتحرير التجارة، أخذت تشق طريقها في السياسة العامة. (6) مفوض الجمارك
كوفئ سميث بحصوله على منصب مفوض الجمارك في إدنبرة، براتب سخي قدره 600 جنيه استرليني. وهكذا، أصبح حينها أكبر المنتقدين لمنظومة الجمارك الاعتباطية الفاشلة في بريطانيا، متبوئا لمنصب يمكنه من فعل شيء ما إزاء هذا الواقع، وقد أبدى سميث قدرا كبيرا من الجد في القيام بمهام منصبه.
7
وكان يدلي بنصائحه في موضوعات أخرى أيضا، محاربا القيود المفروضة على التجارة في أيرلندا على سبيل المثال، كما تدخل بشأن «الاضطرابات» الاستعمارية الأمريكية. وفي وقت لاحق، استعان رئيس الوزراء ويليام بيت بمبادئ سميث في صياغة معاهدة تجارية مع فرنسا، وفي تطبيق إصلاح واسع النطاق لمنظومة الضرائب في البلاد.
كان سميث يحب النقاش والجدل مع الأصدقاء، وفي يوليو 1790، وبينما كان يقضي أحد أمسيات الجدل الكثيرة في إدنبرة، أحس سميث بالتعب وذهب ليرتاح في فراشه قائلا بأن للنقاش بقية في مكان آخر. ولم يلبث بعدها إلا بضعة أيام حتى توفي، ليدفن تحت نصب تذكاري فخم، وإن كان غير متكلف، في ساحة كنيسة بالقرب من منزله في كانونجيت.
هوامش
الفصل الثالث
كتاب «ثروة الأمم»
(1) الخطوط العريضة للكتاب
كتب آدم سميث «ثروة الأمم» مدفوعا بعدة أسباب، منها أنه كان يرغب في تشجيع السياسيين على التخلي عن سياسة تقييد التجارة وإبعادها عن المسار الصحيح عوضا عن السماح لها بالازدهار؛ لذلك استخدم لغة صريحة لا تزال سهلة الفهم حتى يومنا هذا.
لكن سميث كان يحاول أيضا ابتكار علم اقتصاد جديد؛ فجاء عمله رياديا، وحفل بمصطلحات ومفاهيم قد يصعب التوفيق بينها وبين مصطلحات ومفاهيم أيامنا هذه. فنص كتاب «ثروة الأمم» يتصف بالانتقال من موضوع لآخر، فيعج بالاستطرادات الطويلة وتزدحم فيه الحقائق - من سعر الفضة في الصين، إلى غذاء المومسات الأيرلنديات في لندن - مما يجعل سبر أغوار الكتاب أمرا صعبا؛ لذلك علينا أولا أن نسلط الضوء على بعض موضوعاته الرئيسية.
ليس هناك في الكتاب أوضح من الموضوع الذي جاء بصدده أن «ضوابط التجارة غير قائمة على أساس سليم وتأتي بنتائج عكسية». كانت النظرة السائدة في أيامه هي الفكرة «المركنتيلية» التي ترى أن ثروة الأمة هي مقدار ما تمتلكه من مال، وهذا يعني ضمنا أن الأمة إذا أرادت أن تكون أكثر ثراء، فهي تحتاج إلى بيع أكبر قدر ممكن مما تملكه للآخرين، حتى تحصل على أكبر قدر ممكن من المال في المقابل، وأن تشتري أقل قدر ممكن من الآخرين، وذلك كي تحول دون تسرب احتياطها النقدي إلى الخارج. وقد أدت هذه النظرة التجارية إلى تأسيس شبكة هائلة من تعريفات الاستيراد وإعانات التصدير والضرائب وتفضيلات الصناعات المحلية؛ حيث كانت جميعها مصممة بهدف الحد من الواردات وتعزيز الصادرات.
أما نظرة سميث الثورية، فكانت تتمثل في أن الثروة لا تتعلق بكمية الذهب والفضة في خزائن الأمة، «فالمقياس الحقيقي لثروة الأمة هو ما تخلقه من تيار السلع والخدمات». وهكذا ابتكر سميث الفكرة الأساسية الشائعة في علم الاقتصاد حاليا، وهي إجمالي الناتج المحلي.
1
وكان يرى بأن السبيل لزيادة هذا الناتج إلى حده الأقصى لا يتمثل في تقييد القدرة الإنتاجية للأمة، وإنما في تحريرها.
ومن الموضوعات المحورية في الكتاب أن هذه «القدرة الإنتاجية تستند إلى تقسيم العمل»، وإلى ما يتيحه من «تراكم رأس المال». ويمكن تحقيق مردود هائل عبر تقسيم الإنتاج إلى العديد من المهام الصغيرة، حيث تتولى كلا منها أيد متخصصة، وهذا يتيح للمنتج فائضا يمكن تبادله مع الآخرين، أو استخدامه للاستثمار في آلات موفرة للعمل، أحدث وأكثر كفاءة.
أما الموضوع الثالث، فيتمثل في أن ما للبلاد من «دخل مستقبلي يعتمد على تراكم رأس المال»؛ فكلما استثمرت في عمليات إنتاجية أفضل، كبر حجم الثروة التي ستتكون في المستقبل. لكن إذا كان الناس سيزيدون رأسمالهم، فلا بد أن يضمنوا حمايته من السرقة؛ فالدول التي تحقق الازدهار هي تلك الدول التي تنمي رأسمالها، وتديره إدارة فعالة، وتوفر له الحماية.
والموضوع الرابع مفاده أن «المنظومة تعمل آليا»؛ فعندما تندر سلعة ما، يبدي الناس استعدادهم لدفع المزيد في سبيل الحصول عليها، ويكون هناك المزيد من الربح في تزويدها؛ ولهذا يستثمر المنتج المزيد من رأسماله في سبيل إنتاج المزيد. أما إذا أغرق السوق بهذه السلعة، فستنخفض الأسعار والأرباح، وينتقل المنتج برأسماله ومشاريعه إلى مجال آخر. وهكذا تبقى الصناعة في حالة من التركيز على الاحتياجات الأكثر أهمية للأمة دون الحاجة إلى توجيه مركزي.
لكن «المنظومة لا تعمل آليا إلا في جو من التجارة الحرة والتنافس»؛ فعندما تمنح الحكومة إعانات أو حقوق احتكار لمنتجين مفضلين على غيرهم، أو تحميهم خلف جدران التعريفات ، يمكنهم أن يفرضوا أسعارا أعلى، والنتيجة أن يكون الفقراء هم أكثر من يعاني من ذلك؛ لأنهم يواجهون تكاليف أعلى مقابل الضروريات التي يعتمدون عليها.
يضاف إلى تلك الموضوعات أن «ثروة الأمم» تكمن في كيفية «تمخض المراحل المختلفة للتقدم الاقتصادي عن مؤسسات حكومية مختلفة». فمجتمعات الصيد والجمع البدائية لم يكن لديها إلا القليل مما تشعر بقيمته، لكن عندما أصبح البشر مزارعين، أضحت أراضيهم ومحاصيلهم ومواشيهم ملكيات مهمة، فأسسوا الحكومات ومنظومات العدل من أجل حمايتها.
وفي عصر التجارة، ومع مراكمة الناس لرأس المال، أصبحت الملكية ذات أهمية أكبر، لكن هذا العصر عاش فيه تجار أتيح لهم تحقيق مكاسب أكثر عبر تشويه الأسواق لمصلحتهم، وكان لديهم من المكر ما يكفي لاستخدام العملية السياسية لخدمة هذه الغاية. «إن التنافس والتبادل الحر يتعرضان إلى الخطر من جانب الاحتكارات والتفضيلات الضريبية والضوابط، وغيرها من الامتيازات التي يمكن للمنتجين أن يحصلوا عليها من السلطات الحكومية.»
ولهذه الأسباب جميعها، آمن سميث بأن «الحكومة يجب أن تكون محدودة»؛ فمهمتها الأساسية تتمثل في القيام بشئون الدفاع، والحفاظ على النظام، وإنشاء البنى التحتية، وتعزيز التعليم. ويجب عليها أن تحافظ على انفتاح السوق وحريته، لا أن تعمل على تشويهه بأي شكل من الأشكال. (2) الإنتاج والتبادل
في المجلد الأول من مجلدات الكتاب الخمسة، نجد شرحا لآليات الإنتاج والتبادل، وما تساهم به في الدخل الوطني. (2-1) منافع التخصص
استخدم سميث مثال مصنع الدبابيس ليبين أن «تقسيم العمل» - أي التخصص في العمل - يؤدي إلى زيادات هائلة في المخرجات. وتبدو صناعة الدبابيس «صناعة تافهة»، لكنها في الحقيقة صناعة شديدة التعقيد؛ إذ يجب سحب السلك، وجعله مستقيما، وقطعه، وتدبيبه، ويجب أن تكون قمة الدبوس مسطحة؛ ولذا تصنع بشكل مستقل ثم تثبت به لاحقا، ويلي ذلك تبييض الدبابيس ولفها في أوراق. ففي الحقيقة، هناك قرابة 18 عملية مختلفة تدخل في صناعة الدبابيس.
ويرى سميث أن العامل الواحد إذا أنجز كل هذه العمليات بمفرده، فربما لن يتمكن من صناعة أكثر من عشرين دبوسا في اليوم (وإذا كان عمله يتضمن أيضا التنقيب عن الحديد وصهره، فربما لن يتمكن من إنتاج حتى دبوس واحد كل عام). أما في المصنع، فيقسم العمل بين أشخاص مختلفين، يقتصر عمل كل منهم على واحدة أو اثنتين من العمليات المنفصلة، وهكذا فإن فريقا من عشرة أشخاص أقوياء يمكنه صناعة 48000 دبوس في اليوم، أي ما يعادل 4800 دبوس لكل عامل، وهذا يساوي 240 ضعف ما ينجزه العامل الذي يصنع الدبابيس بمفرده يوميا.
التخصص أمر شديد الفعالية، حتى إنه لا يقتصر فقط على الشركات، وإنما تجده بين الصناعات أيضا، بل حتى بين الدول. إن المزارع الذي يتخصص في زراعة محصول أو في تربية المواشي، ستحظى أرضه برعاية أفضل وستكون أكثر إنتاجا مما لو كان يتوجب عليه قضاء وقته في صناعة احتياجات المنزل أيضا. كما أن المصنعين يسعدهم جدا توفير السلع المنزلية وترك مسئولية إنتاج غذائهم على عاتق هذا المزارع، وعلى النحو نفسه، يأتي تخصص الدول في صورة تصدير السلع التي تنتجها على أفضل نحو ممكن، واستيراد السلع التي ينتجها الآخرون على نحو أفضل.
يرى سميث أن ازدياد الكفاءة لا ينتج عن مجرد المهارة المكتسبة من أداء المهمة نفسها لمرات كثيرة؛ فالتخصص ومقدار الوقت الأقل المستغرق في الانتقال من عملية إلى أخرى يتيحان للناس استخدام آلات متخصصة موفرة في العمل من أجل زيادة مخرجات العمل؛ ومن ثم «تتمثل تأثيرات تقسيم العمل فيما يبدو في تحسن القوى الإنتاجية للعمل على نحو أفضل، واتساع نطاق المهارة والبراعة والتقييم الذي يوجه به هذا التحسن أو ينفذ على أساسه».
2
يسخر تقسيم العمل تعاون الآلاف المؤلفة من البشر حتى في إنتاج أساسيات الحياة اليومية. يقول سميث:
لنأخذ المعطف الصوفي الذي يرتديه العامل العادي كمثال، فمهما كان هذا المعطف يبدو خشنا ورديئا، فإنه يمثل حصيلة العمل المشترك لعدد هائل من العمال: الراعي، وفارز الصوف، وممشطه ومنظفه، والصباغ، والغزال، والنساج، والقصار، والخياط، وغيرهم الكثيرين ممن تتضافر اختصاصاتهم بهدف اكتمال إنتاج حتى هذه السلعة المتواضعة.
3
إضافة إلى ذلك، فإن نقل الصوف من شأنه أن يتطلب أيضا عمل البحارة وصانعي السفن وصانعي الأشرعة، حتى إن المقصات التي يقص بها الصوف تحتاج صناعتها إلى عمال مناجم ومصاهر. إن القائمة تبدو لا نهائية، لكن هذا التعاون بين آلاف العمال المتخصصين الأكفاء هو مصدر الثروة العظيمة التي تتمتع بها الدول المتقدمة، وهو الذي يجعل بعض السلع كالمعاطف الصوفية متاحة حتى لأفقر الناس، وهو ما يعبر عنه سميث بأنه: «ثروة شاملة في متناول أدنى طبقات المجتمع».
4 (2-2) المكاسب المشتركة جراء التبادل
في الفصل الثاني - ذي الأهمية الجوهرية - من الكتاب، يشرح سميث كيف أن «التبادل المادي» ينشر منافع هذه الكفاءة الإنتاجية في أرجاء المجتمع. وهو يخمن بأن بعض المهارات الذهنية أو الجسدية المحددة في «بلد بدائي» قد تجعل أحد الأشخاص أفضل في صناعة السهام، وغيره أفضل في الصناعات المعدنية. ومن خلال التخصص في العمل، يمكن لصانع السهام أن ينتج عددا أكبر من السهام، وللحداد أن يصنع عددا أكبر من النصال، مقارنة بما يمكن أن يستخدمه كلاهما؛ ولهذا فإنهما يتبادلان السهام مقابل النصال، وهكذا يمتلك كل منهما مجموعة من الأدوات النافعة، ويكون كل منهما قد استفاد من كفاءة الآخر وإنتاجه التخصصي.
ويزعم سميث أن الميل إلى «التعاوض والمقايضة والتبادل» هو من الخصائص الطبيعية العامة في السلوك البشري، وخصوصا بسبب انتفاع كلا الطرفين منه. وفي الواقع، إن التبادل لن يحدث إذا كان أي من الطرفين يعتقد أنه سيخسر بسببه، وهذه ملاحظة حكيمة حاسمة؛ ففي عالم سميث، كما هو عالمنا، كان تبادل معظم السلع يتم مقابل المال، وليس مقابل سلع أخرى. وبما أن المال من الثروات، فيبدو أن البائع وحده كان هو من ينتفع من هذه العملية. لكن سميث يرينا أن المنفعة مشتركة؛ فعبر التبادل، يحصل كلا الطرفين على السلع التي يريدانها مقابل جهد أقل، بالمقارنة مع الجهد الذي قد يبذلانه في صنع هذه السلع لنفسيهما، فكلا الطرفين يصبح أكثر ثراء بفضل التبادل، أي إن الثروة، بعبارة أخرى، ليست ثابتة، وإنما هي «تتكون» عبر اتجار البشر، وهذه الفكرة كانت فكرة رائدة ومبتكرة في أيام سميث.
وهناك ملاحظة حكيمة أخرى مفادها أن التبادل يستمر في إفادة الطرفين، حتى وإن كان كل منهما يقترح المساومة ويقبلها كلية بما يصب في مصلحته الشخصية، دون الاعتناء بمصلحة الطرف الآخر. وإن ذلك لمن حسن الحظ؛ لأنه يتيح لنا الطريقة التي نستخدمها لتحفيز الآخرين على التخلي عن الأشياء التي نحتاجها، وهو ما يعبر عنه سميث بقوله الشهير:
إننا لا نتوقع من الجزار أو صانع الخمر أو الخباز أن يوفر لنا طعامنا على أساس رغبته في عمل الخير، وإنما على أساس اعتباراته المتعلقة بمصلحته الشخصية؛ وبذلك فإننا لا نتعامل مع إنسانيتهم، وإنما مع حب كل منهم لذاته، ولا نتحدث معهم أبدا عن احتياجاتنا الضرورية، وإنما عن المنافع التي تعود عليهم.
5
وعندما يتكلم سميث عن «حب الذات» أو «المصلحة الشخصية»، فإنه لا يعني «الطمع» أو «الأنانية»، وإنما يقصد المعنى الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر، أي ليس الاستعداد الكريه لتحقيق المكاسب عبر جعل الآخرين أسوأ حالا، وإنما الاعتناء بالحالة المعيشية للمرء على نحو مناسب ومقبول، وهو أمر طبيعي جدا وذو أهمية كبيرة للبشر، إلى درجة جعلت سميث يطلق عليه في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» مصطلح «الاهتمام بالنفس».
6
وفي هذا الكتاب نفسه، تجده يشدد على أن «التعاطف» (أو ما ندعوه بالمشاركة الوجدانية) مع الآخرين هو من الخصائص الملحوظة للبشرية، وأن العدل (وهو عدم الإضرار بالآخرين) يعتبر من قواعدها الأساسية. (2-3) الأسواق الأكثر اتساعا والمكاسب الأكبر
إن المنافع التي نحصل عليها من التبادل هي التي تدفعنا إلى التخصص؛ مما يؤدي إلى زيادة الفائض الذي يمكننا تبادله مع الآخرين. ويرى سميث أن المدى الذي يبلغه التخصص يتحدد بحسب حجم إمكانية حدوث التبادل، أي حجم «السوق»،
7
ف «البلدة الكبيرة» فحسب هي التي يمكن أن تزود العتالين بعدد كاف من الزبائن على سبيل المثال، وربما لا تتمكن المجتمعات المتناثرة من دعم حتى النجار أو البناء المتخصص، وحينها تجبر الناس على أداء المزيد من هذه المهام لأنفسهم.
هناك أمر واحد يعمل بصورة مؤكدة على توسيع السوق، وهو «المال»؛
8
فالحياة تصبح روتينية ومملة إذا تعين على صانع الخمر الجائع أن يبحث دائما عن خباز يشعر بالعطش، وهذا هو السبب في أننا نستخدم الوسيط المالي بشكل عام، لتبادل فائض الإنتاج مقابل المال، ثم تبادل المال مقابل ما نريده من المنتجات. (2-4) مؤشر القيمة
لكن سواء أدخل المال كوسيط أم لا، ما العامل الذي يحدد السعر الذي يتبادل مختلف السلع بموجبه؟ إن من الأمور التي حيرت سميث أن شيئا عديم النفع تماما (كالماس) يمتلك «قيمة تبادلية» عالية، بينما لا يمتلك شيء حيوي (كالماء) أي قيمة تقريبا. واليوم يمكننا حل هذا اللغز باستخدام نظرية المنفعة الحدية: فبما أن الماس نادر جدا، يمكن اعتبار أي ماسة إضافية نحصل عليها بمنزلة مكافأة عظيمة، وبما أن الماء متوفر على نحو غزير، فإن أي كوب إضافي من الماء لا يعد ذا منفعة كبيرة لنا. كما يمكننا حل اللغز أيضا عبر الاستعانة بتحليل العرض والطلب.
مما يؤسف له أن الأداة الأولى (نظرية المنفعة الحدية) لم تكن قد وجدت في أيام تأليف كتاب «ثروة الأمم»، كما لم يكن سميث قد أتقن فهم الأداة الثانية (تحليل العرض والطلب) في ذلك الحين؛ لذلك نجده يجهد نفسه في تحديد ما الذي يمنح منتجا ما قيمة معينة.
لقد بدا من الطبيعي في نظر سميث أنه في المجتمعات البدائية لا بد أن تعكس القيمة في الأصل مقدار «العمل» المبذول في إنتاج السلعة.
9
فنحن، في نهاية المطاف، نبذل «الكد والعناء» في صناعة المنتجات التي نبيعها، لا لشيء سوى أن نوفر على أنفسنا عناء صناعة المنتجات التي نشتريها، فليس هناك من معنى عند البائع والمشتري في شراء شيء يمكن صناعته بالقليل من الجهد الشخصي؛ ولهذا فإن السعر المثالي للتبادل يجب أن يعكس جهدا مساويا له.
ولهذا، إذا كان من السائد في مجتمع الصيد أن «يكلف قتل القندس من العمل عموما ضعفي العمل المبذول لقتل الغزال، فمن الطبيعي أن يحدث تبادل القندس مقابل غزالين، أو تساوي قيمة القندس قيمة غزالين».
10
ولا شك في أن سميث لاحظ أن أوجه العمل غير متساوية؛ فإحدى العمليات الإنتاجية قد تتطلب عملا أكثر جدا، أو قدرا أكبر من المهارة، أو مدة أطول من التدريب والخبرة، لكن هذه العوامل تؤخذ في الاعتبار «عبر الاتفاقات والمساومات في السوق».
11
ولقد تعرض هذا القسم من كتاب «ثروة الأمم» إلى الكثير من النقد بوصفه يؤصل ل «نظرية قيمة العمل»؛ مما أتاح لكارل ماركس الادعاء بأن عمل العامل يتعرض إلى سرقة دائمة من جانب أرباب العمل الرأسماليين. وإذا صح ذلك، فهذا يعني دون شك أن الجهد الذي بذله سميث في هذا القسم لم يسد للعالم أي صنيع.
إن ما أوردناه لا يعني أن سميث يذهب بنا حقا إلى نظرية قيمة العمل؛ فما يفعله في الواقع هو محاولة فهم ما نعتبره اليوم معيارا اقتصاديا أساسيا، وهو «التكاليف الإجمالية للإنتاج». ففي مجتمع الصيد، تكون هذه التكاليف في صورة عمل على نحو كامل تقريبا، لكننا تطورنا واجتزنا هذه المرحلة، حيث يمضي سميث إلى تحديد غيرها من «عوامل الإنتاج»، مثل الأرض ورأس المال، التي توظف في المنظومات الاقتصادية الأحدث، وهذه الفكرة أصبحت أيضا من المفاهيم الاقتصادية الأساسية في يومنا هذا. بعد ذلك، جاء سميث بمفهومي العرض والطلب، ولم يقتصر تحليله على تأثيراتهما على السعر، وإنما امتد أيضا إلى كيفية توجيههما لمنظومة الإنتاج والتوزيع بأكملها. إن هذا الطرح ريادي، وتطلب شرحه عدة فصول، ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها كتلة واحدة؛ إذ تتتبع كيفية تطور المجتمع بعيدا عن اعتبار العمل المصدر الأساسي للقيمة.
12 (2-5) الأرض والعمل ورأس المال
إن الإنتاج الحديث بمختلف أنواعه يتطلب أشخاصا يؤدون العمل، وتجهيزات كالأدوات والآلات التي يحتاجها هؤلاء الأشخاص في عملهم، ومكانا يعملون فيه؛ ولهذا يمكن تقسيم تكاليف العمل الإجمالية بين «العوامل الأساسية الثلاثة للإنتاج»، كما يؤكد سميث.
13
وبخلاف ما يحدث في اقتصاد الصيد، إن من يمتلك هذه العوامل هم أشخاص مختلفون مخولون بحق الحصول على حصة من عائدات ما يتم إنتاجه؛ فهناك «عمل» العامل الذي ينعكس بالطبع في «الأجور»، وهناك أيضا «رأس المال» - ويسميه سميث «المخزون» - الذي يجمعه أرباب العمل وينعكس في «الأرباح»، إلى جانب استخدام «الأرض» وينعكس في «عائدات الإيجار» التي تدفع لصاحب الأرض.
إذن، فإن الأرض ورأس المال والعمل عوامل ثلاثة تسهم معا في الإنتاج، وتجعل العمال وأرباب العمل وأصحاب الأرض يعتمدون بعضهم على بعض، لكن هذا الاعتماد المتبادل لا يقتصر على الإنتاج، فبما أن معظم الإنتاج يتم بنية التبادل، يتحتم على هؤلاء الانخراط في عملية تقييم وتوزيع المنتجات أيضا؛ وبذلك، يقودنا سميث تدريجيا إلى إدراك أن الإنتاج والتقييم والتوزيع لمخرجات الأمة هي عمليات لا تحدث منعزلة بعضها عن بعض، وإنما تحدث بشكل متزامن باعتبارها أجزاء مترابطة في «منظومة» اقتصادية تعمل بكفاءة، يعد كل فرد طرفا فيها. ولقد كان هذا الطرح أيضا بمنزلة ابتكار نظري هائل. (2-6) كيف تقود الأسواق عجلة الإنتاج؟
ينتقل سميث بعد ذلك إلى شرح كيفية قيام هذه المنظومة ب «قيادة الإنتاج وتوجيهه»، فيقول بأن «سعر السوق» الذي تتبادل به السلع في العادة قد يكون أعلى أو أقل من التكلفة الإجمالية للإنتاج (التي يدعوها سميث «السعر الطبيعي»).
14
ويعتمد هذا السعر على حجم الطلب على السلعة (أو على الأقل الطلب «الفعلي» من جانب المستهلك الذي يملك المال الكافي للشراء)، ومقدار ما يتوفر منها في السوق. وإذا كان سعر السوق أعلى من التكلفة الإجمالية التي يتكبدها البائع، فهذا يعني حصوله على الربح، أما إذا كان أقل، فهذا يعني تكبده للخسارة.
لا يمكن لسعر السوق أبدا أن يظل طويلا أدنى من تكاليف الإنتاج؛ إذ من شأن ذلك أن يؤدي إلى انسحاب البائع كي لا يستمر في تكبد الخسائر، لكنه أيضا لا يمكن أن يستمر في الارتفاع إلى حد بعيد؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنبيه المنافسين بوجود أرباح ممكنة؛ مما يزيد العرض، وهذا يؤدي إلى انخفاض سعر السوق مجددا؛ ولذلك، فإن هدف الصناعة يجب أن يتمثل في إنتاج كمية محددة بدقة تضمن توازن السلعة في السوق.
لا شك أن التنافس قد لا يكون مثاليا؛ إذ قد تؤدي الضوابط التنظيمية إلى الحد من القدرة على دخول السوق. وقد يزيد المحتكر الأسعار من خلال إبقاء السوق في حالة من قلة العرض، وربما تكون المعلومات المتوفرة عن السوق غير كافية. فعلى سبيل المثال، قد يبتكر أحدهم طريقة أرخص للإنتاج تدر عليه أرباحا استثنائية طيلة سنين إلى أن يكتشف هذه الطريقة منافسون آخرون؛ ولهذا فإن السعر «الطبيعي» وأسعار السوق قد يختلفان عن بعضهما. (2-7) اعتماد الأجور على النمو الاقتصادي
يمكننا أن نلاحظ وجود العيوب السابقة في «سوق العمل» أيضا؛ فقد تكون الأرض ورأس المال والعمل عناصر تعتمد بعضها على بعض، إلا أن الصراع بين العامل ورب العمل وصاحب الأرض يكون صراعا غير متكافئ. فيقول سميث إن أرباب العمل يعززون القوانين التي تمنع الائتمار فيما بين العمال، على الرغم من أن هذا الائتمار أمر «دائم ومطرد» فيما بين أرباب العمل أنفسهم.
15
لكن يجب على أرباب العمل ألا ينسوا أن إبقاء الأجور متدنية إنما هو إجراء اقتصادي مضلل؛ فالأجر الأعلى والظروف الأفضل من شأنها أن تؤدي إلى رفع الإنتاجية؛ مما يولد عائدات أعلى.
يرى سميث أن أكثر ما يفيد العامل هو الدخل الوطني المرتفع ونمو رأس المال؛ لأنهما يؤديان إلى ارتفاع الأجور. فصاحب الأرض الذي يتمتع بفائض في العائدات سيوظف عددا أكبر من الخدم، والحائك والإسكافي الذي يحصل على فائض من رأس المال سيوظف من يساعده في عمله. وبعبارة أخرى، إن الطلب على العمل يزداد إذا ازدادت الثروة الوطنية فقط، وإن «المردود الوافر للعمل» يعتمد بشكل كامل على النمو الاقتصادي.
ومع ذلك، فإن المعيار الحقيقي للأجور يتعلق بمقدار ما تشتريه الأجور، ويلاحظ سميث هنا أنه على الرغم من أن الضرائب أدت إلى ارتفاع أسعار الشموع والجلود والمشروبات الكحولية وغيرها من الكماليات في عصره، فإن أسعار الطعام والضروريات الأخرى أخذت في الانخفاض بفضل منظومة السوق، وقد أدى ذلك إلى مساعدة الفقير بشكل خاص، وهو أمر ليس سيئا، باعتبار أنه «ليس هناك من مجتمع يمكن أن يكون مزدهرا وسعيدا، بينما يرزح معظم أبنائه تحت طائلة الفقر والبؤس».
16 (2-8) أسعار الأجور في السوق
نظريا - كما يذهب سميث - من المفترض أن تميل عوائد العمل إلى التكافؤ. فإذا كانت تجارة ما تحقق مردودا أعلى، فسينهمر عليها الناس من المجالات الأخرى، وسيتوجب على السوق أن يبادر سريعا إلى تصحيح اختلال التوازن. لماذا إذن تتباين الأجور على أرض الواقع؟
يجيب سميث عن هذا السؤال بأنه يجب ألا نقتصر في التحليل على المردود «المالي»، وإنما ينبغي علينا أن نضم إليه المردود غير المالي أيضا؛ فبعض المهن شاقة أو غير مقبولة (ولهذا يحصل الجزار والجلاد على أجر أعلى من أجر الحائك)، وبعض المهن تعتمد على مواسم معينة (كالعمل في البناء)، وبعضها (كالطب) تتقاضى أجرا عاليا؛ لأنها تتطلب ثقة عالية من الجميع، وبعضها تكلف مبالغ طائلة لتعلمها (كالمحاماة)، وبعضها قد تكون فرص النجاح فيها ضئيلة (كمغني الأوبرا). إن هذه العوامل جميعها سوف تحدث تأثيرا في سعر سوق العمل في مهن بعينها. (2-9) الأجور والسياسة
لكن العوامل «السياسية» تؤثر في الدخل والربح أيضا؛ فالضوابط التنظيمية تمنع الناس من العمل في مهن معينة. ويعرض سميث للوائح التي تمنع صانع السكاكين في مدينة شفيلد من أن يكون له أكثر من صبي، أو تمنع الحائك في نورفولك أو صانع القبعات في إنجلترا من أن يكون لدى كل منهما أكثر من صبيين. إن حواجز العمل في هذه المهن تحافظ على استقرار دخل القلة الذين يؤهلون صبيتهم ليكونوا صانعي سكاكين أو حائكين أو صانعي قبعات، لكن ذلك لا يحدث إلا بسرقة أشخاص آخرين ل «السمات المقدسة» التي ينطوي عليها جهدهم. وتمنع هذه الحواجز أيضا انتقال العمال من المهن المتدهورة إلى المهن التي تكون في حاجة إليهم أكثر.
يشتهر سميث بتأكيده على أن «المنخرطين في المهنة نفسها نادرا ما يلتقون، حتى وإن كان ذلك للمتعة واللهو، لكن حواراتهم إن التقوا تنتهي دائما بالتآمر على الناس، أو إلى ابتكار أمر ما يؤدي إلى زيادة الأسعار».
17
لكن سميث استطرد على الفور وبادر سريعا إلى القول بأن السياسيين والقانون شريكان في ذلك؛ لأنهما يشرعان ويفرضان الضوابط التي تجعل مثل هذا التآمر أكثر ترجيحا وفاعلية؛ وبذلك يشير سميث إلى الامتيازات التي تتمتع بها الرابطات العمالية الحرفية (أو ما يدعوه «الاتحاد النقابي»)، والتي فرضت منذ العصور الوسطى طوقا منيعا لحماية احتكاراتها، وحصرت حق الانضمام للحرف وشروط ذلك، واحتفظت بسجلات لأسماء من حصلوا على ترخيص مزاولة الحرفة، وجمعت الأموال من أعضائها لتحسين المستوى المعيشي للفقراء منهم.
ويرى سميث أن سن قانون لوضع سجل عمومي لمزاولي المهن يسهل تواصل بعضهم مع بعض؛ مما يتيح فرصا أكثر لحدوث مثل تلك اللقاءات التآمرية، كما أن الرسوم الخيرية الإجبارية تجعل هذه اللقاءات أمرا حتميا؛ لأن أعضاء المهنة يجب عليهم الحضور لتسديد هذه الرسوم. وأينما مضى القانون بحيث يسمح للمهن بتحديد السياسة على أساس تصويت الأغلبية، فإنه سيؤدي إلى «الحد من التنافس بشكل أكثر فاعلية ودواما من أي اتحاد تطوعي على الإطلاق».
18
وبحسب سميث، فإن الضابط «الحقيقي والفعلي» الوحيد على الأعمال هو الخوف من فقدان الزبائن؛
19
فالسوق الحر الذي يتمتع فيه الزبون بالسيادة هو طريق أكثر ضمانة لتنظيم سلوك الأعمال، وذلك بالمقارنة مع أي عدد من القواعد الرسمية، والتي تؤدي في الكثير جدا من الأحوال إلى ما يتناقض مع نواياها المعلنة. (2-10) رأس المال والأرباح
على نحو مماثل، فإن الضوابط التنظيمية الحمقاء تؤدي أيضا إلى التأثير في العامل التالي للإنتاج، وهو ما يدعوه سميث «المخزون»،
20
وهو - كما يشرحه سميث فيما بعد
21 - يتضمن السلع المخزنة للاستعمال الفوري كالألبسة أو الأغذية، ورأس المال الثابت كالآلات، ورأس المال الجاري بما فيه من عمليات جارية وسلع صنعت غير أنها مخزنة.
ويعلق سميث هنا بأن أرباح المخزون - أي المردود الذي يحققه المستثمرون في المشروعات الإنتاجية - تتصف بالتنوع الشديد؛ فهي تعتمد على أسعار السلع، وعلى كيفية أداء المتنافسين، وعلى «الآلاف من الحوادث الأخرى» التي يمكن أن تحدث للسلع عند نقلها أو تخزينها.
22
لكن أسعار الفائدة تزودنا بمقياس غير دقيق حول إمكانية الربح؛ فإذا كان الناس مستعدين لدفع الكثير من أجل الاقتراض، فهذا يوحي بأن بإمكانهم تحقيق ربح مرتفع عند توظيف هذه الأموال المقترضة في الإنتاج.
ولتوضيح ذلك، يشير سميث إلى أسعار الفائدة المرتفعة جدا في المستعمرات الأمريكية؛ حيث يوجد هناك فائض من الأرض، مع مقدار قليل نسبيا مما يلزم لاستصلاحها من رأس المال أو العمل؛ ولهذا فإن الأرض رخيصة، أما رأس المال والعمل فيتصفان بالغلاء، وينعكس ذلك في ارتفاع الأرباح، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع الأجور. (2-11) الأرض وإيجارها
تبين لنا آراء سميث حول الأرض وإيجارها
23
عدم استحسانه لأصحاب الأراضي قدر عدم استحسانه لأرباب العمل؛ فهم يتمتعون بالحصول على «سعر احتكاري» لا بسبب ما يبذلونه من جهد، وإنما لمجرد ملكيتهم للأرض وموقعها وخصوبتها. ويضاف إلى ذلك أن رغبة التجار الأغنياء في امتلاك عقارات ريفية شاسعة تتسبب في زيادة الطلب على الأرض؛ مما يؤدي إلى زيادة إضافية في أسعار الأراضي والإيجارات.
ولا شك أن الأرض تجود لنا بالمعادن والغذاء والمساحة التي نعيش عليها. وفي النقاش المطول الذي قدمه سميث في فقرة «استطراد حول الفضة»، نجد تجميعا للبراهين التي تدعم طرحه القائل بأن نمو الدخل الوطني يؤدي إلى رخص السلع وغلاء الأرض. (2-12) المنظومة الآلية
بإيجاز، إن «الناتج السنوي» للبلاد ينقسم إلى إيجار وأجور وأرباح، وهذا يعني أن أصحاب الأراضي والعمال وأرباب العمل لا مفر لهم من اعتماد بعضهم على البعض الآخر؛
24
فهم أجزاء من منظومة لانهائية، تصنع فيها السلعة وتتبادل وتستخدم وتستبدل - وتستخدم فيها الموارد أيضا على النحو الأفضل - بصورة آلية.
لكن هذه العملية يمكن أن تنحرف عن مسارها عن طريق أصحاب المصالح الشخصية، الذين يستخدمون السلطة الحكومية من أجل تشويه منظومة السوق الحر لمصلحتهم الخاصة. فربما يتكاسل صاحب الأرض، ويضحي العامل ضعيفا واهنا، لكن رب العمل يمتلك كلا من الحافز والفطنة اللذين يجعلانه يعزز الضوابط التي تعرقل التنافس؛ ولهذا فإن:
اقتراح أي قوانين أو إجراءات تنظيمية جديدة للتجارة تستند إلى هذه المنظومة يجب أن ينظر إليها دائما بحذر شديد، وألا تطبق أبدا إلا بعد تدقيق النظر فيها مطولا وبحذر، دون الاقتصار في ذلك على توليتها أدق انتباه فحسب، وإنما بتوجس شديد أيضا؛ حيث إن هذا الاقتراح يأتي من مجموعة من الأشخاص الذين لا تتطابق مصالحهم البتة مع مصالح الناس، والذين لديهم عموما في خداع الناس بل حتى في اضطهادهم؛ ولذلك فإن هناك الكثير من الحالات التي تشهد بأنهم خدعوا الناس واضطهدوهم.
25 (3) تراكم رأس المال
يناقش المجلد الثاني من كتاب «ثروة الأمم» تراكم رأس المال، الذي يشدد سميث على أنه شرط ضروري للتقدم الاقتصادي. فخلق الفوائض يتيح إمكانية التبادل والتخصص، وهذا التخصص يساعد في خلق فوائض أكبر، وهي بدورها يمكن استثمارها مجددا في تجهيزات جديدة متخصصة وموفرة للعمل؛ ولذا تتسم هذه الدورة الاقتصادية بأنها حميدة، فبسبب هذا النمو في رأس المال، يصبح الازدهار كعكة متنامية الحجم، ولا حاجة معها لإفقار أي شخص (أو أمة) من أجل تمتع الآخرين بالثراء الأكبر، وإنما العكس بالعكس، فتصبح الأمة بأكملها أكثر ثراء مع توسع الثروة. (3-1) المال
يرى سميث أن المال لا يمتلك أي قيمة جوهرية؛
26
فهو ليس إلا أداة للتبادل، والثروة الحقيقية تكمن فيما يشتريه المال، لا في تلك الأوراق والقطع المعدنية. إن القوة الشرائية للذهب والفضة تتقلب على أي حال، والشخص الذي يستلم اليوم جنيها من الدخل ربما ينفق الجنيه نفسه غدا؛ وبذلك يوفر دخل شخص آخر، وهذا الشخص قد ينفق الجنيه نفسه بعد غد؛ وبذلك يوفر دخل شخص ثالث؛ ولهذا، من الواضح أن كمية المال المتداول لا تتطابق مع إجمالي دخل الأمة، ويخطئ أتباع المذهب المركنتيلي عندما يخلطون بين الاثنين.
ومع ذلك، فإن للمال تأثيراته؛ فعندما يهمل ولا يتداول، يصبح أداة لا فائدة منها - أو «مخزونا كاسدا» - لكن العمل المصرفي الفعال يستطيع أن يجعله يعمل بجد واجتهاد أكبر. إن المال المجاز في التعامل في يومنا هذا (حيث تعلن الحكومة أن العملة التي تطبعها هي عملة قانونية)، لم يكن موجودا في عالم سميث الذي لم يحتو إلا على أوراق نقدية تصدرها المصارف بدعم مما في خزائنها من احتياطي الذهب. وهو يرى أن ذلك من شأنه أن يسهل حركة السيولة النقدية، إلا أنه أشار إلى خطورة إسراف المصارف في إصدار هذه الأوراق النقدية؛ وكان سميث يكتب «ثروة الأمم» بعد عام 1772 الذي شهد أزمة مصرفية أدت إلى انهيار الكثير من المصارف الاسكتلندية. آمن سميث بأن خطر التنافس لا بد أن يدفع المصارف إلى الحذر في تعاملاتها، لكنه رأى أيضا أن هناك دورا يمكن أن يلعبه التنظيم في القطاع المصرفي. (وتجدر الإشارة هنا إلى أن سميث لم يكن يعارض كافة أنواع التنظيم الاقتصادي، وإنما كان رفضه يقتصر على الضوابط التنظيمية المصممة لتعزيز مصالح بعينها على حساب الرخاء العام.) (3-2) الاستهلاك والاستثمار
يوضح سميث تمييزا مبتكرا آخر بين الدخل الإجمالي والدخل الصافي؛ أي الدخل الكلي منقوصا منه تكلفة تحقيقه.
27
يتابع الفصل الثالث - عن العمل والمدخرات - هذا التحليل، وهذا الفصل يعد في حد ذاته جزءا جوهريا من كتاب «ثروة الأمم»، لكن المصطلحات المستخدمة قد تشوش القارئ الحديث. إن سميث يقسم العمل إلى «إنتاجي» و«غير إنتاجي»، ويعني ب «العمل الإنتاجي» العمل الذي يتخطى تكاليفه وينتج فائضا يمكن استثماره مجددا، كالعمل الذي يقوم به فريق التصنيع. أما «العمل غير الإنتاجي»، فإنه يعني العمل الذي يستهلك فورا، كالعمل الذي يقوم به الطبيب أو الموسيقي أو المحامي أو محرك الدمى أو المسئول العمومي أو المهرج، وهو عمل لا ينتج مردودا يمكن إعادة استثماره مجددا؛ وبهذا فإن سميث يورد تمييزا أساسيا في علم الاقتصاد الحالي، وهو التمييز بين قطاع التصنيع والقطاع الخدمي.
إن استهلاكنا لهذه الخدمات الفورية يؤدي إلى ترك قدر أقل من الفائض لاستثماره في الإبقاء على رأس المال، الذي يعتمد عليه دخلنا في المستقبل وزيادته؛ فكلما استهلكنا المزيد حاليا، تخلينا عن المزيد من النمو والدخل في المستقبل.
وفي الحقيقة، يمكننا أن نفرط في الاستهلاك حتى لا يتبقى معنا شيء يمكن استخدامه لتوسيع قدراتنا الإنتاجية، بل إننا قد لا نتمكن حينها حتى من «الحفاظ» على هذه القدرات. ويرى سميث أننا - حالنا حال «المسرف» - قد يصل بنا الأمر إلى «استهلاك» رأس المال، من خلال «عدم تقييد نفقاته في حدود دخله»، والقيام بدلا من ذلك بالإنفاق على «الكسل والتراخي من الأموال التي أدى اقتصاد أسلافه ... إلى تخصيصها للإبقاء على المجال الذي يعملون فيه».
28
وقد يتبدد رأس المال أيضا بسبب القرارات الاستثمارية الخاطئة (التي يدعوها سميث «إساءة التصرف»)، وبذلك يذكر المركنتيليين بأن هذا الأمر لا يؤدي إلى إنقاص مخزون الذهب والفضة التي تحتويها خزائن الأمة، لكنه يؤدي حتما إلى تقليل قدرتها الإنتاجية. وإذا غاب حكم القانون، فإن رأس المال يمكن أن يتعرض للسرقة؛ مما يؤدي إلى تقليل الحافز الذي يدفع الناس إلى مراكمة رأس المال في المقام الأول.
لكن «الأمم العظيمة لا تتعرض أبدا إلى الفقر بسبب التبذير وإساءة التصرف من جهة خاصة، لكنها تعاني ذلك أحيانا بسبب صدور الأمر نفسه من جهة عامة».
29
إن الشخص العادي يعلم بأن من الواجب عليه أن يدخر ويستثمر إذا كان يرغب في تحسين وضعه، لكن الحكومات تركز بشكل أقل على أهمية الحفاظ على رأس المال؛ فدورها يتمثل في الإنفاق على الخدمات الحالية، وليس الاستثمار في الإنتاج. ويلاحظ سميث أن كل عوائد الحكومات يتم توظيفها بأكملها تقريبا في الحفاظ على القوى العاملة «غير الإنتاجية»؛ لذلك:
إن من قمة الوقاحة والجراءة ... لدى الملوك والوزراء أن يتظاهروا بأنهم يعتنون باقتصاد الشعب ... فهم أنفسهم، ودون استثناء، أكبر المسرفين في المجتمع ... وإذا لم يؤد إسرافهم إلى تدمير الدولة، فإن إسراف رعاياهم لن يؤدي أبدا إلى هذه النتيجة.
30
إن «إسراف الحكومة» قد يجبر دافعي الضرائب على «التعدي على رءوس أموالهم»، إلى أن «تعجز كل إجراءات الاقتصاد وحسن التصرف من جانب الأفراد عن تعويض ما يحدث من إهدار وتدهور للإنتاج». لكن اقتصاد السوق يظل منظومة متماسكة بقوة، وإذا قامت الحكومة الضخمة بدفع الأمة إلى الخلف، فإنها تعجز عن إيقاف مسيرتها إلا فيما ندر:
إن الجهد المطرد والمتواصل دون أي انقطاع، والذي يبذله كل فرد لتحسين ظروفه، كثيرا ما يكون قويا بما يكفي للحفاظ على التقدم الطبيعي للأمور نحو التحسن، وذلك على الرغم من إسراف الحكومة والأخطاء الفادحة التي ترتكبها الجهات الإدارية.
31 (3-3) أفكار إضافية حول رأس المال
يلاحظ سميث أن رأس المال يمكن استخدامه بطرائق متنوعة؛
32
فبعض الأصول (كمصائد السمك) تقدم سلعا للاستهلاك الفوري، وغيرها (كالآلات) تستخدم لتصنيع أو نقل مواد خام وسلع نهائية، وكثيرا ما يتم تجاهل أمر على القدر نفسه من الأهمية والإنتاجية؛ وهو رأس مال تجارة التجزئة الذي يستخدم لتجزئة السلع إلى وحدات أصغر قابلة للاستهلاك. وهكذا فإننا إذا أردنا استهلاك اللحم، فلا حاجة لشراء ثور بأكمله. (إن هذا يدفع سميث إلى إيراد ملاحظة مضحكة حول الإجراءات الرسمية التي تهدف للحد من عدد تجار التجزئة في أي مجال، كترخيص البارات، فيقول: «إن العدد الكبير للبارات ليس هو ما يؤدي إلى ميل عام إلى إدمان الخمر ... لكن هذا الميل ... هو بالتأكيد ما يوفر العمل لذلك العدد الكبير من البارات.»
33
فتجارة التجزئة تتبع الطلب، كحال أي تجارة أخرى.)
إن المجلد الثاني من كتاب «ثروة الأمم» يتمحور حول أن ادخار جزء من الإنتاج - بدلا من استهلاكه بالكامل - يسمح لنا بنمو رأس المال الإنتاجي، والذي يتيح لنا بدوره زيادة الإنتاج في المستقبل. فهي دورة للثروة تتصف بالتوسع المستمر دون أن يكون لها علاقة (ولاحظوا ذلك أيها المركنتيليون) بكميات المعدن في خزائن المصارف.
يمكن تطوير عمليات أكثر تخصصا وأكثر توفيرا للعمل من خلال تراكم رأس المال. ويرى سميث أن تقسيم العمل سوف يزداد عمقا، وهذا يحتاج بدوره إلى المزيد من العمل؛ ولهذا فإن توسع رأس المال يؤدي إلى ارتفاع الأجور. (لا شك في أن سميث كتب ذلك قبل أن تتكامل قوة الثروة الصناعية، وفي وقت كان لا يزال فيه العمل اليدوي يحتل موقعا أساسيا في الاقتصاد؛ إذ لا يبدو أن سميث كان يتخيل أن الآلات ستستبدل فعليا العمل البشري.)
وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن اقتصاد السوق لا يضاهيه أي شيء في تعزيز ثروة الأمة، وهذه الثروة تنتشر لتصل إلى أشد العمال فقرا. وفي الواقع، إن الفقير في الدول الغنية التي تتبنى هذه المنظومة إنما يعيش حياة أفضل بالمقارنة مع الغني الذي يعيش في الدول الفقيرة التي لا تتبناها. تلك هي رسالة العولمة: تصبح الدول أفضل حالا إذا لم تحاول الإبقاء على الاكتفاء الذاتي أو ترفع الحواجز التي تحول دون التجارة مع الدول الأخرى. (4) تاريخ المؤسسات الاقتصادية
يتناول المجلد الثالث تطور العلاقات الاقتصادية، أحيانا عبر الحدس التاريخي، وأحيانا أخرى عن طريق ثروة من الحقائق التاريخية. ويبدأ سميث هذا الكتاب باقتفاء أثر التطور من الزراعة إلى الصناعة، مؤكدا على أن نمو المدن والاعتماد المتبادل بينها وبين الريف إنما هو أمر طبيعي بالكلية. فالحرفي يحتاج إلى المزارع لإنتاج طعامه، لكن المزارع يحتاج إلى الحرفي لصناعة أدواته، وإلى المدن لما فيها من أسواق لمنتجاته؛ وفي الواقع، كلما كبرت المدينة كبر معها السوق. فالأمر ليس كما يدعي الاقتصاديون «الفيزيوقراطيون» الفرنسيون حينئذ، بأن المدن تعتمد على الريف في معايشها، وإنما يضيف كلا الطرفين القيمة المتأتية من تبادل إسهاماتهما المختلفة.
ويقدم سميث مخططا لتفكك النظام الإقطاعي في أوروبا، ويستكشف جذور القانون الإقطاعي بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، وكيف أدت التجارة إلى الاستعاضة عنه.
34
ويخمن سميث أن الثروة، قبل عصر التجارة وتبادل المنفعة، كانت في قبضة يد كبار أصحاب الأراضي، ولم يكن هناك مفر من أن يصبح هؤلاء البارونات سلطة شرعية محلية أيضا، لكنها كانت سلطة اعتباطية، وتطور القانون الإقطاعي كمحاولة لبث الاعتدال في أوصالها، وإن لم يحرز إلا نجاحا جزئيا. لكن ظهور التجارة وتبادل المنفعة شهد ضمور ثروة أصحاب الأراضي (ومن ثم سلطتهم)، وتحول مستخدميهم إلى مستأجرين مستقلين عنهم، فطالب هؤلاء المستأجرون، الذين أضحت لهم طموحات خاصة بهم، بالمزيد من الأمن؛ فزال النظام الإقطاعي ليحل محله حكم القانون الذي يطبق على النبيل والوضيع على حد سواء. لقد أدى ظهور التجارة إلى فصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية؛ والسلطة الاقتصادية قوية بمفردها بلا ريب.
ويرى سميث أن هذه النتيجة مرضية؛ لأنها حمت رءوس أموال الناس، وسمحت بنمو تبادل المنفعة والتجارة والمصنعين تحت مظلة العدل المدني. ومجددا، تحققت نتيجة مفيدة على أيدي مجموعات من الناس لم يكن لديهم أدنى نية لخدمة العامة، وإنما كانت أذهانهم مشغولة بالحرص على ملكيتهم الخاصة وأمنهم فحسب. (5) النظرية والسياسة الاقتصادية
في المجلد الرابع، يصوغ سميث انتقاداته لسياسة التدخل الاقتصادي، فيبدأ من المركنتيلية ورؤيتها الخاطئة بأن المال والثروة وجهان لعملة واحدة، وسياستها التي تسعى إلى الحد من الواردات وزيادة الصادرات من أجل الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الذهب والفضة.
35 (5-1) المركنتيليون والمال
يذكرنا سميث بأن المال ليس إلا أداة لتسهيل التبادل؛ وبما أن التجارة الخارجية تشكل جزءا صغيرا من التجارة الإجمالية، فإن تحركات الذهب عبر الحدود لا يوجد لها أثر يذكر في تدمير أي أمة عظيمة.
بالطبع، يقول المركنتيليون إن الذهب يقاوم عوادي الزمن، وإن الدول التي تصدر إلينا السلع يمكنها مراكمة الذهب على نحو متوحش طيلة عقود، بينما لا نفعل في غضون ذلك إلا تبادل سلع فانية بحماقة مقابل سلعة باقية كالذهب. ويرد سميث على ذلك بأننا نشعر بالرضى التام لاستيراد خمور (فانية) من فرنسا وتصدير أدوات معدنية (باقية) في المقابل، لكن الفرنسيين ليسوا أغبياء كي يراكموا القدور والمقالي بكميات أكثر مما يحتاجونه، وبالمثل يجب ألا نكون أغبياء أيضا فنخزن الذهب والفضة إلى حد يتجاوز الكميات المفيدة. إن الفائض من المعادن غير المفيدة يعتبر رأس مال كاسد، ورأس المال الكاسد لا يأتي بالثراء. (5-2) الميزة المطلقة
يستمر سميث في طرحه فيرى بأننا عندما نفرض القيود على الواردات أملا في الحفاظ على مخزون الذهب والفضة، فإن ذلك يعني أن المستهلك المحلي يملك خيارات أقل؛ إذ يتوجب عليه أن يشتري ما يحتاجه من منتجين محليين بدلا من الشراء من نطاق متنوع من المنتجين الأجانب، الذين قد تكون سلعهم أفضل أو أرخص؛
36
مما يجعل هذه السياسة مكلفة وتأتي بنتائج عكسية. أما بالنسبة لتقسيم العمل بين المجالات المختلفة، فإن الدول ينبغي لها أيضا أن تضطلع بما تتفوق في فعله على النحو الأفضل، ثم تتبادل الفائض الناتج. إن هذا الطرح يقدم وصفا مبكرا للمبدأ الذي ندعوه اليوم «الميزة المطلقة». ويختم سميث تحليله بمثال حي، فيقول:
إن استخدام الصوبات الزجاجية والمستنبتات وجدران الاستنبات ذات المداخن الحرارية يتيح لاسكتلندا أن تزرع نوعية جيدة جدا من العنب، كما يمكن أن يصنع منه خمر عالي الجودة بتكلفة تبلغ - على الأقل - قرابة ثلاثين ضعف تكلفة أي خمر جيد بالمثل مصنع في دولة أجنبية؛ فهل سيكون من المعقول أن نسن قانونا يمنع استيراد كافة الخمور الأجنبية لمجرد تشجيع صناعة خمر الكلاريت والبرغندية في اسكتلندا؟
37
إن مثل هذه السياسة التدخلية ليست مكلفة وغير عقلانية فحسب، وإنما هي مجلبة للفساد أيضا:
إن رجل الدولة الذي يحاول توجيه الأفراد إلى أسلوب استثمار رءوس أموالهم، لن يكلف نفسه عناء الاهتمام بأمر غير ضروري تماما فحسب، وإنما سيتولى أيضا مسئولية ليس من السهل إسنادها إلى أي شخص أو هيئة أو مجلس أيا كان، وهي سلطة لا يمكن أن يكون هناك أخطر منها عندما تقع في يد رجل يمتلك من الحماقة والوقاحة ما يكفي لدفعه إلى الاعتقاد بأنه قادر على ممارستها.
38 (5-3) التعريفات والإعانات
يسلم سميث بأنه قد يكون هناك ما يؤيد فرض تعريفات «مؤقتة» إذا كانت تجبر دول أخرى على إلغاء ما تفرضه من تعريفات، لكن يمكن القول عموما بأن مثل هذه السياسات إما أن تكون ضارة أو غير فعالة، وأنه ينبغي النظر بعين الريبة إلى من يؤيدها. فعلى سبيل المثال، التعريفات التي تفرضها بريطانيا على الخمور والبيرة الأجنبية يتم الدفاع عنها على أساس أنها تؤدي إلى الحد من إدمان الخمر، لكن سميث يرد على ذلك بأنه على الرغم من إساءة استخدام المشروبات الكحولية أحيانا، فإنه من الأفضل أن يكون بالإمكان شراؤها بسعر أرخص من تكلفة صناعتها محليا. ويشير أيضا إلى أن التعريفات المفروضة تفضل البرتغال على فرنسا، بحجة أن البرتغال مستهلك أفضل في وجهة نظر المصنعين البريطانيين. ويشكو سميث من أن «فنون التسلل التي يجيدها التاجر قليل الشأن تصل هكذا إلى مستوى المبادئ السياسية في سلوك إمبراطورية عظيمة».
39
وينصح سميث المركنتيليين بعدم القلق من التوازن التجاري العكسي؛ فما دامت البلاد تنتج أكثر مما تستهلك، فإن هذا يعني أنها تدخر وتضيف إلى رأس المال، ومثل هذه البلاد لا يزال بإمكانها أن تستورد أكثر مما تصدر، وأن تستمر مع ذلك في إنتاج الفوائض وتزداد ثراء.
إن ما عرضه سميث في كتابه من إجراءات التدخل التجاري الأخرى ، مثل «استرداد رسوم الاستيراد بعد تصدير السلع» (في صورة الإعفاءات الضريبية للمصدرين)، و«المكافآت» (في صورة الإعانات)،
40
إنما يقدم لنا لمحات مثيرة للاهتمام عما كان يجري في أيامه، ومنها هذا المثال الثمين الذي لا يتكرر في العادة:
تمنح المكافآت التي تحصل عليها مصائد أسماك الرنكة حسب الوزن بالطن، وتكون متناسبة مع حمولة السفينة، لا مع اجتهادها ونجاحها في الصيد. ومن المؤسف أنه قد أصبح من السائد أن تجهز سفن الصيد من أجل هدف واحد هو صيد المكافآت، وليس صيد السمك.
41 (5-4) القيود المفروضة على التجارة الاستعمارية
أصدر كتاب «ثروة الأمم» قبل عدة أشهر فقط من تحول مشاعر الاستياء المتأججة في أمريكا إلى تمرد صريح، ويكشف الفصل الذي خصصه سميث للحديث عن المستعمرات
42
عن تعاطفه مع الأمريكيين، وجاء ذلك في الأساس بسبب القيود التي فرضها المركنتيليون، فألحقت الضرر بتجارة الأمريكيين (مع أن بريطانيا لم تنتفع منها)، إضافة إلى سبب ثانوي هو إحساسه بأن مساهمة أمريكا في عائدات الضرائب يجب أن تخول لها - بحسب ما يقتضيه العدل - تمثيلا أوسع في البرلمان.
يتتبع سميث أصول المستعمرات، ويشير إلى أنها تأسست عموما على أمل العثور على الذهب أو الفضة، وهما العنصران اللذان يساويان الثروة في نظر المركنتيليين. لكن الأصل الحقيقي في أمريكا هو الأرض؛ لأنها متوافرة بكثرة وبثمن بخس، وتحتاج إلى قدر كبير من العمالة لتحقيق العائدات المحتملة، وهذا يجعل العمالة مكلفة، لكن الزراعة الأمريكية تدر في الواقع إنتاجية هائلة إلى حد يجعل من الممكن تحمل تكلفة العمالة. بل إن أمريكا بلغت من خصوبة أراضيها وثرائها حدا لم تستطع معه حتى ضرائب بريطانيا وقيودها التجارية أن تنال منها (حتى ذلك الحين).
ومما يؤسف له أن سياسة إجبار أمريكا على التبادل التجاري مع البلد الأم فقط (وهي بريطانيا) أدت إلى إبعاد رأس المال والمشروعات البريطانية عن استخدامات أكثر إنتاجية؛ مما أدى إلى تدني الازدهار في بريطانيا وأمريكا معا، وإلى تباطؤ تراكم رأس المال؛ مما نتج عنه تناقص في الدخول المستقبلية في كلا البلدين. ويقول سميث بأن بريطانيا حاولت أن تجعل الأمريكيين «شعبا استهلاكيا»، لكن هذه السياسة أدت عوضا عن ذلك إلى تحويلهم من مزارعين إلى سياسيين. وبما أن قدرا كبيرا من الصناعة البريطانية يركز على التجارة بين جانبي المحيط الأطلسي، فإن الخطر السياسي متفاقم، ولا يمكن تقليل حجم هذا الخطر إلا عن طريق تحرير التجارة - والتحرر السياسي - لكن الاستثمار البريطاني وصل إلى مرحلة من الانحراف سيكون فيها الإصلاح المطلوب من الصعوبة بمكان.
إن القيود التجارية التي فرضتها بريطانيا على أمريكا تعتبر مثالا آخر على التفكير المركنتيلي؛ حيث تكون الهيمنة لمصالح المنتجين، لكن «الاستهلاك هو الغاية الوحيدة للإنتاج في مجمله، ويجب أن يكون هناك اهتمام بمصلحة المنتج، على أن ينحصر هذا الاهتمام بالحد الضروري لتعزيز مصلحة المستهلك».
43 (5-5) البديل الليبرالي
ينتقد سميث الفيزيوقراطيين الفرنسيين بسبب رأيهم القائل بأن القيمة بكافة أشكالها تنشأ من الأرض والزراعة، أما تجار المدينة و«الصناع البارعين» فلا يفعلون شيئا إلا إعادة تنظيم هذه الثروة، دون أن ينتجوا أي شيء بأنفسهم. ويرد سميث على ذلك بأن سكان المدن منتجون حقا؛ فهم ليسوا مجرد مستهلكين لرأس المال، وإنما هم يستبدلونه، فهم عمالة إنتاجية، لا غير إنتاجية.
ومع ذلك، فإن سميث يعتبر الفلسفة الاقتصادية للفيزيوقراطيين من الفلسفات الأفضل، فهم لا يخلطون بين المخرجات وبين المال، ويرون بأن الحرية الكاملة للتجارة هي الطريق الأمثل لتحقيق الحد الأقصى من تلك المخرجات.
ويعتقد سميث أن اقتصاد السوق قوي بما يكفل بقاءه، حتى وإن كانت الحرية غير كاملة، لكن متعة المنظومة الاقتصادية الحرة تكمن في أنها تعمل آليا. ويعبر سميث عن ذلك بقوله إن «المنظومة الواضحة والبسيطة للحرية الطبيعية تبني نفسها بنفسها»؛ فالناس أحرار في السعي خلف مصالحهم الخاصة؛ وبذلك فإنهم يعززون مصالح الجميع دون إدراك منهم، كما تدل الأحداث؛ إذ لا حاجة هنا للتوجيه المركزي:
إن الحاكم معفى تماما من مسئولية لا يمكن أن تفي [بها] أي حكمة أو معرفة بشرية، وهي مسئولية الإشراف على المجهودات الهائلة التي يبذلها الشعب كأفراد، وتوجيه هذه المجهودات نحو قنوات توظيف تصب بأقصى نحو ملائم في صالح المجتمع.
44
وهو أمر يعتبره سميث من حسن الحظ؛ لأن كل منظومة تحاول توجيه الموارد في اتجاهات بعينها «تضر في الحقيقة بالغاية العظيمة التي تهدف لتعزيزها».
45 (6) دور الحكومة
يستكشف سميث في المجلد الخامس جوانب الدور الملائم للحكومة، منتقدا إياها وذوي السلطة، غير أنه ليس من مناصري مبدأ عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد؛ فهو يعتقد بأن اقتصاد السوق الذي قدم وصفا له لا يمكنه العمل وتحقيق المنافع إلا إذا تحققت قواعده، ويحدث ذلك عندما تؤمن الملكيات وتحترم العقود؛ ولهذا فإن مراعاة «العدل» واحترام «حكم القانون» من الأساسيات.
وكذلك «الدفاع»؛ فإذا كانت هناك إمكانية لتعرض إحدى ملكياتنا للسرقة من جانب قوة أجنبية، فالأمر لا يختلف عن سرقة الجيران لها.
لكن سميث يتجاوز ذلك بقوله إن هناك أيضا دورا للحكومة في «توفير الأشغال العامة» و«تعزيز التعليم». (6-1) الدفاع
يذهب سميث إلى أنه في مجتمع الصيد والجمع، يتوجب على الجميع أن يدافعوا عن أنفسهم. لكن بما أن الصياد يعيش لكسب قوت يومه ولا يكاد يمتلك أي شيء، فليس هناك ما يدعو إلى تأسيس أي سلطة مركزية. أما في عصر الزراعة، فقد بدأ الناس يراكمون الملكية الثمينة (المحاصيل والمواشي مثلا)، وأصبح الدفاع عنها أولوية لديهم. وبموجب مبدأ تقسيم العمل، تأسست قوة عسكرية متخصصة، يحقق منها ذوو الملكيات الأكبر منافع أكبر، لكنهم يجبرون الجميع على المساهمة فيها بدلا من «الاستفادة المجانية»؛ ولذلك أصبح الدفاع من وظائف الحكومة. (6-2) العدل
إن الحجة التاريخية السابقة تنطبق على العدل أيضا، فعندما ينتقل الناس إلى مجتمع التجارة وتبادل المنافع، يؤسس أصحاب الملكيات حكومات مدنية للدفاع عن أنفسهم ضد جيرانهم الذين لا يمتلكون أي شيء:
إن ثراء الغني يثير نقمة الفقير الذي دائما ما يحركه العوز ويدفعه الحسد للاعتداء على ممتلكات الغني، ولا يمكن إلا تحت حماية القضاء المدني أن يتمكن صاحب الأملاك الثمينة، والتي حصل عليها بجهد أعوام طويلة أو بجهد الكثير من الأجيال المتعاقبة، من النوم ليلة واحدة بأمان.
46
ويمكننا أن نلاحظ بوضوح ما يتحقق من منفعة إذا ما تقبل الجميع سلطة القضاة المستقلين، لكن الجهود التي يبذلها من يتمتع بالغنى والقوة لبناء مظلة قضائية تحميه، إنما تستمد الدعم من ميل الإنسان الطبيعي إلى احترام سلطة عدة ميزات شخصية، مثل: القوة والحكمة والحصافة والنضج والثروة والمكانة.
وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن الحكومة المدنية هي محصلة الصراعات والتفاوتات التي تنشأ في المجتمع التجاري؛ وهي محصلة طبيعية نافعة عموما، لكنها ليست مثالية بأي شكل من الأشكال.
إن الحكومة المدنية، ما دامت قد أقيمت لضمان أمن الملكية، فقد أقيمت في الواقع للدفاع عن الغني ضد الفقير، أو عن هؤلاء الذين لديهم بعض الملكية ضد من ليست لديهم أي ملكية على الإطلاق.
47
وليس من المفاجئ أن تتصف بنية الحكومة، التي أقيمت على هذه الأسس غير المثالية، بأنها غير مثالية؛ فالقدرة على جباية الضرائب تتيح لها مراكمة قدر هائل من الموارد، لكنها تمتلك حافزا أقل لإدارة الملكية بكفاءة إدارة الفرد لها كجهة خاصة، ولهذا:
عندما أصبحت أملاك التاج البريطاني ملكية خاصة، كان من شأنها أن تصبح خلال بضعة أعوام أراضي محسنة ومستصلحة على نحو جيد ... وكان العائد الذي تحصل عليه السلطة الملكية من رسوم الجمارك والضرائب سيزداد بالضرورة مع زيادة عائدات الأفراد واستهلاكهم.
48
إن غياب هذا الحافز أمر يتطلب الإصلاح، و«الخدمات العامة لا تنجز أبدا على نحو أفضل من إنجازها عندما تكون المكافأة نتيجة لأدائها، وتكون أيضا متناسبة مع مقدار الجد والاجتهاد المبذول في أدائها».
49 (6-3) الأشغال والمؤسسات العامة
إن الواجب الثالث الذي تتولاه الحكومة، بحسب رأي سميث، يتمثل في «إنشاء أشغال ومؤسسات عامة بعينها والمحافظة عليها، ولا يمكن أبدا أن يكون إنشاؤها والمحافظة عليها في مصلحة أي فرد وحده، أو في مصلحة عدد قليل من الأفراد».
50
ويتضمن هذا «مشروعات البنية التحتية» التي تسهل التجارة و«التعليم»؛ مما يعين الناس على أن يكونوا جزءا بناء في النظام الاجتماعي والاقتصادي.
الأشغال العامة
إن الازدهار يتطلب التجارة، والتجارة تحتاج إلى بنى تحتية كالطرق والجسور والموانئ. ويعتقد سميث أن بعض هذه البنى التحتية ليست قادرة أبدا على إنتاج عائد يغطي تكلفتها، وأننا بحاجة إلى إنشائها من التحصيل الضريبي، غير أن جزءا من التكلفة على الأقل يمكن استرجاعه عبر فرض رسوم على مستخدميها، وذلك بدلا من فرض ضرائب على عموم الأمة. وعلى النحو ذاته، إذا كانت المنفعة الأساسية محلية ولا يمكن استرجاع تكلفة الإنشاء عبر الرسوم، فإن الحل الأمثل في هذه الحالة هو فرض ضريبة «محلية»، كأن يتوجب على دافعي الضرائب في لندن أن يدفعوا مقابل تعبيد الشوارع وإنارتها في مدينتهم، على سبيل المثال.
يعتقد سميث أيضا في الحاجة إلى امتيازات عامة لتشجيع الناس على الانفتاح إزاء التبادل التجاري مع الدول «غير المتمدنة»، لكن هذا العون يجب أن يقدم على شكل احتكارات محلية مؤقتة (كبراءات اختراع أو حقوق ملكية فكرية)، وليس على شكل إعانات من جانب دافع الضرائب.
وبما أن كتاب «ثروة الأمم» يعتبر حتى هذه النقطة بمنزلة إدانة مفصلة للحكومات التي «توجه رءوس أموال» الناس، فإن مقترحات الإنفاق العام هذه تبدو على العكس تماما مما ينادي به الكتاب في أفضل الأحوال. فالتجارة تحتاج حتما إلى البنية التحتية، تماما كما تحتاج إلى قواعد العدل، لكن ليس من الواضح لماذا لا ينبغي أن تبنى الطرق والجسور والموانئ من منطلق تجاري، وأن تسترد كلفة إنشائها بالكامل بفرض الرسوم على مستخدميها، فحتى تعبيد الشوارع وإنارتها ربما يمكن إجراؤها وتمويلها عن طريق الشركات المحلية، التي يمكنها تحقيق المنفعة في المقابل. وإذا كان شق طرق تجارية جديدة أمرا يستحق القيام به من جانب الشركات المحلية، فلماذا تريد الحكومة التدخل في هذا الشأن؟
ربما نلتمس لسميث عذرا على أساس أننا نمتلك أدوات مالية أشمل بكثير من أجل توفير التمويل للمشروعات التجارية الجديدة وإنشاء البنى التحتية الضرورية، كما أن لدينا تقنيات أفضل لجمع الرسوم ممن يستخدم الطرق والجسور وغيرها من المنشآت. لكن في القرن الثامن عشر، يبدو أن التمويل والمبادرة من جانب الحكومة كانا يمثلان السبيل الوحيد للقيام بأمور معينة يتفق الجميع على ضروريتها.
تعليم الناشئة
يرى سميث في تعزيز التعليم الأساسي أمرا مشابها للبنية التحتية؛ أي إنه شيء نحتاج إليه لإتاحة فرص الازدهار أمام التجارة، لكنه يورد هنا أيضا تحليلات وتوصيفات لا تبدو منسجمة مع تحليله العام.
فيبدأ بقوله إن تقسيم العمل، مع كل ما فيه من منافع، قد يؤدي إلى عواقب اجتماعية غير مرغوبة؛ فالتركيز اليومي على مهام متكررة لا مفر من أن يؤدي إلى تضييق آفاق الناس وتقليص مصالحهم، إذ يقول:
إن الشخص الذي يقضي حياته بأكملها في أداء بضع عمليات بسيطة - ربما لا تخرج تأثيراتها عن منحى واحد دائما، أو في معظم الأحيان - لا يملك أي فرصة لجهد نفسه في التعبير عن إدراكه، أو ممارسة الابتكار في إيجاد أساليب للتخلص من صعوبات لا تحدث أبدا.
51
هذا ما دعاه ماركس لاحقا «الاغتراب»، ويشدد سميث على أننا نحتاج إلى التعليم لتصحيح هذا الحال؛ إذ يجب أن يركز التعليم على العامل الفقير الذي يعاني أكثر من غيره (فالمصنعون والتجار يعيشون في عالم أكثر بهجة). ويرى سميث أنه لتسهيل التجارة، يحتاج الناس إلى الإلمام ب «القراءة والكتابة والحساب»، كما أن الهندسة والميكانيكا نافعتان بالمثل.
ويمكن أن يعمل «العامة» على تيسير هذا التعليم من خلال إنشاء المدارس، كالمدرسة المحلية الممولة حكوميا التي ارتادها سميث في كيركالدي. على الرغم من ذلك، بينما ربما تدفع الدولة تكلفة الأبنية المدرسية، لا يتوجب عليها دفع كافة أجور المعلمين، فإذا كان المعلم يعتمد على أجره من التلاميذ، فهذا سيؤدي إلى أن يكون أداؤه أفضل بكثير، وهنا يتذكر سميث بانزعاج أيامه في أوكسفورد فيقول: «كادت أوقاف المدارس والكليات تؤدي بالضرورة إلى تقليل ضرورة بذل الجهد من جانب الأساتذة، وكانت رواتبهم مستقلة بالكلية عن نجاحهم وسمعتهم في مهنهم المميزة.»
52
غير أن سميث لا يزال غير واضح بشأن القدر الذي يجب أن تدفعه الحكومة في التعليم الأساسي، وذلك على الرغم من أنه يعبر عن احترامه الشديد للمدارس الخاصة لما بها من مهارات كتعليم المبارزة أو الرقص؛ حيث يدفع التلاميذ رسوم التعليم كافة. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار كتابات سميث حول المشروعات الحكومية ، فربما يتبادر إلى ذهن القارئ المعاصر سؤال حول ما إذا كان من الأصلح تقديم الإعانة المالية للتلميذ المحتاج، وليس للمدرسة التي يلتحق بها.
التعليم لجميع الأعمار
يرى سميث أيضا أن هناك دورا للحكومة في تعزيز تعليم الكبار والتعليم الديني؛ فرجل الدين يصبح كسولا عندما يحصل على راتبه من العشر، لكن إغراءات المدن المتنامية تعني أن التعليم الديني والأخلاقي لم يكن أبدا على هذه المرتبة من الأهمية؛ ولذلك فإنه يؤيد على الأقل دور الحكومة في تشجيع دراسة العلوم والفلسفة والفنون. لكن سميث هنا، مرة أخرى، لا يحدد ما يريد؛ فهو يرى أن الحكومة يجب أن تولي «اهتماما جديا» بمكافحة «التشوه الذهني» الذي ينطوي عليه سلوك الجبن، تماما كما يجب أن تمنع انتشار «الجذام أو أي مرض آخر كريه ومثير للاشمئزاز».
53 (6-4) الحاكم
العنصر الأخير في قائمة المدفوعات من الضرائب هو «كرامة الحاكم»، وتتضمن تكاليف الملكية والعدل الجنائي، لكن سميث يشدد على أن معظم تكاليف العدل «المدني» يجب أن تدفع من أموال المتخاصمين، ما داموا هم من يحصلون على المنفعة الكبرى. (6-5) مبادئ فرض الضرائب
بعد أن رسخ سميث لضرورة فرض بعض الضرائب على الأقل، ينتقل إلى سؤال يتعلق بكيفية جبايتها على النحو الأمثل، وهنا يبدو أكثر ثقة وعلى قدر أكبر من الإحاطة بالموضوع؛ فهو يدرك تماما أنه «ليس هناك من فن تتعلمه الحكومة على نحو أسرع من سائر الحكومات كفن سحب الأموال من حافظات أموال الشعب».
54
ولهذا من الواضح أن هناك حاجة لبعض القيود. ويقترح سميث أربعة مبادئ شهيرة لفرض الضرائب؛ أولا: يجب على الناس أن يساهموا بمقدار يتناسب مع الدخل الذي يتمتعون به في ظل أمن الحماية الحكومية. ثانيا: يجب أن تكون الضرائب محددة، لا أن تعتمد على قرارات اعتباطية يصدرها مسئولو الضرائب. ثالثا: يجب ألا تكون الضريبة مرهقة على نحو يستعصي على الدفع. رابعا: يجب أن يكون للضرائب أقل قدر ممكن من التأثيرات الجانبية، أي أن تكون جبايتها ذات تكلفة قليلة، وألا تؤدي إلى إعاقة الصناعة والمشروعات، وألا تكون مرهقة إلى حد يشجع على التهرب منها باستخدام تهريب البضائع وغيره، وألا تتطلب «زيارات متكررة وفحصا بغيضا من جباة الضرائب».
55
يرى سميث أن فرض الضرائب أمر يجب أن تقوم به الحكومة على النحو الصحيح؛ فليس من الحكمة أن تفرض الضرائب على الشركات على سبيل المثال؛ لأن رأس المال الذي يعتمد عليه دخلنا - كما يلاحظ سميث ببصيرة مدهشة - يتصف بأنه متحرك بنشاط:
إن صاحب المخزون هو مواطن عالمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس هناك ما يربطه بالضرورة بهذه الدولة أو تلك، وقد يميل إلى ترك بلده الذي يتعرض فيه إلى استجواب مزعج لتقدير ما يجب عليه دفعه من ضريبة مرهقة، وقد ينقل مخزونه إلى بلد آخر يتيح له الاستمرار في أعماله، أو التمتع بثروته أكثر كيفما يشاء.
56
لكن هناك بعض التضارب في خطط سميث في هذا المجال أيضا؛ إذ نجده يعارض فرض الضرائب على الاستهلاك، لكنه يدعم فرضها على الكماليات (بما في ذلك من أشياء نعتبرها اليوم من الأساسيات كلحوم الدجاج). كما يرى سميث أنه يجب على الناس أن يدفعوا ضريبة تتناسب مع الدخل الذي يتقاضونه، لكنه يريد من الغني أن يدفع «ما يزيد عن تلك النسبة». (6-6) الديون العامة
بينما تبدو بعض آراء سميث حول دور الحكومة متناقضة مع المبادئ العامة التي طرحها، وتفتقر بعض وصفاته السياسية إلى دقة الدراسة التي اعتدناها منه، فإنه ينهي كتابه على نحو أشبه بأسلوبه القديم؛ إذ يرى أن الحكومات تميل إلى إنفاق مبالغ مالية أكثر مما تسحبه من الناس، وبذلك يختم «ثروة الأمم» بتحذيره من أن الدين القومي الكبير يؤدي بالخصوص إلى آثار ضارة.
57
عندما تصدر الحكومة دينا، فإنها تسحب رأس المال من نطاق الاستثمار والنمو، وتوجهه نحو الاستهلاك الحالي - على هيئة أنشطة حكومية - مما يؤدي إلى تعثر حتمي في النمو. وإضافة إلى ذلك، يتيح الاقتراض الحكومي للسياسيين أن يتولوا وظائف أخرى ويعززوا سلطتهم دون اللجوء إلى فرض ضرائب إضافية على الناس، كما أن الحكومات تعثر دائما على السبل التي تمكنها من تفادي تسديد الدين على أي حال؛ لهذه الأسباب، فإن الدين القومي ليس مجرد انتقال حميد من مجموعة إلى أخرى، وإنما هو خطر حقيقي يهدد الحرية؛ ومن ثم يهدد الازدهار. (7) «ثروة الأمم» في عصرنا الراهن
لا شك أن العالم الذي عاش فيه سميث كان شديد الاختلاف عن عالمنا، وذلك قبل أن تؤدي الثروة الصناعية إلى تغيير كل شيء. فقد كان ينظر بعين الشك إلى شركات المحاصة التي تعتبر الدعامة الأساسية للرأسمالية المعاصرة، قائلا إن «العدد الهائل من أصحاب الأملاك» لا يتيح لهذه الشركات قط أن تظل محافظة على تركيزها.
58
ربما كان محقا في ذلك، غير أنه لم يتنبأ بصعود السلطة النقابية، ومشكلات التلوث الصناعي، وتضخم المال المجاز في التعامل، والكثير من المشكلات التي تزعج الاقتصاديين في عصرنا هذا.
وبغض النظر عن هذه الملاحظات، فإن «ثروة الأمم» - بما فيه من تبيان لكيفية ما تؤدي إليه حرية العمل والشعور بالأمن فيه، والتجارة، والادخار، والاستثمار من تعزيز للازدهار، دون أي حاجة لسلطة توجيه - يزودنا بنطاق فعال من الحلول لأسوأ المشكلات الاقتصادية التي يمكن أن نبتلى بها. إن الاقتصاد الحر هو منظومة مرنة قابلة للتكيف، يمكنها مقاومة صدمات المستجدات، والتغلب على كل ما يحمله المستقبل من تحديات.
هوامش
الفصل الرابع
كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»
صدر كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» في عام 1759، وكان سميث يبلغ الخامسة والثلاثين في ذلك الحين، وانبثق الكتاب من منهاج المحاضرات التي كان يلقيها في علم الأخلاق في جامعة جلاسكو. وهو كتاب غير واضح الأسلوب؛ إذ كان سميث يلقي محاضرات أيضا في مجالي البلاغة والأسلوب الأدبي؛ فاللغة التي استخدمها تحفل بالكثير من الزخرفة الأسلوبية بالمقارنة مع النثر العلمي الواضح الذي يستخدمه الفلاسفة اليوم. وفي الواقع، وصف إدموند بيرك، صديق سميث، أسلوب هذا الكتاب بأنه «رسم أكثر منه كتابة»، ولهذا يحتاج إلى قراءة متأنية. (1) الموضوعات الأساسية في الكتاب
على الرغم مما سبق، كان «نظرية المشاعر الأخلاقية» بمنزلة فتح علمي حقيقي؛ فهو يبين أن أفكارنا وأفعالنا الأخلاقية ليست إلا نتاجا لطبيعتنا باعتبارنا كائنات اجتماعية. ويرد في الكتاب أن المنهج النفساني الاجتماعي هذا يرشدنا على نحو أفضل من المنطق ويوجهنا نحو الفعل الأخلاقي. ويحدد سميث في كتابه القواعد الأساسية ل «الاهتمام بالنفس» و«العدل» اللذين يحتاجهما المجتمع للبقاء، ويشرح الأفعال الإضافية «الخيرية» التي تمكنه من الازدهار. (1-1) المصلحة الشخصية والتعاطف
إننا نمتلك - كأفراد - ميلا طبيعيا إلى العناية بأنفسنا، وهذا يعتبر اهتماما بالنفس بالمعنى المجرد. لكن باعتبارنا كائنات «اجتماعية» أيضا - كما يشرح سميث - وهبنا الخالق «تعاطفا» طبيعيا تجاه الآخرين (وقد اكتسبت هذه الكلمة معاني أخرى في أيامنا؛ لذلك ربما يكون من الأنسب استخدام مصطلح «المشاركة الوجدانية»). فعندما نرى الآخرين تعساء أو سعداء، فإننا نشاركهم الشعور، وإن كان بدرجة أقل. وعلى نحو مشابه، يسعى الآخرون إلى مشاركتنا وجدانيا والشعور بما نشعر به، وعندما تكون مشاعرهم قوية جدا، فإن هذا الشعور بالمشاركة يحثهم على كبح مشاعرهم بما يجعلها متزنة مع استجاباتنا الأقل حدة. ومع انتقالنا من الطفولة إلى البلوغ، يتعلم كل منا تدريجيا قائمة الممنوعات والمباحات في التعامل مع الآخرين؛ فالمبادئ الأخلاقية تنبثق من طبيعتنا الاجتماعية. (1-2) العدل وعمل الخير
وكذلك العدل؛ فعلى الرغم من أننا نهتم بمصالحنا، فإنه يتوجب علينا مجددا أن نعرف كيفية العيش معا ومع الآخرين دون الإضرار بهم، وهذا هو الحد الأدنى الضروري لبقاء المجتمع، فإذا تخطى الناس هذا الحد وفعلوا الخيرات، نرحب بفعلهم، لكن لا يمكننا أن «نطالب» به كما نطالب بالعدل. (1-3) الفضيلة
إن الاهتمام بالنفس والعدل وعمل الخير أمور جميعها مهمة، غير أن النموذج المثالي لا بد أن يتجسد في تعاطف شخص محايد، حقيقيا كان أم خياليا - أو ما يدعوه سميث «المراقب المحايد» - تعاطفا كاملا مع مشاعرنا وأفعالنا، وهذا يتطلب «تحكما بالنفس»، وهنا تكمن الفضيلة الحقيقية. (2) المشاركة الوجدانية الطبيعية كأساس للفضيلة
كان الفلاسفة في عصر سميث يبحثون عن تفسيرات عقلانية لما يجعل الأفعال مقبولة أو مرفوضة. على الجانب الآخر، كان سميث يعتقد أن مبادئنا الأخلاقية ليست محددة بدقة إلى هذا الحد، وإنما هي أمر طبيعي متأصل فينا باعتبارنا كائنات اجتماعية؛ فكل منا يشعر بالتعاطف (أو بالمشاركة الوجدانية ) مع الآخرين
1
على الفور دون زيف، بل تلقائيا وبحب للخير. فننظر إلى أنفسنا في مخيلتنا وكأننا في مكان الآخرين؛ فإذا رأينا بأن أحدهم على وشك الاصطدام فإننا نجفل هلعين، وإذا رأينا أحد لاعبي الأكروبات وهو يمشي على حبل مرتخ، فإننا نتلوى معه، وعندما نرى الناس سعداء أو تعساء، فإننا نشاركهم الشعور بالمثل.
وعلى نحو مشابه، نشارك الآخرين وجدانيا عندما نراهم يتصرفون بطرق نوافق عليها. وفي الحقيقة، إننا نشعر بسعادة حقيقية عند مشاركة العواطف والآراء مع الآخرين،
2
وعندما لا نشارك الآخرين عواطفهم، أو لا نوافق على أفعالهم، فإن التعاسة تصيب الطرفين كليهما.
مع ذلك، يرى سميث أن العاطفة نفسها ليست هي ما نتشاركه مع الآخرين، وإنما الموقف الذي انبثقت منه هذه العاطفة؛ فعندما نرى شخصا غاضبا، فالمرجح أننا نخاف على الضحايا المحتملين لغضبه أكثر من أن نشاركه الغضب، وقد يكون ذلك على الأقل إلى أن نعلم حقيقة الأمر ونصل لقرار بشأن إلى أي مدى كان غضبه مبررا. وإذا شعرنا بأن أحدهم قد بالغ في رد فعله تجاه حادثة معينة، فإنه يخسر مشاركتنا الوجدانية. (2-1) عدم توافق المشاعر وضبط النفس
يلاحظ سميث أننا - كمجرد مراقبين - نعجز عن مشاركة الآخرين بالكامل حدة مشاعرهم، كالغضب العارم لمن تعرض للاعتداء مثلا، أو الأسى العميق لمن فجع بحبيب منذ وقت قريب؛ فعاطفتنا الناتجة عن مشاركة الآخرين وجدانيا هي أضعف حتما وأقل حدة، وإن كانت تخلو من الزيف. لكن الآخرين مراقبون لمشاعرنا كما أننا مراقبون لمشاعرهم، وعندما يحدث تنافر وعدم توافق بين مشاعرهم ومشاعرنا، كما في الحالتين السابقتين، فإنهم سيشعرون بالتعاسة، وهذا بدوره سيحثهم على كبح جماح عواطفهم الأصلية من أجل الوصول إلى اتساق أكثر مع رؤيتنا لما يمرون به من أزمة.
إننا نتعلم ضبط النفس هذا أثناء سيرنا في دروب الحياة؛ فطبيعي أن نرى الأشياء من منظور الآخرين، ونعلم بأن الإفراط في الشعور بالغضب أو الأسى أو المشاعر الأخرى تصيبهم بالتعاسة؛ ولذلك فإننا نحاول كبح جماح مشاعرنا لجعلها متوازنة مع مشاعر الآخرين؛ وفي الواقع نهدف إلى تلطيفها لتصل إلى النقطة التي تجعل أي شخص عادي غير متحيز - وهو «المراقب المحايد» عند سميث - يتعاطف معنا ويشاركنا وجدانيا.
وبالمثل، عندما نبرز اهتمامنا بالآخرين، فإننا نعلم بأن المراقب المحايد سيوافق على ذلك ونسعد لذلك. وقد يكون المراقب المحايد شخصا حقيقيا أو مجرد خيال، لكنه يستمر في إرشادنا، ومن خلال الخبرة نقوم تدريجيا ببناء منظومة من تقاليد السلوك وأعرافه - وهو ما يعرف بالمبادئ الأخلاقية - وهذا يساعد المجتمع على الازدهار الذي تتأصل فيه المشاركة الوجدانية:
ومن هنا، تتكامل الطبيعة البشرية عندما يزداد شعورنا بالآخرين ويقل تمركزنا حول أنفسنا، وعندما نكبح أنانيتنا ونطلق العنان لنزعاتنا الخيرية؛ وهكذا فقط يمكن أن يضحى فيما بين البشر تناغم في المشاعر والأهواء، تكمن فيه اللياقة والقوة الأخلاقية.
3 (3) الثواب والعقاب والمجتمع
يناقش سميث بعد ذلك السلوك اللائق لمختلف المشاعر كالجوع والحب والطيبة والاستياء،
4
ثم ينتقل إلى البحث عن السلوك الذي يستحق الثواب أو العقاب.
لتحديد هذا الموضوع، يقول سميث بأن علينا الفصل بين النتيجة والدافع، فإذا كان أحدهم ينتفع من العون الذي يقدمه شخص آخر، فلا يمكننا أن نتعاطف بالكامل مع شعور المنتفع بالامتنان، إلا إذا كان من قدم له العون قد انطلق في فعله من دافع نتفق معه، كما لا يمكننا التعاطف مع شعور أحدهم بالاستياء من فعل مضر، إلا إذا كان هذا الفعل ناشئا من دافع لا نوافق عليه.
5
فلا يمكننا أن نعتقد بأن فعل العون يستحق الثواب إلا إذا كان منبثقا من دافع إيجابي، ولا يمكننا أن نعتقد بأن الفعل المضر يستحق العقاب إلا إذا كان منبثقا من دافع سلبي.
6
إن العقاب والثواب لهما وظيفة اجتماعية مهمة؛ فنحن نوافق على الفعل الذي ينفع المجتمع ونثيب عليه، ولا نوافق على الفعل الذي يضره ونعاقب عليه، و«مجرد وجود المجتمع يتطلب أن يتم كبت تعمد الأذى غير المستحق وغير المبرر بعقوبات مناسبة؛ ونتيجة لذلك يجب أن يعتبر تطبيق هذه العقوبات فعلا ملائما جديرا بالثناء».
7
هذه العملية غريزية؛ فقد لا نعلم بالضبط الكيفية التي تؤدي بها الأفعال الفردية إلى نفع المجتمع أو إلحاق الضرر به، ولا يمكن للعقل أن يلعب هنا دور المرشد الواثق، لكن الطبيعة، أو الذات الإلهية، قد منحتنا مشاعر للرغبة والنفور تعزز - فيما يبدو - استمرار وجود الجنس البشري والمجتمع الذي نعيش فيه بالفعل. وفي الواقع، إذا بدرت عنا سلوكيات منافية لذلك، فإن المجتمع ستتمزق أوصاله وسنكف عما قريب عن كوننا كائنات اجتماعية.
وفيما يلي مثال عما كان سميث يعنيه في المواضع القليلة التي تحدث فيها عن «اليد الخفية»، وعن أمور أخرى كثيرة عندما كان يشرح كيف تلعب أفعالنا دورا في إنتاج نظام اجتماعي ناجح، حتى وإن كانت هذه النتيجة لا تتطابق مع الهدف الذي دفعنا إلى القيام بتلك الأفعال. فعلى سبيل المثال، يلاحظ سميث أن تروس الساعة تعمل معا لإظهار الوقت، لكنها لا تعلم بذلك، وإنما تسير وفق نية من صنعها. وعلى نحو مماثل، عندما تعمل أفعالنا الغريزية على تعزيز المجتمع، فإننا قد نعزو ذلك بغرور إلى أحكامنا العقلية، لكننا في الحقيقة يجب أن نعزوها إلى الطبيعة، أو إلى الله.
8 (وفي مناقشة لهذه الظاهرة المتعلقة بالنظام الاجتماعي الذي يعمل بكفاءة، والذي ينتج عن الفعل البشري لا التصميم البشري، يلجأ سميث إلى استخدام كلمات مثل «الله» و«الطبيعة» و«المبدع» بالتبادل تقريبا، لكن شرحه للكيفية التي نحدث بها - من خلال أفعالنا - تناغما اجتماعيا غير مقصود إنما هو شرح في نطاق المنظومات، لا في نطاق لاهوتي. فهو لا يفترض أو يشترط تدخل ذات إلهية؛ إذ إن الطبيعة - أو ما ندعوه اليوم بالتطور - يمكنها أن تؤدي إلى النتيجة ذاتها ببراعة.)
يعيدنا هذا إلى مسألة الدوافع؛
9
فالأفعال التي يراد منها أن تتسبب في الضرر ربما لا تؤدي إلى النتيجة المتوخاة منها، بينما يمكن للأفعال الأخرى أن تتسبب في أذى حقيقي، حتى وإن لم يكن ذلك مقصودا من أي منها. إذن، هل ينبغي لنا أن نعاقب على الدافع أم على النتيجة؟ يجيب سميث عن هذا السؤال قائلا بأننا نعجز عن معرفة ما بقلب الإنسان؛ فإذا عاقبنا على «الدوافع» السيئة فقط ، فلن ينجو أحد من الشك. لكن مجددا، ترشدنا الطبيعة إلى حل أكثر استقرارا، بأن نعاقب فقط على «الأفعال» التي تنتج الشر، أو يراد منها الشر. (4) العدل كأساس
إذا أردنا بقاء المجتمع، فلا بد أن تكون هناك قواعد للحيلولة دون إيذاء أفراده بعضهم ببعض، ويعلق سميث على ذلك قائلا بأنه من الممكن أن يستمر مجتمع من اللصوص والقتلة، لكن بشرط امتناع أفراده عن سرقة وقتل بعضهم بعضا.
10
وهذه هي قواعد ما ندعوه العدل.
إذا لم يقدم الناس يد العون للآخرين عند المقدرة، أو عندما يعجزون عن رد الجميل، فحينها ندعوهم بالقاسية قلوبهم أو ناكري الجميل، لكننا لا نعاقب الناس لإجبارهم على «فعل الخيرات»، وإنما تقتصر العقوبة على أفعال تتسبب في «ضرر» حقيقي أو تهدف إليه. إننا نجبر الناس فقط على الامتثال لقواعد العدل؛ لأن المجتمع لا يمكنه الاستمرار دونها.
11
إن المقصود بالعدل هو دفع الضرر، وليس الوصول بالخير إلى أقصى درجاته. فعلى سبيل المثال، أننا نمنع الناس من سرقة أحدهم الآخر لمجرد أن هذا المنع أنفع لهم.
12
فبما أن كل فرد منا يميل إلى اعتبار مصالحه الخاصة أهم من مصالح الآخرين، فإننا سنواجه جميعا عمليات سلب ونهب لا تعد ولا تحصى؛ لذا يتمثل العدل في الكيفية التي يدافع بها المجتمع عن نفسه ضد أي ضرر، ومن الأمور الجوهرية جدا أن الطبيعة قد منحتنا أقوى الغرائز لإقامته؛ حيث يصل رفضنا للظلم إلى درجة كبيرة تجعله يستثير مشاعر عميقة من الخزي والندم في نفوس الظالمين. (5) النقد الذاتي والضمير
في الحقيقة، يرى سميث أن الطبيعة قد منحتنا شيئا أكثر سرعة من العقاب، وهو النقد الذاتي؛ فنحن مراقبون محايدون، وهذه المراقبة ليست فقط لأفعال الناس، وإنما لأفعالنا أيضا، فتنقسم أنفسنا بين الفاعل والقاضي.
13
وهذا القاضي الداخلي لا يطلب مجرد الثناء على الآخرين؛ إذ نرغب أن نكون «جديرين» بالثناء أيضا، ولن نقنع إلا عندما نحس بأننا نستحق رأي الآخرين فينا بجدارة.
14
ويؤكد سميث أن شرارة الضمير هذه ذات وظيفة اجتماعية فعالة؛ فهي تمنعنا من الانغماس المفرط في أقدارنا والابتعاد الشديد عن قدر الآخرين. ويطرح سميث مثالا شهيرا في هذا الصدد؛ حيث يلاحظ أنه إذا حدث زلزال هائل يدمر الصين بأكملها، فسيشعر أي شخص يعيش في أوروبا ببعض الضيق، لكنه لن يكون شيئا يذكر بالمقارنة مع الضيق الذي تتسبب فيه مصيبة يبتلى بها أشخاص يعرفهم:
إذا كان المرء ليعلم أنه سوف يفقد إصبعا من أصابعه غدا، فلن يستطيع النوم هذه الليلة، لكنه سينام هانئا وبأمان تام على الرغم من الدمار الذي لحق بمئات الملايين من أقرانه ما دام لم يصادف أحدا منهم، وسيبدو هذا الدمار الهائل أمرا أقل أهمية بالنسبة له من محنة فقد الإصبع التافهة.
15
أما في الواقع، فإن جميع الأفراد على المرتبة ذاتها من الأهمية، والضمير هو السبيل الذي تتبعه الطبيعة لتذكيرنا بذلك. فهل نحن على استعداد للتضحية بأرواح مئات الملايين من البشر لمجرد حماية إصبع صغيرة؟ بالطبع لا، فضميرنا لن يسمح بذلك أبدا، فالضمير يقدم لنا وجهة نظر من زاوية ما؛ فيكبح استغراقنا في أمورنا، ويجعلنا نعزف عن الإضرار بالآخرين لمجرد تحقيق مكاسب شخصية؛ وبذلك يعطينا تحكما ذاتيا يسيطر على شهواتنا الدنيئة.
16 (6) القواعد الأخلاقية
تتلقى هذه العملية الدعم من غريزتنا الطبيعية لصياغة القواعد واتباعها، حيث يرى سميث أننا عندما نرى الأشخاص يتصرفون على نحو سيئ، فإن القاضي الداخلي يجعلنا عازمين على ألا نتصرف على النحو نفسه، وعندما يتصرف الآخرون تصرفا جيدا، نصبح عازمين على محاكاتهم. وخلال توصلنا لمثل هذه الأحكام حول عدد لا يحصى من الأفعال، نقوم بصياغة قواعد السلوك تدريجيا.
17
وهذا يعني أنه لم يعد من الواجب علينا أن نفكر في كل موقف جديد من البداية؛ إذ أصبحنا نملك معايير أخلاقية ترشدنا. إن قواعد السلوك هذه تولد لدينا «شعورا بالواجب» يساعد في إبقائنا مخلصين لمبادئ العدل والنزاهة والكياسة، بغض الطرف عما نشعر به في وقتها.
وهذا الإخلاص يفيد النظام الاجتماعي؛ فمن خلال اتباع الضمير ينتهي بنا الحال - حتما ودون قصد - إلى تعزيز سعادة البشرية.
18
وربما تهدف قوانين البشر - بما فيها من ثواب وعقاب - إلى تحقيق النتائج ذاتها، لكنها لا يمكن أن تكون أبدا منسجمة أو سريعة أو فعالة كالضمير وقواعد الأخلاق التي وضعتها الطبيعة.
ويعترف سميث بأن القواعد الأخلاقية تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فكما أن الثقافات المختلفة تمتلك أفكارا مختلفة عن الجمال، استنادا إلى ما تألفه، فإنها تمتلك أيضا أفكارا مختلفة حول «جمال السلوك».
19
فعلى سبيل المثال، هناك تقاليد مختلفة للزواج، وأعراف متباينة للسلوك الجنسي، ومعايير متفاوتة لكرم الضيافة أو الكياسة، لكن سميث يؤكد أن هذه الاختلافات بين الأساليب المتبعة أو العادات اختلافات هامشية حتما. وإذا لم يستمر احترام المبادئ الأساسية للطبيعة، فإن المجتمع لن يتمكن من الاستمرار في البقاء. (7) مواقف تجاه الثروة
هناك عامل آخر يمكنه التأثير على أحكامنا الأخلاقية التي نصدرها، والتي لا تهدف جميعها إلى الخير، وهو الثروة. ولا بد أن تأملات سميث المفصلة حول هذا الموضوع قد صدمت النقاد البسطاء الذين رسموا (اتباعا لآراء كارل ماركس) صورة لسميث في مخيلتهم بأنه بطل الاكتساب المادي.
ويؤكد سميث أن وسائل الراحة المادية التي يمكن شراؤها بالمال ما هي إلا تفاهات؛ فالمعطف الناعم الملمس لا يختلف عن المعطف الخشن من حيث الوقاية من المطر والرياح، وليس بمقدور الغني أن يتناول من الطعام مقدارا يتجاوز قدرة الآخرين على الأكل، وربما ينعم العامل في كوخه المتواضع بنوم أهنأ من نوم الملك في قصره العظيم. فالثروة تعجز عن إنقاذنا من الشعور بالخوف أو الحزن أو الموت.
لكن ذلك لا يمنعنا من الاعتقاد بأن المال يمكنه شراء السعادة، وأن الأغنياء والمشاهير لا بد أن يكونوا سعداء. وفي الواقع، إننا نشعر بسعادة لحظهم السعيد ناتجة عن مشاركتهم شعورهم، ويستحوذ علينا الاهتمام بحياتهم وشئونهم. كما أن وقوع أحدهم في دائرة الضوء هو أمر سائغ؛ ولهذا فإن المنفعة الأساسية التي يجنيها الغني من ثروته لا تتمثل فيما تستطيع شراءه من كماليات وسائل الراحة، وإنما فيما تولده من اهتمام الناس المجامل لهم.
لكن هذا ليس من قبيل الخيلاء؛ لأن مصلحة الناس تستند إلى امتلاك الثروة أو احتلال المكانة أكثر مما تستند إلى فضائل من يمتلكونها. وحتى الأشخاص الذين لا يحصلون على شيء جراء ذلك يميلون إلى غض الطرف عن «رذائل وحماقة» الأثرياء، ومجاملتهم بقدر يتجاوز ما يستحقون؛ ونتيجة لذلك، يتوصل أصحاب الثروة أو المكانة إلى أنهم يستحقون بجدارة كل المديح الزائف، حتى وإن كانوا لا يستحقون أيا منه في الحقيقة. (8) التحسين الذاتي
ومع ذلك، فإن السعي إلى الثروة يجلب منافع أخرى بالتأكيد؛
20
فعندما يرى الناس ما يتمتع به الأغنياء من منازل كبيرة ومفروشات وثيرة، فإنهم يحسدونهم على هذه الحياة التي يفترضونها مريحة وسهلة. ويرى سميث أن المفارقة تكمن في أنهم سيحكمون على أنفسهم بحياة من التعب والعمل المجهد في سبيل الوصول إلى النتيجة نفسها. وبهذه الطريقة، فإن المباهج المفترضة للثروة - وإن كانت من الأوهام - تقودنا إلى إجهاد أنفسنا على نحو هائل في العالم المادي، وهذا يؤدي إلى تحسينات كبرى في حياتنا الفكرية والفنية أيضا:
إن هذه الخدعة هي التي أشعلت شرارة المجهودات الإنسانية وحافظت على نشاطها المتواصل، وهي التي أدت في البداية إلى حث البشر على استصلاح الأرض، وبناء المنازل، وتأسيس المدن والجمهوريات والدول الديمقراطية، واختراع وتحسين كافة العلوم والفنون التي تعظم حياة الإنسان وتزخرفها، وهي التي غيرت وجه الكرة الأرضية بالكامل، فحولت ما في الطبيعة من غابات متوحشة إلى سهول خصبة تسر الناظرين، والمحيط القاحل الأجرد الذي لم يخضه أحد إلى مورد جديد من موارد الحياة، وشعبت طريق التواصل العظيم ليصل إلى أمم الأرض المختلفة.
21
ومع ذلك، فإن استهلاك الأغنياء لا يكاد يزيد عن استهلاك الفقراء؛ فالأغنياء ينتقون فقط الأشياء الأعلى قيمة أو الأكثر استساغة أو نقاء، وعندما يوفرون الوظائف لكل من يقومون على خدمتهم أو يصنعون له الكماليات، تنتشر الثروة التي اكتسبوها لتصل إلى كافة أرجاء المجتمع. وفي الحقيقة، إن الأغنياء «تقودهم يد خفية توزع ضروريات الحياة على النحو نفسه تقريبا، كما كان ليحدث لو أن الأرض قسمت إلى حصص متساوية فيما بين سكانها».
22 (9) عن الفضيلة
بعد تحديد أصول وطبيعة الأخلاق، ينهي سميث كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» بتحديد طبيعة الشخص الفاضل بحق؛ فهو يرى أن هذا الشخص يجسد صفات «الاهتمام بالنفس» و«العدل» و«عمل الخير»، وهناك أيضا صفة رابعة في غاية الأهمية، هي صفة «ضبط النفس»، لكنه يرى أنها لا تدفع تجاه الخير دائما.
يهدف «الاهتمام بالنفس» إلى عناية الفرد بنفسه، فهو يلطف تجاوزاته، ولهذا يعد على قدر من الأهمية للمجتمع، وهو أيضا أمر يبعث على الاحترام، إن لم يكن من الأمور المحببة.
23
بينما يهدف «العدل» إلى تقييد نطاق الأذى الذي نلحقه بالآخرين، وهو ضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية. أما «عمل الخير»، فإنه يحسن جودة الحياة الاجتماعية من خلال حثنا على تعزيز سعادة الآخرين، غير أنه لا يمكن مطالبة كل فرد به، وإن كان يحظى بالتقدير دائما. و«ضبط النفس» يخفف حدة مشاعرنا، (فالخوف قد يكبح الغضب، لكن الغضب قد ينفلت لجامه مجددا مع شعورنا بالأمان، لكن عندما نستطيع تخفيف حدة الغضب من أجل مشاركة الآخرين وجدانيا - وذلك عن طريق ضبط النفس - يقل هذا الشعور بالفعل.)
24
إننا نميل طبيعيا إلى الاهتمام البالغ بأنفسنا، ثم بعائلتنا، وبعد ذلك فقط يمكننا الاهتمام بالأصدقاء والأشخاص الأكثر ابتعادا عنا،
25
كما نميل إلى الاهتمام ببلادنا أكثر من اهتمامنا بالبلاد الأخرى.
26
لكن سميث يرى أن البر وحب الخير لا يعرفان حدودا، فبما أن البشرية ككل أهم من أي فرد بمفرده، يجب على الشخص الفاضل بحق أن يكون مستعدا للقيام بتضحيات شخصية «من أجل المصلحة الأكبر للكون بأكمله».
27 (10) دستور المجتمع الفاضل
إن الطبيعة تحث الأفراد، في الواقع، على التضحية بالنفس، وإننا لنبدي إعجابنا بضبط النفس الذي يتيح لهم القيام بذلك. لكن الناس يمكن أن يضحوا بأنفسهم في سبيل خدمة قضايا طالحة وأخرى صالحة. وهكذا يمكن أن يتحول ضبط النفس الذي يتمتع به بطل مغوار، إلى عزم حديدي وهمة قوية لدى أحد المتعصبين.
إن حب الجنس البشري ليس كحب الوطن؛
28
فحب الوطن ينطوي على احترام وتوقير دستور البلاد وبنيتها التنظيمية، إضافة إلى رغبة في أن يتمتع أقراننا من المواطنين بالسعادة. وهذان الهدفان يتلاقيان في العادة، لكنهما قد يصطدمان ببعضهما في أوقات التأزم السياسي.
يرى سميث أن السياسيين قد يلجئون في هذه الظروف إلى اقتراح خطط إصلاحية شاملة تقتضي إسقاط المؤسسات القائمة - بغض النظر عما حققته هذه المؤسسات القديمة من منافع - ويطرحون بديلا «عقلانيا» يتعارض مع الطبيعة البشرية:
إن رجل النظام ... غالبا ما يكون على دراية شديدة بغروره وخيلائه، وكثيرا ما يتيم بالروعة المزعومة لخطته الحكومية المثالية إلى درجة تجعله يرفض أبسط انحراف عن أي جزء منها ... ويبدو أنه يتخيل نفسه قادرا على تنظيم مختلف أفراد المجتمع الكبير بالسهولة نفسها التي تحرك بها اليد قطع الشطرنج، غير أنه لا يدرك أنه في رقعة الشطرنج الكبيرة للمجتمع البشري، تمتلك كل قطعة مبدأ للحركة يخصها ويختلف تماما عما يختار المشرع فرضه عليها.
29
إن الحرية والطبيعة يمثلان دليلا أكثر ثقة لخلق مجتمع متناغم يعمل بكفاءة، وذلك بالمقارنة مع المنطق المتعجرف لأصحاب الرؤى الحماسية والخيالية.
هوامش
الفصل الخامس
محاضرات سميث وكتاباته الأخرى
أوصى سميث بأن تحرق معظم أبحاثه غير المنشورة عند وفاته (وهو طلب طبيعي تماما في عصره؛ لأن الكتاب كانوا يرغبون أن يتم تقييمهم على أساس أعمالهم التامة، وليس على أساس ملاحظاتهم الأولية)؛ ولذلك لم يصلنا إلا القليل من كتاباته التي تخرج عن نطاق ما سطره في «ثروة الأمم» و«نظرية المشاعر الأخلاقية»، لكن هذا القليل يبين لنا مدى الاتساع الهائل لدائرة تعلم سميث واهتماماته. ومن ذلك: نقد لقاموس صامويل جونسون، ومقالات حول الاتجاهات الفكرية في أوروبا، وأصل اللغات، والفنون من رسم ودراما وموسيقى ورقص، وملاحظات حول الشعر الإنجليزي والشعر الإيطالي، ودراسات حول تاريخ الفيزياء والفلسفة في العصور القديمة، وأطروحة من سبعين صفحة عن «تاريخ علم الفلك».
ومن حسن الحظ أن لدينا أيضا ملحوظات كتبها طلبته على المحاضرات التي ألقاها تحت عنوان «محاضرات في البلاغة والأدب الإبداعي» و«محاضرات في فقه القانون»، وعلى الرغم من أن هذه الملاحظات لم تكن بقلم سميث، فإنها تقدم لنا رؤى ثمينة حول تطوره الفكري في جلاسكو. كما أن الكثير من الفقرات تعاود الظهور في كتابه «ثروة الأمم» أيضا. (1) الموضوع الجامع الشامل
على الرغم من التنوع الكبير للموضوعات التي يغطيها سميث في هذه المحاضرات والكتابات المتعددة، فإنها جميعا تكشف عن أمر مهم في المقاربة التي اتبعها، وهو أنه ليس عالما في الاقتصاد أو الأخلاق أو التاريخ أو قواعد اللغة، قدر ما يعد عالم نفس اجتماعيا؛ إذ لديه رغبة في معرفة كيف يتعامل الذهن البشري مع العالم ومع غيره من البشر، وكيف يشكل أمورا عظيمة من هذه العلاقات. ويرى سميث أن العلم لا يتعلق كثيرا بدراسة الواقع قدر ما يتعلق بكيفية تحليل الأذهان البشرية للواقع وتنظيمه بما يخدمها، وأن اللغة والأخلاق والاقتصاد جميعها بنى اجتماعية نافعة تنبثق إلى حد ما من التقاء الأذهان، وأن القانون والعدل يتعلقان بكيفية حماية البشر للتعايش السلمي.
تعد الشروح التي قدمها سميث ما يمكننا أن نطلق عليه بلغة اليوم «تطورية»؛ فقد منحتنا الطبيعة ميولا طبيعية تتضافر بطريقة ما لجعل هذه المؤسسات الاجتماعية الأكبر تعمل من أجل الصالح العام. وربما لا نفهم كيف تؤدي محاولاتنا التي نبذلها من جانبنا للمساومة أو التواصل أو الانسجام مع الآخرين إلى إنتاج منظومة عامة ونافعة خاصة بالاقتصاد أو اللغة أو العدل، لكنها تقوم بذلك فعلا. وفي الواقع، إذا لم تقم بذلك، وإذا كانت ذات أثر هدام، فإن المجتمع لن يستمر بقاؤه. فما يحاول سميث التوصل إليه هو كيفية ارتباط هذه الأفعال الفردية بالمنظومة الكلية. (2) آراء سميث حول فلسفة العلوم
بالنظر إلى ما سلف، نجد أن «تاريخ علم الفلك» له هدف أسمى من مجرد سرد قصة التحديق في النجوم، كما يوحي العنوان الكامل للأطروحة «المبادئ التي تقود وتوجه التساؤلات الفلسفية، وتوضيحها من خلال تاريخ علم الفلك». ففي الواقع، تتناول الأطروحة العقل البشري وكيفية تحليلنا وتصنيفنا وفهمنا للعالم؛ إذ تبدأ بالتساؤل عما يقودنا إلى التنظير العلمي، ثم تبين كيفية طرح النظريات واختبارها وإحلالها محل النظريات السابقة، ثم تمضي إلى البحث فيما تتكون منه النظرية «الجيدة»، بالاستعانة بأعمال إسحاق نيوتن كمثال؛ وبذلك فهي معاصرة على نحو مذهل؛ إذ نظر سميث بها إلى العلم باعتباره محاولة لتشكيل العالم، ليس فيما يتعلق ب «الواقع»، وإنما فيما يتعلق بعلم نفس الإنسان وتفسيراته. (2-1) المعاناة من المجهول
يشير سميث إلى أننا نعتبر الأمور المألوفة من البديهيات دون تفكير، أما إذا حدث أمر جديد فإنه يكون بمنزلة «المفاجأة»،
1
وحينها نمتلئ «عجبا» من كيفية تلاؤمها مع عالمنا المألوف.
2
إن الشعور بأن هناك أمرا لا يتلاءم مع عالمنا يبعث على عدم الارتياح، لكن المنطق والخيال والقدرة على التجريد والتصنيف تساعدنا في وضع الظاهرة الجديدة في سياقها.
فعلى سبيل المثال، أننا نتفاجأ عندما نرى قطعة من الحديد تنجذب نحو المغناطيس، لكن الخيال يجعلنا نتنبه إلى أن هناك قوة ما تدور حول المغناطيس؛ مما يساعدنا في شرح هذه الحركة. هذه نظرية بسيطة، لكن سميث يريد أن يبين لنا كيفية طرح النظريات واختبارها وتحسينها. (2-2) التخمين والتفنيد
يستعين سميث في توضيح ذلك بتاريخ علم الفلك كمثال توضيحي؛
3
فمن منظور الفلكيين القدماء، كانت «المفاجأة» التي تستدعي الشرح والتوضيح هي حركة الشمس والقمر والنجوم، وكان من الأفكار المقترحة أن السماء عبارة عن سقف على هيئة قبة، تلتصق بها هذه الأجسام وتتحرك يوميا من الشرق إلى الغرب، لكن ذلك - لسوء الحظ - لم يشرح هذا الحركة غير المنتظمة للكواكب؛ لذلك غامر البعض بطرح نظرية أكثر تقدما، فذهبوا إلى أن هناك في الحقيقة عدة كرات سماوية، تدور إحداها بانتظام من الشرق إلى الغرب، وغيرها (التي تحمل الكواكب) تتحرك على نحو أقل انتظاما، غير أن هذه الحركة غير المنتظمة كانت تتطلب تفسيرا، ولهذا استلزم الأمر افتراض وجود المزيد من الكرات السماوية التي تدور إحداها داخل الأخرى باتجاهات مختلفة، لينتهي الأمر بتخيل وجود 72 كرة سماوية. وكانت المشكلة الوحيدة في ذلك تتمثل في أن «هذه المنظومة أصبحت الآن متشابكة ومعقدة، شأنها شأن المظاهر التي اخترعت هذه المنظومة في الأصل لإضفاء الاطراد والانسجام عليها».
4
أخذ الفلكيون لاحقا يبحثون عن تفسيرات أبسط لحركات الكواكب، وجاء كوبرنيكوس بمنظومة تجعل الشمس، وليس الأرض، في مركز الكرات السماوية؛ مما جعل تفسير الحركة غير المنتظمة للكواكب أكثر سهولة؛ وذلك لأن الأرض نفسها أصبحت متحركة بحسب هذا التفسير. وعلى الرغم من أن الكثير من الناس صدموا بفكرة أن الأرض ليست مركز الكون، فقد وجد فيها الفلكيون هذا التفسير نافعا، وذلك على الأقل حتى ظهرت مشاهدات أدق كشفت عما بها من عيوب.
أما إسحاق نيوتن، فكان بدوره قادرا على الإتيان بشرح بسيط وعام، لا يقتصر على الكيفية فحسب، وإنما يشرح أيضا أسباب حركة الكواكب على النحو الذي شوهدت به فيما تمثل في تأثير الجاذبية. فقدم نيوتن بضعة قواعد فيزيائية بسيطة تشرح المسارات الإهليلجية للكواكب، إضافة إلى شرح ظواهر أخرى كالمذنبات، وهو ما لم تنطو عليه المنظومة الكوبرنيكية؛ فبدت نظريته بسيطة ومحكمة ومتلائمة مع الحقائق المشاهدة. (2-3) العلم والفهم البشري
إذن، كان سميث ينظر إلى المنهج العلمي باعتباره عملية لشرح الكون بأساليب تعتمد على الذهن البشري، وتحويل التعقيدات الكونية إلى مبادئ بسيطة يمكننا فهمها فعلا. فطرحت نماذج للكون وخضعت للاختبار، وعندما وجدت دون المستوى المتوقع جرى تعديلها، ثم تخلي عنها لصالح شروح أخرى أكثر جودة، عندما أصبحت في غاية الفوضوية والتعارض مع المشاهدات. وهذه نظرة معاصرة للعلم بلا شك.
إننا نرى جمالا في النظريات التي تحول الفوضى التي تنطوي عليها المشاهدات المختلفة إلى «بعض المبادئ العامة»؛ وذلك لأن العلم هو تنظيم عقلي يخصنا - نحن بني البشر. ومما يراه سميث أن كافة النماذج العلمية، التي يعبر عنها ب «كافة المنظومات الفلسفية»، «ليست إلا من ابتكار الخيال».
5 (3) علم نفس التواصل
في «محاضرات في البلاغة والأدب الإبداعي» أيضا، نجد أن صميم الموضوع الذي يبحثه سميث هو علم النفس البشري، وينطلق منه إلى البحث في تطوير مؤسسة اجتماعية أساسية، أي التواصل. فعلى سبيل المثال، يوصي سميث بأنه إذا كان لديك جمهور متعاطف من المستمعين، فيجب عليك أن تلقي عليهم رسالتك كاملة، ثم تشرحها بعد ذلك شيئا فشيئا، أما إذا كان جمهورك عدوانيا، فلا تهاجمه باستنتاجاتك الخلافية مرة واحدة، وإنما يجب عليك أن تقودهم إليها على مراحل.
وفي هذه المحاضرات - التي لا توجد إلا على شكل ملحوظات دونها الطلبة - وفي مقالته المعنونة «اعتبارات حول التشكل الأولي للغات»، يسعى سميث إلى فهم اللغة عبر البحث في كيفية ظهورها. وبما أنه ليست هناك أي سجلات مكتوبة توثق ذلك، يتسم الوصف التاريخي الذي قدمه سميث بأنه حدسي حتما؛ إذ تقتصر أمثلته على القليل من اللغات الأوروبية القديمة والحديثة، لكن شرحه يعتمد الأسلوب التطوري؛ إذ يعتقد أن اللغة تنمو مع تطور المجتمع البشري، وأنها من أدوات هذا التطور. (3-1) التواصل والطبيعة البشرية
لأن اللغة من منتجات العقل البشري، يشدد سميث أنها تخبرنا شيئا حول طبيعتنا. ولنأخذ على سبيل المثال قدراتنا على التصنيف، والتي لاحظناها أثناء مناقشة «تاريخ علم الفلك»، فيقترح سميث أن الشعوب الأولى ربما تكون قد أقدمت على إعطاء أسماء مختلفة لكل شيء، ولا بد أن ذلك كان مزعجا إلى حد بعيد، لكن من حسن الحظ أن قدرة العقل البشري على التجريد قدمت يد العون؛ فنستطيع أن نلاحظ خصائص مشتركة لدى الأشياء المختلفة، وأن نستخدم كلمة مشتركة للدلالة على أصناف بأكملها من هذه الأشياء (كلمة «الأشجار» مثلا)، كما يمكننا أيضا تحديد الخصائص كالألوان (بقولنا «الشجرة الخضراء»)، أو العلاقات (مثل «الشجرة التي تقع أعلى الكهف»).
6
فهذه التقنيات، التي تعد ضرورية للمنهج العلمي، ليست أقل أهمية في مجال فهمنا للحياة اليومية.
إن تصميم سميث على تطبيق التقنيات التحليلية يظهر جليا في جميع كتاباته، بدءا من «ثروة الأمم» وحتى «محاضرات في البلاغة والأدب الإبداعي»؛ ففي كتاب «ثروة الأمم»، يتعلق البحث بتحديد الدوافع البشرية التي تدعو إلى الإنتاج وتبادل المنافع، وتفكيكها إلى مكوناتها، بينما في الأطروحة يسبر سميث الأغوار النفسية للتواصل، ويحلل بنيتها ونمطها. (3-2) علم التواصل
في الواقع، يستحوذ نمط التعبير على قدر كبير من انتباه سميث، فهو يؤكد أن النمط الجيد يتصف بالإيجاز والملاءمة والدقة،
7
وأنه يجب أن ينقل شعور المتكلم أو الكاتب، وأن يكون دقيقا وواضحا وصريحا، ويرى أن الجمل القصيرة تساعد على الفهم،
8
وأن اللغة يجب أن تستثير التعاطف والقبول لدى المتلقي (وهذه الفكرة أساسية في كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية »).
ولأن التواصل مسألة نفسية، فإن سميث يشدد على أن الحجج المختلفة تتطلب تقنيات مختلفة، ويستعرض عددا من هذه التقنيات، بدءا من الخطاب «السردي» الذي يتطلب عرضا موضوعيا، إلى الحجج «التعليمية» التي تحتاج إلى شرح السبب والنتيجة، إلى أنواع مختلفة من العروض «الخطابية» التي يجب أن تخاطب العواطف. ويورد أثناء ذلك أمثلة تكشف عن معرفة استثنائية بالكتاب والمؤرخين الكلاسيكيين.
إن المفتاح في التواصل مع الناس يكمن في فهمهم في البداية؛ إذ إن البشر بطبيعتهم يجيدون هذا النوع من المشاركة الوجدانية، التي أتاحت تطور اللغة، بدءا من أولى محاولات التواصل وأكثرها بدائية، ووصولا إلى مؤسسة اجتماعية معقدة وذات منفعة كبيرة. (4) آراء سميث حول الحكومة والسياسة العامة
لم تصلنا «محاضرات في فقه القانون» إلا من خلال ما سطره طلبة سميث من ملاحظات.
9
وورد فيها أن سميث يقصد بفقه القانون «نظرية المبادئ العامة للقانون والحكومة»،
10
أو «القواعد التي ينبغي أن توجه بها الحكومات المدنية».
11
ومرة أخرى نؤكد أن المحاضرات يمكن أن تعد بمنزلة تدريب على علم النفس الاجتماعي، أو محاولة لاقتفاء أثر الكيفية التي أدى فيها التفاعل الإنساني إلى بناء هياكل القانون والمؤسسات الحكومية.
جاء القسم الافتتاحي في هذه المحاضرات تحت عنوان «العدل»، لكنه غطى نطاقا عريضا من الموضوعات، ومنها: طبيعة الحكومة وتطورها، والدساتير، والقانون المحلي، والعبودية، وحقوق الملكية، والمحاكم، والعدل الجنائي؛ ثم تلاه قسم رئيسي آخر يتمركز حول «السياسة»، ويحتوي على الكثير من آراء سميث حول الأسعار، والمال، والتجارة، وتقسيم العمل، وهي الآراء التي كان سيحتويها كتابه «ثروة الأمم» بعد عقد من الزمان. (4-1) العدل والحكومة والقانون
في هذا الموضوع تارة أخرى يعتنق سميث نظرة تطورية؛ فمنذ انتهاء فترة الصيد والجمع وبدء عصر الرعاة البدو المرتحلين، ووصولا إلى الاستقرار الزراعي وعصر التجارة، برزت الحاجة إلى أنواع مختلفة من المنظومات الحكومية والقضائية لدعم هذه الإجراءات الاقتصادية. (بعد قرن من الزمان، وافق كارل ماركس على أن العلاقات الإنتاجية تصوغ العلاقات الاجتماعية.)
12
وكما أورد سميث بالتفصيل في «ثروة الأمم»، فإن الحكومة قد أنشئت في سبيل الدفاع عن الملكيات التي أصبحت مهمة في عصر الرعي والزراعة. وأضاف أن المنفعة الواضحة لهذا الإجراء عززها الميل البشري الطبيعي إلى احترام السلطة، لكن اقتصاد السوق هو ما أدى إلى ظهور الديمقراطية؛ فقبل ذلك، كانت السلطة بأجمعها تقع في قبضة يد الزعيم المحلي، أما في اقتصاد تبادل المنافع، فقد توجب على المنتجين أن يولوا انتباها أكثر إلى عدد لا يحصى من الأشخاص العاديين الذين يشكلون شريحة زبائنهم؛ وهكذا، غرست بذور الحكومة النيابية. (4-2) العمل والتبادل
ترينا بعض الأجزاء الأخرى في هذه المحاضرات أن أفكار كتاب «ثروة الأمم» كانت تراود سميث حتى في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر؛ حيث يقول: «إن تقسيم العمل هو الذي يزيد ثراء البلاد.» كما يرد فيها أيضا مثال مصنع الدبابيس،
13
ومثال إنتاج معطف الصوف الذي يتضمن تعاون آلاف الأفراد، وينشر التوظيف في عموم المجتمع، وجاء فيها: «عندما تطلب شرابا من صانع الخمر أو قطعة لحم من الجزار، فإنك لا تشرح له مقدار حاجتك لهذه الأشياء، وإنما تشرح قدر المصلحة التي ستعود [عليه] إن سمح لك بامتلاكها مقابل سعر معين. إنك لا تخاطب إنسانيته، وإنما حبه لذاته.»
14 (ربما لم يستطع الطالب نقل جمال وروعة الأسلوب الذي صاغ به سميث كلماته الأصلية.)
وبالمثل، نجد سميث يهاجم النظرة المركنتيلية التي تساوي بين الثروة والمال، وأنه ينبغي الحد من الواردات للحفاظ على الثروة. ويرى سميث أن حياة التبذير والاستهتار تجعل الغني المسرف يبدد رأس المال؛ مما يؤدي إلى الإتيان على المخرجات والازدهار، حتى وإن دخلت كل أمواله في دورة التداول، فمن الواضح أن الثروة والمال ليسا أمرا واحدا.
وإضافة إلى أن هذه المحاضرات كانت بمنزلة تمهيد لكتاب «ثروة الأمم»، فإنها طورت الأفكار الاقتصادية الواردة في كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية». فيؤكد سميث على أن القوة الموجهة لتقدمنا المادي ليست احتياجاتنا، وإنما هي رغباتنا، وأن «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تصل رفاهيته إلى الحد الذي لا يمكن عنده إنتاج شيء يطابق ما يحب ويشتهي»،
15
وأن عجلة التقدم الاقتصادي لا تتوقف تدريجيا بمجرد حصولنا على الغذاء أو الكساء أو المأوى؛ لأن سعينا إلى تحسين المستوى المعيشي لا يتوقف أبدا، كما أن هذا التوقف لا يمكن أن يصيب ما ينشأ عن ذلك من تقدم في الصناعة والعلوم والفنون. (4-3) الحكومة غير القديرة
إذا كان الإنتاج وتبادل المنفعة وتراكم رأس المال هي العوامل التي تمثل الطريق إلى التقدم المادي، فما الذي يعرقل السير في هذا الطريق؟ يرى سميث أن ذلك ينتج في معظم الأحوال عن الحكومة غير القديرة. إن تراكم رأس المال يحتاج إلى الوقت، وإذا كان الناس يعتقدون أن الحكومة لا تستطيع حمايتهم من السرقة، ولا يمكنها أن تتيح لهم حرية التجارة، فلن يكون لديهم الكثير من الدوافع لبذل الجهد والادخار.
لم ينتو سميث نشر «محاضرات في فقه القانون» على الإطلاق، وكان هجومه على عدم كفاءة الحكومة وتدخلها أقل تحفظا مما ورد في «ثروة الأمم»، لكنه في كليهما كانت له الكثير من الأهداف المشتركة، بما فيها عيوب قانون التعاقد، وامتلاك الأراضي، والقانون القديم الذي يورث بموجبه الابن الأكبر فقط دون إخوته، والإعانات الحكومية، والاحتكارات، والامتيازات الممنوحة للمنتجين، ومدد التدريب الطويلة، والاستعباد، والضوابط الأخرى التي تمنع الناس من تغيير مهنهم.
كما أن الضرائب المرهقة تعد من العقبات أيضا، ويبدو من المحاضرات أن سميث كان قد بدأ بالفعل بالتفكير في كفاءة نظام الضرائب، مفضلا ضرائب الأراضي على ضرائب السلع؛ لأنها أسهل في الجباية. كما يعتقد سميث أن هناك مركزية شديدة في التخطيط من جانب الحكومات وملاك الأراضي ذوي النفوذ؛ فالناس يحتاجون إلى الأسواق وحرية التجارة، لا إلى من يوجههم من أعلى.
مثل هذه التدخلات تؤدي حتما إلى تدني المستوى المعيشي العام، فالناس ينخرطون في تبادلات متعمدة لأن كلا الطرفين يعتقد بأنه سينتفع منها، وهذا هو مصدر الثروة البشرية. ويلاحظ سميث أنه «عندما يتاجر شخصان مع بعضهما، فلا شك أن ذلك يعود بالنفع عليهما»، ويوجه خطابه للمركنتيليين فيقول: «والحال مطابق تماما لما يجري بين أي أمتين من أمم الأرض».
16 (4-4) الحرية والتقدم
ولا تقل خطواته السياسية التي شرحها قوة عما سبق ؛ حيث يقول:
يتضح من الاعتبارات السابقة أن بريطانيا يجب عليها بالتأكيد أن تصبح ميناء حرا، وأنه ينبغي ألا تكون هناك أي عقبات من أي نوع في طريق التجارة الخارجية، وأنه إذا كان من الممكن دفع نفقات الحكومة من جهات أخرى، فلا بد من إلغاء كافة الرسوم الجمركية والضرائب، وأن يسمح بحرية التجارة وتبادل المنافع مع كافة الأمم وفي جميع السلع.
17
وبالمنطق نفسه، يرى سميث أن «حرية تبادل المنافع» يجب أن تتاح في السلع كافة، «فيما بين» كل الأمم أيضا.
كان بعض المفكرين في أيام سميث يفترضون أن التقدم أمر حتمي. وعلى أي حال، كان العالم في تلك الحقبة يتقدم بلا شك، لكن سميث لم يكن متفائلا لهذا الحد؛ إذ يحتاج التقدم إلى إطار من القواعد، وإلى الأمن والحرية والعدل، وإلا فإن الناس سيفقدون الحافز للجد والاجتهاد. ولا شك في أن للحكومة دورا في الحفاظ على كل هذه العوامل، لكن عليها أن تبتعد في الوقت ذاته عن مسار عملية خلق الثروة، وأن تضمن عدم تزويد أصحاب المصالح الشخصية بالقوة التي تمكنهم من إبعادها عن المسار الصحيح. إن الرغبة الطبيعية لدى الناس في تحسين أحوالهم، ما إن تتحرر على هذا النحو، تشكل الدافع الأقوى لإحراز تقدم. (5) الخلاصة
إن كتابات سميث الأقل شهرة ربما تمثل تحديا أمام القارئ المعاصر لما بها من عمق ثقافي؛ ففي إحداها تحدث سميث - عن دراية وبعمق - عن النماذج الكونية التاريخية المختلفة، واقتبس في أخرى من مراجع كتبها لفيف من العلماء الكلاسيكيين ليبين كيفية استخدامهم للغة، وفي ثالثة قارن بين المؤسسات القانونية في عدد من الدول القريبة والبعيدة.
إن هذه الكتابات لا تكتفي بإبراز تفوق سميث في عدد من الفروع الأكاديمية فحسب، وإنما تبرز سميث نفسه أيضا وبوضوح كدارس للطبيعة البشرية؛ فهو لا يؤمن بأن القوانين أو الحكومات أو اللغة أو حتى العلم من الأشياء التي «تمنح»، بل أنها جميعا في الحقيقة من إبداع العقل البشري، ومع ذلك، فإنها تمثل منظومات معقدة لم نشكلها بالضرورة عن قصد. فالعالم الذي يتأمل اليد الخفية سيذهل من الكيفية التي تتضافر بها أفعالنا الفردية بدقة لإخراج تلك المؤسسات الاجتماعية التي تعمل بكفاءة إلى النور.
هوامش
الفصل السادس
استطراد حول اليد الخفية
يشتهر سميث بالفكرة التي ابتدعها حول «اليد الخفية»، ومعظم الناس يفهمون من هذا المصطلح أن أفعالنا الناشئة من المصلحة الخاصة تنتج بطريقة ما منفعة اجتماعية شاملة. فعلى سبيل المثال، تؤدي المساومة الشاقة التي نتكبدها إلى خلق منظومة سوق تخصص الموارد بكفاءة عالية.
وفي الحقيقة، وبعيدا عما ورد حول «اليد الخفية لكوكب المشتري» في كتابه «تاريخ علم الفلك»، لم يستخدم سميث هذه العبارة إلا مرتين اثنتين في كتاباته كافة، دون أن يقصد المعنى المفترض بوجه عام. (1) الغني يتيح العمل للفقير
في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية»، يقترح سميث أن يد «العناية الإلهية» تساوي بين المكافآت الاقتصادية؛ إذ لا يمكن للغني أن يأكل أكثر مما يأكله الفقير، والاستخدام الوحيد لمعظم الطعام الذي ينتجه الغني من أرضه يتمثل في تبادله مع الآخرين الذين يزودونه بما يطلبه من وسائل الرفاهية والحلي والجواهر. إذن، عندما يفكر الغني في نفسه فقط، فهذا يؤدي إلى توفير الوظائف لآلاف الناس:
لا يختار الغني مما هو مكدس أمامه إلا أثمن ما فيه وأكثره إرضاء له، فهو لا يستهلك أكثر من الفقير إلا قليلا. وعلى الرغم مما في طبعه من أنانية وجشع، وانحصار سعيه في تحقيق ما يريحه، وأن غايته الوحيدة التي يقصدها من عمل الآلاف التي تعمل لديه هي إشباع رغباته التافهة التي لا تنقطع، فإنه يتقاسم مع الفقير كل ما تتمخض عنه التحسينات التي يبدعها. إن أمثال هذا الغني يتحركون وفقا لإرشادات يد خفية لتحقيق التوزيع نفسه تقريبا لضروريات الحياة، والذي كان ليتحقق لو كانت الأرض مقسمة إلى حصص متساوية فيما بين كل سكانها، وبهذا فإنهم يعززون مصلحة المجتمع دون نية لفعل ذلك أو دراية بأنهم يعززونها، ويوفرون الوسائل اللازمة لتكاثر بني البشر.
1 (2) الصناعة المحلية والصناعة الأجنبية
ورد الذكر الوحيد لليد الخفية في «ثروة الأمم» عند الحديث عن الاحتكارات الرسمية التي تعزز الصناعات المحلية على حساب التجارة الخارجية، فيلاحظ سميث أن ذلك يدفع الناس إلى تخصيص رأس مال أكبر للصناعات المحلية، ثم ينتقل إلى بيت القصيد فيقول:
في خضم سعي كل فرد ... بأقصى ما يمكنه لتوظيف رأس ماله دعما للصناعة المحلية، ومن ثم لتوجيه هذه الصناعة نحو إنتاجية ذات قيمة أعلى، لا بد أن يكدح كل فرد لجعل العائد السنوي للمجتمع بأعلى قيمة ممكنة. وفي الواقع، لا يبتغي هذا الفرد عموما في سعيه هذا أن يعزز المصلحة العامة، ولا يعلم قدر إسهامه في هذا التعزيز؛ فحينما يفضل دعم الصناعة المحلية على الأجنبية، فإنه لا يبتغي من وراء ذلك إلا حماية نفسه، وعندما يوجه هذه الصناعة على هذا النحو تجاه إنتاجية ذات قيمة أعلى، فإنه لا يبتغي إلا ربحه الشخصي. وهو في سعيه هذا، كما في العديد من الحالات، يتحرك بفعل يد خفية لتعزيز غاية لم تكن جزءا من مبتغاه.
2
إن هذين المقطعين يوحيان للناقد بأن مفهوم «اليد الخفية» الفعلي عند آدم سميث يبتعد كثيرا عن الفكرة الشائعة المتخذة عنه؛ فالأول يذكر أن النهاية السعيدة للمصلحة الشخصية تعزى إلى «العناية الإلهية»، والثاني يتحدث عنها كملاحظة جانبية في نقاش يتعلق بتجارة التصدير. (3) العواقب غير المقصودة للفعل البشري
في الحقيقة، إن عين الناقد لا تبصر كل شيء؛ فمفهوم اليد الخفية، بحسب الفهم الشائع، ينتشر في كافة أعمال سميث، ومن الممكن ملاحظة ذلك حتى وإن لم توجد هاتان الإشارتان السالف ذكرهما. فهذا المصطلح - اليد الخفية - يعد اختصارا ملائما جدا لفكرة سميث التي يرى فيها أن أفعال البشر ذات عواقب غير مقصودة، وأنه مع اتباع بعض القواعد الرئيسية كمبادئ العدل، فإن أفعال الأفراد في خدمة مصالحهم الشخصية يمكن أن تؤدي دون قصد إلى خلق نظام اجتماعي شامل نافع ويعمل بكفاءة.
عندما أشتري معطفا من الصوف (وأستعين هنا بالمثال الذي أورده سميث)،
3
فإنني أفعل ذلك لمنفعتي الشخصية، ولا أكاد أحمل أي اهتمام بالمستوى المعيشي لصاحب المتجر الذي اشتريته منه، ناهيك عن الاهتمام بالحائك والراعي، ومن يجز الصوف ويهيئه ويصبغه ويغزله، ويصنع الأدوات اللازمة للتعامل مع الصوف ويحمله وغيرهم، وأولئك هم الذين لم ألتق بأي منهم على الأرجح، كما أن أيا منهم لم يسهم في صناعة المعطف لإرضائي؛ حيث كانت أذهانهم منشغلة على الأرجح بكسب المال لإطعام عائلاتهم.
ومع ذلك، فإن شرائي للمعطف يحقق لهم المنفعة دون أدنى شك؛ لأن جزءا صغيرا مما دفعته يذهب إلى كل واحد منهم بصورة تلقائية. كذلك، فإن المجهود الذي يبذله كل فرد منهم في صناعة المعطف يمنحني كساء أفضل وأرخص مما لو صنعته بنفسي.
ربما يبدو من الإعجاز التمكن من تنسيق عمل آلاف الأشخاص في دول مختلفة على هذا النحو التلقائي دون أي حاجة إلى سلطة مرشدة، ودون أي توجيه إلا من المصلحة الشخصية لكل من ينخرط في هذا العمل. لكن سميث يشرح ذلك ببساطة تامة؛ حيث يرى أن تبادل المنفعة الذي يحدث طواعية لا يتم إلا عندما يتوقع كلا الطرفين بأنه سينتفع من الصفقة؛ فكل منهما سيحصل على شيء يرغب فيه مقابل شيء لا يرغب فيه كثيرا، كأن يكون المال مقابل العمل، أو السلع في مقابل المال. وعندما يتاجر ملايين الناس بعضهم مع بعض بهذه الطريقة، فإن هذه المنفعة تنتشر انتشارا واسعا وسريعا في أرجاء المجتمع بأكمله.
وفي غضون ذلك، تبين لنا الأسعار مقدار استعداد الناس للتضحية بشيء ما في سبيل تبادله مقابل سلع وخدمات معينة؛ فهم بذلك يشيرون لنا نحو الجهة التي ينبغي أن يوجه إليها العمل ورأس المال من أجل جني أعلى المردودات. وهكذا ينتهي بنا المطاف - على نحو تلقائي وغير مقصود بالمرة - إلى تلبية أهم رغبات المجتمع واحتياجاته. (4) منظومة ذاتية البقاء
يبدو أن سميث كانت لديه معرفة طفيفة بالطبيعة التطورية لهذه المنظومة الاجتماعية؛ فيرى أنها تظل باقية لأنها ناجحة في أداء عملها، وفي كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية»، يعزوها إلى عناية إلهية أو شبه إلهية. ولأن الحياة الأكاديمية في عصره كان يرأسها رجال الدين، ربما لم يتح له أي خيار آخر، أو ربما لأنه لم يجد تفسيرا آخر غير ذلك في أيامه التي سبقت ظهور داروين بقرن كامل. ومع ذلك، يتذبذب سميث بين إسناد هذه المنظومة إلى الذات الإلهية أو إلى الطبيعة، لكنه عندما تحرر لاحقا من سلطة رجال الدين وحصل على راتب مستقل، فإن فكرة المنظومة الطبيعية ذاتية البقاء أخذت تنمو فيما يبدو على نحو أقوى في أفكاره.
4
لا يعني هذا أنه يمكننا فعل ما نشاء، وأن اليد الخفية سوف تعتني بنا لاحقا؛ حيث إن سميث على دراية بالغة بأن الإنسان جبل على التمركز حول الذات والحسد والغرور والشعور بالاستياء والغضب، وأنه عندما تزيد هذه الميول الطبيعية عن الحد، تصبح مدمرة، لكنها ذات أهمية حاسمة عندما تكون معتدلة. إن المصلحة الشخصية تدفعنا إلى القيام بصفقات تؤدي إلى تحقيق المنفعة للآخرين على نحو غير مقصود. وحسد الغني يلهم المرء ببذل جهود عظيمة يتصادف أنها تحقق في الآن عينه التقدم في الصناعة والعلم وحتى الفنون. ولأن المرء يحب تقدير الناس له، فإن الغرور يدفعه إلى عمل الخير، وبما أن استياء الآخرين وغضبهم منا يصيبنا بالتعاسة، فإننا نتجنب إلحاق الضرر بهم.
ولهذا - ومن الغريب - تتصف منظومة سميث الأخلاقية بأنها تتمركز حول الذات، شأنها في ذلك شأن منظومته الاقتصادية؛ فنحن ننفع الآخرين كناتج ثانوي لطموحنا، ونمتنع عن التسبب بإلحاق الضرر لهم تفاديا لما ينتج عن ازدرائهم لنا من شعور بالتعاسة. (5) الفعل الفردي والنتائج الاجتماعية
على الرغم مما سبق، إذا أردنا لهذه المنظومة الاجتماعية أن تعمل بمرونة وتلقائية، فيجب علينا أن نتبع قواعد معينة؛ وهي قواعد العدل التي تمنعنا من إيذاء الآخرين، وقواعد الأخلاق التي تحثنا على كبح جماح رغباتنا المجردة، وقواعد الملكية والتعاقد في المجال الاقتصادي. إن قواعد السلوك الفردي هذه تتضافر معا لخلق نظام اجتماعي نافع ومفيد. ربما لا نفهم كيف يحدث ذلك، لكن غريزتنا الطبيعية تمثل في جميع الأحوال مرشدا يمكننا أن نكون أكثر ثقة به من منطقنا وفهمنا المحدود.
ومؤخرا، نسب إف إيه هايك - الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل - فكرة الأنظمة الاجتماعية المتناغمة التي يمكن أن تنشأ دون حاجة إلى قيادة مركزية، إلى سميث ومن سبقوه.
5
ومع فهمه الحديث للتطور وعلم النفس، استطاع هايك معرفة كيف يمكن أن تزدهر الجماعات الاجتماعية، وأن تخلق - دون وعي أو قصد - نظاما يعمل بمرونة بمجرد اتباع قواعد نظامية للسلوك الفردي.
6
على سبيل المثال، فيما يتعلق باللغة، نحن نخلق دون قصد منظومة تواصل ذات فاعلية هائلة بمجرد اتباع عدة قواعد نحوية؛ وهي القواعد التي نتبعها تلقائيا، لكن من الصعب علينا أن نشرحها، ولا شك أن سميث يقترب من هذه الفكرة في ملاحظاته حول اللغة.
7
إن أساس هذا النظام الاجتماعي النافع يكمن في تعلمنا كيفية العيش بعضنا مع بعض؛ فجميعنا يرغب في تلبية رغباته الخاصة به، لكن هذه الرغبات كثيرا ما تتضارب مع رغبات الآخرين، فبالتدريج نتعلم الأفعال التي يتحملها الآخرون ولا تؤدي إلى عنف مدمر؛ ولذلك، وبالمشاركة الوجدانية الطبيعية فيما بيننا، نعمل على صياغة قواعد العدل التي يمكننا من خلالها السعي نحو تحقيق مصالحنا الخاصة دون الإضرار بالآخرين.
8
كما نتعلم أيضا كيف نتعاون بعضنا مع بعض - على الصعيد الاقتصادي والتفاعلات الاجتماعية الأخرى بالمثل - بأساليب تعود علينا جميعا بالمنفعة، حتى وإن لم يكن ذلك مقصودا من جانبنا على الإطلاق.
هوامش
الفصل السابع
من أقوال آدم سميث الشهيرة
للاطلاع على مجموعة مختارة أشمل من أقوال آدم سميث، انظر المرجع التالي:
J. Haggarty,
The Wisdom of Adam Smith , Liberty Fund, Indianapolis, IN, 1976 . (1) عن تقسيم العمل ...
إن الزيادة الهائلة للعمليات الإنتاجية في مختلف الاختصاصات - كنتيجة لتقسيم العمل - هي التي تؤدي في مجتمع الحكم الرشيد إلى ثراء شامل يتغلغل إلى الشرائح الدنيا من الناس. «ثروة الأمم»، المجلد الأول،
الفصل الأول، صفحة 22، فقرة 10 (2) ... ومنفعته المقارنة
إن استخدام الصوبات الزجاجية والمستنبتات وجدران الاستنبات ذات المداخن الحرارية يتيح لاسكتلندا أن تزرع نوعية جيدة جدا من العنب، كما يمكن أن يصنع منه خمر عالي الجودة بتكلفة تبلغ - على الأقل - قرابة ثلاثين ضعف تكلفة أي خمر جيد بالمثل مصنع في دولة أجنبية؛ فهل سيكون من المعقول أن نسن قانونا يمنع استيراد كافة الخمور الأجنبية لمجرد تشجيع صناعة خمر الكلاريت والبرغندية في اسكتلندا؟ «ثروة الأمم»، المجلد الرابع ،
الفصل الثاني، صفحة 458، فقرة 15
من المبادئ الأساسية التي يعمل وفقا لها أي رب أسرة حصيف ألا يحاول أن يصنع في منزله أي شيء تزيد تكلفة صناعته عن تكلفة شرائه ... وما يعد سلوكا حصيفا من جانب كل عائلة بمفردها، من النادر أن يكون سلوكا أحمق من جانب أي مملكة عظيمة. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الثاني، صفحة 456-457، فقرة 11-12 (3) عن التنافس ...
عموما، إن أي فرع من فروع التجارة أو أي قسم من أقسام العمل، إن أثبت منفعته للناس، فإن التنافس سيصبح أكثر تحررا وشمولية وسيزيد دوما على هذا النحو. «ثروة الأمم»، المجلد الثاني،
الفصل الثاني، صفحة 329، فقرة 106
الاستهلاك هو الغاية الوحيدة للإنتاج بأكمله، ويجب ألا يخدم المنتج مصالحه إلا بالقدر الضروري لتعزيز مصلحة المستهلك. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الثامن، صفحة 660، فقرة 49 (4) ... وتشويه التجارة
إن الذين يعملون في مهنة واحدة نادرا ما يلتقون معا، حتى وإن كان ذلك للمتعة واللهو، لكن حواراتهم في هذه المناسبات تنتهي إلى التآمر على الناس، أو إلى التخطيط لزيادة الأسعار ... لكن ما دام القانون عاجزا عن الحيلولة دون تجمع العاملين في المهنة نفسها أحيانا، يجب عليه أيضا ألا يقوم بأي شيء في سبيل تسهيل انعقاد هذه الاجتماعات، ناهيك عن جعلها واجبة. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الثامن، صفحة 145، فقرة ج27
إن أي إجراء تنظيمي، يفرض على أصحاب المهن الواحدة في بلدة معينة أن يدونوا أسماءهم وعناوينهم في سجل عام، يؤدي إلى تسهيل انعقاد هذه الاجتماعات ...
والإجراء التنظيمي الذي يتيح لأصحاب المهن الواحدة أن يفرضوا الضرائب على أنفسهم من أجل إعانة فقرائهم ومرضاهم وأراملهم وأيتامهم ... يجعل هذه الاجتماعات ضرورية.
إن أي اتحاد نقابي لا يجعل هذه الاجتماعات ضرورية فحسب، وإنما يؤدي أيضا إلى فرض أفعال الأغلبية على الجميع وإلزامهم بها. أما في ظل التجارة الحرة، فلا يمكن تأسيس أي اتحاد فعال إلا عبر الموافقة بالإجماع التي يبديها كل تاجر بمفرده، ولا يمكن أن يدوم الاتحاد لمدة أطول من المدة التي يظل فيها كل تاجر بمفرده على رأيه . والأغلبية في الاتحاد النقابي يمكنها أن تسن أي قانون داخلي مشتمل على عقوبات ملائمة للحد من التنافس على نحو أكثر فاعلية ودواما، بالمقارنة مع أي اتحاد طوعي أيا كان. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الثامن، صفحة 145، فقرة ج29-30
إن زيادة رقعة السوق وتقليص المنافسة يصب دائما في مصلحة المتعاملين في السوق ... واقتراح أي قوانين أو إجراءات تنظيمية جديدة للتجارة تستند إلى هذه المنظومة يجب أن ينظر إليها دائما بحذر شديد، وألا تطبق أبدا إلا بعد تدقيق النظر فيها مطولا وبحذر، دون الاقتصار في ذلك على توليتها أدق انتباه فحسب، وإنما بتوجس شديد أيضا؛ حيث إن هذا الاقتراح يأتي من مجموعة من الأشخاص الذين لا تتطابق مصالحهم البتة مع مصالح الناس، والذين لديهم عموما مصلحة في خداع الناس بل حتى في اضطهادهم؛ ولذلك فإن هناك الكثير من الحالات التي تشهد بأنهم خدعوا الناس واضطهدوهم. «ثروة الأمم»، المجلد الأول،
الفصل الحادي عشر، صفحة 267، فقرة 10 (5) عن الحكومة ...
إن من قمة الوقاحة والجراءة ... لدى الملوك والوزراء أن يتظاهروا بأنهم يعتنون باقتصاد الشعب ولا يطلقون العنان لنفقاتهم ... فهم أنفسهم، ودون استثناء، أكبر المسرفين في المجتمع؛ فالأولى لهم أن يراقبوا حجم إنفاقهم، وربما أيضا يستأمنون الشعب على هذا الأمر. وإذا لم يؤد إسرافهم إلى تدمير الدولة، فإن إسراف رعاياهم لن يؤدي أبدا إلى هذه النتيجة. «ثروة الأمم»، المجلد الثاني،
الفصل الثالث، صفحة 346، فقرة 36
إن رجل الدولة الذي يجب أن يحاول توجيه الأفراد إلى أسلوب استثمار رءوس أموالهم، لن يكلف نفسه عناء الاهتمام بأمر غير ضروري تماما فحسب، وإنما سيتولى أيضا مسئولية ليس من السهل إسنادها إلى أي شخص أو هيئة أو مجلس أيا كان، وهي سلطة لا يمكن أن يكون هناك أخطر منها عندما تقع في يد رجل يمتلك من الحماقة والوقاحة ما يكفي لدفعه إلى الاعتقاد بأنه قادر على ممارستها. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الثاني، صفحة 456، فقرة 10 (6) ... والضرائب ...
ليس هناك من فن تتعلمه الحكومة على نحو أسرع من سائر الحكومات كفن سحب الأموال من حافظات أموال الشعب . «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الثاني،
الجزء الثاني، ملحق المقالات 1 و2،
صفحة 861، فقرة 12
إن رعايا أي دولة يجب عليهم أن يسهموا في دعم الحكومة بما يتناسب قدر الإمكان مع قدرات كل منهم. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الثاني،
الجزء الثاني، (5-2)، صفحة 825، فقرة 3
إن الضريبة التي يلزم كل فرد بدفعها يجب أن تكون محددة، وليست اعتباطية؛ ويجب أن يكون من الواضح والصريح - لدافع الضرائب وللجميع أيضا - موعد تسديد الضريبة، وطريقة التسديد، والمقدار. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الثاني،
الجزء الثاني، صفحة 825، فقرة 4
كل ضريبة يجب أن تجبى في الموعد، وبأكثر طريقة يجدها دافع الضرائب ملائمة له. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الثاني،
الجزء الثاني، صفحة 826، فقرة 5
يجب أن يخطط لاستقطاع كل ضريبة من الناس وعدم ردها إليهم بأقل قدر ممكن من المال، بغض الطرف عما تحدثه في حالة الخزانة العامة للدولة. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الثاني،
الجزء الثاني، صفحة 826، فقرة 6
إن صاحب المخزون هو مواطن عالمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس هناك ما يربطه بالضرورة بهذه الدولة أو تلك، وقد يميل إلى ترك بلده الذي يتعرض فيه إلى استجواب مزعج لتقدير ما يجب عليه دفعه من ضريبة مرهقة، وقد ينقل مخزونه إلى بلد آخر يتيح له الاستمرار في أعماله، أو التمتع بثروته أكثر كيفما يشاء. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الثاني،
المقال الثاني، صفحة 848-849، فقرة ه8 (7) ... والإعانات
تمنح المكافآت التي تحصل عليها مصائد أسماك الرنكة حسب الوزن بالطن، وتكون متناسبة مع حمولة السفينة، لا مع اجتهادها ونجاحها في الصيد. ومن المؤسف أنه قد أصبح من السائد أن تجهز سفن الصيد من أجل هدف واحد هو صيد المكافآت، وليس صيد السمك. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الخامس، صفحة 520، فقرة 32 (8) عن ضوابط الاستيراد
ولأن الغني يعد على الأرجح زبونا أفضل لأصحاب الأعمال المجتهدين في محيطه بالمقارنة مع الفقراء، فإن هذا الأمر يسري على الأمة الغنية أيضا. عندما تهدف [قيود التجارة] إلى إفقار كافة جيراننا، فإنها تميل إلى جعل التبادل التجاري معنا عديم الأهمية، بل وتافها. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع، الفصل الثالث،
الجزء الثاني، صفحة 495، فقرة ج11
إن تقييم ما إذا كانت مثل هذه الإجراءات الانتقامية [أي التعريفات المفروضة على الدول الأخرى التي تفرض تعريفات عالية] قد تنتج على الأرجح مثل هذا التأثير، ربما لا يدخل في اختصاص المشرع، الذي يتعين الحكم على مشاوراته وفقا لمبادئ عامة لا تتغير على الإطلاق، تتعلق بمهارات شخص عنيف وماكر ومخادع، يدعوه الناس رجل دولة أو سياسي، والذي تتوجه المجالس التي يقودها وفقا للتقلبات اللحظية التي تشهدها الأمور. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الأول،
الجزء الثالث، المقال الثاني، صفحة 760، فقرة ه7 (9) عن الحوافز ...
الخدمات العامة لا تنجز أبدا على نحو أفضل من إنجازها عندما تكون المكافأة نتيجة لأدائها، وتكون أيضا متناسبة مع مقدار الجد والاجتهاد المبذول في أدائها. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الأول،
الجزء الثاني، صفحة 719، فقرة ب20 (10) ... والحوافز الضارة
من مصلحة كل شخص أن يعيش وفق النمط الذي يحقق له أكبر قدر ممكن من الراحة؛ وإذا كان أجره ليبقى هو نفسه بالضبط، سواء أدى أم لم يؤد عملا كادا، فمن المؤكد أن من مصلحته ... أن يهمل عمله تماما، أو ... يؤديه بغير إتقان وبلا مبالاة. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الأول،
الجزء الثالث، المقال الثاني، صفحة 760، فقرة ه7 (11) عن العدل ...
إذا زال [العدل]، فلا شك أن النسيج العظيم الهائل للمجتمع البشري ... سيتفتت إلى ذرات في لحظة واحدة. «نظرية المشاعر الأخلاقية»، الجزء الثاني،
القسم الثاني، الفصل الثالث، صفحة 86، فقرة 4
إذا أردنا وصول الدولة إلى أعلى درجات الثراء انطلاقا من أدنى درجات البربرية، فلا نحتاج إلى الكثير من المتطلبات، وذلك إذا توفر السلام والضرائب السهلة وقدر مقبول من تطبيق العدل. أما العوامل الأخرى فيتكفل بها المسار الطبيعي للأمور.
محاضرة ألقاها عام 1755، مقتبسة من: دوجولد
ستيوارت، «سرد لحياة آدم سميث وكتاباته»،
رسالة دكتوراه في القانون، القسم الرابع، 25 (12) ... والمشاركة الوجدانية من الآخرين
مهما بلغت الأنانية بالإنسان، فلا شك أن هناك بعض المبادئ في طبيعته تجعله يهتم بثراء الآخرين، وتجعل سعادتهم ضرورية له، دون أن يكون هناك ما يستمده منها سوى متعة مشاهدتها. «نظرية المشاعر الأخلاقية»، الجزء الأول،
القسم الأول، الفصل الأول، صفحة 9، فقرة 1 (13) عن الدافع للتحسين ...
إن الجهد الطبيعي الذي يبذله كل فرد لتحسين أحواله ... يكون في غاية القوة، حتى إنه بمفرده - ودون مساعدة خارجية على الإطلاق - لا يتمكن فقط من دفع المجتمع إلى الثروة والازدهار، وإنما يستطيع أيضا التغلب على مئات العقبات الكأداء التي جعلها جهل القوانين البشرية تعرقل الكثير من عمليات المجتمع. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع، الفصل الخامس،
استطراد حول تجارة الذرة،
صفحة 540، فقرة ب43 (14) ... واليد الخفية ... [الغني] لا يستهلك أكثر من الفقير إلا قليلا، وعلى الرغم مما في طبعه من أنانية وجشع ... فإنه يتقاسم مع الفقير كل ما تتمخض عنه التحسينات التي يبدعها. إن أمثال هذا الغني يتحركون وفقا لإرشادات يد خفية لتحقيق التوزيع نفسه تقريبا لضروريات الحياة، الذي كان ليتحقق لو كانت الأرض مقسمة إلى حصص متساوية فيما بين كل سكانها، وبهذا فإنهم يعززون مصلحة المجتمع دون نية لفعل ذلك أو دراية بأنهم يعززونها، ويوفرون الوسائل اللازمة لتكاثر بني البشر. «نظرية المشاعر الأخلاقية»، الجزء الرابع،
الفصل الأول، صفحة 184-185، فقرة 10
كل فرد ... لا يبتغي أن يعزز المصلحة العامة، ولا يعلم قدر إسهامه في هذا التعزيز ... فإنه لا يبتغي من وراء ذلك إلا حماية نفسه، وعندما يوجه هذه الصناعة على هذا النحو تجاه إنتاجية ذات قيمة أعلى، فإنه لا يبتغي إلا ربحه الشخصي. وهو في سعيه هذا - كما في العديد من الحالات - يتحرك بفعل يد خفية لتعزيز غاية لم تكن جزءا من مبتغاه. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الثاني، صفحة 456، فقرة 9
إننا لا نتوقع من الجزار أو صانع الخمر أو الخباز أن يوفر لنا طعامنا على أساس رغبته في عمل الخير، وإنما على أساس اعتباراته المتعلقة بمصلحته الشخصية؛ وبذلك فإننا لا نتعامل مع إنسانيتهم، وإنما مع حب كل منهم لذاته، ولا نتحدث معهم أبدا عن احتياجاتنا الضرورية، وإنما عن المنافع التي تعود عليهم . «ثروة الأمم»، المجلد الأول،
الفصل الثاني، صفحة 26-27، فقرة 12 (15) ... والتخطيط
إن رجل النظام ... غالبا ما يكون على دراية شديدة بغروره وخيلائه، وكثيرا ما يتيم بالروعة المزعومة لخطته الحكومية المثالية إلى درجة تجعله يرفض أبسط انحراف عن أي جزء منها ... ويبدو أنه يتخيل نفسه قادرا على تنظيم مختلف أفراد المجتمع الكبير بالسهولة نفسها التي تحرك بها اليد قطع الشطرنج، غير أنه لا يدرك أنه في رقعة الشطرنج الكبيرة للمجتمع البشري، تمتلك كل قطعة مبدأ للحركة يخصها ويختلف تماما عما يختار المشرع فرضه عليها. «نظرية المشاعر الأخلاقية»، الجزء السادس،
القسم الثاني، الفصل الثاني،
صفحة 233-234، فقرة 17 (16) عن الجامعات
في جامعة أوكسفورد، معظم الأساتذة العموميين قد تخلوا خلال هذه المدة الطويلة حتى عن التظاهر بالتعليم. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الأول،
الجزء الثالث، المقال الثاني، صفحة 761، فقرة 8
الحياة الجامعية مخططة بصورة عامة لمصلحة، أو بعبارة أنسب لراحة الأساتذة، وليس لمنفعة الطلبة. «ثروة الأمم»، المجلد الخامس، الفصل الأول،
الجزء الثالث، المقال الثاني، صفحة 764، فقرة 15 (17) عن توزيع الثروة ...
إن ما يؤدي إلى تحسين ظروف القطاع الأكبر من أفراد المجتمع لا يمكن أن يمثل عقبة للجميع. وليس هناك من مجتمع يمكن أن يكون مزدهرا وسعيدا، بينما يرزح معظم أبنائه تحت طائلة الفقر والبؤس. «ثروة الأمم»، المجلد الأول،
الفصل الثامن، صفحة 96، فقرة 36 «لا توجد شكوى أكثر انتشارا من شكوى ندرة المال.» «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل الأول، صفحة 437، فقرة 16 (18) ... وفوائد الحرية [دون معوقات التجارة] المنظومة الواضحة والبسيطة للحرية الطبيعية تبني نفسها بنفسها؛ وبهذا ... تترك لكل فرد الحرية الكاملة في السعي إلى تحقيق مصلحته بطريقته الخاصة ... إن الحاكم معفى تماما من مسئولية لا يمكن أن تفي [بها] أي حكمة أو معرفة بشرية؛ وهي مسئولية الإشراف على المجهودات الهائلة التي يبذلها الشعب كأفراد، وتوجيه هذه المجهودات نحو قنوات توظيف تصب بأقصى نحو ملائم في صالح المجتمع. «ثروة الأمم»، المجلد الرابع،
الفصل التاسع، صفحة 687، فقرة 51
الفصل الثامن
مراجع مختارة
(1) طبعة جلاسكو عن أعمال آدم سميث ومراسلاته
Bryce, J. C. (ed.) (1985),
Lectures on Rhetoric and Belle Lettres,
Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Campbell, R. H., and A. S. Skinner (eds) (1982),
An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations,
Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Haakonssen, K., and A. S. Skinner (2003),
Index to the Works of Adam Smith , Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Meek, R. I., D. D. Raphael and P. G. Stein (eds) (1982),
Lectures on Jurisprudence , Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Mossner, E. C., and I. S. Ross (eds) (1987),
Correspondence of Adam Smith , revised edn, Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Raphael, D. D., and A. L. Macfie (eds) (1984),
The Theory of Moral Sentiments , Indianapolis, IN: Liberty Fund.
Wightman, W. P. D., and J. C. Bryce (eds) (1982),
Essays on Philosophical Subjects , Indianapolis, IN: Liberty Fund (this volume includes Dugald Stewart’s 'Account of the life and writings of Adam Smith LLD’). (2) إصدارات أخرى عن أعمال آدم سميث
Haggarty, J. (1976),
The Wisdom of Adam Smith , Indianapolis, IN: Liberty Fund (collection of key quotations from Smith’s works).
Heilbroner, R. L., with L. J. Malone (1986),
The Essential Adam Smith , Oxford: Oxford University Press (abridged version of Smith’s main writing, with introductory notes). (3) كتب عن آدم سميث وأعماله
Buchan, J. (2006),
Adam Smith and the Pursuit of Perfect Liberty , London: Profile Books (arguing that Smith’s ideas do not fit within modern political categories).
Campbell, R. H., and A. S. Skinner (1982),
Adam Smith , London: Croome Helm (biography with clear summaries of Smith’s main works).
Fry, M. (ed.) (1992),
Adam Smith’s Legacy , London: Routledge (Smith’s place in modern economics, as seen by Paul Samuelson, Franco Modigliani, James Buchanan and other prominent economists).
Kennedy, G. (2005),
Adam Smith’s Lost Legacy , London: Palgrave Macmillan (focusing on Smith’s moral philosophy, Kennedy argues that Smith is often misinterpreted today).
McLean, I. (2006),
Adam Smith: Radical and Egalitarian , Edinburgh: Edinburgh University Press (the title says it all).
O’Rourke, P. J. (2006),
On The Wealth of Nations , New York: Atlantic Monthly Press (witty but perceptive summary of Smith’s main ideas).
Rae, J. (1895),
Life of Adam Smith , London: Macmillan (engaging biography, also reprinted in 1965 with an introduction by Jacob Viner).
Ross, I. S. (1995),
The Life of Adam Smith , Oxford: Oxford University Press (full-scale biography by a leading Smith scholar).
West, E. G. (1976),
Adam Smith: The Man and His Works , Indianapolis, IN: Liberty Fund (excellent overview of Smith’s life and contribution). (4) مقالات عن آدم سميث وأعماله
Rosten, L. (1970), 'A modest man named Smith’, in
Admired , New York: McGraw-Hill.
Sprague, E. (1967), 'Adam Smith’, in P. Edwards (ed.),
The Encyclopaedia of
, London and New York: Collier Macmillan (straightforward and concise exposition, concentrating on Smith’s moral philosophy). (5) أقراص فيديو رقمية
Adam Smith and the Wealth of Nations , Indianapolis, IN: Liberty Fund.
تعقيب: آدم سميث اليوم
كريج سميث
1
آدم سميث شخصية شهيرة عند معظم الناس، وخصوصا في بلده الأم اسكتلندا. وتكريما له شيد تمثال له في إدنبرة، وطبعت صورته على الأوراق النقدية، وسمي باسمه مسرح وكلية جامعية تيمنا به، كما أنني أكتب هذه السطور في مكتبي الذي يقع في مبنى يحمل اسمه في جامعة جلاسكو. لكن من المحزن أن يكون سميث معروفا ويحتفى به دون معرفة واحتفاء عدد كاف من الناس بفكره وآرائه؛ فقد كان من أهم المفكرين الذين أنجبتهم اسكتلندا، بل في بريطانيا، أو فلنقل في أوروبا بأكملها. ومما أرجوه أن يساعد هذا الكتاب في إحراز شيء من التقدم في طريق تصحيح هذا الجهل المنتشر بين الناس.
لقد عرفت سميث لأول مرة من أستاذ اقتصاد مستنير في المرحلة الثانوية، كان يستعين بأمثلة من كتاب «ثروة الأمم» لإضفاء شيء من الحياة على الدروس التي يلقننا إياها، فكانت الحصة الرابعة في كل أربعاء تمنحنا بهجة فكرية بأمثلة صانعي الدبابيس، ومعاطف العمال الصوفية، والجزارين، وصانعي الخمر، والخبازين. وقد كنت محظوظا في اكتسابي هذه الخبرة المبكرة بالاطلاع على الحياة العملية لهذا الرجل العظيم، وكم كنت أكثر حظا لتلقي دروسا عن التنوير الاسكتلندي كجزء من دراستي الجامعية.
ومما يؤسف له أن التجربة المبكرة التي اطلعت فيها على فكر سميث هي تجربة نادرة بحق؛ فلا نجد اليوم عددا كافيا من الطلاب والناس العاديين ممن قرءوا أعمال سميث، كما أن سميث لا يرد في مناهج مدارسنا وجامعاتنا على النحو الذي يليق به، ويا له من عار! بل من المؤسف على وجه التحديد أن الكثير من طلبة الاقتصاد في الجامعات لا يطلعون إلا على مقدمة سطحية إلى الأب المؤسس لاختصاصهم، ولا تتطرق الكثير من مناهج الاقتصاد إلى سميث (ومثال صناعة الدبابيس عموما) إلا على نحو موجز في المحاضرات التمهيدية عن تقسيم العمل، قبل الانتقال لمناقشة المبادئ نفسها التي عينها، لكن بلغة مجردة جافة.
إن هذا الواقع يرثى له؛ لأن لغة سميث واضحة وتصل إلى القارئ الحديث بالسهولة نفسها التي كانت تقرأ بها قبل مائتين وخمسين عاما. وتمثل كتابات سميث هيكلا ثريا ومعقدا من الملاحظات التي يمكن أن تلهمنا وتنير أذهاننا وبصيرتنا؛ إذ تجسد محاولة لفهم الآلية الحقيقية التي تعمل المجتمعات المعقدة وفقا لها. وهذا العلم الاجتماعي يحمل في جوهره الوعي بالواقع العصيب الخاص بتفاعل الأفراد والاعتماد المتبادل فيما بينهم، وهذان الأمران يجسدان الواقع الفعلي الذي نعيشه في عالم اليوم.
ففي عالم العولمة، تخترق دراسة سميث للتجارة الدولية والمحلية جوهر القوى التي تشكل حياة كل فرد منا. ولربما كان سميث يكتب في عصر مختلف، إلا أن تشخيصه لأخطاء المركنتيلية وتشككه العام في التدخل السياسي الاعتباطي ذو صلة بعالم اليوم على نحو خاص، حيث تشيطن التجارة على يد المعارضين لنتائج التجارة المزعومة.
كان لسميث عدد كبير من المناوئين والخصوم في وسط المفكرين، لكن سميث الذي رفضه هؤلاء باعتباره راعي الأنانية ليس هو سميث نفسه الذي تعرف عليه كل من قرأ وفهم أعماله بالفعل؛ فكتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» يعد إنجازا إنسانيا عميقا نوقش فيه علم النفس الأخلاقي الذي وضع المشاركة الوجدانية في نصابها الصحيح في صلب التجربة الإنسانية. وأمضى سميث حياته في الكبر في دراسة وشرح تجارب البشر في الحياة اليومية، ولم يكن مولعا بأفكار صعبة المنال على أرض الواقع عن الفضيلة الكاملة، وإنما استغرق وقته في تحليل كيفية ممارسة الناس الطبيعيين للتفاعل الاجتماعي وكيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية بالفعل.
كما أنه ليس هناك تناقض - كما يدعي بعض النقاد السطحيين - بين دراسة التجارة في «ثروة الأمم» وبين تحليل التعاطف في «نظرية المشاعر الأخلاقية»؛ فكلاهما وجهان من أوجه التجربة الإنسانية، ووظف سميث الدقة النظرية ذاتها في دراسة تأثيرات كل منهما على الحياة الاجتماعية.
إن عمل سميث يقوم على الرغبة في فهم الواقع التجريبي للحياة الاجتماعية لدى البشر. فعلى سبيل المثال، تعتمد حججه ضد الإفراط في التدخل السياسي على تحليل مدعم بالحقائق حول واقع التبادل التجاري. كما أنه في أحوال كثيرة يغفل البعض عن أن أمثلته التي ضربها عن المنافع الإنتاجية للتبادل بين الأفراد لا تركز على شديدي الثراء - الذين كان يزدريهم عامة - وإنما على مدقعي الفقر؛ فكان يعتقد أن التجارة تحقق المنفعة للجميع، وخصوصا أولئك الذين يندرجون في أدنى شرائح المجتمع.
وبذلك، يقدم لنا عمل سميث تحليلا واضحا للمبادئ والمؤسسات الأساسية الضرورية لدعم مجتمع حر؛ فسيادة القانون والعدل هما إطار المنظومة «البسيطة والواضحة» التي تعمل وفقا لها الحرية الطبيعية التي تنتفع منها البشرية بأكملها، بينما يؤدي تطور الممارسات الأخلاقية المشتركة إلى دعم حياة المجتمع الإنساني وتعزيزه.
إن فكرة اليد الخفية - أو بشكل أعم فكرة التطور الاجتماعي عن طريق عواقب غير مقصودة - تمثل الإرث الأساسي الذي خلفه لنا سميث ووصل إلى عالمنا اليوم. فإدراك أن العديد من أهم الإنجازات البشرية - كما لاحظ آدم فيرجسون صديق سميث - هي نتائج للفعل البشري، لا التصميم البشري، إنما هو درس جوهري لنا جميعا. وهذه الملاحظة هي التي قادت سميث إلى تشككه العميق في «رجال النظام» الذين ينظمون البشرية في سبيل تحقيق غايات نبيلة.
كان سميث رجلا عمليا واعيا؛ إذ لم يقع فكره بسهولة في فخ تعجرف الأيديولوجي السياسي، لكن هذا لا يعني أن سميث يجب ألا يعتبر مفكرا راديكاليا؛ حيث كانت أفكاره ثورية في عصره، أما في أيامنا، فإنها تشير إلى نظرة سياسية، أفضل ما توصف به هو أنها إنسانية وليبرالية، لكنها تبقى ثورية لأنها تتحدى العديد من الفرضيات المستقرة في أوساط الطبقة السياسية. وربما لو كان المزيد من السياسيين في عصرنا قد قرءوا كتابات سميث وفهموها، لانتقل ما يبدو منها ثوريا إلى مصاف النصائح السديدة المستندة إلى الحقائق، وهكذا هي بحق.
لا يكاد يشك أحد في أن الدراسة الجادة لآدم سميث تمر بمرحلة مثمرة في الوسط الأكاديمي؛ ففي الفترة بين عامي 2002 و2004، أكمل الطلبة الجامعيون في شتى أنحاء العالم أكثر من أربع عشرة رسالة دكتوراه عنه، لينضم هؤلاء إلى مجتمع دولي مؤلف من المختصين بدراسة آدم سميث على امتداد التخصصات الأكاديمية. كما أن نشر «دراسة نقدية عن آدم سميث» سنويا من جانب «مؤسسة آدم سميث الدولية » يعتبر شهادة أخرى على الاهتمام الأكاديمي الشديد بأعمال سميث.
وإضافة إلى المختصين بدراسة آدم سميث، هناك أيضا مجتمع مبشر من الباحثين الذين ألهمهم، وهناك مجال فسيح أمام من ألهمتهم ملاحظاته ليعملوا على اتساع نطاقها في أعمالهم الخاصة. كما يتزايد حاليا الاهتمام بنظرية سميث «المعاصرة على نحو مذهل» الخاصة بالعلوم، كما يشجع علم نفس الأخلاق الاجتماعي الذي ابتكره على البحث في تخصص فرعي جديد هو علم النفس التطوري. أما نظرياته حول اللغة وعلم الجمال، فلا تزال تفتقر إلى البحث والدراسة، على الرغم من أنها تقدم أرضية أكثر خصوبة للباحثين. وكما أشار دكتور باتلر باقتدار في هذا الكتاب، فإن سميث ترك لنا تراثا فكريا واسع النطاق، لكنه ترك لنا أيضا تراثا غير مكتمل، وباستكشاف ما تنطوي عليه أفكار سميث من معان ضمنية، يتوافر لدينا مشروع بحثي ثري ومثير يمكن أن يظل مدى الحياة.
لقد ترك لنا آدم سميث تراثا ثريا جدا من الكتابات، وقد أسهم شخصيا في تشكيل العالم الذي نعيش فيه حاليا، كما أنه رمز قدم لنا الأدوات الفكرية لفهم العالم؛ ولذا يجب أن تقرأ كتاباته على نطاق أوسع، وأن تفهم فهما أوضح. وهذا أمر من شأنه - إن حدث - أن يؤدي إلى مساعدة القوة الملهمة لأفكاره في تنوير عالمنا، تماما كما ساعدت أفكاره الكاشفة في تنوير العصر الذي عاش فيه.
هوامش
صفحه نامشخص