اعلام فکر اسلامی
أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث
ژانرها
وترك له والده غير الضيعة دارا بسوق الزلط بيعت أيضا، وترك خزانة كتب كبيرة قل أن تضارعها خزانة في نفائس الكتب ونوادر الأسفار، وهي التي أفنى عمره وماله في جمعها وأتعب نفسه في تصحيحها وضبطها وصبغ الورق وصقله لنسخ ما كان يستنسخه منها، فوق ما كان يتكلفه من السعي في البحث عنها في الخزائن المهجورة وعند الوراقين، واتخذ له في داره مصنعا للتجليد واستخدم عدة نساخ أجرى عليهم المرتبات فاختصوا بالنسخ له لا يشتغلون لسواه. وكان هو وعبد الحميد «بك» نافع من أدباء القرن الثالث عشر يتباريان في ذلك ويتسابقان، أخبرني المترجم عن والده أنه بلغه أن تاجرا من الوراقين قدم من سفر بكتب أوصاه عبد الحميد «بك» نافع بجلبها له وبينها ديوان البحتري، وكان إذ ذاك لم يطبع بل لا يعرف في مصر إلا باسمه، فأسرع إليه وبذل له مالا فوق قيمة الديوان على أن يعيره له يوما وليلة فقط يطالع فيه، فرضي وأعاره إياه، فلما أتى به لداره أعطاه لمجلده ففك له تجليده وأحضر في الحال عدة نساخ فرقه عليهم كراريس فنسخوه وقابلوه، ولم يمض اليوم والليلة إلا وقد ردت النسخة الأصلية لصاحبها مجلدة كما كانت، ثم قابله بعد ذلك عبد الحميد «بك» وأخذ يفاخره بوجود الديوان عنده واختصاصه به، فقال له: خفض عليك يا أخي هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة.
وبلغه مرة وهو يسمر مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك، حتى اهتدى إليها بعدما مضى هزيع من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها، ولم يمهله للصباح، بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحه ليلا وأخرجها له، ولم يهدأ له بال حتى باتت الرسالة عنده.
فلما مات عرض المترجم كتبه للبيع فبيعت وتفرقت، واقتنى نفائسها ونوادرها الكونت لندبرج قنصل السويد بمصر وكان من مستعربي الإفرنج المولعين بجمع الكتب العربية، وأدركت أنا
2
أواخرها فاقتنيت منها بضعة عشر كتابا، منها ما هو بخط عبد الغني «بك» نفسه وبحواشيها آثار التصحيح واختلاف النسخ التي كان يقابلها بها.
وكان أول التقائي بالمترجم في دار ابن أختي محمود توفيق «بك»، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رحال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيرا في أول الطلب، وقد تعذر علي فهم باب أفعل التفضيل وأجهدت نفسي في درسين متواليين على تفهمه فلم يفتح علي بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت علي فهمه، فكان بعد ذلك كثيرا ما يقول لي ممازحا: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني.
ثم تأهل ببنت حنفي «بك»، وكان لأسرتها نوع اتصال بنا، فاتصلت المودة بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمته لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كل يوم ويبقى حتى نسمر معا ثم ينصرف، فتارة كنا نحيي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية أو بمطالعة بعض الكتب، وتارة بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يمل من المقابلة مهما يطل الوقت فيها ويقول: هذا شيء دربني عليه والدي وعودني إياه من الصغر.
وأشار علي مرة أستاذنا العلامة محمد محمود الشنقيطي أن أطالع «أمالي أبي علي القالي» مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، وأخبرت المترجم أنني سأحتجب عن الناس بضعة أيام حتى أستوفي ما بهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام، ثم حضر ومعه هذا الزجل ينحي فيه على الأستاذ وعلى أبي علي القالي اللذين تسببا في انقطاعي عن الإخوان، ويذكر فيه بعض من كان يجتمع بنا:
المذهب
مشتاق قوي ليدي السحنه
صفحه نامشخص