اعلام فکر اسلامی
أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث
ژانرها
وتنقل من بلدة إلى أخرى، وماتت زوجته، فذهب إلى القرشية نزيلا عند أحمد «باشا» المنشاوي، فكان يجتمع به صديقه القديم الأديب محمد أفندي التميمي وغيره، وتزوج هناك ببنت مصطفى منى من أهل المحلة الكبرى، إلا أنه لم يحمد المقام، فانتقل إلى دار التميمي في شهر ذي القعدة سنة 1305ه، فأقام بها شهرا، ثم سافر إلى «الدلجمون» في البحيرة فلم يمكث بها غير أسبوع، وعاد إلى الغربية، وقصد «البكاتوش» فكان يقيم تارة عند عمدتها الشيخ إبراهيم حرفوش، وينتقل تارة إلى دار جاره أحمد جودة، وكان رجلا قوي الجنان، لا يبالي بظلام الليل أنى سار فيه، فصار يصحب المترجم إذا أراد الانتقال في الليل الحالك، ويتجشم معه أضيق المسالك، وجعل المترجم إقامته بين «البكاتوش» و«شباس الشهداء»، ينزل فيها عند «محمد معبد» الحلاق، فيلقى عنده من الكرم والمروءة ما لقيه إبراهيم بن المهدي عند ذلك الحلاق المشهور مدة اختفائه من المأمون، ولم يزل كذلك حتى انتقل عند صديقه وصديقنا الأديب الكامل الشاعر الناثر محمد شكري المكي كاتب المركز بدسوق الذي أخبرني قائلا: بينما أنا بالمركز يوما إذ دخل علي الشيخ إبراهيم خرفوش عمدة البكاتوش، فسلم وجلس، ولمحت منه أنه يريد أن يسر إلي أمرا، فترقب خلو المكان، ثم أخبرني أن شخصا عنده مشتاق إلي، وهو صديق لي لم يرني منذ ثماني سنوات، فاستخبرته عنه فانصرف ولم يخبرني به، ثم صار يتردد علي بعد ذلك يذاكرني في هذا الصديق ولا يبوح باسمه، حتى وثق مني، فأخبرني أنه مختف واسمه «عبد الله»، فقلت: لعله عبد الله نديم؟ فقال: نعم، فكتبت له بيتين من نظمي وسألته توصيلهما إليه، وهما:
ولقد نذرت إذا لقيتك سالما
لأقبلن مواطئ الأقدام
ولأثنين على سجاياك التي
حثت على التحرير والإقدام
فذهب بهما، وعاد لي بعد يومين بقصيدة من نظم المترجم بخطه، عدتها مائة بيت من البحر والقافية، يتشوق فيها إلي ويذكر ما لاقاه أيام الثورة والاختفاء، ويتمنى لو فرج الله عنه فيفعل كيت وكيت، وكأنه نسي نفسه وما هو فيه من الضيق، فكتبت له أبياتا أطلب الاجتماع به، وبعد أسبوع حضر لي إبراهيم حرفوش ومعه ورقة بخط المترجم يطلبني فيها إليه يوم الجمعة بشباس الشهداء، فذهبت في الميعاد، فوجدت محمد معبد الحلاق ينتظرني، فذهب بي إلى داره وهي دار صغيرة على تل، وقد أنزلوا المترجم في مكان عال لا سلم له، فصعدت إليه على سلم من الخشب رفعوه بعد صعودي ، فلما التقينا ووقعت العين على العين تعانقنا طويلا، وأدركتني عليه شفقة، فقبلت يده، ثم جلسنا نتحادث في القديم والحديث، وأطلعني على كتبه التي ألفها مدة الاختفاء، منها: بديعية له شرحها شرحا لطيفا لم يكمله، وثلاثة دواوين من نظمه، وجزء من «كان ويكون»، ثم فارقته وقت العصر. •••
وانتقل المترجم عند صديقه المذكور بزوجته وكتبه، مدعيا أنه ابن عمه أتاه زائرا من الحجاز، وسمى نفسه عليا اليمني، فمكث نحو ستة أشهر، ثم انتقل بمفرده إلى شباس الشهداء، ولحقت به زوجته بعد عشرين يوما، ثم أعادها بعد خمسة وعشرين يوما إلى دار شكري «أفندي» بدسوق، ولحقها فمكثا ستة أشهر أخرى، ثم عاد إلى البكاتوش عند أحمد جودة، وكانت زوجته هذه تسيء إليه وتغاضبه، فجمعت عليه مع ضيق الاختفاء سوء معاشرة الأهل، حتى ضاق ذرعه منها مرة، وهم بإظهار نفسه للحكومة، ثم تراجع وأصلح أمره معها، ولكمته مرة على فمه فكادت تسقط ثنيتيه من الفك الأعلى فربطهما بخيط من الحرير، وكان خادمه حسين مختفيا مع زوجته ببلدة الجميزة التابعة لمركز السنطة، فطلبت زوجة المترجم الذهاب إليه فأذن لها، فلما استقرت عنده تشاحنت مع زوجته، وكاد الأمر ينفضح، فأسرع الخادم لسيده بالبكاتوش مستغيثا، فانتقل المترجم إلى الجميزة وأصلح بينهما، وبقي هناك نحو شهرين فاستأنس وطاب له المقام، وعرفه عمدة البلدة فتغاضى عنه وكتم أمره، فكان يخرج للتنزه على غير عادته في الاختفاء، فيلتف عليه العمدة وبعض أناس من البلدة، وهو يقرأ لهم ويعظهم ويسامرهم وهم مبتهجون به.
وكان يتردد على البلدة رجل يقال له «حسن الفرارجي» كان منتظما في العسكر، ثم استخدم جاسوسا سريا، فلما بصر بالمترجم أنكر حاله لما رآه عليه من سيما الاختفاء، ورجح أنه «عبد الله نديم»، فكتب إلى الديوان الخديوي ينبئهم بوجود رجل من العرابيين مختف بالجميزة، وأسرع إلى ديوان الداخلية فأوضح لهم أمره، فأعطوه ورقة بحليته، فلما تحقق منه أخبرهم به، فأمروا بالقبض عليه، وحضر من طنطا محمد أفندي فريد وكيل الحكمدار ومعه نفر من الشرطة ستروا ملابسهم بثياب أخرى ، فأحاط بعضهم بالبلدة متفرقين، وصعد وكيل الحكمدار مع الآخرين على تل مشرف على أفنية الدور، وأحس المترجم بتلك الحركة، فأوجس في نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى، فأخذ عيبته على كتفه وصعد على سطح المكان، فأبصره الذين على التل، فصاحوا وصوبوا بنادقهم عليه، وأمروه بالنزول فنزل، ثم أحاطوا بالدار، وطرقوا الباب طرقا عنيفا، وأيقن المترجم أنه مأخوذ لا محالة، ففتحه لهم، وواجههم متجلدا، فسأله محمد أفندي فريد عن اسمه، فقال له: «سبحان الله، أتجهل اسمي وأنت مأمور بالقبض علي! أنا عبد الله نديم، ذو الذنب العظيم، سلمت أمري لله»، فقبضوا عليه هو وخادمه، وأعماهم الله عن كتبه وأوراقه، ولولا ذلك لأصابه شر عظيم بسبب أهاجيه في الخديو وأسرته، وكان القبض عليه في 29 صفر سنة 1309، ولم ينل الواشي به شيئا من الجعل لفوات الأجل المضروب للمكافأة، ثم استاقوهما إلى المركز، وسألوه عمن اختفى عندهم فلم يقر بأحد، وسألوا خادمه وضربوه فأقر بالبعض، ونقلوهما إلى طنطا، فسجنا بعض أيام، ووكيل النيابة يوالي سؤالهما، وانتهى الأمر بعفو الخديو عنه وعمن آواه، ونفيه خارج القطر، فاختار يافا ثغر القدس الشريف، ووصل إليها في غروب يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ونزل عند السيد علي «أفندي» أبي المواهب مفتيها، ولما دخل داره وعرفه بنفسه، قام واعتنقه، وضحك وبكى، فأقام عنده شهرا، ثم اتخذ له دارا، وعرفه أعيانها وفضلاؤها، وأكرموه وواسوه، جزاهم الله خيرا، ثم رحل رحلته إلى نابلس وسبطية وقلقيلا وغيرها من البلاد الفلسطينية، واجتمع بطائفة السامرة واطلع على كتبهم ومعتقداتهم كما رأيته بخطه في كتاب أرسله لأحد أصدقائه في مستهل رمضان من تلك السنة، ولم يزل مقيما بيافا حتى مات الخديو توفيق، وتولى ولده عباس في جمادى الثانية، فعفا عنه وأباح له العود إلى مصر، قال في آخر ذلك الكتاب: «عزمنا على الحضور بعد العيد إن شاء الله تعالى، فإن موسم سيدنا موسى الكليم يعمل في نصف شوال، ولا أحضر حتى أزوره مرة ثانية، فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه، وذلك أني عند دخولي حضرته الشريفة أنشدته في الحال:
رجوتك يا كليم الله حاجا
أرجيها وقد حققت فضلك
صفحه نامشخص