اذهب قبل الساعة العاشرة من هذا المساء إلى منزل الآنسة باكيتا، أو أكمن بجوار منزلها، وهناك ترى بعينك مركبة البرنس تقف عند بابها، وترى البرنس داخلا منزلها دخول من تعود زيارتها دون كلفة. والسلام عليك من صديقك المخلص.
أنيتور
فلما أتم كتابة هذه الرسالة ضحك وقال: سوف أبلغ بهذه الرسالة كل ما أريد، ثم نادى رجلا من السعاة، فعهد إليه بإيصال هذه الرسالة إلى فيلكس بعد أن دله على منزله، فقبض الرجل أجرته، وانصرف مطمئنا إلى منزل فيلكس وهو لا يعلم أنه يحمل إليه اليأس بشكل رسالة.
أما فيلكس فقد كان من أتعس الناس حالا، وقد بذل شارنسون كل ما في وسعه بغية تعزيته فلم يجد سبيلا إلى العزاء؛ لأن كلمات أنيتور كانت قد علقت بذهنه، ثم أخذت تتجسم وتتعاظم كبقعة الزيت تسقط صغيرة ثم تتسع وتمتد.
وقد كان يقول لصديقه: كيف يقول لي أنيتور هذا القول إذا لم يكن واثقا منه؟ ثم يضرب الجدار برأسه من يأسه، فقد كانت هذه أول مرة خامره الشك بباكيتا تلك التي نشأ وإياها منذ الحداثة ولم يحب سواها في الوجود، بل تلك التي لولاها تمثل خيالها له لما استطاع التغلب إلى الآن على مصاعب الحياة.
فلما جاءت رسالة أنيتور كان مثلها مثل الصاعقة تنقض على الرءوس، ولم تكن ظواهر حاملها تدل على شيء مما فيها؛ ولذلك فتح له الخادم الباب، وأذن له أن يصعد برسالته إلى فيلكس وكذلك شارنسون، فإنه أخذ الرسالة من الرجل دون أن يخامره شيء من الشك ودفعها إلى صديقه، فلما فتحها فيلكس وقرأها صاح صيحة يأس منكرة، وسقط على مقعد شبه مغمى عليه.
وكانت الرسالة قد سقطت من يده فالتقطها شارنسون، وقرأها فأصيب باضطراب عظيم، غير أنه لم يكن يريد التسليم بصحة ما جاء فيها ويصدق كاتبها، فقال: كلا! إن هذا محال ... إنه بعيد عن التصديق، وأما أنيتور إلا منافق نمام حسود.
فهز فيلكس رأسه وقال: كلا إنه قال الحق. - بل أنت مخطئ أيها الصديق، وفي كل حال فإني سأقف على الحقيقة بجملتها. - كيف ذلك؟ - سأذهب بنفسي في هذا المساء فأكمن بجوار منزلها. - وأنا أيضا. - كلا أيها الصديق! بل أنت تبقى وأنا أذهب وحدي، فأعود إليك بالخبر اليقين، وأقول لك: إن أقوال هذا الزنيم إنما كانت وشايات سافلة فتثق بكلامي، أليس كذلك؟ - لا شك عندي بصدق إخلاصك وطهارة قلبك، ولكن لا تحاول إقناعي فلا سبيل إليه. - أيها الصديق ...! - إني سأصحبك في هذا المساء، فإني أريد أن أرى شقائي بعيني. - لعلك جننت يا فيلكس؟ - كلا! وحبذا الجنون، بل حبذا الموت! ولكن عقلي لا يزال سليما لنكد طالعي، وسأكون قويا على احتمال هذه النكبة، وسوف ترى، وقد سكت بعد ذلك فلم يقل كلمة بشأن باكيتا، ولم يذكر الأمير الروسي بكلمة، وعند الظهر جلسوا إلى المائدة، فرأت أمه من عينيه ما يدل على السويداء، ولم تعلم أن اليأس يجول في قلبه، فقد تمكن من امتلاك نفسه وإخفاء حزنه القاتل عن تلك الأم الحنون التي لو علمت بنكبته لقتلها الحزن لا محالة.
وفي الساعة التاسعة قال لشارنسون: هلم بنا فقد أزف الوقت، قال: ألا تزال مصرا على الذهاب معي؟
قال: نعم، فأطرق برأسه، ثم ذهب فجاء بمركبة فصعد الاثنان إليها، وأمر فيلكس السائق أن يذهب بهما إلى شارع سانت لازار، وبعد نصف ساعة وصلت المركبة، فأوقفها في مكان يشرف على منزل باكيتا.
صفحه نامشخص