فقال ابن عباس:
وللدار بعد غد أبعد
ثم قال المأمون: أنا ابن ذاك. وفي «تحرير التحبير» لابن أبي الإصبع أن ابن عباس لما كمل البيت، قال له ابن أبي ربيعة: هكذا والله قلت. فقال عبد الله: وهكذا يكون.
وروي أن جريرا والفرزدق حضرا مجلس الوليد بن عبد الملك، وعدي بن الرقاع ينشد قصيدته:
عرف الديار توهما فاعتادها
من بعد ما درس البلى أبلادها
فلما انتهى إلى قوله: تزجي أغن كأن إبرة روقه.
تشاغل الوليد عن الاستماع، وقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير:
ما تراه يقول؟ فقال: أراه يستلب بها مثلا، فقال الفرزدق: يا لكع! إنه سيقول: قلم أصاب من الدواة مدادها. ثم عاد الوليد إلى الاستماع، وعاد عدي إلى الإنشاد، فنطق بالعجز كما قال. فقال جرير للفرزدق: ويحك! فكأن سمعك مخبوء تحت لسانه، فقال له: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام، والله لما سمعت صدر بيته رحمته، فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا. وفي رواية العقد الفريد عن الأصمعي أن جريرا هو السابق لعجز البيت لا الفرزدق. وقال زكي الدين بن أبي الإصبع في «تحرير التحبير» الذي أقوله: إن بين ابن عباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل، وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلوم، وأنا أذكر الفرق. فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم سماع معظمها، وعلم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة بألف منصوبة الروي من وزن معروف، ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه مع العلم بسواده، وفي ذلك ما يدل على عجز البيت بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء. وبيت عمر مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي، ولا رويه من أي الحروف، ولا حركة رويه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالا في غاية العسر، ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله به هؤلاء القوم من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم. ومن حذق عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ودقيق معرفته باختيار الكلام، جعله قافية الذي أتى به «أبعد» ولم يجعلها «أنزح»، وكان ذلك ممكنا له، لكون «أبعد» أسرع ولوجا في السمع، وأسبق الذهن، وأدخل في القلب، وأكثر استعمالا، وأعرف عند الكافة، وبها جاء القرآن العزيز دون أنزح، وهي أحب إلى اللسان، وأولى بالبيان.
انتهى كلامه بنصه.
صفحه نامشخص