بيان
نسبه وأخباره
فصل في نسبه
فصل في بيته
فصل في مولده ووفاته وحليته
فصل في نشأته وطلبه العلم ورحلته
فصل في تلاميذه
فصل في مبلغ علمه وذكائه
فصل في مؤلفاته
فصل في ثروته وزهده
فصل في بقية أخباره
شعره
فصل في المكرر في معانيه
فصل في سرقاته
فصل في مآخذ الشعراء من شعره
فصل في مقارنة بعض معانيه بمعاني غيره
معتقده
فصل في اختلافهم فيه
فصل في معتقده في الله
فصل في معتقده في النبوات والرسل
بيان
نسبه وأخباره
فصل في نسبه
فصل في بيته
فصل في مولده ووفاته وحليته
فصل في نشأته وطلبه العلم ورحلته
فصل في تلاميذه
فصل في مبلغ علمه وذكائه
فصل في مؤلفاته
فصل في ثروته وزهده
فصل في بقية أخباره
شعره
فصل في المكرر في معانيه
فصل في سرقاته
فصل في مآخذ الشعراء من شعره
فصل في مقارنة بعض معانيه بمعاني غيره
معتقده
فصل في اختلافهم فيه
فصل في معتقده في الله
فصل في معتقده في النبوات والرسل
أبو العلاء المعري
أبو العلاء المعري
تأليف
أحمد تيمور باشا
بيان
كان الظن أن المؤلف، طيب الله ثراه، قد استوفى هذا الكتاب تأليفا وإعدادا، وأنه قد فرغ من جمع المواد، وتمييز الأقسام، وتبيين الفصول، ومراجعة العبارة. ولكن وردت في أضعاف الكتاب إشارات وعلائم تصرف هذا الظن.
من ذلك أنه جعل لقسم من الكتاب عنوانا، هو: «شعره ونثره». وما يكون للمؤلف أن يمهل جانب النثر من آثار المترجم له، إلا أن فصول هذا القسم خالية كلها من حديث النثر كله. فالحتم أنه عقد العزم على أن يكسر بعض فصول عليه.
ومن ذلك أنه بنى فصلا «للمكرر من معانيه»، وقد وجد مكتوبا في ورق قصير من غير جنس الورق الذي كتب فيه سائر الكتاب، وفي إحدى صفحاته جملة مستقلة يفهم موضوعها أن المؤلف صاغها ليمهد بها لهذا الفصل. وهذا المظهر يشهد بأن هذا الورق مسودة أبقيت للزيادة عليها، والتغيير فيها. فإذا لوحظ إلى هذا أن الفصل قليل ضئيل مع سعة الموضوع وتشعبه، وأن الأبيات المستشهد بها جلها من غير شعر اللزوم؛ قام اليقين بأن المؤلف كان مقدرا إكمال موضوعه فيما بعد، وتبيضه في ورق مماثل لورق بقية الفصول، جريا على سنته في إخراج هذا الكتاب.
ومن ذلك أنه عند الحديث في «معتقده» ساق حكاية أبيات من قصيدة، ثم قال: «وسأوردها بتمامها عند الكلام على منظومه، فإنها من شعره المفقود». ولم ترد هذه الأبيات الموعود بها في ثنايا الكتاب. فإن استخبر مفاد هذه الجملة، أعطى أنه كان يبغي إنشاء فصل لهذا النوع، يجعله في جملة فصول القسم الذي عنونه: «شعره ونثره».
ومن ذلك أنه قال في خاتمة الفصول الموجودة من هذا الكتاب: «... بدليل ما ذكرناه من الكلام وما سنذكره». وواضح أن هذه كلمة من لم يقض مأربه من القول بعد.
يضاف إلى هذه جميعا أن حواشي الأوراق حافلة بألوان من الزيادة والإبدال والإصلاح، مما يدع الرأي مطمئنا إلى أن النسخة كانت في حياة المؤلف لا تزال بين يديه: يراجع فيها تسريح الناظر، وإجراء الخاطر، وإعمال القلم.
على أنه ربما يكون قد أجل معاودة الكتاب إلى فرصة لم تسنح، وأولاه مهلة اتصلت بانتقاله إلى جوار ربه. فإنه لما عرف بكتاب الفصول والغايات، في فصل «مؤلفاته»؛ اقتصر على بيان طريقته وموضوعه، فما أشار المؤلف إلى حصوله على مخطوطة الجزء الأول من هذا الكتاب النادر. ولهذه الإشارة شأنها؛ إذ هي إعلام بمكان تحفة كانت مفقودة، ووجدان ضالة ظلت منشودة. ومن سبيل المؤلف في كتابه هذا أنه ما تعرض مناسبة كتاب غير مشهور، أو أثر عزيز الوجود؛ إلا هدى إلى مخبئه، وعرف بنسخته، ولم يفته أن يذكر حصوله عليه إن كان. وما دام هذا صنيعه في الكتب العارضة، فمثل هذا الصنيع في كتب المترجم له أولى وأحق. وإذا فلا بد أن يكون المؤلف قد وادع مخطوطة الكتاب قبل أن يحصل على نسخة الفصول والغايات، ثم لم يعاوده حتى لبى نداء ربه خالد الذكر، حميد الأثر.
نسبه وأخباره
فصل في نسبه
هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة التنوخي المعري. هكذا ساق نسبه ابن خلكان، وهو أصح ما وجدناه بالمعارضة على ما في كتب الأنساب؛ فإن فيما ذكره ياقوت في «إرشاد الأريب» إسقاطا لبعض الأسماء، واضطرابا في ترتيب بعضها، فاعتمدنا على رواية ابن خلكان بعد تصحيح ما حرف منها، فإن «خزيمة بن تيم الله» جاء في النسخة المطبوعة ببولاق: «جذيمة» بالجيم والذال المعجمة، وما نص عليه في كتب اللغة والأنساب «خزيمة» بالخاء والزاي مصغرا. و«تيم الله بن أسد» هكذا في جميع ما وقفنا عليه من الكتب، وجاء به أبو العلاء في سقط الزند: «تيم اللات»، في قوله:
سألته قبل يوم السير مبعثه
إليك ديوان تيم اللات ما ليتا
وقد يكون هذا تحريفا في النسخة، إلا أن من خبر شعر أبي العلاء ومذهبه في تكلفه الصناعة والتجنيس، رجح أنه ما أتى بقوله «ما ليت»، أي ما نقص، بعد قوله «اللات»، إلا إرادة للتجنيس، والله أعلم. وقد يذهب الظن إلى أن «تيم اللات» هذا ربما كان غير «تيم الله» المذكور مقدما، وهو مردود بما ذكره الشارح في سياقه نسبه عند شرح البيت. على أن فيما ذكره ابن خلكان ما لا يسكت عنه أيضا، وما نقلناه عنه هو ما وجدناه في النسخة المطبوعة ببولاق، والنسخة المطبوعة بباريس. ونقل ابن الوردي في تاريخه عبارة ابن خلكان، فأسقط أحمد بن سليمان من سلسلة النسب، ويوافقه ما في «الكوكب الثاقب» لعبد القادر بن عبد الرحمن السلوي، إلا أنه أسقط محمد بن سليمان بدل أحمد. وعلى كل حال، فالظاهر أن ما ورد في ابن خلكان فيه زيادة اسمين ربما سبق بهما قلم الناسخ .
وجده الأعلى قضاعة بن مالك أبو حي من اليمن، ينتهي نسبه إلى قحطان؛ هذا هو المشهور. وزعم نساب مضر أنه قضاعة بن معد بن عدنان، وأن مالكا زوج أمه، والنسب إلى زوج الأم عادة معروفة عند العرب، ولعلماء الأنساب في ذلك اختلاف كثير. ولهذا قال محمد بن سلام البصري النسابة لما سئل: أنزار أكثر أم اليمن؟ فقال: إن تمعددت قضاعة فنزار أكثر، وإن تيمنت فاليمن. وعلى القول الأول قول بعضهم:
قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر
وعلى القول الثاني قول الكميت الأسدي يخاطب قضاعة:
فإنك والتحول عن معد
كحالية تزين بالعطول
تغايظ بالتعطل جارتيها
وبالأحماء تبدأ والحليل
فمهلا يا قضاعة لا تكوني
كقدح خر بين يدي مجيل
وما من تهتفين به لنصر
بأقرب جابة لك من هديل
وسمي قضاعة لانقضاعه عن قومه مع أمه، أي انقطاعه عنهم، أو من قضعه، أي قهره. وقيل: بل هو اسم منقول، وأصل القضاعة الفهد.
والتنوخي نسبة إلى تنوخ، كصبور. وتشديد النون خطأ؛ وهم قبيلة من اليمن من قضاعة، سموا بذلك لأنهم اجتمعوا وتحالفوا، وتنخوا بمكان في الشام، أي أقاموا فيه. ومن الناس من يطلق تنوخ على الضجاعمة ودوس الذين تنخوا بالبحرين، والاختلاف في ذلك كثير أيضا. ونقل عن أبي عبيد أنهم تنخوا على مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد، وعلى مالك بن فهم عم مالك بن زهير. وذكر الحمداني أن المعرة من بلاد الشام هي صليبة تنوخ، بمعنى أن بها جمعهم المستكثر. وفي «إرشاد الأريب» لياقوت أن تيم الله بن أسد هو مجتمع تنوخ من أهل معرة النعمان. وقال أبو يعقوب النحوي في شرح «سقط الزند» أن تيم الله هو مجتمع تنوخ في النسب، ولم يخص أهل المعرة. ويوافقه ما ذكره ياقوت في معجم البلدان، إلا أن أبا يعقوب سماه تيم اللات كما قدمنا. وكان شعار تنوخ في حروبهم: «واصل، واصل»، وإليه أشار أبو العلاء في لزومياته بقوله:
فر من هذه البرية في الأر
ض فما غير شرها لك حاصل
فشعاري قاطع وكان شعارا
لتنوخ في سالف الدهر واصل
والشعار: العلامة في الحرب. وفي الحديث أن شعار أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان في الغزو: «يا منصور أمت أمت». وهو تفاؤل بالنصر بعد الإماتة. واستشعر القوم، إذا تداعوا بالشعار في الحرب.
والمعري نسبة إلى معرة النعمان، وهي بلدة بالشام من أعمال حمص بين حلب وحماة، وليست منسوبة للنعمان بن المنذر كما توهمه بعضهم، بل نسبت - فيما ذكروا - للنعمان بن بشير الأنصاري؛ لأن ولدا له مات وهو مجتاز بها، فدفنه فيها وأقام أياما حزينا، فنسبت إليه لذلك. قال ياقوت في معجم البلدان: وهذا في رأيي سبب ضعيف لا تسمى بمثله مدينة، والذي أظنه أنها مسماة بالنعمان الملقب بالساطع. قلت: وهو النعمان بن عدي، أحد أجداد المعري المذكورين في نسبه. والذي ذكره ياقوت مقبول؛ فإن تسمية بلدة باسم أحد قطانها المشهورين فيها أقرب من تسميتها بأحد المجتازين بها. وذهب الشريشي في شرح المقامات إلى أنها أضيفت لجبل مطل عليها اسمه النعمان، ولم يذكر ياقوت هذا الجبل.
ومن شعر أبي العلاء فيمن عيره باسم بلده:
يعيرنا لفظ المعرة أنها
من العر قوم في العلا غرباء
وهل لحق التثريب سكان يثرب
من الناس، لا، بل في الرجال غباء
وذو نجب إن كان ما قيل صادقا
فما فيه إلا معشر نجباء
أي إن كان اسم البلد له تأثير على ساكنيه، على ما زعم هؤلاء الزاعمون، فيلزم منه أن التثريب لاحق لسكان يثرب، وهي مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم . ويلزم منه أيضا أن يكون سكان ذي نجب كلهم نجباء، مع أن فيهم النجيب وغير النجيب كسائر سكان البلاد.
ومن شعره في اسمه:
وأحمد سماني كبيرى وقلما
فعلت سوى ما أستحق به الذما
وقال أيضا:
رويدك لو كشفت ما أنا مضمر
من الأمر ما سميتني أبدا باسمي
أطهر جسمي شاتيا ومقيظا
وقلبي أولى بالطهارة من جسمي
وقال في كنيته:
عرفتك جيدا يا أم دفر
وما إن زلت ظالمة فزولي
دعيت أبا العلاء وذاك مين
ولكن الصحيح أبو النزول
يقول ذلك جريا على عادته في الخمول والتواضع.
وقد خلط بعض العصريين بين أبي العلاء المعري وأبي العلاء صاعد اللغوي؛ لاتفاقهما في الكنية، واشتهار كليهما باللغة، فنسب للمعري كتابا اسمه الفصوص في قصة ساقها، وإنما هو لصاعد، وسيأتي تفصيل ذلك في فصل مؤلفاته.
فصل في بيته
كان أبو العلاء من بيت علم وقضاء، ورياسة وثراء. تولى جماعة من أهله قضاء المعرة وغيرها، ونبغ منهم قبله وبعده كثيرون راسوا وساسوا، وكان فيهم العالم والكاتب والشاعر. ولأهل المعرة اعتقاد كبير فيهم، ولواذ بهم، وفزع إليهم في أمورهم. وذكروا أن كمال الدين بن العديم عقد فصلا لتراجمهم وأخبارهم في كتابه: «دفع التحري عن أبي العلاء المعري»، إلا أني لم أظفر بهذا الكتاب مع كثرة بحثي وتنقيبي عنه، فاعتمدت في أكثر ما أذكره هنا على ما في «إرشاد الأريب» لياقوت، و«الكوكب الثاقب» لعبد القادر بن عبد الرحمن السلوي، وتركت كثيرا منهم لعدم تحققي من صحة أنسابهم وألقابهم، بسبب تحريف النسخ.
فمنهم: «جده الأدنى سليمان بن محمد أو أحمد»، الشهير بقاضي المعرة، وولي أيضا القضاء بحمص، وبها مات سنة 290ه، وكان أبوه شاعرا. «عمه أبو بكر محمد بن سليمان» ولي القضاء بعد أبيه، وفيه يقول الصنوبري:
بأبي يا ابن سليما
ن لقد سدت تنوخا
وهم السادة شبا
نا لعمري وشيوخا
أدرك البغية من أض
حى بناديك منيخا
واردا عندك نيلا
وفراتا وبليخا
1
واجدا منك متى استص
رخ للمجد صريخا
في زمان غادر الهما
ت في الناس مسوخا «أبوه عبد الله بن سليمان» ولي القضاء بعد أخيه محمد بن سليمان، وتوفي بحمص سنة 377ه، ومن شعره في رثاء والده:
إن كان أصبح من أهواه مطرحا
بباب حمص فما حزني بمطرح
لو بان أيسر ما أخفيه من جزع
لمات أكثر أعدائي من الفرح
ورثى أبو العلاء والده بقصيدة نونية أولها:
نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن
فما جادني إلا عبوس من الدجن
وسنورد مختارها عند الكلام على منظومه. «أخوه أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان»، كان أسن من أبي العلاء، ومن شعره في الزهد:
كرم المهيمن منتهى أملي
لا نيتي أجر ولا عملي
يا مفضلا جلت فواضله
عن بغيتي حتى انتهى أجلي
كم قد أفضت علي من نعم
كم قد سترت علي من زلل
إن لم يكن لي ما ألوذ به
يوم الحساب فإن عفوك لي «أخوه أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان»، كان شاعرا كأبيه وأخويه أبي المجد وأبي العلاء، ومن شعره:
قالوا نراه سلا لأن جفونه
ضنت عشية بيننا بدموعها
ومن العجائب أن تفيض مدامع
نار الغرام تشب في ينبوعها
وله في الشمعة:
وذات لون كلوني في تغيره
وأدمع كدموعي في تحدرها
سهرت ليلي وباتت لي مسهرة
كأن ناظرها في قلب مسهرها
قلت: ومهما قيل في الشمعة، فليس لقصيدة القاضي ناصح الدين الأرجاني ضريب في هذا الباب، فقد بذ بها من تقدمه وأعيا من بعده؛ إذ يقول:
نمت بأسرار ليل كاد يخفيها
وأطلعت قلبها للناس من فيها
سفيهة لم يزل طول اللسان لها
في الحي يجني عليها ضرب هاديها
غريقة في دموع وهي تحرقها
أنفاسها بدوام من تلظيها
تنفست نفس المهجورة ادكرت
عهد الخليط فبات الوجد يبكيها
يخشى عليها الردى مهما ألم بها
نسيم ريح إذا وافى يحييها
كأنها غرة قد سال شارخها
في وجه دهماء يزهاها تجليها
أو ضرة خلقت للشمس حاسدة
فكلما حجبت قامت تحاكيها
لها غرائب تبدو من محاسنها
إذا تفكرت يوما في معانيها
فالوجنة الورد إلا في تناولها
والقامة الغصن إلا في تثنيها
صفر غلائلها حمر عمائمها
سود ذوائبها بيض لياليها
تحيي الليالي نورا وهي تقتلها
بئس الجزاء لعمر الله تجزيها
ولولا خوف الإطالة لذكرتها بتمامها لغرابتها.
وأتى بعد أبي العلاء جماعة ذكر منهم ياقوت ثمانية أسماء، وأضرب عن ذكر غيرهم اختصارا، وغالبهم تولوا القضاء بالمعرة، وكفر طاب، وحماة. ومنهم من تولى ديوان الإنشاء.
وإنما تركت ذكرهم لما قدمت من تحريف أسمائهم في النسخة.
هوامش
فصل في مولده ووفاته وحليته
ولد يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة 363. وعمي بالجدري أول سنة 367. غشى يمنى عينيه بياض، وذهبت اليسرى جملة. وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر؛ لأنهم ألبسوني حين جدرت ثوبا معصفرا، لا أعقل غير ذلك. وقال في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة: «وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الإبصار كليل، قضي علي وأنا ابن أربع، لا أفرق بين البازل
1
والربع».
2
فلا وجه إذا لمن زعم أنه ولد أكمه.
وحكى السلفي عن أبي محمد الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره، فرآه قاعدا على سجادة لبد وهو شيخ. قال: فدعاني ومسح على رأسي، وكنت صبيا، وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه إحداهما بارزة والأخرى غائرة جدا، وهو مجدر الوجه، نحيف الجسم.
ونقل الثعالبي عن المصيصي الشاعر، قال: رأيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت أعمى شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء. وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر. انتهى.
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته الكبرى المسماة بالحقيقة والمجاز، في رحلة الشام ومصر والحجاز، عند كلامه على القدس وما فيها: «ودخلنا إلى المدرسة المسماة بالفخرية، وهي في غاية من الحسن والإتقان، وكمال البهاء وجمال البنيان، وفيها جملة من الكتب. ورأينا فيها ديوان أبي العلاء المعري وشرحه، ورأينا هناك مكتوبا له هذين البيتين، وهما قوله:
قالوا العمى منظر قبيح
قلت بفقدي لكم يهون
والله ما في الأنام شيء
تأسى على فقده العيون
ويناسبه قوله أيضا:
أبا العلاء يا ابن سليمانا
إن العمى أولاك إحسانا
لو أبصرت عيناك هذا الورى
ما أبصرت عيناك إنسانا
انتهى كلام الشيخ. والبيتان الأولان اختلفوا في قائلهما، فنسبهما الصفدي في شرح لامية العجم (ج2، ص384) لأبي العلاء كما ذكر الشيخ، ولكن روايته: «ما في الوجود» بدل «ما في الأنام».
ونسبهما الشريشي في شرح المقامات لبشار بن برد، وروايته : «ما في البلاد»، ونسبهما الوطواط «في الغرر والعرر ص161» لأبي العيناء، وروايته: «والله ما في الأنام حر»، والله أعلم.
والبيتان الآخران لم أجدهما في شعر أبي العلاء، ولعلهما من شعره المفقود. فإن قيل: كيف كان يحمد الله على العمى، وهو القائل في عكسه يتمنى الإبصار:
فليت الليالي سامحتني بناظر
يراك ومن لي بالضحى في الأصائل
فلو أن عيني متعتها بنظرة
إليك الأماني ما حلمت بغائل
قلنا: ليس هذا من التناقض في شيء، ولكل مقام مقال؛ لأنه أبان في الأول عن مذهبه ورأيه في الوجود، وجرى في الثاني على طريقة الشعراء في مدائحهم؛ إذ كان المقام يقتضيه. ومن هذا تعلم فرق ما بين شعريه في سقط الزند واللزوميات، لاختلاف المقامين وتباين الوجهتين. وإن صحت نسبة البيتين السابقين لأبي العيناء كما ذكر الوطواط، فقد جرى على مثل هذا أيضا في قوله للمتوكل وقد سأله عن أصعب ما مر عليه في فقد بصره، فقال له: فقدي لرؤيتك يا أمير المؤمنين.
ومن قول أبي العلاء في عماه، وهو مما رواه له الصفدي:
سواد العين زار سواد قلبي
ليتفقا على فهم الأمور
يشير بذلك إلى أن العميان عوضوا عن البصر الذكاء وسرعة الحفظ. وقريب منه ما ينسب لسيدنا عبد الله بن عباس، وكان أصيب في بصره في آخر عمره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما
ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل
وفي فمي صارم بالقول مشهور
وغاية الغايات في هذا الباب قول بشار بن برد فيمن عيره بالعمى، وإن كان من غير هذا المعنى:
وعيرني الأعداء والعيب فيهم
وليس بعار أن يقال ضرير
إذا أبصر المرء المروءة والتقى
فإن عمى العينين ليس يضير
رأيت العمى أجرا وذخرا وعصمة
وإني إلى تلك الثلاث فقير
ومن طرائف أبي العلاء أنه لما فرغ من تصنيف كتابه اللامع العزيزي في شرح ديوان المتنبي، وقرئ عليه، أخذ الجماعة في وصفه، فقال: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وكان أبو حزم مكي بن ريان المقري الضرير الملقب بصائن الدين يتعصب لأبي العلاء، ويطرب إذا قرئ عليه شعره للجامع بينهما من العمى والأدب، فسلك مسلكه في النظم. كذا ذكر ابن خلكان نقلا عن ابن المستوفي.
وتوفي - رحمه الله - يوم الجمعة، ثالث، وقيل ثاني، وقيل ثالث عشر ربيع الأول، سنة 449 بالمعرة، في خلافة القائم العباسي، وله من العمر نحو ست وثمانين سنة، ومرض ثلاثة أيام، ولم يكن عنده غير بني عمه، فقال لهم في اليوم الثالث: اكتبوا عني. فتناولوا الدوي والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال لهم القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت. فمات من غده، ودفن في ساحة من دور أهله. قال القفطي: أتيت قبره سنة خمسين وست مئة، فإذا هو في ساحة من دور أهله وعليه باب، فدخلت فإذا القبر لا احتفال به، ورأيت عليه خبازى يابسة، والموضع على غاية ما يكون من الشعث والإهمال. وقال الذهبي: وقد رأيت قبره بعد مئة سنة من رؤية القفطي، فرأيت نحوا مما حكى. انتهى. ويقال إنه أوصى أن يكتب عليه:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
ونقل الصفدي عن خط علاء الدين الوداعي، قال: زرت قبره بالمعرة - رحمه الله تعالى - في ربيع الأول سنة تسع وسبعين وست مئة، ولم أر عليه شيئا من ذلك، وقد دثر ولصق بالأرض، وعملت هذين البيتين:
قد زرت قبر أبي العلاء المرتضى
لما أتيت معرة النعمان
وسألت من غفر الخطايا أنه
يهدي إليه رسالة الغفران
قلت: وقبره معروف إلى اليوم، أي سنة 1327 بالمعرة، ولأهلها اعتقاد كبير فيه، ويزعمون أن الماء إذا بيت في قارورة عند قبره، وشربه في الغد صبي به حبسة في لسانه، أو بلادة في ذهنه، زال ذلك عنه ببركة أبي العلاء.
ونقل ياقوت في «إرشاد الأريب» عن ابن الهبارية، أن السبب في وفاة أبي العلاء مكاتبات جرت بينه وبين أبي نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر، دعت إلى الأمر بإحضاره إلى حلب، ووعده على الإسلام خيرا من بيت المال، فلما علم أنه يحمل للقتل أو الإسلام سم نفسه فمات. قال ياقوت: وقد ظفرت بتلك الرسائل، فلم أجد بها ما يدل على ما ذهب إليه ابن الهبارية. انتهى. وأقول: هذه الرسائل هي التي لخصها ياقوت في كتابه المذكور، وقد ظفرت بها أنا أيضا، وهي عندي تامة في نسخة مخطوطة، وليس فيها شيء من ذلك. وبعد فأي إسلام كان يريده منه داعي الدعاة، وهو رئيس الباطنية في الدولة الفاطمية، والداعي إلى مذهبهم، ونحلة القوم معروفة لا تحتاج لبيان. ومن راجع دعواتهم في خطط المقريزي علم كيف كانوا يأخذون الداخل في مذهبهم بتشكيكه في دينه أولا، ثم الخروج به رويدا رويدا من الإسلام، حتى ينتهوا به إلى الإلحاد. فهل كان ما عليه هؤلاء القوم هو الإسلام في نظر ابن الهبارية حتى يتبجح بهذه الدعوى؟
وكان - رحمه الله - قصير القامة، نحيف الجسم ضعيفه، مشوه الوجه بآثار الجدري، ومني في آخر عمره بالإقعاد، ولما مات ختم عند قبره في أسبوع واحد مئة ختمة، وفي رواية: مئتان، واجتمع عليه خلق كثير، وأنشد أربعة وثمانون شاعرا مراثيهم فيه. منها قصيدة طويلة لتلميذه علي بن همام، يقول فيها:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة
فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سيرت ذكرك في البلاد كأنه
مسك تضمخ منه سمعا أو فما
وترى الحجيج إذا أداروا ليلة
ذكراك أوجب فدية من أحرما
قال ياقوت: كأنه يقول إن ذكرك طيب، والطيب لا يحل للمحرم، فتجب عليه فدية. ورثاه أبو الرضى عبد الرحمن بن نوت المعري بقصيدة نذكر منها ما وقفنا عليه في «الكوكب الثاقب» لعبد القادر السلوي، وهو:
سمر الرماح وبيض الهند تشتور
في أخذ ثأرك والأقدار تعتذر
والدهر فاقد أهل العلم قاطبة
كأنهم بك في ذا القبر قد قبروا
فهل ترى بك دار العلم عالمة
أن قد تزعزع منها الركن والحجر
والعلم بعدك غمد فات منصله
والفهم بعدك قوس ما له وتر
ورثاه الأمير أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة المعري بقوله:
العلم بعد أبي العلاء مضيع
والأرض خالية الجوانب بلقع
أودى وقد ملأ البلاد غرائبا
تسري كما تسري النجوم الطلع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى
أن الثرى فيه الكواكب تودع
جبل ظننت وقد تزعزع ركنه
أن الجبال الراسيات تزعزع
وعجبت أن تسع المعرة قبره
ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع
لو فاضت المهجات يوم وفاته
ما استكثرت فيه فكيف الأدمع
تتصرم الدنيا وتأتي بعده
أمم وأنت بمثله لا تسمع
لا تجمع المال العتيد وجد به
من قبل تركك كل شيء تجمع
وإن استطعت فسره بسيرة أحمد
تأمن خديعة من يغر ويخدع
رفض الحياة ومات قبل مماته
متطوعا بأبر ما يتطوع
عين تسهد للعفاف وللتقى
أبدا وقلب للمهيمن يخشع
شيم تجمله فهن بلحده
تاج ولكن بالثناء يرصع
جادت ثراك أبا العلاء غمامة
كندى يديك ومزنة لا تقلع
ما ضيع الباكي عليك دموعه
إن الدموع على سواك تضيع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى
للعلم بابا بعد بابك يقرع
مات النهى وتعطلت أسبابه
وقضى التأدب والمكارم أجمع
هوامش
فصل في نشأته وطلبه العلم ورحلته
نشأ بالمعرة، وأخذ النحو واللغة عن أبيه، وعن محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وحدث عن أبيه وجده. ثم رحل إلى بغداد، فسمع من عبد السلام بن الحسين البصري. هكذا ذكر السيوطي في بغية الوعاة، قال: وقد أسندنا حديثه في الطبقات الكبرى، وله ذكر في جمع الجوامع. وذكر غيره أن أبا العلاء لما قدم بغداد، قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي ليأخذ عنه، فلما أراد الدخول عليه، قال الربعي: ليدخل الإصطبل! فخرج مغضبا ولم يعد إليه. والإصطبل بلغة أهل الشام: الأعمى. قلت: وهي لفظة معربة، ذكرها الخفاجي في شفاء الغليل، قال: ولذا قال ابن عباد: جروا الإصطبل في قصته مع المعري. ولعل الخفاجي أراد المرتضى، ووهم فذكر ابن عباد. وستأتي القصة.
وذكر أبو الفداء أنه دخل بغداد واستفاد من علمائها، ولم يتلمذ لأحد أصلا، وهو يخالف ما ذكره السيوطي وابن خلكان وغيرهما. وكان قد رحل أولا إلى طرابلس، وبها خزائن كتب موقوفة؛ فأخذ منها ما أخذ من العلم، ثم رحل إلى بغداد سنة 398 فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة وأقام بها إلى وفاته. وقول ابن خلكان إنه دخل بغداد سنة 398، ودخلها ثانية سنة 399، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، لا يستقيم مع ما سيرد عليك في فصل مؤلفاته، من تصريحه عن نفسه أن رجوعه إلى المعرة ولزومه منزله كان سنة 400.
وقبل قدومه إلى المعرة بمدة يسيرة ماتت أمه، وأصيب في مال له، فرثاها بقصيدة ميمية طويلة، وأخرى بائية، وكتب إلى بغداد يخاطب صديقه وتلميذه القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي بقصيدة ضمنها أغراضا يقول فيها معتذرا عن مفارقته العراق:
أثارني عنكم أمران: والدة
لم ألقها، وثراء عاد مسفوتا
1
أحياهما الله عصر البين ثم قضى
قبل الإياب إلى الذخرين أن موتا
لولا رجاء لقائيها لما تبعت
عنسي دليلا كسر الغمد إصليتا
2
ولا صحبت ذئاب الإنس
3
طاوية
تراقب الجدى في الخضراء مسبوتا
4
ولما استقر بالمعرة لزم داره، وشرع في التصنيف والإفادة، وأخذ عنه الناس، وقصده الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، وسمى نفسه: «رهن المحبسين»، يعني: حبس نفسه في المنزل، وحبس بصره بالعمى.
وما فتئ وهو بعيد عن بلده، يحن إليه ويشتاقه، ويذكره في شعره، وفيه يقول:
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا
شجا ركبا وأفراسا وإبلا
وزاد فكاد أن يشجو الرحالا
بها كانت جيادهم مهارى
وهم مردا وبزلهم فصالا
وقال:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليل
فهل فيك من ماء المعرة قطرة
تغيث بها ظمآن ليس بسال
وقال أيضا:
متى سألت بغداد عني وأهلها
فإني عن أهل العواصم سآل
وماء بلادي كان أنجع مشربا
ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال
على أنه لما أزمع الرحلة من بغداد، عز عليه فراقها، وفراق أودائه فيها، فقال من قصيدة يجيب بها أبا علي النهاوندي:
وردنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وزلنا بالغليل وما اشتفينا
وغاية كل شيء أن يزولا
ونظم في توديعها قصيدة يقول فيها:
أودعكم يا آل بغداد والحشا
على زفرات ما ينين من اللذع
وداع ضن
5
لم يستقل وإنما
تحامل من بعد العثار على ظلع
فبئس البديل الشام منكم وأهله
على أنهم قومي وبينهم ربعي
ألا زودوني شربة ولو أنني
قدرت إذا أفنيت دجلة بالجرع
وأنى لنا من ماء دجلة نغبة
على الخمس من بعد المفاوز والربع
وقال من أخرى:
لقد نصحتني في المقام بأرضكم
رجال ولكن رب نصح مضيع
فلا كان سيري عنكم رأي ملحد
يقول بيأس من معاد ومرجع
أي: لا كان سيري عنكم ذهابا بلا إياب. أخرجه مخرج الدعاء.
هوامش
فصل في تلاميذه
قرأ على أبي العلاء ببغداد والمعرة كثيرون، واشتهر جماعة منهم بالاختصاص به، والانتساب إليه في العلم؛ كأبي المكارم عبد الوارث بن محمد الأبهري، وأبي تمام غالب بن عيسى الأنصاري، والخليل بن عبد الجبار القزويني، ومحمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، وغيرهم. وممن روى عنه: القاضي أبو القاسم علي بن القاضي المحسن بن القاضي التنوخي، وكان من أقرانه، أخذ عنه وهو ببغداد، وصحبه، واتصلت صحبته بالتبريزي بسبب أبي العلاء. ولد القاضي المذكور سنة 365 بالبصرة، كما في «وفيات الأعيان» لابن خلكان، أو في سنة 355 كما في «فوات الوفيات» لابن شاكر، والأول أصح. وتوفي سنة 447، قبل وفاة أبي العلاء بنحو سنتين. وكان صدوقا في حديثه، وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، ولم يزل على ذلك مقبولا إلى آخر عمره، وتولى قضاء عدة نواح، منها المدائن وأعمالها، وأذربيجان والبردان وغير ذلك. وكانت فيه دعابة؛ يروى أن إسكافا اجتاز بداره وهو نائم، فصاح شراك النعال وأزعجه بصياحه، فقال لغلامه: اجمع كل نعل في الدار وأعطها لهذا يصلحها ويشتغل بها، ثم نام واشتغل الإسكاف بإصلاحها إلى آخر النهار، فلما كان في اليوم الثاني فعل كذلك، ولم يدعه ينام، فقال للغلام: أدخله، فلما دخل قال له: أمس أصلحت كل نعل عندنا، واليوم تصيح على بابنا، هل بلغك أننا نتصافع بالنعال ونقطعها؛ يا غلام، قفاه.
وسمع امرأة تقول لأخرى: كم عمر ابنتك؟ فقالت: رزقتها يوم صفع القاضي وضرب بالسياط، فقال لها: أصار صفعي تاريخا لك، ما وجدت تاريخا غيرها؟
وممن قرأ على أبي العلاء، وهو ببغداد: الأديب المشهور بابن فورجة البروجردي؛ ذكر ذلك السيوطي. وهو صاحب «الفتح على أبي الفتح»، و«التجني على ابن جني»، يرد فيهما على ابن جني في شرح شعر المتنبي. واختلفوا في اسمه، فقيل: محمد بن حمد، وسماه مجد الدين الشيرازي في كتابه «البلغة في أئمة اللغة»: حمد بن محمد، ومن شعره:
أيها القاتلي بعينيه رفقا
إنما يستحق ذا من قلاكا
أكثر اللائمون فيك عتابي
أنا واللائمون فيك فداكا
إن لي غيرة عليك من اسمي
إنه دائما يقبل فاكا
قال السيوطي: هذا الشعر يؤيد أن اسمه حمد. واختلفوا أيضا في اسم جده فورجة؛ فقال السيوطي: بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المهملة وفتح الجيم. وقال ابن شاكر في «فوات الوفيات»: «فوزجة» بالفاء المضمومة، وبعد الواو والزاي جيم مشددة. وفي النسخ خلط في ميلاده ووفاته.
وأشهر تلاميذ أبي العلاء: أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، صاحب المصنفات النفيسة، كشرح الحماسة والمعلقات، وتهذيب ألفاظ ابن السكيت، وغيرها. ولد سنة 421، وتوفي فجأة ببغداد سنة 502، ودخل مصر في عنفوان شبابه، ثم استوطن بغداد، ودرس الأدب بالنظامية، وكان إماما في اللغة ثقة فيها، إلا أنه كان مستهترا بالشراب. وكان سبب رحلته إلى أبي العلاء أنه تحصل على نسخة من كتاب «التهذيب» للأزهري في اللغة في عدة مجلدات، وأراد تحقيق ما فيها، وأخذها عن رجل عالم باللغة، فدلوه على أبي العلاء، فجعل الكتب في مخلاة، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوبا، فنفذ العرق من ظهره إليها، فأثر فيها. وكانت ببعض الوقوف ببغداد، إذا رآها من لا يعرف صورة الحال ظن أنها غريقة، وليس بها سوى عرق التبريزي.
وقال العلامة عبد الهادي نجا الأبياري من شيوخ هذا العصر المتوفى سنة 1305، في كتابه «القصر المبني على حواشي المغني» عند كلامه على أبي العلاء المعري: «ومما يدل على فضله، أن الخطيب أبا زكريا يحيي التبريزي قرأ الأدب عليه ورحل إليه من تبريز، وسيدي عبد القادر الجيلاني قرأ الأدب على التبريزي هذا، فالشيخ شيخ شيخ الجيلاني، والله أعلم».
قلت: والذي قاله الشيخ من قراءة الجيلاني الأدب على التبريزي صحيح؛ ذكره ابن شاكر في ترجمة الجيلاني من «فوات الوفيات».
فصل في مبلغ علمه وذكائه
اتفق محبوه ومبغضوه على أنه كان وافر البضاعة من العلم، غزير المادة في الأدب، إماما فيه، حاذقا بالنحو والصرف، نسيج وحده في الذكاء والفهم وقوة الحافظة. أما اللغة وحفظ شواهدها وتقييد أوابدها، فقد كان فيها أعجوبة من العجائب. وحسبك أنهم إذا عددوا من رزقوا السعادة في أشياء، لم يأت بعدهم من نالها - عدوا أبا العلاء ممن تفرد بسعة الاطلاع على اللغة. وكلامه الذي أورده في رسالة الغفران في بيتي النمر بن تولب، وتغييره القوافي، وتنزيلها على سائر حروف المعجم خلا حرف الطاء - يدل على اطلاع كبير، وتمكن من اللغة والأدب، قل أن يتفق نظيره لشخص. وخلاصة ما ذكره أن خلفا الأحمر تذاكر يوما مع أصحابه في قوله النمر:
ألم بصحبتي وهم هجوع
خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلا مصفى
إذا شاءت وحوارى بسمن
فقال لهم: لو كان موضع أم حصن، أم حفص؛ ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حوارى بلمص، يعني الفالوذج. والحوارى: الدقيق الأبيض وهو اللباب. فغير أبو العلاء قوافي البيتين على حروف المعجم، وربما أتى في الحرف بالقافيتين والثلاث، ولا يتفق هذا إلا لمن رزق حظا وافرا من الاطلاع. والمسألة مبسوطة في الرسالة، فارجع إليها إن شئت لتعلم صحة ما قلناه.
وذكر غير واحد من اللغويين أن أبا العلاء لما دخل بغداد، اعترضوا عليه في حلقة ابن المحسن، لقوله:
ويوشع رد يوحى بعض يوم
وأنت متى سفرت رددت يوحا
ويوح ويوحى - بضمهما - من أسماء الشمس. فقالوا له: صحفت، إنما هو «بوح» بالباء الموحدة. واحتجوا عليه بكتاب الألفاظ لابن السكيت. فقال لهم: هذه النسخ التي بأيديكم غيرها شيوخكم، ولكن أخرجوا ما في دار العلم من النسخ العتيقة. فأخرجوها فوجدوها مقيدة كما قال.
واحتج به ياقوت في معجم البلدان في تصحيح لفظة الضراح ردا على من قال إنها بالصاد المهملة. فقال: ألا ترى إلى أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري، كيف جمع بين الضراح والضريح إرادة للتجنيس والطباق، فقال:
لقد بلغ الضراح وساكنيه
نثاك وزار من سكن الضريحا
والنثا مقصورا وبتقديم النون على الثاء: الخبر. ومن غريب ما يروونه عنه في ذلك أنه دخل على الشريف أبي القاسم المرتضى أخي الشريف الرضى؛ وهو ببغداد، فعثر برجل فقال: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما. وسمعه المرتضى فأدناه واختبره، فوجده عالما مشبعا بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه إقبالا كثيرا. قلت: ومن هذا هرب جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، فجمع أكثر من ستين اسما للكلب، ونظمها في أرجوزة سماها: «التبري من معرة المعري»، رأيت أن أوردها هنا إتماما للفائدة لعزة وجودها، ثم أعقبها بشرح يميط اللثام عن الأسماء الواردة فيها، وأتبعه بما استدركته على الناظم من أسماء الكلب، وهي:
لله حمد دائم الولي
ثم صلاته على النبي
قد نقل الثقات عن أبي العلا
لما أتى للمرتضى ودخلا
قال له شخص به قد عثرا:
من ذلك الكلب الذي ما أبصرا
فقال في جوابه قولا جلي
معيرا لذلك المجهل
الكلب من لم يدر من أسمائه
سبعين موميا إلى علائه
وقد تتبعت دواوين اللغه
لعلني أجمع من ذا مبلغه
فجئت منها عددا كثيرا
وأرتجي فيما بقي تيسيرا
وقد نظمت ذاك في هذا الرجز
ليستفيدها الذي عنها عجز
فسمه هديت بالتبري
يا صاح من معرة المعري (1) من ذلك الباقع ثم الوازع
والكلب والأبقع ثم الزارع (2) والخيطل السحام ثم الأسد
والعربج العجوز ثم الأعقد (3) والأعنق الدرباس والعملس
والقطرب الفرني ثم الفلحس (4) والثغم الطلق مع العواء
بالمد والقصر على السواء (5) وعد من أسمائه البصير
وفيه لغز قاله خبير (6) والعرب قد سموه قدما في النفير
داعي الضمير ثم هانئ الضمير (7) وهكذا سموه داعي الكرم
مشيد الذكر متمم النعم (8) وثمثم وكالب وهبلع
ومنذر وأهوج وهجرع (9) ثم كسيب علم المذكر
منه عن الهمزة واللام عري (10) والقلطي والسلوقي نسبه
كذاك النصيبي بذاك أشبه (11) والمستطير هائج الكلاب
كذا رواه صاحب العباب (12) والدرص والجرو مثلث الفا
لولد الكلب أسام تلفى (13) والسمع فيما قاله الصولي
وهو أبو خالد المكني (14) ونقلوا الزاهدون للكلاب
وكلبة قيل لها أيضا كساب (15) مثل قطام علما مبنيا
وكسبة كذاك نقلا ريا (16) وخذ لها العولق والمعاويه
ولعوة وكن لذاك راويه (17) وولد الكلب من الذئبة سم
عسبورة وإن تزل ها لم تلم (18) وألحقوا بذلك الخيهفعى
وإن تمد فهو جاء سمعا (19) وولد الكلبة من ذئب سمي
وثعلب فيما رووا بالديسم (20) ثم كلاب الماء بالهرا كله
تدعى وقس فردا على ما شاكله (21) كذاك كلب الماء يدعى القندسا
فيما روى ابن دحية قد انتسى (22) وكلبة الماء هي القضاعه
جميع ذاك أثبتوا سماعه (23) وعددوا من جنسه ابن آوى
ومن سماه دأل قد ساوى
ودئل ودؤل والدألان
وافتح وضم معجما للذألان
كذلك العلوض ثم النوفل
واللعوض السرحوب فيما نقلوا
والوع والعلوش ثم الوعوع
والشغبر الوأواء فيما يسمع
هذا الذي من كتب جمعته
وما بدا من بعد ذا ألحقته
والحمد لله لها ختام
ثم على نبيه السلام
تمت الأرجوزة. ولنشرع في شرحها معتمدين على ما دونوه في كتب اللغة والأمثال والحيوان، وقد وضعنا أرقاما للأبيات يرجع إليها في هذا الشرح، فنقول: (1) الباقع والأبقع من الكلاب الذي خالط بياضه لون آخر، والبقع في الطير والكلاب بمنزلة البلق في الدواب، وقول الأخطل:
كلوا الضب وابن العير والباقع الذي
يبيت يعس الليل بين المقابر
قيل أراد الكلب، وقيل غير ذلك، والعرب تقول: لا خير في بقع الكلاب. وترى التبقيع هجنة فيها، وخير الكلاب عندها ما كان لونه يذهب إلى لون الأسد، وخير كلاب الصيد البيض. وفي المخصص: البقع بياض في صدر الكلب الأسود، وهي البقعة، وكلب أبقع والجمع بقعان. والوازع الكلب لأنه يزع الذئب عن الغنم ، أي يكفه، ويقال له ابن وازع أيضا. والكلب كل سبع عقور، ثم غلب على هذا النابح، كما في القاموس. وقال شارحه: قال شيخنا: بل صار حقيقة لغوية فيه لا تحتمل غيره، ولذلك قال الجوهري وغيره: هو معروف، ولم يحتاجوا لتعريفه لشهرته. انتهى. وهو من الأسماء التي تسمت بها العرب؛ فمن مشهوريهم في ذلك: كليب بن ربيعة من بني تغلب بن وائل، وهو الذي ضربوا به المثل، فقالوا: أعز من كليب وائل، وقامت الحرب بسببه بين بكر وتغلب. وكان اسمه في الأصل وائلا، وإنما سموه كليبا؛ لأنه بلغ من عزه أنه كان يحمي الكلأ فلا يقرب حماه، ويجير الصيد فلا يهاج. وكان إذا مر بروضة أعجبته، أو غدير ارتضاه، كنع كليبا ثم رمى به هناك، فحيث بلغ عواؤه كان حمى لا يرعى، فلما حمى كليبه المرمي الكلأ قيل: أعز من كليب وائل. ثم غلب هذا الاسم عليه حتى ظنوه اسمه؛ كذا في مجمع الأمثال للميداني. وقوله: كنع، هو بمعنى بضع وكوع، أي ضربه فصيره معوج الأكواع. ومنهم كليب بن حبشية بن سلول في خزاعة. وكلب بن عمرو بن لؤي في بجيلة. وبنو كلب، وبنو أكلب، وبنو كلبة، وبنو كلاب، قبائل معروفة، منها في قريش كلاب بن مرة، وفي هوازن كلاب بن ربيعة بن صعصعة. أما ذو الكلب فهو عمرو بن العجلان أحد شعراء هذيل، لقب به لأنه كان له كلب لا يفارقه. وعائد الكلب هو عبد الله بن مصعب، كان واليا للرشيد على المدينة، لقب بذلك لقوله:
ما لي مرضت فلم يعدني عائد
منكم ويمرض كلبكم فأعود
وهو أحد من نطقوا في الشعر بكلمات غلبت شهرتها عليهم، فلقبوا بها، وربما جمعت ما وقفت عليه من ذلك في رسالة مستقلة. والسبب الذي دعا العرب إلى تسمية أبنائها بمثل هذه الأسماء المستكرهة كالكلب والذئب والحجر والصخر، هو ما ذكره الراغب وغيره أن أعرابيا سئل: لم سموا أبناءهم بالأسماء القبيحة، وعبيدهم بالحسنة؟ فقال: لأن أبناءهم لأعدائهم، وعبيدهم لأنفسهم. قلت : وقد فصل الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية مذاهب العرب في تسمية أبنائها تفصيلا ترتاح إليه النفس ويثلج به الفؤاد، فقال في آخر كتابه «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» عند الكلام على الفأل والطيرة، ما نصه: وكانت لهم مذاهب في تسمية أولادهم: فمنهم من سموه بأسماء تفاؤلا بالظفر على أعدائهم، نحو: غالب وغلاب ومالك وظالم وعارم ومنازل ومقاتل ومعارك ومسهر ومؤرق ومصبح وطارق. ومنهم من تفاءل بالسلام كتسميتهم بسالم وثابت ونحوه. ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ والسعادة: كسعد وسعيد وأسعد ومسعود وسعدي وغانم ونحو ذلك. ومنهم من قصد التسمية بأسماء السباع ترهيبا لأعدائهم، نحو: أسد وليث وذئب وضرغام وشبل ونحوها. ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن من الأجسام تفاؤلا بالقوة: كحجر وصخر وفهر وجندل. ومنهم من كان يخرج من منزله وامرأته تمخض، فيسمى ما تلده باسم أول ما يلقاه، كائنا ما كان، من سبع أو ثعلب أو ضب أو كلب أو ظبي أو حشيش أو غيره. انتهى المقصود منه.
وأما ما سمي بالكلب أو أضيف إليه من البقاع والسيوف والأنهار وغيرها، فقد تركنا ذكره طلبا للاختصار، ونقتصر منها على قرية بحلب تسمى جب الكلب، تعد من العجائب لاشتهارها ببئر فيها إذا شرب منها المكلوب قبل أن يأتي عليه أربعون يوما برأ. كذا ذكر صاحب القاموس في مادة «ج ب ب».
وقال ياقوت في معجمه: حدثني مالك هذه القرية ابن الإسكافي، وسألته عما يحكى عن هذا الجب وأن الذي نهشه الكلب الكلب إذا شرب منه برأ، فقال: هذا صحيح لا شك فيه. قال: وقد جاءنا منذ شهور ثلاث أنفس مكلوبين يسألون عن القرية، فدلوا عليها، فلما حصلوا في صحرائها اضطرب أحدهم وجعل يقول لمن معه: اربطوني لئلا يصل إلى أحدكم مني أذى، وذلك أنه كان قد تجاوز أربعين يوما منذ نهش، فربط، فلما وصل إلى الجب وشرب من مائه مات. وأما الآخران فلم يكونا بلغا أربعين يوما، فشربا من ماء الجب فبرآ. قال : وهذه عادته، إذا تجاوز المنهوش أربعين يوما لم تكن فيه حيلة. إلى أن قال: وهذه البئر هي بئر القرية التي يشرب منها أهلها. انتهى. قلت: ولا أدري ما فعل الله بالقرية والبئر، وإنما خصصتها بالذكر دون غيرها تنبيها لأطباء هذا العصر، لعلهم يتوفقون للبحث والتنقيب عنها، حتى إذا وجدوها امتحنوا ماءها، فربما كان فيه من الأملاح أو غيرها ما من خاصيته شفاء هذا المرض، وعسى ألا تأخذهم حمية جاهلية فيضربوا بهذا القول عرض الحائط بغير حجة سوى ما اعتادوه من احتقار أقوال علمائنا المتقدمين. فلولا تجربة هذا الماء وظهور نفعه في المصابين قبل أن يجاوزوا أربعين يوما، أي قبل استفحال الداء وتمكنه منهم، لما استفاض خبره، ونقله هؤلاء الأعلام، ولا فائدة لمثلهم في التواطؤ على الكذب في مثله.
والزارع، بتقديم الزاي على الراء: الكلب. وفي القاموس: زارع اسم كلب، ومنه قيل للكلاب: أولاد زارع، وفيه أيضا في مادة «ذرع» بالذال المعجمة: أولاد ذارع. وذراع بالكسر: الكلاب. وفي المخصص: قال علي بن حمزة: ابن زارع وابن ذراع وابن وازع: الكلب، وربما سمي وازعا أيضا. انتهى. (2) الخيطل بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة التحتية وفتح الطاء المهملة وبعدها لام: الكلب. والسحام بضم السين المهملة، وبعدها حاء مهملة، مأخوذ من السحمة وهي السواد، والذي يؤخذ من نصوص كتب اللغة أنه علم على كلب معين لا اسم جنس للكلاب. قال الجوهري: سحام اسم كلب، واستشهد بقول لبيد:
فتقصدت منها كساب فضرجت
بدم وغودر في المكر سحامها
ووافقه في ذلك شراح المعلقات، وهو ظاهر من سياق البيت. وفي لسان العرب: سحيم وسحام من أسماء الكلاب، ثم أنشد بيت لبيد. وذهب صاحب القاموس إلى أن صوابه بالمعجمة، قال: ووهم الجوهري. قلت: لا وهم؛ فقد ذكر بعض شراح المعلقات أنه يروى بهما، ووافقه الميداني في مجمع الأمثال عند تفسير قولهم: «هنيئا لسحام ما أكل»، فإنه أورد البيت ثم قال: ويروى سخامها بالخاء. وهذا المثل يضرب في الشماتة بهلاك العدو. وقول الزوزني في شرح المعلقات إنه اسم كلبة ، يخالف ما أجمعوا عليه من أنه اسم كلب ذكر، والله أعلم. والأسد لم أعثر في كتب اللغة على أنه يطلق على الكلب، وإنما الذي فيها أن الكلب من أسماء الأسد. والعربج بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الباء الموحدة وبعدها جيم: الكلب الضخم، كما في القاموس، أو كلب الصيد، كما في اللسان. والعجوز بفتح العين المهملة وضم الجيم وبعدهما واوا ساكنة وزاي: من أسماء الكلب. والأعقد بالعين المهملة، والقاف، والدال المهملة: الكلب؛ لانعقاد ذنبه، جعلوه اسما له معروفا، قال جرير:
تبول على القتاد بنات تيم
مع العقد النوابح في الديار
قالوا: ليس شيء أحب إلى الكلب من أن يبول على قتادة أو على شجيرة صغيرة غيرها. وروى الجاحظ في كتاب «الحيوان» لمساور بن هند يهجو قوما بأكل الكلاب:
إذا أسدية ولدت غلاما
فبشرها بلؤم في الغلام
يخرسها نساء بني دبير
بأخبث ما يكون من الطعام
ترى أظفار أعقد ملقيات
براثنها على وضم الثمام
يخرسها، أي يصنعن لها الخرسة، وهي طعام النفساء، ودبير بالتصغير أبو قبيلة من أسد، والوضم بالتحريك: ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير، والثمام نبت ضعيف لا يطول كانوا يفرشونه تحت الأساقي ونحوها، وربما حشوا به وسدوا خصاص البيوت. (3) الأعنق بالعين المهملة والنون والقاف: الكلب في عنقه بياض، ويقال للقلادة التي توضع في عنق الكلب: معنقة، وقد أعنقه إذا قلده إياها، ويقال لها أيضا الجدة بالكسر، وكذلك الأربة بالضم: قلادة الكلب التي يقاد بها.
والدرباس، بكسر الدال المهملة وسكون الراء وبعدهما باء موحدة وألف وسين مهملة: الكلب العقور. والعملس، بفتح العين المهملة والميم واللام المشددة، وبعدها سين مهملة: كلب الصيد كما في القاموس، أو الكلب الخبيث كما في اللسان. على أنه أنشد بعد ذلك قول الطرماح يصف كلاب الصيد:
يوزع بالأمراس كل عملس
من المطعمات الصيد غير الشواحن
وقال في تفسير يوزع: يكف، ورواه في مادة ودع: يودع، ثم قال: أي يقلدها ودع الأمراس.
والقطرب، بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء، وبعدها باء موحدة: الصغير من الكلاب. وفي المخصص: القطرب (أي بفتح القاف والراء) صغار الكلاب، زعموا أن الواحد قطرب، وليس هو جمع بل اسم للجمع. انتهى ملخصا.
والفرني، بضم الفاء وسكون الراء وبعدها نون وياء مشددة: الكلب الضخم، قال العجاج:
وطاح في المعركة الفرني
قال ابن بري: أراد الضخم من الكلاب، وقال غيره: إنما أراد الرجل الغليظ الضخم.
والفلحس، بفتح الفاء وسكون اللام وفتح الحاء المهملة وبعدها سين مهملة: الكلب. قال الجاحظ في كتاب الحيوان: ويقال للكلب فلحس، وهو من صفات الحرص والإلحاح، ويقال: فلان أسأل من فلحس. وفلحس رجل من شيبان كان حريصا رغيبا وملحفا ملحا، وكل طفيلي فهو عندهم فلحس. انتهى. قلت: وإنما سموا الكلب بذلك لأنه موصوف عندهم بالحرص والإلحاح، حتى قالوا في أمثالهم: «ألح من كلب». (4) الثغم: بفتح الثاء المثلثة وكسر الغين المعجمة وبعدها ميم: الكلب الضاري. والطلق بفتح الطاء المهملة وسكون اللام وبعدهما قاف: كلب الصيد.
والعواء بالعين المهملة وبالمد، ويقال أيضا بالقصر: الكلب يعوي كثيرا. وللوزير أبي الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الأشبيلي في فتى عضه كلب في خده:
وأغيد وضاح المباسم باسم
إذا قامر الأرواح ناظره قمر
تعمد كلب عض وجنته التي
هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر
فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم
وقد أثر العواء في صفحة القمر
هكذا رواها صاحب «نفح الطيب» في موضع من كتابه، منسوبة للوزير المذكور، وأعادها في موضع آخر منسوبة لأبي القاسم بن هشام، وروى المحاسن بدل المباسم، والأسياف بدل الأرواح. والله أعلم.
والصمات بالضم والصمت والصموت: السكوت، يشير بذلك إلى قولهم: لا يضر القمر نبح الكلاب. وأصل المثل: «لا يضر السحاب نبح الكلاب»؛ لأن كلاب البادية تتأذى بالمطر لمبيتها أبدا تحت السماء، فإذا أبصرت غيما نبحته؛ لأنها قد عرفت ما تلقى من مثله. وتنبح أيضا القمر؛ لأنه إذا طلع من المشرق يكون كقطعة غيم، ومنه قول بعضهم:
يا جابر بن عدي أنت مع زفر
كالكلب ينبح من بعد على القمر (5) البصير بفتح الباء الموحدة، وكسر الصاد المهملة، وبعدهما ياء ساكنة وراء مهملة، لم يذكره القاموس، وأنشد صاحب اللسان لتوبة:
وأشرف بالقور اليفاع لعلني
أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
ثم قال نقلا عن ابن سيده: يعني كلبها؛ لأن الكلب من أحد العيون بصرا. انتهى.
قلت: وقد جاء في أمثالهم: «أبصر من كلب». وقول الناظم: «وفيه لغز قاله خبير»، يريد بذلك قول الحريري في المقامة الثانية والثلاثين في فتاوى فقيه العرب: «قال: أيستباح ماء الضرير؟ قال: نعم، ويجتنب ماء البصير»، فالمتبادر أن الضرير هو الأعمى وهو لا يستباح ماؤه الذي يملكه بدون علمه. ومراد الشيخ به: حرف الوادي، وكذلك المتبادر في البصير أنه ضد الأعمى، وماؤه إذا أخذ للوضوء باطلاعه لا يجتنب، وإنما أراد به الكلب. هكذا فسره الحريري نفسه في المقامة. (6) هكذا رواية البيت في نسختين من الأصل، ولم يظهر لي وجه تسمية العرب للكلب في نفيرهم بداعي الضمير أو داعي الضميرة كما يفهم من سياقه، فلعل الكلام محرف، وقد دخل البيت التذييل، وهو من علل الزيادة، ودخوله في الرجز مغتفر للمولدين. (7) قوله: داعي الكرم، إنما سموه بذلك على ما يظهر؛ لأن نباح الكلب يبشرهم بقدوم الضيف، ويرشده إلى منزلهم، فيكون سببا للكرم وداعيا إليه. وقد كان الرجل من العرب إذا ضل وتحير في الليل، فلم يدر أين البيوت، أخرج صوته على مثل النباح، فتسمعه الكلاب وتظنه كلبا، فتنبح، فيستدل بنباحها ويهتدي إلى المكان. وهو الذي تسميه العرب بالمستنبح. وأنشد أبو علي القالي في أماليه:
ومبد لي الشحناء بيني وبينه
دعوت وقد طال السرى فدعاني
يعني كلبا، ويريد نبحت له فنبح فاهتديت به، فكأنه دعاني بنباحه، وأنشد أبو علي أيضا:
ومستنبح بات الصدى يستتيهه
فتاه وجوز الليل مضطرب الكسر
رفعت له نارا ثقوبا زنادها
تليح إلى الساري هلم إلى قدري
فلما أتى والبؤس رادف رحله
تلقيته مني بوجه امرئ بشر
فقلت له أهل بأهل فلم يجر
بك الليل إلا للجميل من الأمر
وكادت تطير الشول عرفان صوته
ولم تمس إلا وهي خائفة العقر
انتهى. وقد اتفق أكثر علماء الأدب، كابن رشيق وأضرابه، على أن أهجى بيت قالته العرب، قول الأخطل في بني يربوع قوم جرير:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
وقال آخر يوصي بالكلب، وأنشدهما الجرجاني في كناياته، وقال ابن المرزبان: إنهما لأعرابي قالهما لأكبر ولده في كلبه:
أوصيك خيرا به فإن له
خلائقا لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق اللي
ل إذا النار نام موقدها
وفي معنى «استنبح» أيضا: كلب الرجل يكلب من باب ضرب، واستكلب، أنشد ابن سيده على الأول:
وداع دعا بعد ما أقفرت
عليه البلاد ولم يكلب
وأنشد صاحب اللسان على الثاني:
ونبح الكلاب لمستكلب
انتهى.
قلت: وكما يكون الكلب سببا لإيصال الخير وتشييد الذكر، فقد يكون أيضا سببا للشر، كما جنت على أهلها براقش، وهي كلبة كانت لقوم من العرب، فأغير عليهم، فهربوا وهي معهم، فاستدل العدو عليهم بنباحها، فهجموا عليهم واصطلموهم، فقالوا: «على أهلها تجني براقش»، هكذا رواه الميداني في مجمع الأمثال. ورواه ابن سيده في المخصص، والجاحظ في كتاب الحيوان: «على أهلها دلت براقش». على أن نباح الكلب على الضيف، وإن جعلوه من دواعي الكرم، لما سبق ذكره، فقد رأيناهم يعدونه في نفسه من خصاله المذمومة؛ لأنه لا ينبح على القادم إلا كراهة منه في الغريب. ومن أحسن ما يروى في هذا الصدد نادرة أبي عبد الله محمد بن مرزوق عالم الغرب مع أهل تونس لما ورد عليهم وسألوه قراءة درس في التفسير بحضرة السلطان، فأجابهم إلى ذلك، وعينوا له محل البدء، فطالع فيه، فلما حضروا قرأ القارئ غير ذلك، وهو قوله تعالى:
فمثله كمثل الكلب ... الآية. وأرادوا بذلك إفحام الشيخ والتعريض به، فوجم هنيهة ثم تفجر بينابيع العلم، إلى أن أجرى ذكر ما في الكلب من الخصال المحمودة، وساقها أحسن مساق، وأنشد عليها الشواهد، وجلب الحكايات، حتى عد من ذلك جملة. ثم قال في آخرها: فهذا ما حضر من محمود أفعال الكلب وخصاله، غير أن فيه خصلة ذميمة، وهي إنكاره للضيف. انتهى.
وعندي أن ذمهم له بإنكاره الضيف لم يقصدوا به إلا معنى من المعاني الشعرية، وإلا فأي فائدة من الكلب أعظم من حراسته أهله، ودفعه عنهم؟! (8) الثمثم، بفتح الثاءين المثلثتين وسكون الميم الأولى: كلب الصيد. والكالب ليس اسما للكلب، بل هو والكليب كأمير: جماعة الكلاب. وفي اللسان: الكليب كالعبيد، جمع عزيز. وأنشد في وصف مفازة:
كأن تجاوب أصدائها
مكاء المكلب يدعو الكليبا
والمكلب بكسر اللام المشددة: معلم كلاب الصيد، ومكاؤه: صفيره. وقال شارح القاموس نقلا عن شيخه: إنهم اختلفوا في الكليب هل هو جمع أو اسم جمع، وصححوا أنه إذا ذكر كان اسم جمع كالحجيج، وإذا أنث كان جمعا كالعبيد. انتهى.
وهبلع كدرهم، أي بكسر الهاء وسكون الباء وفتح اللام وبعدها عين مهملة: الكلب السلوقي، واسم كلب بعينه. ومنذر كأنه من إنذار أهله لطارق. وأهوج لم يذكروه، وذكره الجاحظ على أنه الكلب في بيت أنشده في كتاب الحيوان. والهجرع بكسر الهاء وسكون الجيم وفتح الراء وبعدها عين مهملة: الكلب السلوقي الخفيف. (9) كسيب مصغرا: اسم كلب، كما في المخصص، وفي اللسان: كسيب من أسماء الكلاب، ومراده من الأعلام التي تسمى بها الكلاب، كما وضحه الناظم في البيت. وقد خصوه بذكور الكلاب كما خصوا كساب وكسبة بإناثها. وسيأتي قول الناظم فيهما، وإنما كانوا يسمون كلابهم بذلك تفاؤلا بالكسب والاكتساب. (10) القلطي، بفتح القاف واللام وكسر الطاء المهملة وبعدها ياء مشددة، والقلاط كغراب، والقيليط بكسر القاف واللام؛ كل ذلك القصير المجتمع من الناس والسنانير والكلاب، وقد جاء به أبو الشمقمق في قوله من أبيات:
جئته زائرا فأدنى مكاني
وتلقى بمرحب وتحيه
لا كمثل الأصم حارثة اللؤ
م شبيه الكليبة القلطيه
وفي حياة الحيوان أن القلطي نوع من الكلاب السلوقية صغير الجرم قصير القوائم، ويقال له: الصيني.
والسلوقي، بفتح السين المهملة، نسبة إلى سلوق، وهي أرض أو قرية باليمن، وذهب الجوهري إلى أنها مدينة بالشام، قال القطامي:
معهم ضوار من سلوق كأنها
حصن تجول تجرر الأرسانا
وفي معجم ياقوت نقلا عن ابن الحائك، وهو يذكر اليمن: سلوق كانت مدينة عظيمة بأرض الجديد ، واسم بقعتها اليوم حسل الزينة، إلى أن قال: وإليها كانت العرب تنسب الدروع السلوقية والكلاب السلوقية. انتهى. وقيل: سلوق بلد بطرف أرمينية يعرف ببلد اللان، وتنسب إليه الكلاب. وقيل: بل هي منسوبة إلى سلقية بفتحتين فسكون وياء مفتوحة مخففة: بلد بالروم، فلما نسبوا إليه قالوا: سلوقي، فغيروا النسب. وجاء في اللسان: سلوق أرض باليمن، وفي التهذيب: قرية باليمن، وهي بالرومية: سلقية. انتهى. فسلقية على هذا في اللغة الرومية هي سلوق التي باليمن. والله أعلم. أما علماء الحيوان من الإفرنج اليوم، فيقسمون السلوقي إلى عدة أنواع، لكل صقع نوع، واسمه في لغة الفرنسيس لڨريه (Lévrier) ، ويذهبون إلى أن أنواعه تفرعت من جنس أصلي كان في سهول غرب آسيا، ولهم في تعديدها كلام كثير ليس هذا موضعه. ورأيت في المعجم الكبير للاروس أن السلوقي (Sloughi)
الحقيقي يوجد في الأقاليم الهندية الغربية، وهو أصهب اللون.
والنصيبي بفتح النون وكسر الصاد المهملة، نسبة إلى نصيبين، ويقال في النسبة إليها: نصيبيني أيضا. وهي ثلاثة مواضع: مدينة من بلاد الجزيرة، وقرية من قرى حلب، ومدينة بشاطئ الفرات، تعرف بنصيبين الروم. ولم أر أحدا نص على اشتهار واحدة منها بنوع من الكلاب ينسب إليها؛ فإما أن يكون الناظم رآه في كتاب لم نطلع عليه، أو يكون أراد الصيني، فحرفه الناسخ. وعلى هذا يكون الشطر: «كذلك الصيني بذاك أشبه» أو نحو ذلك. وقد مر بك عن الدميري في «حياة الحيوان» أن القلطي يقال له: الصيني. فقول الناظم: «بذاك أشبه» بعد ذكره القلطي، يرجح أنه أراد الصيني. على أن كثيرا من أئمة اللغة لم يذكروا الصيني إلا في معرض رده وتغليط قائله، فقالوا: كلب زئني: قصير، ولا تقل صيني. ورأيت الجاحظ جمع بينهما في كتاب الحيوان فقال: «والكلب الزئني الصيني يسرج على رأسه ساعات كثيرة من الليل، فلا يتحرك. وقد كان في بني ضبة كلب زئني صيني يسرج على رأسه، فلا ينبض فيه نابض، ويدعونه باسمه، ويرمى إليه ببضعة اللحم، والمسرجة على رأسه، فلا يميل ولا يتحرك، حتى يكون القوم هم الذين يأخذون المصباح من رأسه؛ فإذا أزيل عن رأسه وثب على اللحم فأكله. درب فدرب، وثقف فثقف، وأدب فقبل». وعلى كل حال فالصيني ذكروه، وإن خطأ بعضهم قائله، بخلاف النصيبي، فإنا لم نر أحدا ذكره فيما نعلم. (11) المستطير بالسين والطاء والراء المهملة جميعها: الكلب الهائج، أي طالب السفاد. وأراد الناظم بالعباب: كتاب العباب الزاخر في اللغة، وهو كتاب كبير يقع في عشرين مجلدا للإمام حسن بن محمد الصاغاني أو الصغاني، المتوفى سنة 650، بلغ فيه إلى الميم، ووقف في مادة بكم، ومات قبل إتمامه؛ ولهذا قيل:
إن الصغاني الذي
حاز العلوم والحكم
كان قصارى أمره
أن انتهى إلى بكم (12) الدرص بتثليث الدال المهملة وسكون الراء وبعدهما صاد مهملة: ولد الكلب، وكذلك الجرو مثلث الأول. (13) السمع بكسر السين المهملة وسكون الميم وبعدهما عين مهملة، أورده الناظم على أنه من أسماء ولد الكلب، نقلا عن الصولي. والذي في مادة «س م ع» من كتب اللغة أنه سبع مركب، وهو ولد الذئب من الضبع، ومن أمثالهم: «أسمع من سمع» وممن السمع: الأزل. قال:
تراه حديد الطرف أبلج واضحا
أغر طويل الباع أسمع من سمع
ثم رأيت في مادة «خ ي ه ف ع» من اللسان أنه ولد الكلبة من الذئب نقلا عن الأزهري، ورأيت أيضا في جزء للناظم سماه «التهذيب في أسماء الذيب» أن السمع بين الذئب والكلب. وأبو خالد: من كنى الكلب، ذكره الناظم في المزهر، وقال أبو السعادات المبارك بن الأثير في المرصع: أبو خالد هو الكلب، من قولك: أخلد الرجل بصاحبه إذا لزمه، وأخلد بالمكان إذا أقام به. وهو كنية الثعلب أيضا. انتهى.
قلت: وللكلب كنى أخرى سنذكرها فيما استدركناه على الناظم بعد تمام الشرح. (14 و15) في نسختين من الأصل بإسقاط لفظة «أيضا» من عجز البيت، فيصير الشطر: «وكلبة قيل لها كساب»، ولا بد في هذه الحالة من كسر باء كساب للوزن، وهو مع هذا لا يلتئم مع الصدر؛ لأن العروض دخلتها إحدى علل الزيادة وهي التذييل، ودخوله في الرجز مغتفر للمولدين. والبيت مصرع، ولا بد في التصريع من مطابقة الضرب للعروض في الوزن والقافية؛ فلهذا اضطررنا لزيادة «أيضا» مع التنبيه عليها في الشرح ليلتئم الشطران في الوزن. ويمكن أن يقال بإسقاطها:
ونقلوا الزهاد للكلاب
وكلبة قيل لها كساب
إلا أن احتمال سقوط لفظة من قلم الناسخ سهوا أقرب من تغيير «الزاهدون» بالزهاد. أما وصف الكلب بالزهد، فقد وقفت في مجموع على رسالة في خصال الكلب المحمودة، تنسب للحسن البصري، جاء فيها ما نصه: «الخصلة الرابعة، أنه إذا مات لا يكون له ميراث، وذلك من أخلاق الزاهدين». وكنت في ريب من أمر هذه الرسالة، حتى رأيتها في نفح الطيب مسوقة في ترجمة أبي عبد الله الراعي الغرناطي، وذكر أنه أوردها في باب العلم من شرحه على الألفية، منسوبة للحسن البصري. والله أعلم.
ومن أمثالهم في ذلك: «أشكر من كلب» إلا أن الأكثرين على وصفه بالحرص والشره، ومن أمثالهم فيه: «أحرص من كلب على جيفة». ومن كلب على عرق، والعرق بالفتح: العظم عليه اللحم، أو الذي أكل لحمه. وقالوا أيضا: «ألأم من كلب على عرق»، و«أنهم من كلب». وكساب كقطام مبنيا على الكسر: الذئب، كما في القاموس. وفي الصحاح والمخصص أنه اسم كلبة، وهو الذي أراده الناظم. وقد مر بك بيت لبيد الذي ذكر فيه كلبة تسمى بهذا الاسم. ومثله كسبة بالفتح، قال الأعشى:
ولز كسبة أخرى فرعها فهق (16) العولق بفتح العين المهملة وسكون الواو وفتح اللام وبعدها قاف: الكلبة الحريصة. والمعاوية الكلبة المستحرمة تعوي إلى الكلاب. ومن طريف ما يحكى أن جارية بن قدامة دخل على أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، فقال له: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية! فقال: وما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية! وهي الأنثى من الكلاب. ويروى أن شريك بن الأعور دخل عليه وكان دميما، فقال له معاوية: إنك لدميم والجميل خير من الدميم، وإنك لشريك وما لله شريك، وإن أباك لأعور والصحيح خير من الأعور ، فكيف سدت قومك؟ فقال له: إنك معاوية ، وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت الكلاب، وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنك لابن حرب والسلم خير من الحرب، وإنك لابن أمية، وما أمية إلا أمة صغرت، فكيف صرت أمير المؤمنين؟!
ويشبه هذا ما رواه أبو هلال في الصناعتين: أن رجلا من قريش قال لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال الرجل: إن اسمك لكذب، ما خلد أحد. وإن أباك لصفوان، وهو حجر، وإن جدك لأهتم، والصحيح خير من الأهتم. قال خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار. قال: فمثلك يشتم تميما في عزها وحسبها، وقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبد دارها، وموضع شنارها؛ تفتح لهم الأبواب إذا دخلوا، وتغلقها إذا خرجوا. انتهى.
واللعوة: بفتح اللام وسكون العين المهملة، واللعاة بفتحتين: الكلبة من غير تخصيص بشره وحرص، وقال الجاحظ في كتاب «الحيوان»: يقال أحرص من لعوة، وهي الكلبة. وفي اللسان ومجمع الأمثال للميداني: «أجوع من لعوة». (17) العسبورة: بضم العين وسكون السين المهملتين وضم الباء الموحدة وبعدها واو ساكنة وراء وهاء: ولد الكلب من الذئبة، ويقال له: العسبور أيضا، ولهذا قال الناظم: «وإن تزل ها لا تلم» أي إن نطقت به بدون هاء لا يلومك إنسان؛ لأنه مسموع. (18) الخيهفعى، بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة التحتية، وفتح الهاء والفاء والعين المهملة مقصورا: ولد الكلب من الذئبة. وقد سمع أيضا بالمد. وفي اللسان: حكى الأزهري عن أبي تراب قال: سمعت أعرابيا من بني تميم يكنى أبا الخيهفعى، وسألته عن تفسير كنيته، فقال: يقال إذا وقع الذئب على الكلبة جاءت بالسمع، وإذا وقع الكلب على الذئبة جاءت بالخيهفعى. قال: وليس هذا على أبنية أسمائهم مع اجتماع ثلاثة أحرف من حروف الحلق، وقال عن هذا الحرف وعما قبله في باب رباعي العين في كتابه: وهذه حروف لا أعرفها، ولم أجد لها أصلا في كتب الثقات الذين أخذوا عن العرب العاربة ما أودعوا كتبهم، ولم أذكرها وأنا أحقها، ولكني ذكرتها استندارا لها وتعجبا منها، ولا أدري ما صحتها. انتهى. (19) الديسم، بفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة التحتية وفتح السين المهملة وبعدها ميم: ولد الثعلب من الكلبة، أو ولد الذئب منها. هكذا في القاموس واللسان، وقال الجوهري في الصحاح: الديسم: ولد الدب، قال: وقلت لأبي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة، فقال: ما هو إلا ولد الدب. انتهى. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة، وهو أغبر اللون، وغبرته ممتزجة بسواد. (20) الهراكلة، بفتح الهاء والراء وكسر الكاف وفتح اللام: كلاب الماء، وقول ابن أحمر الباهلي يصف درة:
رأى من دونها الغواص هولا
هراكلة وحيتانا ونونا
فسره الأزهري في التهذيب بكلاب الماء. وقال الصاغاني في العباب: هي جمال الماء، وقيل: هي ضخام السمك. (21) القندس كقنفذ، أي بضم القاف وسكون النون وضم الدال المهملة وبعدها سين مهملة: كلب الماء. أهمله القاموس واللسان والمخصص، وذكره شارح القاموس والدميري في حياة الحيوان، ونسبا تفسيره بذلك لابن دحية. كما ذكره الناظم، وعبارته تفيد أنه أهمل ونسي. (22) القضاعة، بضم القاف وفتح الضاد المعجمة والعين المهملة: اسم كلبة الماء. (23) شرع الناظم في هذا البيت وما بعده يعدد أسماء ابن آوى، تبعا لمن عده نوعا من الكلاب، فذكر من أسمائه: الدال بفتح الدال المهملة وسكون الهمزة وبعدهما لام. والدئل بضم فكسر، وقد نصوا على أن لا نظير لها إلا: رئم. والدؤل بضمتين. والدألان محركة، ويقال فيه الذألان بفتح الذال المعجمة، والذؤلان بضمها، إلا أن الهمزة فيهما ساكنة. والعلوض، بكسر العين المهملة وفتح اللام المشددة، وسكون الواو وبعدها ضاد معجمة. والنوفل بفتح النون وسكون الواو وفتح الفاء وبعدها لام. واللعوض، بفتح اللام وسكون العين المهملة وفتح الواو، وبعدها ضاد معجمة. والسرحوب بضم السين المهملة وسكون الراء وضم الحاء المهملة وبعدها واو ساكنة وباء موحدة. والوع، بفتح الواو وبعدها عين مهملة مشددة. والعلوش، بكسر العين المهملة وفتح اللام المشددة وبعدهما واو ساكنة وشين معجمة. والوعوع بفتح الواوين وإسكان العين الأولى المهملة. والشغبر، بفتح الشين وإسكان الغين المعجمتين ، وفتح الباء الموحدة وبعدها راء؛ وبالزاي المعجمة تصحيف. والوأواء، بفتح الواوين وسكون الهمزة الأولى. وكلها من أسماء ابن آوى.
هذا ما أردنا بيانه، ويتبين منه ثلاثة أمور:
الأول:
أن الناظم - رحمه الله - مع استيفائه لكثير من أسماء الكلب قد أدرج فيها بعض صفات يشترك فيها الكلب مع غيره، ولم نجد مع كثرة البحث نصا على أنها غلبت عليه، حتى يمكن عدها في أسمائه؛ كذكره الزاهد والمنذر، وداعي الكرم، ومشيد الذكر ونحوها. فالظاهر أنه تسامح في إيرادها، أو يكون وقف فيها على ما لم نقف عليه. وفوق كل ذي علم عليم.
الأمر الثاني:
إيراده أربعة أعلام مشهورة للكلاب نص منها على ثلاثة، وهي: كسيب وكساب وكسبة، وسكت عن واحد وهو سحام، فدل بسكوته على عده من أسماء الأجناس، وكلاهما لا يبرئه من معرة المعري؛ لأن جعل سحام اسم جنس وهم ظاهر. وإيراد ثلاثة أعلام خارج عن مقصود أبي العلاء، إلا أن يكون أوردها زيادة منه في الفائدة. وهو أيضا تقصير، لاقتصاره عليها، مع وجود ما هو أشهر منها.
الأمر الثالث:
ما فاته من أسمائه، وهو ما نريد استدراكه هنا، وبعضه مر أثناء الشرح، فمنها: «الدرواس» بكسر أوله، وهو الغليظ العنق من الكلاب، وقيل الكبير الرأس منها، وقول بعضهم:
بتنا وبات سقيط الطل يضربنا
عند الندول قرانا نبح درواس
قيل: إن أولى ما يفسر به: الكلب، لقوله: قرانا نبح درواس؛ لأن النبح إنما هو في الأصل للكلاب. وقوله: الندول، يجوز أنه عنى به امرأة أو رجلا من الندل وهو شبيه الوسخ، أو عنى به كلبة. ورواه الجاحظ في كتاب الحيوان: «بين البيوت». ودرواس أيضا: اسم كلب بعينه. والأظهر أن البيت قيل فيه، أو في كلب آخر يسمى بهذا الاسم.
و«الأرشم» قالوا: سمي بذلك لتشممه الطعام وحرصه. وقد يطلق أيضا على الذئب.
و«العفراس» بالكسر، وهو الشديد العنق الغليظه من الكلاب، ومثله «العفرنس». و«القلاظ» بالضم و«القيليط» بالكسر، كلاهما القصير المجتمع، ويقال فيهما: القلطي ، وقد ذكره الناظم. «والأغضف» ومثله «الغاضف» وهو المسترخي الأذن من الكلاب. وفرق بينهما ابن الأعرابي فقال: الغاضف من الكلاب المتكسر أعلى أذنه إلى مقدمه، والأغضف إلى خلفه، كذا في اللسان. ثم قال: والغضف، كلاب الصيد من ذلك صفة غالبة. انتهى. وقول لبيد:
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا
غضفا دواجن قافلا أعصامها
أراد كلاب الصيد.
و«ابن بقيع» بالتصغير، ذكره ابن الأثير في المرصع. و«ابن وازع وابن زارع وابن ذارع وابن ذراع وابن بوزع وابن عولق».
فهذه خمسة عشر اسما للكلب فاتت الناظم.
وفاته من أسماء أولاده: «الضرو» بالكسر، وهو الضاري من أولاد الكلاب. ومثله «الضري» و«الأسبور» وهو ولد الكلب من الضبع، كما في حياة الحيوان ومجمع الأمثال، عند تفسير قولهم: «أسمع من سمع».
وفاته من أسماء ابن آوى: «البرعل» بالضم، وهو ولد الوبر من ابن آوى.
وفاته من أسماء الكلبة: «اللعاة» بفتحتين، وهي الكلبة الحريصة، أو الكلبة مطلقا من غير تخصيص. «والبوزع» وهي الكلبة الحريصة، كما في المرصع.
وفاته من كنى الكلب: «أبو حاتم»، و«أبو ذراع»، و«أبو قيس»، و«أبو عامر»؛ لأنه يعمر بيت صاحبه بحراسته إياه. و«أبو عطاف» بكسر العين والتخفيف؛ لأنه يعطف على أصحابه، قال العجاج يصف صائدا:
ذا أكلب كالأسهم العطاف
يشلي عطافا وأبا عطاف
كذا في المرصع. ورواية الديوان: ذا أكلب نواهز خفاف.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: «آلف من كلب».
ولهم في وفاء الكلب وعطفه على صاحبه أقوال ونوادر كثيرة، وربما فضلوه في ذلك على الصاحب والخليل. وقد جمع منها ابن المرزبان جملة صالحة في كتاب سماه: «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» وقفت عليه ونقلت منه في هذه الرسالة. ومن وقف على ما كتبه الجاحظ عن الكلب في كتاب «الحيوان» رأى عجبا عجابا. ويذكرون من نوادر وفائه أن الربيع بن بدر كان له كلب قد رباه، فلما مات جعل الكلب يتضرب على قبره حتى مات. ولما مات عامر بن غبرة لزمت كلابه قبره حتى ماتت عنده، وتفرق عنه الأهل والأقارب. وقال الشعبي: خير خصلة في الكلب أنه لا ينافق في محبته. وأنشد القالي في أماليه لأعرابي:
كلاب الناس إن فكرت فيهم
أضر عليك من كلب الكلاب
لأن الكلب لا يؤذي صديقا
وأن صديق هذا في عذاب
ويأتي حين يأتي في ثياب
وقد حزمت على رجل مصاب
فأخزى الله أثوابا عليه
وأخزى الله ما تحت الثياب
ومن أغرب ما رأيته ما حكاه الجرجاني في كناياته عن محمد بن حرب، قال: رأيت العتابي ينادم كلبا، يشرب كأسا ويولغه كأسا. فكلمته في ذلك، فقال: إنه يكف عني أذاه وأذى سواه، ويشكر قليلي، ويحفظ مبيتي ومقيلي، فهو من بين الحيوان خليلي. قال ابن حرب: فتمنيت أن أكون كلبا لأحوز هذا النعت. وقد ذكر ابن المرزبان هذه القصة لإبراهيم الموصلي مع الفضل بن يحيى ببعض اختلاف. والله أعلم.
ولم يذكر الناظر من كنى الأنثى شيئا وهي: «أم عولق» و«أم ذراع» و«أم الهمرش» بتشديد الميم المفتوحة كما في المرصع، وفي القاموس واللسان: الهمرش اسم كلبة. و«أم يعفور» قال في المرصع: هي الكلبة، وأنشد:
يا أم يعفور سقاك العهد
لا زال من صيد عليك لبد
يقول: لا زال عليك مما تصيدين لبد من وبر الأرانب وغيرها. واليعفور في الأصل: ولد الظبية وولد البقرة الوحشية. و«أم العاويات» والعاويات أولادها.
وكذلك لم يذكر من كنى ابن آوى شيئا، وهي: «أبو ذؤيب» و«أبو كعب» و«أبو معاوية» و«أبو أيوب» و«أبو وائل». والله أعلم.
أما أعلام الكلاب المشهورة التي عنوا بذكرها فكثيرة، منها:
سحيم، وطحال، وأكدر، وواشق، وزهمان، وميلع، وبراقش، وجدلاء: كلبات. والمختلس، وغلاب، والقنيص، وسلهب، وسرحان، والمغناطيس، هي خمسة أكلب كانت لرجل اسمه ذريح، وآخر اسمه أبو دجانة، يصيدان بها الظباء.
وقرحان: اسم كلب له قصة تحاميت عن ذكرها، حبس سيدنا عثمان بن عفان بسببها ضابئ بن الحارث البرجمي.
وضمران بالضم وبالفتح، وروي بهما في قول النابغة:
فهاب ضمران منه حين يوزعه
طعن المعارك عند المجحر النجد
هو اسم كلب.
وضبار ، بتشديد الباء الموحدة، الذي قال فيه الحارث بن الخزرج الخفاجي:
سفرت فقلت لها هج فتبرقعت
فذكرت حين تبرقعت ضبارا
وتزينت لتروعني بجمالها
فكأنما كسي الحمار خمارا
فخرجت أعثر في قوادم جبتي
لولا الحياء أطرتها إحضارا
هو اسم كلب له، وقوله: هج زجر للكلب. وكان لسليمان بن داود الهاشمي كلب صيد يسمى زنبورا، وفيه يقول أبو نواس:
إذا الشياطين رأت زنبورا
قد قلد الحلقة والسيورا
من أرجوزة يقول في آخرها:
فأمتع الله به الأميرا
ربي ولا زال به مسرورا
ومن طرائفهم ما رواه الراغب في محاضراته لأبي محجن، في رجل اسمه: وثاب واسم كلبه: عمرو، ورواهما في موضع آخر من هذا الكتاب لابن أبي عتيق، باختلاف في الرواية:
ولو هيا له الله
من التوفيق أسبابا
لسمى نفسه عمرا
وسمى الكلب وثابا
وقلت: تذكرت بهذين البيتين قصة ظالم، لما جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
يريد الإسلام، وكان معه كلب له اسمه: راشد، فسأله - عليه السلام - عن اسمه واسم كلبه، فلما أخبره ضحك عليه السلام، وقال: اسمك راشد واسم كلبك ظالم. وفي رواية أنه كان يسمى غاوي بن ظالم، فسماه - عليه السلام - راشد بن عبد الله. وسبب إسلامه أنه كان سادنا لصنم اسمه سواع، فرأى يوما ثعلبا يعدو عليه ببوله، فكسره، وقال فيه:
أرب يبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وفي القصة، ورواية هذا البيت ونسبته لراشد، اختلاف ليس هذا محل ذكره.
وكان لميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها كلب اسمه مسمار. قال صاحب القاموس: إنه مرض، فقالت: وارحمتا لمسمار. وفي كتاب «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» لابن المرزبان، أنها رضي الله عنها كانت إذا حجت خرجت به معها؛ فليس يطمع أحد في القرب من رحلها مع مسمار، فإذا رجعت جعلته في بني جديلة، وأنفقت عليه، فلما مات قيل لها: مات مسمار، فبكت وقالت: فجعت بمسمار.
وفي هذا القدر كفاية، فقد كدنا نخرج عن المقصود. ولولا خوف الإطالة لذكرت أيضا ما ورد من أمثالهم في الكلب ، وهي كثيرة تربو على خمسة وخمسين مثلا ، على أن ما ذكرناه وإن طال فلا يخلو من فائدة، وفي التنقل جمام للأنفس.
رجع إلى أبي العلاء
وعلى الجملة فلا يختلف اثنان في علمه وفضله، ووقوفه على دقائق العربية، ولا عبرة بمن لحنه في قوله:
يذيب الرعب منه كل عضب
فلولا الغمد يمسكه لسالا
بأن مذهب الجمهور وجوب حذف الخبر بعد «لولا»، بناء على أنه لا يكون إلا كونا مطلقا، فإذا أريد السكون المقيد جعل مبتدأ، فكان عليه أن يقول: فلولا إمساك الغمد إياه لسال، أي موجود. وأما التركيب الذي أتى به فتركيب فاسد. انتهى.
قلت: وهذا المخطئ هو المخطئ لاحتمال تقدير يمسكه جملة معترضة بين المبتدأ والجواب والخبر محذوف، أو تقدير يمسكه بدل اشتمال على أن الأصل أن يمسكه، ثم حذفت «أن» وارتفع الفعل، وعلى هذا فالخبر محذوف أيضا. والمعنى: فلولا الغمد إمساكه موجود لسال. انتهى ملخصا من المغني وحواشيه. هذا إذا خرجنا البيت على مذهب الجمهور الذي تمسك به المعترض، والمذهب الحق ما ذهب إليه ابن مالك والرماني وابن الشجري والشلوبين؛ بأن الخبر إذا كان كونا مقيدا، ولم يدل عليه دليل، وجب ذكره، وإن دل عليه دليل جاز إثباته وحذفه. وعليه فلا وجه للتخطئة في البيت، فضلا عن ورود مثله في الكلام الموثوق به.
وأما ذكاؤه وسرعة فهمه وقوة حافظته؛ فقد رووا فيها غرائب، منها ما ينبو العقل عن تصديقه. وقد صرح صاحب معاهد التنصيص بأن للناس في ذلك حكايات مشهورة يضعونها، وغالبها مستحيل. إلا أن اشتراط استيفاء أخباره يقضي بذكر ما وقفنا عليه منها، وعلى القارئ تمييز الغث من السمين.
فمن ذلك: ما نقل عن تلميذ التبريزي أنه كان قاعدا بين يديه في مسجد بمعرة النعمان يقرأ عليه شيئا من تصانيفه. قال: وكنت أقمت عدة سنين لم أر أحدا من أهل بلدي، فدخل المسجد بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: أي شيء أصابك؟ فأخبرته خبر الرجل، فقال: قم وكلمه، فقلت: حتى أتمم النسق ، فقال: قم وأنا أنتظرك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية شيئا كثيرا، إلى أن سألت عن كل ما بدا لي. فلما رجعت إليه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أذربيجان. فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد، فتعجبت غاية العجب، كيف يحفظ ما لم يفهمه.
ومنه: ما رواه بعض طلبته، أن جارا له أعجميا غاب عن المعرة، وحضر رجل من بلده يبحث عنه، فوجده غائبا، ولم يمكنه المقام، فأشار عليه أبو العلاء أن يذكر حاجته، فجعل الرجل يتكلم بالفارسية وأبو العلاء مصغ إليه، ولم يكن يعرفها، إلى أن فرغ من كلامه، ومضى الرجل. وقدم جاره الغائب، فجعل أبو العلاء يردد عليه ما سمعه بلفظه، والرجل يبكي ويستغيث ويلطم، إلى أن فرغ من الحديث. وسئل عن حاله، فأخبر أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة من أهله.
وهذه الحكاية حكاها الوطواط في «الغرر والعرر» على غير هذا الوجه. قال: ومن عجيب حكاياته أن أبا زكريا التبريزي كان يقرأ عليه فأتاه رسول من عند أهله من تبريز، فجاء حلقة أبي العلاء، فسأل عنه، فأخبر أنه غائب في بعض شأنه. فقال له أبو العلاء: ما تريد به؟ قال: جئت برسالة من عند أهله، فقال: هاتها حتى نوصلها إليه. قال: إنها مشافهة. قال: فأسمعناها حتى نوصلها إليه. قال: إنها بالفارسية. قال: لا عليك أن تسمعناها ولا تسقط منها حرفا. فأوردها عليه. فلما جاء التبريزي أخبر أن رجلا جاء من تبريز ومعه رسالة من أهله، فقال: ليتكم أخذتموها منه، فإني مشوق لما يرد من أخبارهم. فقيل له: إنه قال إنها مشافهة. فتأسف لذلك، فلما رأى أبو العلاء تأسفه، قال له: لا عليك، إني سمعتها منه وحفظتها، ثم أملاها عليه. فجعل التبريزي يضحك مرة، ويبكي مرة! فسأله أبو العلاء عن ضحكه وبكائه؟ فقال: تارة تخبرني بما يسرني فأضحك، وتارة تخبرني بما يحزنني فأبكي. انتهى.
ومنه: ما حكاه الأمير أسامة بن منقذ، قال: كان بأنطاكية خزانة كتب ، وكان الخازن بها رجلا علويا. فجلست يوما عنده، فقال لي: قد خبأت لك خبيئة لم تسمع بمثلها في تاريخ. فقلت: وما هي؟ قال: صبي دون البلوغ ضرير يتردد إلي، وقد حفظته في أيام قلائل عدة كتب، وذلك أني أقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة، فلا يستعيد إلا ما شك فيه، ثم يتلو علي ما سمعه. قلت: فلعله يكون محفوظا له! فقال: سبحان الله! كل كتاب في الدنيا يكون محفوظا له، ولئن كان كذلك فهو أعظم. ثم حضر المشار إليه، وهو صبي دميم الخلقة، مجدر الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدري، كأنه ينظر بإحدى عينيه، وهو يتوقد ذكاء؛ يقوده رجل طويل أحسبه من أقاربه. فقال له الخازن: يا ولدي، هذا السيد رجل كبير القدر، وقد وصفتك له، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك. فقال: سمعا وطاعة، فليختر ما يريد. قال ابن منقذ: فاخترت شيئا وقرأته عليه وهو يموج ويستزيد، فإذا مر بشيء يحتاج إلى تقريره في خاطره، يقول: أعد هذا، فأعيده عليه، حتى أتيت على ما يزيد على كراسة، ثم قلت: يقنع هذا من قبل نفسي. قال: أجل حرسك الله. وتلا علي ما أمليته عليه، وأنا أعارضه بالكتاب حرفا حرفا، فكاد عقلي يذهب لما رأيت منه، وعلمت أن ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا إن شاء الله. وسألت عنه، فقيل لي: هذا أبو العلاء المعري من بيت العلم والقضاء والثروة والغنى. هكذا يروون هذه الحكاية، والأمير أسامة المذكور ولد سنة 488، أي بعد موت أبي العلاء بنحو تسع وثلاثين سنة، فالقصة على هذا موضوعة، اللهم إلا أن تكون وقعت مع بعض أمراء بني منقذ، ممن تقدم أسامة.
ومنه: أن سمانا حاسب عميلا له برقاع كان يثبت فيها ما يأخذه منه عند حاجته، وكان أبو العلاء في غرفة يسمع محاسبتهما، وبعد مدة ضاعت الرقاع من السمان، فأخذ يتململ ويتأذى. وبلغ أبا العلاء خبره، فقال له: ما عليك بأس، أنا أملي عليك حسابه. وجعل يمليه عليه على ما في الرقاع رقعة رقعة، والسمان يكتبها. ثم وجد بعد ذلك رقاعه، فإذا هي مطابقة لما أملاه أبو العلاء. وهذا إن صح، فهو غاية الغايات في قوة الحفظ والتعليق.
وقريب مما تقدم، ما روي عن أبي تمام حين سمع البحتري ينشد قصيدته التي أولها:
أأفاق صب من هوى فأفيقا
أم خان عهدا أم أطاع شفيقا
فلما فرغ من إنشادها، أقبل عليه باللوم والتقريع، واتهمه بسرقة شعره، ثم اندفع يعيد القصيدة حتى أتى على أكثرها. والقصة مشهورة. ومثله ما روي عن المتنبي في حفظه كتابا عرض عليه للبيع في نحو ثلاثين ورقة. وروى مثله الإمام أبو العباس المبرد، وهو الثقة فيما ينقل، فذكر في كامله أن ابن عباس رضي الله عنه لما أنشده عمر بن أبي ربيعة كلمته: «أمن آل نعم أنت غاد فمبكر». ولم يكن سمعها من قبل، استظهرها من مرة واحدة، وأعادها على الحضور. إلا أن ما نقل عن المعري يفوق كل ذلك.
وذكروا أن أبا نصرة أحمد بن يوسف المنازي، دخل على أبي العلاء وهو بالشام في جماعة من أهل الأدب، وأنشده قوله:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه
1
فحنا علينا
حنو المرضعات
2
على الفطيم
وأرشفنا
3
على ظمأ زلالا
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
فقال أبو العلاء: أنت أشعر من بالشام. ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد، فدخل عليه المنازي في جماعة من أدبائها، وهو لا يعرف منهم أحدا، فأنشدوه من أشعارهم، وأنشده المنازي:
لقد عرض الحمام لنا بسجع
إذا أصغى له ركب تلاحى
شجى قلب الخلي فقيل: غنى
وبرح بالشجي فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صب
إذا اندملت أجد لها جراحا
ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى
وسكران الفؤاد وإن تصاحا
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة
كأحداق المها مرضى صحاحا
فقال أبو العلاء: ومن بالعراق! عطفا على قوله: من بالشام. والراجح عندي أن هذه القصة موضوعة، لا لغرابتها؛ فإن فيما تقدم في قصته مع السمان وغيره ما هو أغرب وأعجب، ولا يبعد على من يستظهر أوراق الحساب رقعة رقعة، أن يسمع صوت المنازي ونغمته في إنشاده، فيعيه ويعرفه بعد ذلك من كلامه؛ بل لأن الثابت في الأبيات الميمية أنها لحمدونة
4
بنت زياد الأندلسية؛ أثبت ذلك مؤرخو الأندلس، وجزم به أبو جعفر الرعيني الأندلسي، وهو من الراحلين إلى المشرق. وملخص ما قاله في شرحه على بديعية صاحبه ابن جابر: أن بعض المشارقة غرهم بعد ديارها، وخلو بلادهم من آثارها، فانتحلوا أشياء من شعرها. ومن ذلك نسبتهم أبياتها الميمية للمنازي من شعرائهم. قال: وقد رأيت بعض المؤرخين من أهل بلادنا أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظة الموجود. انتهى. أما الأبيات الحائية فالراجح أنها للمنازي، ونسبها الصفدي في شرحه على لامية العجم لابن قاضي ميلة. والله أعلم.
وقال كمال الدين بن العديم في تاريخ حلب: بلغني أن المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء، فلما وصل إليه أنشده إياها، فجعل كلما أنشده المصراع الأول من كل بيت، سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه. ولما أنشده: «نزلنا دوحه فحنا علينا»، قال أبو العلاء: «حنو الوالدات على الفطيم». فقال المنازي: إنما قلت على اليتيم. فقال أبو العلاء: الفطيم أحسن. انتهى، والله أعلم.
قلت: الشيء بالشيء يذكر، والحديث ذو شجون. والذي ذكره ابن العديم له نظائر، منها ما رواه طيفور في تاريخ بغداد عن عمارة بن عقيل، قال: أنشدت المأمون قصيدة فيها مديح له تبلغ مئة بيت، فابتدأت بصدر البيت فبادرني إلى قافيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما سمعها مني أحد قط. قال: هكذا ينبغي أن يكون، ثم أقبل علي، فقال: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها:
تشط غدا دار جيراننا
فقال ابن عباس:
وللدار بعد غد أبعد
ثم قال المأمون: أنا ابن ذاك. وفي «تحرير التحبير» لابن أبي الإصبع أن ابن عباس لما كمل البيت، قال له ابن أبي ربيعة: هكذا والله قلت. فقال عبد الله: وهكذا يكون.
وروي أن جريرا والفرزدق حضرا مجلس الوليد بن عبد الملك، وعدي بن الرقاع ينشد قصيدته:
عرف الديار توهما فاعتادها
من بعد ما درس البلى أبلادها
فلما انتهى إلى قوله: تزجي أغن كأن إبرة روقه.
تشاغل الوليد عن الاستماع، وقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير:
ما تراه يقول؟ فقال: أراه يستلب بها مثلا، فقال الفرزدق: يا لكع! إنه سيقول: قلم أصاب من الدواة مدادها. ثم عاد الوليد إلى الاستماع، وعاد عدي إلى الإنشاد، فنطق بالعجز كما قال. فقال جرير للفرزدق: ويحك! فكأن سمعك مخبوء تحت لسانه، فقال له: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام، والله لما سمعت صدر بيته رحمته، فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا. وفي رواية العقد الفريد عن الأصمعي أن جريرا هو السابق لعجز البيت لا الفرزدق. وقال زكي الدين بن أبي الإصبع في «تحرير التحبير» الذي أقوله: إن بين ابن عباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل، وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلوم، وأنا أذكر الفرق. فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم سماع معظمها، وعلم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة بألف منصوبة الروي من وزن معروف، ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه مع العلم بسواده، وفي ذلك ما يدل على عجز البيت بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء. وبيت عمر مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي، ولا رويه من أي الحروف، ولا حركة رويه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالا في غاية العسر، ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله به هؤلاء القوم من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم. ومن حذق عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ودقيق معرفته باختيار الكلام، جعله قافية الذي أتى به «أبعد» ولم يجعلها «أنزح»، وكان ذلك ممكنا له، لكون «أبعد» أسرع ولوجا في السمع، وأسبق الذهن، وأدخل في القلب، وأكثر استعمالا، وأعرف عند الكافة، وبها جاء القرآن العزيز دون أنزح، وهي أحب إلى اللسان، وأولى بالبيان.
انتهى كلامه بنصه.
وقد عن لي أن أورد هنا قصيدة عدي بن الرقاع؛ لأنها لا توجد برمتها في كتب الأدب المتداولة في الأيدي، مع تشوق كثير من الأدباء للوقوف عليها. قال عدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك أحد الخلفاء من بني أمية:
عرف الديار توهما فاعتادها
5
من بعد ما درس البلى أبلادها
إلا رواسي كلهن قد اصطلى
جمرا وأشعل أهلها إيقادها
6
كانت رواحل للقدور فعريت
منهن واستلب الزمان رمادها
وتنكرت كل التنكر بعدنا
والأرض تعرف بعلها
7
وجمادها
ولرب واضحة الجبين خريدة
بيضاء قد ضربت به أوتادها
8
تصطاد بهجتها المعلل بالصبا
عرضا فتقصده ولن يصطادها
9
كالظبية البكر الفريدة ترتعي
من أرضها قفاتها وعهادها
خصبت لها عقد البراق حنينها
من عكرها علجانها وعرادها
كالزين في وجه العروس تبذلت
بعد الحياء فلاعبت أرءادها
10
تزجي أغن كأن إبرة روقه
قلم أصاب من الدواة مدادها
11
ركبت به من عالج متحيرا
قفرا تريث وحشه أولادها
فترى محانيه التي تسق الثرى
والهبر يونق نبتها روادها
12
بانت سعاد وأخلفت ميعادها
وتباعدت عنا لتمنع زادها
إني إذا ما لم تصلني خلتي
وتباعدت عني اغتفرت بعادها
13
إما تري شيبي تقشع لمتي
حتى علا وضح يلوح سوادها
14
فلقد ثنيت يد الفتاة وسادة
لي جاعلا يسرى يدي وسادها
وأصاحب الجيش العرمرم فارسا
في الخيل أشهد كرها وطرادها
وقصيدة قد بت أجمع بينها
حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قنانه
حتى يقيم ثقافه منآدها
فسترت عيب معيشتي بتكرم
وأتيت في سعة النعيم سدادها
وعلمت حتى ما أسائل واحدا
عن علم واحدة لكي أزدادها
صلى الإله على امرئ ودعته
وأتم نعمته عليه وزادها
وإذا الربيع تتابعت أنواؤه
فسقى خناصرة الأحص فجادها
15
نزل الوليد بها فكان لأهلها
غيثا أغاث أنيسها وبلادها
أولا ترى أن البرية كلها
ألقت خزائمها إليه فقادها
ولقد أراد الله إذ ولاكها
من أمة إصلاحها ورشادها
16
وعمرت أرض المسلمين فأقبلت
ونفيت عنها من يريد فسادها
17
وأصبت في بلد العدو مصيبة
بلغت أقاصي غورها ونجادها
ظفرا ونصرا ما تناول مثله
أحد من الخلفاء كان أرادها
وإذا نشرت له الثناء وجدته
جمع المكارم طرفها وتلادها
18
غلب المساميح الوليد سماحة
وكفى قريش المعضلات وسادها
تأتيه أسلاب الأعزة عنوة
قسرا ويجمع للحروب عتادها
19
وإذا رأى نار العدو تضرمت
سامى جماعة أهلها فاقتادها
بعرمرم تبدو الروابي ذي وعى
كالحرة احتمل الضحى أطوادها
20
أطفأت نارا للحروب وأوقدت
نار قدحت براحتيك زنادها
فبدت بصيرتها لمن يبغي الهدى
وأصاب حر شديدها حسادها
وإذا غدا يوما بنفحة نائل
عرضت له الغد مثلها فأعادها
وإذا عدت خيل تبادر غاية
فالسابق الجالي يقود جيادها
21
تمت القصيدة. ويروى أن عديا أنشدها الوليد وعنده كثير، وكان قد بلغه عن عدي أنه يطعن على شعره، ويقول: هذا شعر حجازي مقرور، إذا أصابه قر الشام حمد وهلك، فلما أتى عدي على قوله:
وقصيدة قد بت أجمع بينها
حتى أقوم ميلها وسنادها
قال له كثير: لو كنت مطبوعا أو فصيحا أو عالما، لم تأت فيها بميل ولا سناد، فتحتاج إلى أن تقومها. ثم أنشد:
نظر المثقف في كعوب قناته
حتى يقيم ثقافه منآدها
فقال كثير: لا جرم أن الأيام إذا تطاولت عليها عادت عوجاء، ولأن تكون مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف أجود لها. ثم أنشد:
وعلمت حتى ما أسائل واحدا
عن علم واحدة لكي أزدادها
فقال كثير: كذبت ورب البيت الحرام، فليمتحنك أمير المؤمنين بأن يسألك عن صغار الأمور دون كبارها حتى يتبين جهلك، وما كنت قط أحمق منك الآن حيث تظن هذا بنفسك. فضحك الوليد ومن حضر، وقطع عدي بن الرقاع حتى ما نطق.
وروي عن محمد بن المنجم أنه قال: ما ذكر لي أحد فأحببت أن أراه، فإذا رأيته أمرت بصفعه؛ إلا عدي بن الرقاع، لقوله:
وعلمت حتى ما أسائل ... البيت. فكنت أعرض عليه أصناف العلوم فكلما مر به شيء، ولا يحسنه ، أمرت بصفعه.
هوامش
فصل في مؤلفاته
قال أبو العلاء: لزمت مسكني منذ سنة أربع مئة، واجتهدت على أن أتوفر على تسبيح الله وتحميده، إلى أن أضطر إلى غير ذلك، فأمليت أشياء، وتولى نسخها الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم، أحسن الله معونته، فألزمني بذلك حقوقا جمة وأيادي بيضاء؛ لأنه أفنى في زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه، والله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادث الزمن والأرزاء. انتهى.
وقد رتبنا أسماء هذه الكتب على حروف المعجم، تسهيلا على المطالع! واعتمدنا فيما ذكرناه منها على ما في «إرشاد الأريب» لياقوت، و«كشف الظنون» لمصطفى بن عبد الله الشهير بكاتب چلبي، وغيرهما من كتب التراجم والأخبار. وتكلمنا على ما وقفنا عليه منها بما يتسع له هذا المختصر: (1)
أدب العصفورين: رسالة ذكرها ياقوت، وصاحب كشف الظنون. (2)
استغفر واستغفري: كتاب في المنظوم، به نحو عشرة آلاف بيت، ويقع في مئة وعشرين كراسة. ذكره ياقوت، وأهمله صاحب الكشف. (3)
إسعاف الصديق: في ثلاثة أجزاء، يتعلق بكتاب الجمل في النحو للزجاجي المتوفى سنة 339. ذكره ياقوت، وصاحب الكشف. (4)
إقليد الغايات: كتاب لطيف، قصره على تفسير ما جاء من اللغز في كتابه: الفصول والغايات. ذكره ياقوت، وصاحب الكشف. (5)
الأمالي: لم يذكره ياقوت، وقال صاحبه الكشف: هو مئة كراسة ولم يكمله. (6)
الأيك والغصون: ذكره ياقوت وصاحب الكشف في حرف الكاف في الكتب، ويسمى أيضا بالهمزة والردف؛ لأنه بناه على إحدى عشرة حالة للهمزة في حال إفرادها وإضافتها. مثاله: سماء بالرفع والنصب والخفض، سماء بالتنوين، سماؤه سماءه سمائه بالحركات الثلاث مع الإضافة للضمير المذكر، سماؤها سماءها سمائها بها مع الإضافة للمؤنث، ثم همزة بعدها هاء ساكنة مثل: عباءة وملاءة. فإذا ضربت الإحدى عشرة في حروف المعجم الثمانية والعشرين، خرج من ذلك ثلاث مئة فصل وثمانية، وهي مستوفاة في هذا الكتاب. وذكر فيه أيضا الأرداف الأربعة بعد ذكر الألف. ومبناه على العظات وذم الدنيا. ومقداره ألف ومئتا كراسة، تقع في اثنين وتسعين جزءا كما ذكر ياقوت. وقال ابن خلكان: بلغني أن له كتابا سماه الأيك والغصون، وهو المعروف بالهمزة والردف، يقارب المئة جزء، في الأدب؛ وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المئة، فقال: لا أعلم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. (7)
بحر الزجر: يتعلق بكتاب «زجر النابح». ذكره ياقوت، ولم يذكر في كشف الظنون. (8)
تاج الحرة: في عظات النساء خاصة، وتختلف فصوله، فمنها ما يجيء بعد حرفه الذي يثبت ثبات الروي ياء التأنيث، كقوله: شائي وتشائي وتسائي ونحوها، ومنه ما هو مبني على الكاف، نحو غلامك وكلامك، ومنها ما يجيء على تفعلين، مثل: ترغبين وتذهبين. وأنواع هذا الكتاب كثيرة، ويقع في أربع مئة كراسة، كما في ياقوت وكشف الظنون. (9)
تضمين الآي: لم يذكره صاحب كشف الظنون، وقال ياقوت: هو كتاب مختلف الفصول؛ فمنه طائفة على حروف المعجم، وقبل الحرف المعتمد ألف، مثل أن يقال في الهمزة: بناء ونساء، وفي الباء: ثياب وعباب. ثم على هذا إلى آخر الحروف. ومنه فصول على فاعلين وعلى فاعلون وغير ذلك. والغرض أن يأتي بعد انقضاء الكلام بآية من الكتاب العزيز أو بعض آية، وربما يجيء بآيتين. قال: والسبب في تأليفه أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتابا برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف شيئا في غير العظات، والحث على تقوى الله، فأملى هذا الكتاب، ويقع في أربع مئة كراسة. (10)
تعليق الجليس: مما يتصل بكتاب الجمل للزجاجي، في جزء واحد. ذكره ياقوت، ولم يذكر في الكشف. (11)
تفسير خطبة الفصيح: فسر فيه غريب كتابه خطبة الفصيح. ذكره ياقوت، وصاحب الكشف. (12)
تفسير الهمزة والردف: في جزء. ذكره ياقوت ولم يذكر في الكشف. (13)
جامع الأوزان: فيه شعر منظوم على معنى يعم به الأوزان الخمسة عشر التي ذكرها الخليل، بجميع ضروبها، ويذكر قوافي كل ضرب، به تسعة آلاف بيت، ومقداره ستون كراسة في ثلاثة أجزاء. ذكرت ياقوت وصاحب الكشف. (14)
الجلي والحلبي: هكذا ورد في نسخة ياقوت، وكتب مصححه: لعله «الحلي الحلبي». سأله فيه صديق له من أهل حلب، يعرف بابن الحلي ، مجلد واحد، وعشرون كراسة. ولم يذكر في كشف الظنون. (15)
الحقير النافع: مختصر في النحو. خمس كراسات، كما في ياقوت والكشف، وذكره السيوطي في بغية الوعاة. (16)
خادم الرسائل: في تفسير ما تضمنته رسائله من الغريب، سواء كانت من الرسائل الطوال، كالغفران والملائكة ونحوهما، أو ما دونها. ولم يذكر فيه إلا ما يحتاج إليه المبتدئون في الأدب، وسماه صاحب كشف الظنون: خادمة الرسائل. (17)
خطبة الفصيح: تكلم فيه عن أبواب الفصيح في خمس عشرة كراسة، كما في ياقوت والكشف، وله تفسير غريبه، وقد مضى ذكره. (18)
خطب الخيل: تكلم فيه على ألسنتها في عشر كراسات، كما في ياقوت والكشف. (19)
خماسية الراح: قال ياقوت: هو كتاب لطيف في ذم الخمر، ومعنى هذا الوسم أنه بني على حروف المعجم، فذكر لكل حرف تمكن حركته خمس سجعات مضمومات، وخمسا مفتوحات، وخمسا مكسورات، وخمسا موقوفات. يكون مقداره عشر كراسات. وتصحف اسمه على صاحب كشف الظنون بحماسة الراح، فذكره في حرف الحاء. (20)
دعاء الأيام السبعة: ذكره ياقوت. (21)
دعاء ساعة: ذكره أيضا. (22)
دعاء وحرز الخيل: ذكره أيضا. (23)
ديوان الرسائل: وهي ثلاثة أقسام كالغفران والسندية ونحوهما، وسنذكر منها ما وقفنا على اسمه. ومنها ما دون تلك، كالرسالة الإغريضية، ورسالة المنيح. ومنها قصار كنحو ما تجري به العادة في المكاتبة. قال ياقوت وصاحب كشف الظنون: إنها تقع جمعيها في ثمان مئة كراسة. وقد طبع قسم من هذه الرسائل في بيروت وأكسفورد، وعندي منها نسختان مخطوطتان في إحداهما مكاتبات جرت بينه وبين ابن أبي عمران داعي الدعاة بمصر، وهي التي لخصها ياقوت في إرشاد الأريب، وقد مضى أنه شرح رسائله في كتابه: خادم الرسائل. (24)
ذكرى حبيب: ذكره صاحب الكشف، وقال ياقوت: إنه مختصر في غريب شعر أبي تمام، سأله فيه صديق له من الكتاب. مقداره ستون كراسة في أربعة أجزاء. وقال ابن خلكان: إنه اختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه: ذكرى حبيب. وفي مقدمة شرح ديوان أبي تمام للتبريزي أن أبا العلاء إنما ذكر في هذا الكتاب الأبيات المشكلة من شعر أبي تمام متفرقة. ومن فوائده التي نقلها عنه أن شعر أبي تمام إنما أغلق؛ لأنه لم يؤثر عنه، فتناقلته الضعفة من الرواة، والجهلة من الناسخين، فبدلوا الحركة بالحركة، وأوقعوا الناظر بما جنوه في أم أدراص
1
وتغلس، وغيروا الأحرف بسوء التصحيف، فغادروا الفهم خابطا في عشواء؛ لأن تغيير الضمة إلى الفتحة والكسرة، ينشب الفطن في حبالة؛ فأما نقل الحاء إلى الخاء، والدال إلى الذال، فيحدث عنه إلباس، ويقرن به بلادة وإشكاس. (25)
الراحلة: ثلاثة أجزاء في تفسير لزوم ما لا يلزم. ذكره ياقوت فقط. (26)
راحة اللزوم: يشرح فيه ما في لزوم ما لا يلزم من الغريب، نحو مئة كراسة، كما في ياقوت والكشف. (27)
الرسالة الحضية: كذا ذكرها ياقوت. (28)
الرسالة الزعفرانية: ذكرها صاحب الكشف ولم يذكرها ياقوت. (29)
الرسالة السندية: ذكرت في ياقوت والكشف. (30)
رسالة العروض: هكذا في كشف الظنون، وفي نسخة ياقوت: الفرض بالفاء، ولعله القرض أو القريض بالقاف. (31)
رسالة على لسان ملك الموت: ذكرها ياقوت، ولا أدري إن كانت رسالة الملائكة أو غيرها. (32)
رسالة الغفران: كتبها لعلي بن منصور الحلبي المعرف بابن القارح، جوابا على رسالة أرسلها له يذكر بها شوقه إلى لقائه، وينحي فيها على الزنادقة، ويتنقص الوزير المغربي صديق أبي العلاء. فأجابه برسالة الغفران، وضمنها فنونا شتى من اللغة والأدب، ونحا فيها نحوا غريبا، فاستطرد إلى الجنة، فوصفها وصفا يشوق النفوس إليها، ويرغبها في نعيمها، وذكر النار وأهوالها بطريقة لا تسأمها النفس. وقد طبعت هذه الرسالة بمصر سنة 1325، وعندي منها نسختان مخطوطتان، وبدار الكتب الخديوية بالقاهرة نسخة من كتب الأستاذ الشنقيطي - رحمه الله - وفي القسطنطينية العظمى نسخة أخرى في خزانة الكبريلي. وكنت في شوق لرسالة ابن القارح المذكورة، حتى ظفرت بها في مجموع نفيس وقع لي. (33)
رسالة الملائكة: اقتصر ياقوت وصاحب الكشف على ذكر اسمها، وقال أبو الفضل المؤيد بن الموفق الصاحبي في كتاب «الحكم البوالغ، في شرح الكلم النوابغ»: رسالة الملائكة، ألفها أبو العلاء المعري على جواب مسائل تصريفية ألقاها إليه بعض الطلبة، فأجاب عنها بهذا الطريق الظريف المشتمل على الفوائد الأنيقة. انتهى. قلت: وأسلوبه فيها غريب، افتتحها معتذرا للسائل بكبر سنه، وبعد عهده بالمسائل النحوية والصرفية، وقربه من الموت. ثم بدأ في الجواب فقال: «أفتراني أدافع ملك الموت، فأقول: أصل ملك مألك ... إلخ». فساق هذا البحث في مناقشته مع الملك، وأتى بشواهد من كلام العرب، إلى أن انتقل إلى بحث آخر، فقال: «فيقول الملك: من ابن أبي ربيعة وأبو عبيدة، وما هذه الأباطيل؟ إن كان لك عمل صالح فأنت سعيد، وإلا فاخسأ وراءك، فأقول: فأمهلني حتى أخبرك بوزن عزرائيل، وأقيم الدليل على أن الهمزة فيه زائدة ... إلخ». ثم انتقل إلى ناكر ونكير، فباحثهما عن اسميهما، وهكذا حتى أتم الإجابة عن الأسئلة في هذا السياق العجيب. وعندي من هذه الرسالة نسخة مخطوطة ضمن مجموع، وبدار الكتب الأزهرية بالقاهرة أخرى، وقد أوردها السيوطي بتمامها في كتابه الأشباه والنظائر النحوية. (34)
رسائل المعونة: وهي التي كتبها على لسان غيره. ذكرها ياقوت وصاحب الكشف. (35)
رسل الراموز: نحو ثلاثين كراسة. ذكره ياقوت. (36)
الرياش المصطنعي: في شرح مواضع من الحماسة الرياشية، ألفه للأمير مصطنع الدولة أبي غالب كليب بن علي، وكان أنفذ إليه نسخة من هذه الحماسة، وسأله أن يخرج على حواشيها شيئا مما لم يذكره أبو رياش، فخشي أن تضيق الحواشي عن ذلك، فصنع هذا الكتاب في أربعين كراسة. ذكر في ياقوت والكشف. (37)
زجر النابح: يتعلق بلزوم ما لا يلزم، وذلك أن بعض الجهال تكلم على أبيات من لزوم ما لا يلزم، يريد بها التشرر والأذية، فألزم أبا العلاء أصدقاؤه بإنشائه، فأنشأه وهو كاره. مقداره أربعون كراسة في جزء واحد. ذكره ياقوت وصاحب الكشف. وله كتاب يتعلق بهذا ورد اسمه في نسخة ياقوت «بحر الزجر» وقد مضى ذكره. (38)
السادن: أنشأه في تفسير غريب كتابه الفصول والغايات، وما فيه من اللغز. مقداره عشرون كراسة. ذكره ياقوت وصاحب الكشف. (39)
السجعات العشر: موضوع على كل حرف من حروف المعجم عشر سجعات في المواعظ. ذكره ياقوت وصاحب الكشف. (40)
سجع الحمائم: تكلم فيه على لسان حمائم أربع، وكان بعض الرؤساء سأله أن يصنف له تصنيفا يذكره فيه، فأنشأ هذا الكتاب، وجعل ما يقوله على لسان الحمامة في العظة والحث على الزهد. مقداره ثلاثون كراسة، في أربعة أجزاء. ذكر في ياقوت والكشف. (41)
السجع السلطاني: يشتمل على مخاطبات الملوك والوزراء وغيرهم من الولاة. سأله فيه بعض من خدم السلطان، وارتفعت طبقته، ولم يكن له قدم في الكتابة، فطلب أن ينشأ له كتاب مسجوع من أوله إلى آخره، ولا يشعر بما يريد لقلة خبرته بالأدب. فألف له هذا الكتاب. قال ياقوت: في أربعة أجزاء، وقال صاحب الكشف: إنه ثمانون كراسة. (42)
سجع الفقيه: جزء في ثلاثين كراسة. ذكره ياقوت وصاحب الكشف. (43)
سجع المضطرين: كتاب لطيف، عمله لرجل تاجر مسافر، يستعين به على أمور دنياه، ذكره ياقوت وصاحب الكشف. (44)
سقط الزند: وهو ديوان يشتمل على أكثر من ثلاثة آلاف بيت، ضمنه شعره في صباه. وسماه بذلك لأن السقط أول نار تخرج من الزند، فشبه شعره الأول به. قال التبريزي: لما حضرت أبا العلاء، قرأت عليه كثيرا من كتب اللغة، وشيئا من تصانيفه، فرأيته يكره أن يقرأ عليه شعره في صباه، الملقب بسقط الزند، وكان يغير الكلمة بعد الكلمة منه إذا قرئت عليه، ويقول معتذرا عن تأبيه، وامتناعه من سماع هذا الديوان: مدحت نفسي فيه، فلا أشتهي أن أسمعه. وكان يحثني على الاشتغال بغيره من كتبه. انتهى. ولهذا الديوان شروح، أولها شرح لأبي العلاء نفسه سماه «ضوء السقط» وهو غير واف، نقله عنه التبريزي، وأوضح مشكلاته، وذكر اللغة الغريبة، واقتصر في تفسير المعاني على ما لا بد منه. ثم تناوله أبو يعقوب يوسف بن ظاهر النحوي، فأصلحه وزاد فيه، وسماه: «التنوير»، وطبع بمصر غفلا من اسم مؤلفه. ومن شرح هذا الديوان شرح الفخر الرازي، و«ضرام السقط» لمجد الدين أبي الفضل قاسم بن حسين بن محمد الخوارزمي المشهور بصدر الأفاضل النحوي، وقفت على نسخة منه في خزانة آل رفاعة بالقاهرة. و«الزوائد» لأبي رشاد الإخسيكتي، و«العمدة» لابن البارزي، وشرح ابن السيد البطليوسي وهو عزيز الوجود، وقعت لي منه أوراق من نسخة قديمة، فإذا به شرح على ديوان ممزوج من سقط الزند واللزوميات. وقد انتقد أبو بكر بن العربي على مواضع منه، فرد عليه ابن السيد في رسالة لطيفة، وقفت عليها وهي عندي، وللشيخ تاج الدين بن عبد الرحمن شرح على قصيدة لامية من هذا الديوان مطلعها:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
سماه: «مراقي العلا، في شرح لامية أبي العلا». وهو عندي في مجموع. (45)
سيف الخطيب: هكذا في الكشف، وفي ياقوت «سيف الخطبة». وهو جزءان، يشتمل على خطب السنة، فيه خطب للجمع والعيدين والخسوف والكسوف والاستسقاء وعقد النكاح، وهي مؤلفة على حروف من حروف المعجم، فيها خطب عمادها الهمزة، وخطب بنيت على الباء، وخطب على الدال، وعلى الراء، وعلى اللام، وعلى الميم، وعلى النون، وتركت الجيم والخاء وما يجري مجراهما؛ لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجا
2
سهلا. مقداره أربعون كراسة، وكان سأله فيه رجل من المتظاهرين بالديانة. (46)
شرح الرسالة الإغريضية: لم يذكره ياقوت، وذكره صاحب الكشف. مقداره عشرون كراسة. وللشيخ إبراهيم الفصيح بن صبغة الله الحيدري، من علماء أواخر القرن الثالث عشر، شرح على الرسالة الإغريضية، سماه: النوادر الحكمية والأدبية، ألفه برسم مصطفى باشا بن إبراهيم بن محمد علي والي مصر، وتوجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب الخديوية بالقاهرة. (47)
شرح كتاب سيبويه: في النحو، في خمسين كراسة، ولم يتمه. كما في ياقوت والكشف وبغية الوعاة. (48)
شرف السيف. قال ياقوت: عمله لنشتكين الدرزي الذي كان مقيما بدمشق، والسبب فيه أنه كان يوجه إلى أبي العلاء بالسلام، ويخفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل. وهو في جزءين. وفي كشف الظنون: «شرف السلف عشرون كراسة عمله لأمير الجيوش». (49)
الصاهل والشاحج: يتكلم فيه على لسان فرس وبغل. مقداره أربعون كراسة، صنفه لأبي شجاع فاتك الملقب بعزيز الدولة والي حلب من قبل المصريين، وكان روميا. ذكره ياقوت، وصاحب الكشف في الرسائل. وفي خطط المقريزي ج2 ص154 رواية رواها أبو العلاء في الصاهل والشاحج، للبيتين: زر وادي القصر ... إلخ.
والشاحج: البغل؛ وشحيجه، وشحاجه: صوته. (50)
ضوء السقط : فسر فيه غريب ديوانه سقط الزند، مقداره عشرون كراسة. ذكره ياقوت وصاحب الكشف وابن خلكان. وقد فصل بعضهم الدرعيات من سقط الزند، وطبعها على حدة في بيروت، وسماها: ضوء السقط، وهو خطأ ينبغي أن يتنبه له. (51)
الطل الطاهري: أنشأه لرجل يعرف بأبي طاهر. ذكره ياقوت، ولم يذكر في الكشف. (52)
ظهير العضدي: يتصل بالكتاب المعروف بالعضدي في النحو. ذكره ياقوت وصاحب الكشف والسيوطي. (53)
عبث الوليد: يؤخذ من عبارة ابن خلكان أنه اختصر فيه شعر البحتري وشرحه، واسم الكتاب لا يدل على ما قال. وقال غيره: إنه يتضمن أغاليط البحتري. وقال ياقوت: إنه يتصل بشعر البحتري، وكان سبب إنشائه أن بعض الرؤساء أنفذ نسخة ليقابل بها، فأثبت ما جرى من الغلط ليعرض ذلك عليه. وهو جزء واحد في عشرين كراسة. أقول: قد وقعت لي نسخة من هذا الكتاب، فوجدتها كما قال ياقوت، والخطأ الذي يذكره أبو العلاء تارة يكون من النسخة المرسلة إليه، وتارة من الناظم نفسه. ولهذا سماه بعبث الوليد تورية باسمه؛ لأن البحتري اسمه الوليد. والوليد أيضا: الصبي، فكأنه قال: لعب الصبي وخلطه. ورتب فيه الأبيات التي تعرض لها على حروف المعجم باعتبار قوافيها، وله فيه فوائد وآراء؛ كقوله في بيت البحتري في وصف فرس:
أخواله للرستمين
3
بفارس
وجدوده للتبعين بموكل
4
قال: يروى الرستمين على الجمع وكذلك التبعين، ويروى بالتثنية، والجمع أشبه؛ لأنه قال: أخواله، فجمع، وكذلك قال جدوده. فأن تكون الأخوال والجدود لملوك كثيرة أشبه من أن تكون لملكين. انتهى كلامه. قلت: وقد يقال أيضا في ترجيح ما رجحه أن لا وجه لتخصيص اثنين من تبابعة اليمن بالذكر؛ لأنه لم يسمع عن اثنين مخصوصين منهم امتازا بشهرة تصرف إليهما الأذهان، إذا ذكر التبعان، وما يقال فيهما يقال في الرستمين، فرواية الجمع أرجح وأقرب إلى الصواب. (54)
عظات السور: ذكره ياقوت، ولم يتكلم عليه. (55)
العظة والزهد: لم يذكره ياقوت، وذكره صاحب الكشف في حرف الكاف في الكتب، وقال: مئة وعشرون كراسة. (56)
عون الجمل، قال ياقوت: يتصل بكتاب الزجاجي، عمله لأبي الفتح محمد بن علي بن أبي هاشم، وهو آخر شيء أملاه. وفي كشف الظنون أنه شرح لشواهد جمل الزجاجي لم يتم، وكذلك في بغية الوعاة للسيوطي. (57)
الفصول: لم يذكره ياقوت، وذكره صاحب الكشف فقال: إنه غير الفصول والغايات، وهو أربع مئة كراسة. (58)
الفصول والغايات: هو الكتاب الذي زعم شانئوه أنه عارض به القرآن الكريم، وسماه الفصول والغايات في معارضة السور والآيات، وسنشبع القول في هذا الزعم عند الكلام على معتقده. وليس في هذا الكتاب إلا عظات ونصائح، والمراد بالغايات القوافي؛ لأن القافية غاية البيت أي منتهاه، وهو موضوع على حروف المعجم ما خلا الألف؛ لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألف، ومن المحال أن يجمع بين ألفين. ولكن تجيء الهمزة وقبلها ألف، مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، وليست حروفه المبني عليها مستوية الإعراب، بل تجيء مختلفة، وفيها ما يجيء على نسق واحد. وقيل: إنه بدأ فيه قبل رحلته إلى بغداد وأتمه بعد عوده إلى المعرة، ومقداره مئة كراسة. ذكره ياقوت وصاحب الكشف. ويتعلق بهذا الكتاب: إقليد الغايات، والسادن، وقد مر ذكرهما. (59)
فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه. ضمنه بعض فضائله، ذكره ياقوت فقط. (60)
قاضي الحق: يتصل بكتاب الكافي في النحو لأبي جعفر النحاس المتوفى سنة 338. ذكر في ياقوت والكشف. (61)
القائف: ذكره صاحب الكشف في حرف الكاف في الكتب، وسقط من نسخة ياقوت المطبوعة، إلا أن في كلامه على كتابه المسمى بمنار القائف دلالة على أن له كتابا بهذا الاسم. (62)
اللامع العزيزي، في شرح شعر المتنبي. صنفه للأمير عزيز الدولة ابن تاج الأمراء أبي الدوام ثابت بن ثمال، مقداره مئة وعشرون كراسة. ذكره ياقوت وصاحب الكشف وابن خلكان وغيرهم، ومنه نسخة بخزانة لا له لي بالقسطنطينية رقمها «1825». (63)
لزوم ما لا يلزم: هو ديوان كبير مرتب على حروف المعجم، يذكر كل حرف بوجوهه الأربعة: الضمة والفتحة والكسرة والسكون . ومعنى لزوم ما لا يلزم، أنه يلتزم قبل الروي حرفا إذا غير لم يكن مخلا بالنظم. قال في خطبته: إنه ذكر فيه ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد، أو تذكير للناسين، وتنبيه للغافلين، أو تحذير من الدنيا؛ فإن جاوز المشترط، فإن الذي جاوز إليه قول عري من المين. وهو أحد كتبه التي تكلموا فيها، وسنفصل القول فيه عند الكلام على معتقده وشعره. طبع بالهند سنة 1303 وبمصر سنة 1891-1895 ميلادية. وكان الأديب الفاضل الشيخ أحمد الفحماوي النابلسي، نزيل مصر رحمه الله تعالى، مشتهرا بكتابة نسخ من هذا الكتاب، يتحرى فيها الصحة، ويطرزها بالحواشي المفيدة، ثم يبيع النسخة بعشرين دينارا مصريا، فيتنافس في اقتنائها أعيان مصر وسراتها، وعندي منها نسختان. ووقعت لي نسخة مخطوطة من مختصر له، اسمه: مختار لزوم ما لا يلزم، تنقص أوراقا من أولها، ويبتدئ ما فيها من أثناء قافية الباء المضمومة، ولذهاب أولها لم أقف على اسم مؤلفها. ولأبي العلاء شرح عليه سماه: راحة اللزوم، وله أيضا: زجر النابح، وبحر الزجر، والراحلة. وكلها تتعلق باللزوميات، وقد مضى ذكرها. (64)
مبهج الأسرار: لم يذكره ياقوت، وقال صاحب كشف الظنون: لأبي العلاء، ولم يقل المعري، واسم الكتاب يدل على أنه لغيره. (65)
مثقال النظم: في العروض. ذكره ياقوت والسيوطي في بغية الوعاة. (66)
مجد الأنصار، في القوافي. ذكره ياقوت. (67)
المختصر الفتحي: يتصل بكتاب محمد بن سعدان، صنفه لرجل يكنى أبا الفتح محمد بن علي بن أبي هاشم، وكان أبو هذا الرجل تولى إثبات ما ألفه أبو العلاء من جميع كتبه، فألزمه بذلك حقوقا جمة، وأيادي كثيرة. كذا ذكر ياقوت. (68)
معجز أحمد: لم يذكره صاحب الكشف، ويذهب بعضهم إلى أنه هو اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي. ويستفاد من عبارة ابن خلكان أنه غيره، وأن أبا العلاء اختصر ديوان المتنبي، وتكلم على غريبه، وذكر سرقاته وما أخذ عليه في هذا الكتاب. ومن فوائده التي ذكرها فيه، ونقلها عنه أصحاب البديع، استنباطه لنوع من البديع سماه «الطاعة والعصيان» عند كلامه على قول المتنبي:
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
فزعم أنه أراد أن يقول وهو مستيقظ ليطابق بينه وبين راقد، ولما عصاه الوزن عدل عنه إلى قادر، وفيه معنى مستيقظ وزيادة، فأطاعه التجنيس المقلوب بين قادر وراقد، وعصته المطابقة بين رافد ومستيقظ. ورد عليه زكي الدين بن أبي الإصبع بأن ليس في البيت شيء من ذلك، لإمكان أن يقول: وهو ساهر بدل قادر. انتهى. وجل من أتى بهذا النوع من أصحاب البديعيات، لم تسلم أبياتهم من مثل هذا النقد. (69)
ملقى السبيل: مختصر فيه نظم ونثر، ذكره ياقوت وصاحب الكشف، ووقعت لي نسخة منه، فوجدته في المواعظ مرتبا على حروف المعجم، يذكر في كل حرف فقرات من النثر، ثم يتبعها بأبيات من القافية؛ كقوله في حرف الحاء: إن ابن آدم شحيح، سوف يمرض من القوم صحيح، يعصف بعقله الريح؛ إن ذلك لهو التبريح.
يا أيها الممسك الشحيح
سيمرض السالم الصحيح
ما لك لم تنتفع بعقل
هل عصفت بالعقول ريح
إن شيد القصر في سرور
فبعده يحفر الضريح
ويطرح الهم بالمنايا
من جسمه في الهوى طريح (70)
منار القائف: في تفسير ما جاء من اللغز والغريب في كتابه القائف، مقداره عشر كراريس. ذكره ياقوت. (71)
المواعظ الست: ذكره ياقوت وصاحب الكشف. ومعنى هذا الاسم أن الفصل الأول منه في خطاب رجل، والثاني في خطاب اثنين، والثالث في خطاب جماعة، والرابع في خطاب امرأة، والخامس في خطاب امرأتين، والسادس في نسوة. في خمس عشرة كراسة. (72)
نشر شواهد الجمهرة: لم يذكر في الكشف، وقال ياقوت: إنه في ثلاثة أجزاء، ولم يتم. (73)
نظم السور: ستة كراريس، ذكره صاحب الكشف، وجاء في نسخة ياقوت: تظلم السور، بالمثناة الفوقية، ولعله تحريف. (74)
وقعة الواعظ: وهكذا في نسخة ياقوت، وقال مصححه: لعله برقعة الواعظ، ولم يذكره صاحب كشف الظنون. •••
وله سوى ذلك كتب في العروض والشعر بدأ بها ولم تتم. ورأيت بعض العصريين ينسب إليه كتابا اسمه الفصوص، ويزعم أنه سقط منه في الدجلة، وهو يحمله إلى أحد الأمراء ببغداد، فقال فيه بعض الشعراء:
قد غاص في النهر كتاب الفصوص
وهكذا كل ثقيل يغوص
فأجابه أبو العلاء بقوله:
عاد إلى معدنه إنما
توجد في قعر البحار الفصوص
والصواب أن هذا الكتاب لأبي العلاء صاعد اللغوي البغدادي، أحد الراحلين إلى الأندلس، وبها ألفه، ووقعت له هذه القصة. وسببها أنه استأذن من المنصور بن أبي عامر في إملاء كتاب بجامع مدينة الزهراء، يفوق أمالي أبي علي القالي التي أملاها بقرطبة في دولة عبد الرحمن وابنه الحكم، واشترط أن لا يورد فيه خبرا أورده القالي. فأذن له في ذلك، فأملى كتاب الفصوص، ولما أكمله تتبعه أدباء الوقت، فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم، ولا خبر ثبت لديهم. وكان صاعد متهما بالكذب جريئا عليه، فأراد المنصور امتحانه، فعمد إلى كراريس بيض وأمر أن تجلد وتزال جدتها حتى يتوهم فيها القدم، وترجم عليها كتاب النكت تأليف أبي الغوث الصنعاني، فترامى إليه صاعد حين رآه، وجعل يقبله، ويقول: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان، فأخذه المنصور من يده خوفا من أن يفتحه، وقال: إن كنت قد قرأته كما تزعم، فعلام يحتوي؟ فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به، ولا أحفظ الآن منه شيئا، ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر، فقال له المنصور: أبعد الله مثلك، فما رأيت أكذب منك. وأمر بإخراجه وإلقاء كتاب الفصوص في النهر، فقال فيه بعض الشعراء، وأجابه صاعد بما تقدم.
قال ابن بسام: وما أظن أحدا يجترئ على مثل هذا، وإنما صاعد اشترط ألا يأتي إلا بالغريب غير المشهور، وأعانهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكذب. انتهى.
ومن جراءته على الكذب نادرته في الخنفشار، وذلك أن المنصور سأله يوما عنه، فقال على البديهة: هو حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:
لقد عقدت محبتها بقلبي
كما عقد الحليب الخنفشار
ورواية هذه اللفظة بالخاء المعجمة والفاء هو المشهور في كتب الأدب والتاريخ، وقد رويت بالباء الموحدة في نسختي نفح الطيب المطبوعتين بمصر، ووردت في التي طبعت بأوروبا بالحاء المهملة والباء الموحدة، ورواية البيت فيها:
لقد عقدت محبتها بقلبي
كما عقد الحليب بحنبشار
إلا أن المصحح ذكر بالحاشية ورودها في بعض النسخ بالخاء المعجمة والباء الموحدة؛ وفي أخرى بالخاء أيضا والفاء، وهو الصواب على ما ترجح عندي، وما عداه محرف عنه. وسببه أن صاحب نفح الطيب تلمساني كما هو معلوم، وقاعدة المغاربة في الكتابة نقط الفاء بنقطة من تحت، فيظهر أن نسخة الأصل كتبت بخط مغربي، وطمس الكاتب رأس الفاء، فظهرت بصورة الباء لمكان النقطة التحتية، وتصحيف الخاء المعجمة بالحاء المهملة قريب. وإنما رجحت هذا الوجه؛ لاشتهاره في سائر الكتب كما ذكرت آنفا. ويجوز أن يكون الصواب في أحد الوجهين الآخرين، إلا أن مثل هذا لا يثبت إلا بنص، ولم أقف على نص فيه. والخطب أسهل من أن نطيل فيه الكلام؛ لأن الظاهر من مفاد القصة أن الكلمة مخترعة. والله أعلم.
هوامش
فصل في ثروته وزهده
قد علمت مما تقدم أن أبا العلاء كان من بيت ثراء وغنى، والمتبادر في مثله أن يكون مثريا كأهله، ولكنك لو تتبعت بقية أخباره، وأنعمت النظر في أقواله عن نفسه، سواء كانت نثرا أو شعرا، ظهر لك أنه كان على العكس من ذلك. وحسبك تصريحه في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة، بأن الذي له في السنة نيف وعشرون دينارا يشاركه خادمه في معظمها. وسيمر بك في هذا الفصل شيء من أشعاره المنبئة عن إملاقه وحاجته. والحقيقة المزيلة للبس أنه كان على شيء من الثروة نكب فيه قبل قفوله من بغداد، فعاش بعد ذلك في كفاف، بدليل قوله:
أثراني عنكم أمران: والدة
لم ألقها وثراء عاد مسفوتا
1
أحياهما الله عصر البين ثم قضى
قبل الإياب إلى الذخرين أن موتا
يعني: أحيا الله والدتي ومالي وأنا بعيد عنهما، فلما أزمعت الإياب قضى على الوالدة بالموت، وعلى المال بالضياع.
على أنه كان على فقره قنوعا عيوفا كبير النفس، يضرب في علو الهمة بسهم وافر، لم يسمع أنه استماح أحدا ، أو مدح طمعا في نوال، ومن قوله في خطبة سقط الزند: «ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة، وامتحان السوس،
2
فالحمد لله الذي ستر بغفة
3
من قوام العيش، ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر. ومن غرر أقواله في ذلك:
وإني تيممت العراق لغير ما
تيممه غيلان عند بلال
فأصبحت محسودا بفضلي وحده
على بعد أنصاري وقلة مالي
غيلان هو ذو الرمة، كان قصد بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري مستميحا، وفيه يقول:
سمعت: الناس ينتجعون غيثا
فقلت لصيدح: انتجعي بلالا
وصيدح اسم ناقته، والرواية في الناس بالرفع على الحكاية؛ لأنه سمع من يقول: الناس ينتجعون غيثا، فحكى ما سمع. جزم بذلك المبرد، وعد الحريري النصب من الأوهام، وذهب غيرهما إلى أنه يجوز.
وقال أبو العلاء يصف حاله ببغداد:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شفى
رزي الأماني لا أنيس ولا مال
مقل من الأهلين يسر وأسرة
كفى حزنا بين مشت وإقلال
وكم ماجد في سيف دجلة لم أشم
له بارقا والمرء كالمزن هطال
4
من الغر تراك الهواجر معرض
عن الجهل قذاف الجواهر مفضال
سيطلبني رزقي الذي لو طلبته
لما زاد، والدنيا حظوظ وإقبال
وقال أيضا:
رحلت لم آت قرواشا أزاوله
ولا المهذب أبغي النيل تقويتا
والموت أحسن بالنفس التي ألفت
عز القناعة عن أن تسأل القوتا
قرواش كان واليا ببغداد، والمهذب وزيره. وروي أن المستنصر الفاطمي خليفة مصر بذل له ما في بيت مال المعرة من الحلال، فلم يقبل منه شيئا، وقال:
لا أطلب الأرزاق والمو
لى يفيض علي رزقي
إن أعط بعض القوت أع
لم أن ذلك فوق حقي
ويعجبني قوله في لزوم ما لا يلزم:
وكأنما الدنيا كعاب أينا
رجى لها صلة فذاك يسار
وإذا الفتى لحظ الزمان بعينه
هان الشقاء عليه والإعسار
وقوله:
نوائب ألقت في النفوس جرائحا
عصى كل آس في البرية سبرها
لي القوت فليغمر سرنديب حظها
من الدر أو يكثر بغانة تبرها
سرنديب : جزيرة قرب الهند، فيها مغواص للؤلؤ، وتسمى اليوم سيلان. وغانة: مدينة كبيرة في جنوبي بلاد المغرب، هي مدخل بلاد التبر كما في ياقوت، وتطلق اليوم على أرض واسعة في غربي قارة إفريقية، تقاسمها الإفرنج بينهم، واسمها في لغتهم (Guinée)
جينا بالإمالة، أو: غينا، والأصل فيه غانة؛ كما قدمنا، والرجوع إليه أولى. ويطلق الإفرنج هذا الاسم أيضا على أول دينار إنجليزي ضرب من الذهب المستخرج من هذه الجهة، وأبطل الإنجليز التعامل به من سنة 1817 ميلادية، واستعاضوا عنه بدينارهم المسمى (Souverain)
سوڨران، ومن هذا تعرف سبب تسمية المصريين كل دينار بالجنيه، وكان الصواب أن يسموه بالغاني، إن أرادوا النسبة إلى تلك الجهة، وإلا فالرجوع إلى الدينار أولى.
وكان شأن أبي العلاء في الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا شأنا عجبا، ولا يذهبن بك الظن فتتوهم أن للفقر مدخلا في زهده، فإن من تبذل له الخزائن، وتعرض عليه الصلات، لا تستعصي عليه غاية من الغايات، ولكنه نظر إلى هذا المتاع الزائل نظر من لم يلهه زخرفه عن استطلاع حقيقته، فصد عنه وزهد فيه جملة، وأخذ نفسه بالرياضة والخشونة، والإعراض عن العرض الفاني؛ فكان لباسه القطن، وفراشه اللبد، وحصيره برديه، وطعامه الفول والعدس، وحلاوته التين، وفيه يقول:
يقعنعني بلسن يمارس لي
فإن أتتني حلاوة فبلس
5
فلس ما اخترت إن أروح من
يسار قارون عفة وفلس
6
وسنورد مختار شعره في الزهد، متى وصلنا إلى الكلام على منظومه، كما أننا سنشبع القول في سبب تجافيه عن أكل الحيوان، عند الكلام على معتقده.
وكان رحمه الله، على عوزه ورقة حاله، بذولا لما عنده، غير مانع معروفا عن مستحق، يتكلف في ذلك ما استطاع. بلغه مرة أن شاعرا يلقب بصريع البين ساءت به الحال، فأنفذ إليه قدرا من الدراهم، وأتبعها لقصيدة يقول فيها:
قد استحييت منك فلا تكلني
إلى شيء سوى عذر جميل
وقد أنفذت ما حقي عليه
قبيح الهجو أو شتم الرسول
وذاك، على انفرادك، قوت يوم
إذا أنفقت إنفاق البخيل
فكيف وأنت علوي السجايا
فليس إلى اقتصادك من سبيل
إلى أن يقول:
فإن يك ما بعثت به قليلا
فلي حال أقل من القليل
وحدث للقاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الفقيه المالكي المشهور ضيق وشدة، وهو ببغداد، فلم ير بدا من الرحيل عنها، وخرج لتشييعه يوم فصل جمع من أكابرها، وطوائف كثيرة، من أهلها، وما فيهم إلا متوجع لفراقه، أو آسف على فوات الاستفادة من علمه، فقال لهم عند الوداع: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت عن بلدكم. فلم تحرك مقالته واحدا منهم، يتكفل له بما طلب؛ فسار عنهم قاصدا مصر، واجتاز بمعرة النعمان، وبها يومئذ أبو العلاء، فأضافه واحتفى به، وفيه يقول:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكا جدلا
وينشر الملك الضليل إن شعرا
7
ثم حباه عند رحيله بثلاثين درهما، وخاطبه معتذرا بقوله:
أيبسط عذري منعم أم يخصني
بما هو حظي من أليم عتاب
قبول الهدايا سنة مستحبة
إذا هي لم تسلك طريق تحاب
فيا ليتني أهديت خمسين حجة
مضت لي فيها صحتي وشبابي
وقلت له فاترك ثلاثين أسودا
متى ما تكشف تلف غير لباب
إذا أسكت المحتج كل مناظر
فعند ابن نصر نجدة بجواب
وما أنا إلا قطرة من سحابة
ولو أنني صنفت ألف كتاب
وبين يديه كفر طاب وإنسها
يعيش لفقد الماء عيش ضباب
لعل الذي أنفذت يكفيه ليلة
لإسباغ طهر حان أو لشراب
يقول: لعل هذه الدراهم القليلة، وإن كانت سوداء غير خالصة الفضة، تكفي الشيخ لأن يشتري بها قليلا من الماء لطهره أو لشرابه؛ فإنه معرج على كفر طاب، وهي قليلة الماء، وأهلها يعيشون بها عيش الضباب. وإنما خص الضباب بالذكر؛ لأنها تصبر على العطش. وبعض المحققين من أهل عصرنا يرى أن كفر طاب هي البلدة المسماة الآن بإدلب، وهي قصبة قضاء باسمها، من لواء حلب. ولم تزل قليلة الماء. وفيها يقول أبو العلاء في لزومياته:
أرى كفر طاب أعجز الماء حفرها
وبالس أغناها الفرات عن الحفر
8
كذلك مجرى الرزق ، واد بلا ندى
وواد به فيض وآخر ذو جفر
ولما وصل القاضي عبد الوهاب المذكور إلى مصر، أقبلت عليه الدنيا، وانهالت عليه صلات الأمراء، ولكنه لم يتمتع بشيء منها، بل مات عقب وصوله من أكلة اشتهاها، وسمعوه يقول وهو يتقلب ويتململ: لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا. وهو القائل في بغداد:
بغداد دار لأهل المال طيبة
وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها
كأنني مصحف في بيت زنديق
هوامش
فصل في بقية أخباره
لما دخل أبو العلاء بغداد أقبل عليه علماؤها وأدباؤها، معجبين بفطنته، وسعة علمه. واختص بصحبته جماعة منهم؛ كأبي القاسم علي بن المحسن القاضي التنوخي، وكخازن دار العلم؛ والشريفين الرضى والمرتضى ابني أبي أحمد الموسوي، وغيرهم. وكان المرتضى شديد الاختصاص به، وله معه مباحثات ومداعبات.
روي أنه حضر مجلسه يوما، وجرى ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضى، وجعل يتتبع عيوبه؛ لبغضه له، وتعصبه عليه. وكان أبو العلاء على عكسه يتعصب للمتنبي، ويزعم أنه أشعر المحدثين، ويفضله على بشار ومن دونه؛ كأبي نواس وأبي تمام. فقال: لو لم يكن للمتنبي إلا قوله: «لك يا منازل في القلوب منازل» لكفاه فضلا. فغضب المرتضى، وأمر به فأخرج من مجلسه، ثم التفت إلى من بحضرته، وقال لهم: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة، مع أن لأبي الطيب ما هو أجود منها؟ فقالوا: النقيب السيد أعرف، فقال: أراد قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
قلت: ومن التلميح المستعذب بهذا البيت، ما وقع للفتح بن خاقان مع ابن الصائغ، وقد ذكره بسوء في كتابه قلائد العقيان، فمر عليه ابن الصائغ يوما وهو في جماعة، فضرب بيده على كتفه، وقال: إنها شهادة يا فتح. ثم مضى في سبيله، فتغير لون الفتح، وقال: والله ما بلغت بوصفي له في كتابي عشر ما بلغ مني بهذه الكلمة!
ويشبه قصة المعري مع المرتضى ما وقع للخالدين مع سيف الدولة، لما عاتباه في تفضيله المتنبي، وقالا: ليختر الأمير ما شاء من قصائده، حتى تنظم ما هو أجود منها، فاقترح عليهما أن يعارضا قوله:
لعينيك ما يلقي الفؤاد وما لقي
وللحب ما لم يبق مني وما بقي
فلما كررا النظر فيها لم يجداها من غرر قصائده، ثم فطنا إلى أن سيف الدولة أراد بهما قوله فيها:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
أراه غباري ثم قال له الحق
فأحجما عن المعارضة ولم يعاوداه. وفي رواية أن هذه القصة وقعت للسري الرفاء لا الخالديين. وحكى بعضهم، قال: خرجت على سبيل الفرجة، فقعدت على الجسر ببغداد، فأقبلت امرأة من جانب الرصافة تريد الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم، فقالت في الحال: ورحم الله أبا العلاء المعري. ولم يقفا، ومرا مشرقا ومغربة، فتتبعت المرأة وقلت لها: أخبريني عافاك الله عما قال لك، وعما أجبت به. فقالت: نعم، رحم الله علي بن الجهم، أراد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت بترحمي على أبي العلاء قوله:
فيا دارها بالحزن إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
وروي أن أحد الشرفاء سقط منه خاتم في الحرم، فقال له أحد بني عمه:
لم لم تقف على طلب هذا الخاتم الثمين؟ فقال له: ألست من أبناء أمير المؤمنين؟ أراد الأول قول المتنبي:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
وأراد الثاني قوله من قصيدة أخرى:
كذا الفاطميون الندى في أكفهم
أعز امحاء من خطوط الرواجب
1
يريد: أن الندى ملازم لأكفهم، كما أن خطوط الرواجب ملازمة لها.
وفي البيت الأول نادرة لأبي العلاء، وذلك أنه بلغ من ولوعه بالمتنبي أنه كان إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبو نواس كذا، قال البحتري، قال أبو تمام، فإذا أراد المتنبي قال: قال الشاعر. فقيل له يوما: لقد أسرفت في وصفه، فقال: أليس هو القائل:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
كم يقف الشحيح على خاتمه ؟ يقف عليه أربعين يوما. فقيل له: ومن أين علمت ذلك؟ قال: سليمان بن داود عليهما السلام وقف على طلب الخاتم أربعين يوما، فقيل له: ومن أين علمت أنه بخيل؟ قال: من قوله تعالى:
وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، وما كان عليه أن يهب الله لعباده أضعاف ملكه!
ولما بلغ أبا العلاء وفاة أبي أحمد الطاهر أبي الشريفين الرضى والمرتضى سنة 403، رثاه وهو بالمعرة بقصيدة فائية طويلة، أجاد فيها كل الإجادة، وأنفذها إليهما، مطلعها:
أودى فليت الحادثات كفاف
مال المسيف وعنبر المستاف
ومن غريب قوله فيها يخاطب الغراب:
لا خاب سعيك من خفاف أسحم
كسحيم الأسدي أو كخفاف
من شاعر للبين قال قصيدة
يرثي الشريف على روي القاف
بنيت على الإيطاء سالمة من الإقواء
والإكفاء والإصراف
الخفاف: الخفيف، وسحيم: عبد بني الحسحاس، كان أسود. وأراد بخفاف: خفاف بن ندبة
2
أحد غربان العرب وشعرائها، يعني كأن هذا الغراب شاعر أسود كهذين الشاعرين، ينعى لنا الشريف بنعيبه، ويرثيه بقصيدة قافية؛ لأنه يقول في نعيبه: غاق غاق. وهذه القصيدة بنيت على الإيطاء؛ لأنه يردد هذه الكلمة في قوافيها، إلا أنها سالمة من الإقواء، وهو الاختلاف بين القوافي بالرفع والجر؛ ومن الإكفاء، وهو المخالفة بينها بالحروف؛ ومن الإصراف، وهو الإقواء بالنصب.
وممن صحب أبا العلاء وأخذ عنه وهو ببغداد القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي المتقدم ذكره، وكانت بينهما رابطة اتحاد. وحمل إليه مرة جزءا من أشعار تنوخ في الجاهلية، مما كان جمعه والده أبو علي المحسن، فلما تعجل أبو العلاء الرحيل عن بغداد تركه عند أبي أحمد عبد السلام، وسأله رده إلى أبي القاسم، وسار عن بغداد، فخشي أن يكون أغفله، فكتب يخاطب أبا القاسم بقصيدة ضمنها أغراضا، يقول فيها:
أهدي السلام إلى عبد السلام فما
يزال قلبي إليه الدهر ملفوتا
سألته قبل يوم السير مبعثه
إليك ديوان تيم اللات ماليتا
3
هذا لتعلم أني ما نهضت إلى
قضاء حج فأغفلت المواقيتا
وروى ابن خلكان وابن الوردي في تاريخهما، نقلا عن كتاب للحافظ أبي طاهر السلفي، وضعه في أخبار أبي العلاء، قال فيه مسندا عن القاضي أبي الطيب الطبري: كتبت إلى أبي العلاء المعري حين وافى بغداد، وقد كان نزل في سويقة غالب:
وما ذات در لا يحل لحالب
تناوله واللحم منها محلل
لمن شاء في الحالين حيا وميتا
ومن رام شرب الدر فهو مضلل
إذا طعنت في السن فاللحم طيب
وآكله عند الجميع معقل
وخرفانها للأكل فيها كزازة
4
فما لحصيف الرأي فيهن مأكل
وما يجتني معناه إلا مبرز
عليم بأسرار القلوب محصل
فأجابني، وأملى على الرسول في الحال:
جوابان عن هذا السؤال كلاهما
صواب وبعض القائلين مضلل
فمن ظن كرما فليس بكاذب
ومن ظنه نخلا فليس يجهل
لحومهما الأعناب والرطب الذي
هو الحل والدر الرحيق المسلسل
ولكن ثمار النخل وهي غضيضة
5
تمر
6
وغض الكرم يجنى ويؤكل
يكلفني القاضي الجليل مسائلا
هي النجم قدرا بل أعز وأطول
ولو لم أجب عنها لكنت بجهلها
جديرا ولكن من يودك مقبل
قال القاضي أبو الطيب: فأجبته عنه، وقلت:
أثار ضميري من يعز نظيره
من الناس طرا سابغ
7
الفضل مكمل
ومن قلبه كتب العلوم بأسرها
وخاطره في حدة النار مشعل
تساوى له سر المعاني وجهرها
ومعضلها باد لديه مفصل
ولما أثار الحب قاد
8
منيعه
أسيرا بأنواع البيان يكبل
وقربه من كل فهم بكشفه
وإيضاحه حتى رآه المغفل
وأعجب منه نظمه الدر مسرعا
ومرتجلا من غير ما يتمهل
فيخرج من بحر ويسمو مكانه
جلالا إلى حيث الكواكب تنزل
فهنأه الله الكريم بفضله
محاسنه والعمر فيها مطول
فأملى أبو العلاء على الرسول مرتجلا:
ألا أيها القاضي الذي بدهائه
سيوف على أهل الخلاف تسلل
فؤادك معمور من العلم آهل
وجدك في كل المسائل مقبل
فإن كنت بين الناس غير ممول
فأنت من الفهم المصون ممول
إذا أنت خاطبت الخصوم مجادلا
فأنت وهم مثل الحمائم، أجدل
كأنك من في الشافعي مخاطب
ومن قلبه تملي فما تتمهل
وكيف يرى علم ابن إدريس دارسا
وأنت بإيضاح الهدى متكفل
تفضلت حتى ضاق ذرعي بشكر ما
فعلت وكفي عن جوابك أجمل
لأنك في كنه الثريا فصاحة
وأعلى ومن يبغي مكانك أسفل
فعذري في أني أجبتك واثقا
بفضلك فالإنسان يسهو ويذهل
وأخطأت في إنفاذ رقعتك التي
هي المجد لي منها أخير وأول
ولكن عداني أن أروم احتفاظها
رسولك وهو الفاضل المتفضل
ومن حقها أن يصبح المسك عاطرا
بها
9
وهي في أعلى المواضع تجعل
فمن كان في أشعاره متمثلا
فأنت امرؤ في العلم والشعر أمثل
تجملت الدنيا بأنك فوقها
ومثلك حقا من به تتجمل
والقاضي أبو الطيب المذكور كان أديبا ورعا، عارفا بأصول الفقه وفروعه، صنف في الأصول ومذهب الشافعي والخلاف والجدل - كتبا كثيرة. وكان يقول الشعر على طريقة الفقهاء، وولي القضاء بربع الكرخ ببغداد، ولم يزل عليه إلى أن مات سنة خمسين وأربع مئة، بعد ما عاش مئة سنة وسنتين، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ، ويقضي، ويحضر المواكب في دار الخلافة. رحمه الله تعالى.
ومن أخبار أبي العلاء قصته مع أسد الدولة صالح بن مرداس صاحب حلب، وقبوله شفاعته في أهل معرة النعمان بعد أن كاد يبطش بهم سنة 417. والسبب في ذلك أن امرأة صاحت يوم الجمعة بجامع المعرة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد اغتصابها، فنفر كل من في الجامع وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان الأمير أسد الدولة في نواحي صيدا، فوصل المعرة، وخيم بظاهرها، واعتقل من أعيانها سبعين رجلا برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ، وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة. فشق على المسلمين هذا الأمر، حتى دعوا لهؤلاء المعتقلين على منابر آمد وميارقين. وقطع تادرس عليهم ألف دينار، ففزع أهل المعرة إلى أبي العلاء، وسألوه تلافي الأمر بالخروج إلى الأمير، والتوسط لهم عنده. فخرج من أحد أبواب المدينة، ويده في يد قائده، وأبصره صالح. فرأى شيخا قصيرا يقوده رجل، فقال: هذا أبو العلاء، جيئوني به. فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال: «الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع، قاظ وسطه وطاب إبراده، أو كالسيف القاطع، لان متنه وخشن حداه:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . فقال صالح: «لا تثريب عليكم اليوم، قد وهبت لك المعرة وأهلها»، وأمر بتقويض الخيام ورحل. فرجع أبو العلاء وهو يقول:
نجى المعرة من براثن صالح
رب يعافي كل داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألحفهم جناح تفضل
ورواية اللزوميات في البيت الأول:
نجى المعاشر من براثن صالح
رب يفرج كل أمر معضل
وفيها أيضا: ألبسهم، بدل: ألحفهم. ولم يعلم أبو العلاء أن المال قد قطع عليهم، وإلا كان قد سأل فيه أيضا. وفي هذه القصة يقول وضمنها لزومياته:
تغيبت في منزل برهة
ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق
فكم نفقت محنة ما كسد
وصالح هذا هو أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس الكلابي أول ملوك بني مرداس بحلب، كان من عرب البادية، وكانت له عشيرة وشوكة، فقصد مدينة حلب وانتزعها من مرتضى الدولة بن لؤلؤ، نائب الظاهر بن الحاكم الفاطمي خليفة مصر، وتملكها سنة 417. ثم جهز الظاهر الجيوش ووجهها إليه، وجرت مقتلة انجلت عن قتل صالح سنة 420، وقيل سنة 419.
وهو الذي عناه أبو العلاء بقوله في لزومياته:
أرى حلبا حازها صالح
وجال سنان على جلقا
وحسان في سلفي طيئ
يصرف من عزه أبلقا
وذكر السيوطي في بغية الوعاة في ترجمة نصر بن صدقة القابسي النحوي، أنه كان ممن يعاني الأدب، فقدم مصر وأخذ عن علمائها، ثم توجه إلى المعرة فلازم أبا العلاء، وأخذ عنه ديوانه سقط الزند، وكتب منه نسخة جيدة، ورجع إلى مصر، فقدمها للحاكم وقرأها عليه، فأعجبه نظمه، وأرسل إلى عزيز الدولة الوالي بحلب، أن يحمله إلى مصر، فاعتذر فكف عنه. هذا ما ذكره السيوطي. وفي مقدمة رسالة للمعري تسمى بالفلاحية: أن القابسي المذكور لما رجع إلى مصر بنسخته سقط الزند، أهداها للوزير أبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، فأعجب بها، واستدعى كاتب الديوان، وأمره أن يكتب إلى عزيز الدولة متولي حلب وأعمالها في حمل أبي العلاء إلى مصر، ليبني له دار علم، وسمح بخراج معرة النعمان له في حياته وبعده، فوصلت الأوامر إلى ديوان الشام بكتب السجل، فكتب، وجهز على البريد. فلما وقف عليه عزيز الدولة نهض للوقت، حتى دخل معرة النعمان، وقرأ السجل على أبي العلاء، فقال: أمهلني حتى أكتب جواب السجل إلى مجلس الوزارة، فلعل العفو يسامحني بالمقام في بلدي؛ إذ لا يمكنني الخروج منه. فأمهله الأمير، فأحضر الكاتب للوقت، وأملى عليه هذه الرسالة يعتذر فيها عن عدم الرحيل بعجزه عنه. والوزير الفلاحي المذكور وزر للمستنصر سنة 436 وعزل سنة 439. ولم تسبق له وزارة مدة الحاكم بأمر الله، حتى يمكن الجمع بين الروايتين. وقد تقدم أن المستنصر بذل لأبي العلاء ما ببيت مال المعرة من الحلال، فلم يقبله. فلعل ذلك كان بسعي هذا الوزير، وفيه ما يرجح الرواية الثانية. إلا أن يكون مراد السيوطي مطلق حاكم بمصر، لا الحاكم بأمر الله على الخصوص. وكان هذا الوزير في أول أمره يهوديا، ثم أسلم. وفيه يقول الحسن بن خاقان الشاعر المصري:
حجاب وإعجاب وفرط تصلف
ومد يد نحو العلا بتكلف
فلو كان هذا من وراء كفاية
عذرنا ولكن من وراء تخلف
وكان معه أبو سعد التستري اليهودي يدبر الدولة له، فقال بعض الشعراء:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إني نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
وممن ارتبط مع أبي العلاء برابطة الود، وجمعته به آصرة الأدب؛ الوزير أبو القاسم الحسين بن علي العالم الأديب المشهور بالوزير المغربي، صاحب مختصر إصلاح المنطق، وأدب الخواص، والمأثور في ملح الخدور، وكتاب الإيناس، والديوان الشعر. وهو الذي كتب له أبو العلاء رسالته المسماة بالمنيح، ورسائل أخرى. ولما فرغ من تأليف مختصر إصلاح المنطق لابن السكيت أنفذ إلى أبي العلاء نسخة منه، فقرظها برسالة طويلة سماها بالإغريضية، أثنى عليه فيها ثناء جما، ووصف المختصر، وبالغ في مدحه. ووقفت في رسائل لأبي العلاء مخطوطة على كتاب أرسله له هذا الوزير، يتشوق إليه وإلى أخيه، ويشتكي من الدهر وصروفه، ويسأل الله أن يجمعه بهما، وضمنه كثيرا من شعره في هذه الأغراض. ولولا خوف الإطالة لأثبته هنا.
وكان الوزير المذكور من الدهاة العارفين، محبا للفتن، مثيرا للقلاقل، قتل الحاكم بأمر الله أباه وعمه وأخويه، فهرب إلى الرملة، ثم انتقل إلى الحجاز، وهو يفسد نيات الولاة على الحاكم حتى أقلقه. ودخل العراق فاتهمه القادر العباسي بالسعي في إفساد الدولة العباسية، فلم يزل منتقلا في البلاد حتى مات بميافارقين سنة 418 على الأصح. ونقل إلى الكوفة بوصية منه، ودفن في تربة مجاورة لمشهد الإمام كرم الله وجهه؛ وأوصى أن يكتب على قبره:
كنت في سفرة الغواية والجه
ل مقيما فحان مني قدوم
تبت من كل مأثم فعسى يم
حى بهذا الحديث ذاك القديم
بعد خمس وأربعين لقد ما
طلت إلا أن الغريم كريم
ورثاه أبو العلاء بأبيات أثبتها في لزومياته، وهي:
ليس يبقى الضرب
10
الطويل على الأرض
ولا ذو العبالة
11
الدرحايه
يا أبا القاسم الوزير ترحل
ت وخلفتني ثفال
12
رحايه
وتركت الكتب الثمينة للنا
س وما رحت عنهم بسحايه
13
ليتني كنت قبل أن تشرب المو
ت أصيلا شربته بضحايه
إن نحتك المنون قبلي، فإني
منتحاها وإنها منتحايه
أم دفر تقول بعدك للذا
ئق لا طعم لي فأين فحايه
14
إن يخط الذنب اليسير حفيظا
ك فكم من فضيلة محايه
وكان ابن القارح صاحب الرسالة المشهورة للمعري يؤدب الوزير المغربي في صباه، ثم صار يذمه ويعدد معايبه، حتى قال في هجوه:
لقبت بالكامل سترا على
نقصك كالباني على الخص
فصرت كالكنف إذا شيدت
بيض أعلاهن بالجص
يا عرة الدنيا بلا غرة
ويا طويس
15
الشؤم والحرص
قتلت أهليك وأنهبت بي
ت الله بالموصل تستعصي
وبلغ أبا العلاء كلامه فيه فامتعض وتألم. فلما كتب ابن القارح رسالته قال فيها في هذا الخصوص مخاطبا أبا العلاء : «بلغني عن مولاي الشيخ - أدام الله تأييده - أنه قال وقد ذكرت له: أعرفه خبرا، هو الذي هجا أبا القاسم الحسين بن علي المغربي. فذلك منه أدام الله عزه رائع لي، خوفا أن يستشر طبعي، وأن يتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر، وهو بتعريف التنكير أنفع لي عنده، لجلالة قدره ودينه ونسكه. وأنا أطلعه طلعه، ليعرف خفضه ورفعه، وفراداه وجمعه». ثم ساق بعد ذلك نوادر عن هذا الوزير في تهوره ومحبته للفتن، ونقضه للعهود. فأجابه أبو العلاء في رسالة الغفران بأن هذا الصديق قد مات، وأولى بمن يغفر الذنب للحي أن يغفره له وهو ميت.
وكان أبو الخطاب محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم الجبلي
16
شاعرا، وكان بينه وبين أبي العلاء المعري مشاعرة، وفيه قال أبو العلاء قصيدته:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
ومات أبو الخطاب في ذي القعدة سنة 439. كذا ذكر ياقوت في معجم البلدان.
هوامش
شعره
فصل في المكرر في معانيه
تكرير المعاني وقع لكثير من الشعراء، ولم نر أحدا عابهم به، إلا إذا كان المعنى في نفسه ساقطا مرذولا، يؤاخذ الشاعر عليه، فتكون مؤاخذته على تكريره وترديده أولى. ومن الشعراء من يكرر الألفاظ فيعمد إلى بيت أو شطر بيت سبق له، فيعيده في قصيدة أخرى؛ إما بتغيير قافية، أو بجعل الصدر عجزا، أو بالعكس. وهذا النوع يسميه أصحاب البديع بالتفصيل، فإذا كان مأخوذا من شعر الغير سموه: إيداعا، أو تضمينا، على اختلاف بينهم فيه. ولم نقصد هنا التكلم عليه، بل اقتصرنا على ما كرره أبو العلاء من معانيه.
فمنها قوله في تشبيه مسامير حلق الدروع بعيون الجراد:
سليمية من كل قتر يحوطها
قتير نبت عنه الغواني العوانس
تخيل أبصار الدبى فمسهد
ومغف وشيء بين ذينك ناعس
وكرره فقال:
كأن الدبى غرقى بها غير أعين
إذا رد فيها ناظر يستبينها
وكرره فقال:
كأثواب الأراقم مزقتها
فخاطتها بأعينها الجراد
وكرره أيضا فقال:
بدلاص كأنها
بعض ماء الثماد
حلة الأيم خيطت
بعيون الجراد
وكرره فقال:
أتأكل درعي أن حسبت قتيرها
وقد أجدبت قيس عيون جراد •••
وقوله في تشبيه الدرع بالمبرد:
وما بردة في طيها مثل مبرد
بعاجزة عن ضم شخص وأوصال
كرره فقال:
مضاعة في نشرها نهي مبرد
ولكنها في الطي تحسب مبردا •••
وقوله:
ذكي القلب يخضبها نجيعا
بما جعل الحرير لها جلالا
كرره وبالغ فيه فقال:
غذاهن محمر النجيع قوارحا
كما كن يغذين الضريب مهارا •••
وقوله في تشبيه فرند السيف بآثار دبيب النمل:
ودبت فوقه حمر المنايا
ولكن بعدما مسخت نمالا
كرره فقال:
كأن المنايا جيش ذر عرمرم
تخذن إلى الأرواح فيه مسارا
وكرره أيضا فقال:
ما كنت أحسب جفنا قبل مسكنه
في الجفن يطوى على نار ولا نهر
ولا ظننت صغار النمل يمكنها
مشي على اللج أو سعي على السعر
1 •••
وقوله في تشبيه طحلب الماء باللثام:
وملتثم بالغلفق الجعد عرست
عليه فلم تكشف خفي لثامه
وكرره فقال:
وكم أوردتها عدا قديما
يلوح عليه من خز خمار •••
وقوله:
فالنفس تبغي الحياة جاهدة
وفي يمين المليك مقودها
فلا اقتحام الشجاع مهلكها
ولا توقي الجبان مخلدها
كرره فقال:
فكن في كل نائبة جريئا
تصب في الرأي إن خطئ الهدان
2
وسائل من تنطس في التوقي
لأية علة مات الجبان •••
وقوله:
تمتع أبكار الزمان بأيده
وجئنا بوهن بعد ما خرف الدهر
كرره فقال:
كأنما الخير ماء كان وارده
أهل العصور فما أبقوا سوى العكر
وقوله:
وكل ما يريد العيش والعيش حتفه
ويستعذب اللذات وهي سمام
كرره فقال:
تود البقاء النفس من خيفة الردى
وطول بقاء المرء سم مجرب •••
وقوله:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم
والبدر في الوهن مثل البدر في السحر
كرره فقال:
وما البدر إلا واحد غير أنه
يغيب ويأتي بالضياء المجدد
فلا تحسب الأقمار خلقا كثيرة
فجملتها من نير متردد •••
وقوله في رثاء أمه:
مضت وقد اكتهلت فخلت أني
رضيع ما بلغت مدى الفطام
وكرره في رثائها أيضا فقال:
دعا الله أما ليت أني أمامها
دعيت ولو أن الهواجر آصال
مضت وكأني مرضع وقد ارتقت
بي السن حتى شكل فودي أشكال
هوامش
فصل في سرقاته
هذا باب لم أقف عليه مجموعا، فيسهل علي تناوله، واستيفاء الكلام فيه. وإنما أذكر منه ما اتفق لي العثور عليه في كتب الأدب عند كتابة هذه النبذة، أو استخرجه الخاطر الكليل أثناء مطالعة ديوانه. وأبدأ بمآخذه من أبي تمام والبحتري وأبي الطيب المتنبي، ثم أذكر مآخذه من غيرهم من غير ترتيب.
فمن ذلك قول أبي تمام:
والحظ يعطاه غير طالبه
ويحرز الدر غير مجتلبه
تلك بنات المخاض راتعة
والعود في كوره وفي قتبه
أخذه أبو العلاء وأخرجه في بيت واحد فقال:
هو الحظ غير الوحش يستاف أنفه
خزامي وأنف العود بالعود يخزم •••
وقال أبو تمام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام
أخذه أبو العلاء وزاد عليه، فقال:
فأضحوا حديثا كالمنام وما انقضى
فسيان منه يقظة ومنام •••
وقال أبو عبادة البحتري:
أخجلتني بندى يديك فسودت
ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالوصل حتى إنني
متخوف ألا يكون لقاء
أخذهما أبو العلاء وضمن معناهما في صدر بيته، فقال وأجاد:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
والعذاب يهجر للإفراط في الخصر
وهذا البيت من معجزاته، إلا أنه أورده في غزل القصيدة، وكان مديحها أولى به. •••
وقال البحتري:
نشوان يطرب للسؤال كأنما
غناه مالك طيئ أو معبد
أخذه أبو العلاء وزاد فيه زيادة لا تخفى على الأديب، فقال:
فما ناح قمري ولا هب عاصف
من الريح إلا خاله صوت سائل
فالبحتري جعل ممدوحه يطرب لصوت السائل، طرب المنتشي من المغني المجيد، وأبو العلاء جعله كلما سمع صوتا من تطريب حمام، أو إزعاج أرواح؛ خاله صوت سائل، لمزيد اعتنائه بالسؤال، وولعه بالنوال. •••
وقال أبو الطيب المتنبي في وصف فرس:
وأصرع أي الوحش قفيته به
وأنزل عنه مثله حين أركب
أخذه أبو العلاء فقال:
أصيل الجد سابقه تراه
على الأين المكرر مستريحا •••
وقال أبو الطيب:
يقولون تأثير الكواكب في الورى
فما باله تأثيره في الكواكب
أخذه أبو العلاء، فقال:
من قال إن النيران عوامل
فبضد ذلك في علاك يقول
يعملن فيما دونهن بزعمه
ولهن دونك مطلع وأفول
قال شارحه أبو يعقوب النحوي: وقول أبي العلاء أرفع؛ لأنه جعل الممدوح فوق النجوم. انتهى.
وأقول أنا: إن أبا العلاء إنما شرح المعنى ووضحه، فبين أن علة عدم تأثير الكواكب في ممدوحه علوه عنها، وهذا مستفاد من قول المتنبي:
فما باله تأثيره في الكواكب
لأن المؤثر في العادة أعلى وأقوى من المؤثر فيه، ففيه معنى بيتي المعري وزيادة. •••
وقال أبو الطيب:
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
أخذه أبو العلاء فقال:
ما رغبة الحي بأبنائه
عما جنى الموت على جده •••
وقال أبو الطيب:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل
أخذه أبو العلاء فقال:
وآفة العاشق في طرفه
وآفة الصارم من حده
وكلا البيتين فيه زيادة عن الآخر لا تخفى. •••
وقال أبو الطيب:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
أخذه أبو العلاء، فقال:
يتهللون طلاقة وكلومهم
ينهل منهن النجيع الأحمر
وبيته أبلغ في المدح؛ لأن غاية المتنبي أن وصف ممدوحه بتهلله عند هزيمة جيشه، احتقارا للأخطار. والمعري جعل ممدوحيه يتهللون وهم مصابون يقطر منهم الدم. •••
وقال أبو الطيب:
يموت راعي الضأن في جهله
ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره
وزاد في الأمن على سربه
أخذه أبو العلاء، فقال:
رددت إلى مليك الخلق أمري
فلم أسأل متى يقع الكسوف
فكم سلم الجهول من المنايا
وعوجل بالحمام الفيلسوف •••
وقال أبو الطيب:
في رتبة حجب الورى عن نيلها
وعلا فسموه علي الحاجبا
أخذه أبو العلاء فقال:
وقد سماه سيده عليا
وذلك من علو القدر فال
وفي بيت المتنبي زيادة ساعد عليها لقب ممدوحه. •••
وقال أبو الطيب أيضا:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
أخذه أبو العلاء فقال:
تمتع أبكار الزمان بأيده
1
وجئنا بوهن بعدما خرف الدهر •••
وقال أبو الطيب:
وقد يتقارب الوصفان جدا
وموصوفاهما متباعدان
أخذه أبو العلاء فقال:
قد يبعد الشيء من شيء يشابهه
إن السماء نظير الماء في الزرق •••
وقال أبو الطيب:
وإذا خفيت عن الغبي فعاذر
أن لا تراني مقلة عمياء
أخذه أبو العلاء فقال:
وكم عين تؤمل أن تراني
وتفقد عند رؤيتي السوادا
يريد: إذا رأتني خفيت عليها، فكأنها عميت، وفقدت سوادها. •••
وقال عمارة بن عقيل:
وما النفس إلا نطفة
2
في قرارة
إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
أخذه أبو العلاء فقال:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر •••
وقال النابغة الذبياني في النعمان:
فإنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهم كوكب
أخذه أبو العلاء، فقال في قصر نزلته عروس ممدوحه، فخرج من كان فيه من حاشيته:
كان كالأفق حين همت به الشم
س تنادت نجومه بالمسير •••
وقال عدي بن الرعلاء:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
ألم به أبو العلاء فقال:
سالم أعدائك مستسلم
والعيش موت لهم مرغم •••
وقالت ليلى أخت الوليد بن طريف ترثيه:
أيا شجر الخابور مالك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف
أخذه أبو العلاء وتصرف فيه، فقال:
وما كنت أدري أن مثلك يشتكي
ولم يتغير للرياح نسيم •••
وقال عبيد بن الأبرص يصف السحاب:
كأن أقرابه لما علا شطبا
3
أقراب أبلق يبغي الخيل رماح
أخذه أبو العلاء فقال:
سرت لها ترمح أفلاءها
في الجو بلق عربيات
ذكروا أنهم يصفون السحاب بالبلق، لما فيها من لمع البروق؛ وهو قول حسن. والأقرب عندي أنهم يصفونها بذلك؛ لأن فيها ما هو رقيق، وما هو كثيف، وما هو متقطع؛ فيخيل لناظرها أنها بلقاء. •••
وقال الحطيئة:
يرى البخل لا يبقي على المرء ماله
ويعلم أن المرء غير مخلد
أخذه أبو العلاء فقال:
إذا أوتيت مالا فابذلنه
فما يبقيه توفير وخزن •••
وقال الأفوه الأودي:
وقدور كالربا راكدة
وجفان كالجوابي مترعه
أغار عليه أبو العلاء فقال:
وقدورهم مثل الهضاب رواكدا
وجفانهم كرحيبة الأفياف
4 •••
وقال كثير عزة:
وكنت كذات الظلع لما تحاملت
على ظلعها بعد العثار استقلت
أخذه أبو العلاء فقال:
أودعكم يا أهل بغداد والحشا
على زفرات ما ينين من اللذع
وداع ضن
5
لم يستقل وإنما
تحامل من بعد العثار على ظلع •••
وقال امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
أخذه أبو العلاء، وغلا بأن جعله قيدا للريح، فقال:
وخيلا لو جرت والريح شأوا
ظننا الريح أوثقها إسار •••
وقال أبو فراس الحمداني:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أخذه أبو العلاء، فقال:
وأصبح واحد الرجلين إما
مليكا في المعاشر أو أبيلا •••
وقال بديع الزمان الهمذاني:
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا
لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت
والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
أخذ أبو العلاء نصف شطر منه، وقصر أي تقصير، فقال:
إذا قيل بحر فهو ملح مكدر
وأنت نمير الجود عذب الشمائل •••
وقال أبو حية النميري:
ولما أبت إلا التواء بودها
وتكديرها الشرب الذي كان صافيا
شربنا برنق
6
من هواها مكدر
وكيف يعاف الرنق من كان صاديا
والبيتان في غاية الحسن، إلا أن أبا العلاء ضمن معناهما في بيت، فقال:
ولما أن تجهمني مرادي
جريت مع الزمان كما أرادا •••
وقال أبو الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة
طمعا لذكرك، فليلمني اللوم
أخذه أبو العلاء فقال:
لم يبق غير العذل من أسبابهم
فأحب من يدنو إلي عذول •••
وقال أبو الشمقمق في حراقة
7
طاهر بن الحسين:
عجبت لحراقة ابن الحسي
ن كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد
وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها
وقد مسها كيف لا تورق
أخذ أبو العلاء البيت الثالث، وزاد فيه بأن بين علة عدم إيراق العود. وأحسن التعليل، فقال:
من كل من لولا تسعر بأسه
لا خضر في يمنى يديه الأسمر •••
وقال آخر في الحمام، وينسب للمنازي:
شجى قلب الخلي فقيل غنى
وبرح بالشجى فقيل ناحا
قصر أبو العلاء في أخذه فقال:
فقلت تغني كيف شئت فإنما
غناؤك عندي يا حمامة إعوال •••
وقالت ولادة بنت المستكفي:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي
فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح
وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
وقال أبو العلاء:
منك الصدور ومني بالصدور رضا
من ذا علي بهذا في هواك قضى
بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت
من الكآبة أو البرق ما ومضا
ولم أدر أيهما أخذ من الآخر، لاجتماعهما في عصر واحد. ولا يبعد أن يكون من التوارد، إلا أن قول ولادة أبلغ! •••
أما قول أبي العلاء:
مني إليك مع الرياح تحية
مشفوعة ومع الوميض رسول
فلا يعد من السرقة في شيء، وإن سبقه غيره إليه؛ لأن إرسال التحية مع النسيم أو البرق من المعاني الشائعة التي تداولتها الشعراء، ولم تزل تتداولها. وإنما يظهر التفاضل بينهم فيها بحسن سبكها وإبرازها في اللفظ المقبول، والتلطف في تصويرها. ولهذا تركت التنبيه عما وقع في شعره منها، كما أني لم أتعرض لما خفي ودق من سرقاته؛ لئلا يمر ناظر عليه من غير تثبت فينكره، ويرميني بالخطأ أو التحامل. •••
واعلم أن ما ذكرناه عن المعري في هذا الباب قلما يخلو منه شاعر قديم أو حديث، ولسنا بواصلين فيه إلى حد الجزم بأنه تعمد سرقته؛ إذ قد يعرض المعنى للشاعر فينظمه، ولا يمر بخاطره وقت نظمه أنه مسبوق به، وربما كان مما لم يقف عليه في شعر غيره. وباب التوارد واسع، كما وقع لطرفة بن العبد وامرئ القيس في قوله:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فأتى به طرفة في معلقته مغيرا لقافيته فقط، فقال: «وتجلد» بدل «وتجمل»، وثبت عند الرواة أنه لم يطلع عليه قبل ذلك. وقال علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح:
8 «كان محمد بن وكيع متأدبا ظريفا، ويقول الشعر، وعمل كتابا في سرقات المتنبي، وحاف عليه كثيرا. وسألني يوما أن أخرج معه، واستصحب مغنيا وأمره ألا يغني إلا بشعره، فغنى:
لو كان كل عليل
يزداد مثلك حسنا
لكان كل صحيح
يود لو كان مضنى
يا أكمل الناس حسنا
صل أكمل الناس حزنا
غنيت عني ومالي
وجه به عنك أغنى
فقلت: أتثقل عليك المؤاخذة؟ فقال: لا. فقلت: أبياتك مسروقة؛ الأول من قول بعضهم:
ولو كان المريض يزيد حسنا
كما تزداد أنت على السقام
لما عيد المريض إذا وعدت
شكايته من النعم الجسام
والثاني من قول رؤبة:
مسلم
9
لا أنساك ما حييت
لو أشرب السلوان ما سليت
ما لي غنى عنك ولو غنيت
10
فقال: والله ما سمعت بهذا. فقلت: إذا كان الأمر على هذا، فاعذر المتنبي على مثله، ولا تبادر إلى الحط عليه، ولا المؤاخذة له؛ والمعاني يستدعي بعضها بعضا». انتهى.
ولا بد لنا قبل ختم هذا الباب من ذكر نوع يعده كثيرون من السرقة وليس منها، كقول الطغرائي:
وذي شطاط كصدر الرمح معتقل
بمثله غير هياب ولا وكل
وقول الحريري في مقامته الرابعة والأربعين من قصيدة بائية:
وذا شطاط كصدر الرمح معتقل
صادفته بمنى يشكو من الحدب
قال الصفدي: «ومثل هذا لا يعد سرقة؛ لأن المعنى ليس ببديع، ولا لفظه بفظيع،
11
ولا الطغرائي بعاجز عن الإتيان بمثله، بل جرى على لسانه، ونسي أن هذا لغيره، لعدم الاحتفال بأمره إذ هو ليس بأمر كبير. وهذا كثير الوقوع للناس، لا يكاد يسلم الفحول منه». انتهى كلامه.
وقال التنوخي في زهر الربيع: «ومما يعد سرقة وليس بها، اشتراك اللفظ المتعارف، كقول عنترة:
وخيل قد دلفت لها بخيل
عليها الأسد تهتصر اهتصارا
وقالت الخنساء:
وخيل قد دلفت لها بخيل
فدارت بين كبشيها رحاها»
انتهى.
قلت: وتحقيق المقام أن الكلام المأخوذ يشترط فيه ألا يكون ذا معنى كبير أو لفظ بالغ حدا ما من الرشاقة، فإذا أدمجه الشاعر في بيته جاء به غير مقصود لذاته، بل يجعله كالتوطئة لمعنى آخر مقصود له، يبني البيت عليه. ويظهر لك ذلك فيما استشهد به الصفدي والتنوخي، وهو كثير في شعر العرب والمحدثين، وقد وقفت منه على جملة صالحة، لو جمعت لجاءت رسالة لطيفة، كقول الراعي النميري:
فتى يشتري حسن الثناء بماله
إذا ما اشترى المخزاة بالمجد بيهس
وهو مثل قول الأبيرد:
فتى يشتري حسن الثناء بماله
إذا السنة الشهباء
12
أعوزها القطر
وتبعها أبو نواس، فقال:
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
وقول دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وهو مثل قول المتلمس:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
ولا أمر للمعصي إلا مضيع
وفي هذا القدر كفاية. والكلام في السرقات الشعرية وأنواعها، واستيعاب ما قيل فيها، لا يتسع له مثل هذا المختصر؛ فإذا من الله بتوفيقه، وكان في العمر مهلة، وضعنا فيها رسالة تستقل بجمع شتاتها، وتفصيل ما أجمل منها.
ومن غريب ما وقفت عليه من ملاحظاتهم، ما رواه علي بن العباس النوبختي، قال: قال لي البحتري: أتدري من أين أخذ الحسن
13
قوله:
ولم أدري من هم غير ما شهدت به
بشرقي ساباط الديار البسابس
فقلت: لا، فقال: من قول أبي خراش:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه
ولكنه قد سل عن ماجد محض
فقلت: المعنى يختلف. فقال: إنا نرى حذو الكلام واحدا وإن اختلف المعنى. انتهى.
قلت: إذا كان مراد البحتري مجرد البيان، فقد لاحظ ملاحظة دقيقة، وإذا كان قصده الحط من أبي نواس والنعي عليه، فقد - لعمري - ركب متن عشواء، وتخبط في ظلماء؛ فإن احتذاء كلام العرب مطلوب في البلاغة، وما حث العلماء على إكثار النظر في أشعارها واستظهارها إلا توصلا إلى ذلك. ولولا محاولته ما صبرنا على الغدائر المستشزرات، والقنو المتعثكل؛ بل لو لم يصقل البحتري شعره بتلك المسحة العربية، ما كانت له الديباجة الغريبة التي انفرد بها بين معاصريه، وبذ بها أهل طبقته. والله أعلم.
هوامش
فصل في مآخذ الشعراء من شعره
القول في هذا الباب كالقول في سابقه؛ فلهذا نقتصر على ذكر ما حضر منه، دون استيعاب سائره. فمنه قول أبي العلاء:
لا تطلبن بآلة لك رفعة
قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل
أخذه أبو إسحق الغزي، فقال :
والحسن والقبح قد تحويهما صفة
شان البياض وزان الشيب والشنبا
ظبا المخارف
1
أقلام مكسرة
رءوسهن وأقلام السعيد ظبا •••
وقال أبو العلاء يصف خيلا:
ولما لم يسابقهن شيء
من الحيوان سابقن الظلالا
أخذه ابن حمد يس فقال وأجاد:
ويكاد يخرج سرعة من ظله
لو كان يرغب في فراق رفيق •••
وقال أبو العلاء:
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت
عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
أخذه الطغرائي فقال:
ونفس بأعقاب الأمور بصيرة
ما من طلاع الغيب حاد وقائد
وتأنف أن يشفي الزلال غليلها
إذا هي لم تشتق إليها الموارد
وقال أبو العلاء:
وما ازدهيت وأثواب الصبا جدد
فكيف أزهى بثوب من صبا خلق
أخذه الطغرائي أيضا فقال:
لم أرتض العيش والأيام مقبلة
فكيف أرضى وقد ولت على عجل •••
وقال أبو العلاء:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم
والبدر في الوهن مثل البدر في السحر
أخذه الطغراني فقال:
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
قال الصفدي: ولكن قول المعري ألطف عبارة، وأحسن شارة وإشارة؛ لأن الطغرائي أغرب عن لفظتي رأد والطفل، وعذوبة الألفاظ أمر مهم في البلاغة. انتهى. وقد ناقشه بدر الدين الدماميني في «نزول الغيث» بما لا يخلو إيراده من فائدة، ونص عبارته: «أقول: الإغراب في اللفظ، هو الإتيان به غريبا، وقد نص بعض الأئمة على أن الغرابة كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال؛ فمنه ما يحتاج في معرفته إلى أن ينقر ويبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة، ثم الغريب منه حسن، وهو الذي لا يعاب استعماله عند العرب؛ لأنه لم يكن وحشيا عندهم، مثل اشمخر واقمطر، ومنه قبيح يعاب استعماله مطلقا، ويسمى الوحشي الغليظ؛ وهو أن يكون، مع كونه غريب الاستعمال، ثقيلا على السمع، كريها في الذوق، ويسمى المتوعر أيضا، مثل اطلخم الأمر. وعلى كل تقدير فلا نسلم أن رأد والطفل من الغرابة في شيء، كما ادعاه الصفدي. وفي قوله: وعذوبة الألفاظ أمر مهم في البلاغة، قرينة دالة على أنه أراد أن الرأد والطفل من الغريب المستكره في الذوق، المسمى بالمتوعر. وظاهر أن ذلك خطأ نشأ من سوء الذوق، وعدم المعرفة بكلام القوم، والإعراض عن التدبر لاصطلاحهم». انتهى كلامه. •••
وقال أبو العلاء:
وأغدو ولو أن الصباح صوارم
وأسري ولو أن الظلام جحافل
أخذه عفيف الدين التلمساني فقال:
أسير ولو أن الصباح مواكب
وأسري ولو أن الظلام قتام •••
وقال أبو العلاء في سيف:
ودبت فوقه حمر المنايا
ولكن بعدما مسخت نمالا
أخذه الوزير أبو محمد عبد الغفور فقال:
تريه المنايا الحمر فيه وجوهنا
مماثلة الأرواح في خلقة الذر •••
وقال أبو العلاء:
والنجم استصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
أخذه التهامي فقال:
لم أخف إلا للعلو وإنما
تخطي السها لعلوه الأبصار •••
وقال أبو العلاء:
وفضل الشمس في الأيام باق
وإن مدت من الكبر اللعابا
أخذه ابن سناء الملك، فقال من قصيدة يهجو بها الشمس:
أنت عجوز لم تبرجت لي
وقد بدا منك لعاب يسيل •••
وقال أبو العلاء:
خفف الوطء ما أظن أديم الأ
رض إلا من هذه الأجساد
أخذه مهيار الديلمي فقال:
رويدا بأخفاف المطي فإنما
تداس جباه في الثرى وخدود •••
وقال أبو العلاء فأجاد:
الموقدون بنجد نار بادية
لا يحضرون وفقد العز في الحضر
إذا همى القطر شبتها عبيدهم
تحت الغمائم للسارين بالقطر
أي إذا أطفأ المطر نارهم شبتها عبيدهم بالقطر، وهو العود ليهتدي الساري برائحته. قال الصفدي: وعليه اعتمد ابن عباد في قوله، على أنه ما فارق المغنى، ولا خالف المعنى؛ وهو:
المكثرين من الكباء
2
بنارهم
لا يوقدون بغيره للساري •••
وقال أبو العلاء:
سألن فقلت مقصدنا سعيد
فكان اسم الأمير لهن فالا
أخذه عصر ينا سليم رحمي بك رحمه الله، فقال في محمد شريف باشا وزير مصر:
يقول القوم مطلبكم عزيز
فقلت نعم ومقصدنا شريف •••
وقال أبو العلاء:
تحية كسرى في السناء وتبع
لربعك لا أرضى تحية أربع
أخذه أحمد شوقي بك، فقال في مدح السلطان عبد الحميد:
سلام الله لا أرضى سلامي
فكل تحية دون المقام
هوامش
فصل في مقارنة بعض معانيه بمعاني غيره
قال أبو العلاء:
جهل بمثلك أن يزور بلادنا
يختال بين أساور وخلاخل
أوما رأيت الليل يلقي شهبه
حتى يجاوزها بحلة عاطل
وقال الوزير ابن زيدون:
قعيدك أني زرت نورك واضح
وعطرك نمام وحليك مرجف
هبيك اعتررت
1
الحي واشيك هاجع
وفرعك غربيب وليلك أغضف
2
فكيف اعتسفت الهول خطوط مدمج
وردفك رجراج وخصرك مخطف
3
أقول: مدار المعنى في الشعرين على التعجب من مخاطرة هذه المعشوقة في زيارة صاحبها. فتناوله كلا الشاعرين، وتلاعب به، فأبرزه في الصورة التي شاء له اقتداره إبرازه فيها؛ وقد أجاد كل منهما فيما حاوله، وتساويا في الإحسان، فلا أرى للترجيح مدخلا بينهما. ويلوح لي أن كليهما اعتمد في توليد معناه على قول أبي الطيب:
قلق المليحة وهي مسك هتكها
ومسيرها بالليل وهي ذكاء
ولا يظهر ما قلته إلا بزيادة التدقيق، وإطالة التأمل. •••
وقال أبو العلاء:
آلى أميرك لا يسري الخيال لنا
إذا هجعنا فقد أسرى وما علما
وكم تمنت رجال فيك مغضبة
أن يبصروه فلم يظهر لهم سقما
وقال ماني الموسوس وقد سأله محمد بن طاهر إجازة قول الشاعر:
حجبوها عن الرياح لأني
قلت يا ريح بلغيها السلاما
لو رضوا بالحجاب كان ولكن
منعوها يوم الرياح الكلاما
فقال:
فتنفست ثم قلت لطيفي
ويك لو زرت طيفها إلماما
حيها بالسلام سرا وإلا
منعوها لشقوتي أن تناما
أقول: خلاصة المعنى المبالغة في الحجر عليها. فادعى أبو العلاء أن ولي أمرها بالغ في حجبها، حتى حلف على خيالها ألا يزور حبيبها، ولكن الخيال غافله وزاره، ولضناه في حبه نحل، فخفى على من يترصد رؤيته، وقصر ماني فلم تصل يده إلى الخيال. وبيتاه على ما فيهما من حسن التخيل وعذوبة الألفاظ ينحطان عن بيتي أبي العلاء. •••
وقال أبو العلاء:
ذكرت بها قطعا من الليل وافيا
مضى كمضي السهم أقصر من قطع
وقال آخر:
ظللنا عند دار أبي نعيم
بيوم مثل سالفة الذباب
وقال آخر:
ويوم كإبهام القطاة مزين
إلى صباه غالب لي باطله
فأبو العلاء شبه الليل في قصره بالقطع ، وهو النصل الصغير، والثاني شبه يومه في قصره بعنق الذباب . والثالث شبهه بإبهام القطاة. قال أبو يعقوب النحوي: وهذا أشد مبالغة من قول أبي العلاء، إلا أنه أغرب في الصنعة، من حيث إنه ذكر قطع الليل وقطع السهم، جاعلا مضي الليل كمضي السهم. ا.ه.
هوامش
معتقده
فصل في اختلافهم فيه
لم يختلف الناس في رجل اختلافهم في أبي العلاء، ولا تراوحوا بشخص بين الكفر والإيمان تراوحهم به. فلا غرو إذا قضى مثل هذا التناقض على الباحث في أمره ألا يتلقى كل ما قيل عنه بالقبول، وأن يجنح إلى مقارنة ما نطق به بما نقل عنه؛ توصلا إلى حكم بات فيه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وقد تأملت المختلفين فيه، فوجدتهم على ثلاثة أقسام:
فريق متزندقون، يكفرونه ويحبونه لكفره، ومنهم متفرنجة هذا العصر؛ أو مؤمنون يبغضونه لذلك.
وفريق يذهبون إلى صحة إيمانه، وربما تغالوا فألحقوه بالأولياء الواصلين، ورووا له الكرامات.
وآخرون متحيرون أمسكوا عنه، ووكلوا أمره لخالقه.
وأنا بادئ بذكر أقوالهم فيه، ثم معقبها بما ثبت من أقواله، مقسمة إلى فصول، كما فعلت بأخباره، فأقول:
ذكر غير واحد أنه كان متهما في دينه، وأنه اجتاز باللاذقية ونزل ديرا كان به راهب له علم بأقاويل الفلاسفة، فسمع كلامه، فحصل له بذلك شكوك. واستدلوا أيضا على إلحاده بتجافيه عن أكل الحيوان خمسا وأربعين سنة، قالوا: وهذا من اعتقاد الحكماء المتقدمين؛ لأنهم يرون في ذبح الحيوان تعذيبا له. وسيأتي الكلام على ذلك في فصل مستقل. ونقلوا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه قال: قال لي المعري مرة: ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده. فقلت له: ما أنا إلا شاك. فقال: وهكذا شيخك. وقال في حقه الباخرزي في دمية القصر: «ضرير ما له في أنواع الأدب ضريب، ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألد محجوج. وقد طال في ظلال الإسلام أناؤه، ولكن ربما يترشح بالإلحاد إناؤه؛ وعندنا خبر بصره، والله أعلم ببصيرته، والمطلع على سريرته؛ وإنما تحدثت الألسن بإساءته، ككتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن، وعنونه بالفصول والغايات، ومحاذاة السور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الخيانة، وجذ تلك الهوسات كما يجذ العير الصليانة، حتى قال فيه القاضي أبو جعفر قصيدة أولها:
كلب عوى بمعرة النعمان
لما خلا عن ربقة الإيمان
أمعرة النعمان ما أنجبت إذ
أخرجت منك معرة العميان
انتهى.
وممن حكم بزندقته شمس الدين الذهبي، وأطال في ترجمته، وذكر له فيها قبائح. قال الصفدي: وأظن الحافظ السلفي قال إنه تاب وأناب. وتحامل عليه أبو الفداء في تاريخه، وغض منه كثيرا؛ حتى اضطر ابن الوردي للرد عليه. وفي الكوكب الثاقب أن القاضي المنازي دخل عليه فذكر ما يسمعه من الطعن فيه، ثم قال: ما لي وللناس، وقد تركت لهم دنياهم، فقال المنازي: وأخراهم أيضا، فقال: يا قاضي! وأخراهم أيضا. وجعل يكررها. وفي هذه الرواية تحامل من المؤلف؛ فقد رواها ابن خلكان في ترجمة المنازي على أنه قال له: والآخرة أيضا، وجعل يكررها، ويتألم لذلك، وأطرق، فلم يكلمه إلى أن قام.
ونقل ياقوت عن رسالة الغفران أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أجلى أهل الذمة عن جزيرة العرب شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلا من يهود خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:
يصول أبو حفص علينا بدرة
رويدك؛ إن المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حمولة مأقط
لتشبع؛ إن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقا ما ظهرتم
علينا؛ ولكن دولة ثم تذهب
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا
لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا
وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
ثم قال ياقوت: وهذا يشبه أن يكون شعره، قد نحله هذا اليهودي، أو أن إيراده لمثل هذا، واستلذاذه به؛ من أمارات سوء عقيدته، وقبح مذهبه. انتهى.
والعجب من ياقوت، كيف يزعم هذا الزعم، ومن أين أتى له أن هذه الأبيات من شعره، أو أنه أوردها استلذاذا بها، وهو إنما جاء بها في أثناء كلامه على الزنادقة وتقبيح أعمالهم. وأحر أن يكون إيراده لها في عرض إنكاره عليهم، من أبين الأدلة على حسن عقيدته. وليست رسالة الغفران ببعيدة على من يريد تحقيق ذلك.
وسئل فتح الدين بن سيد الناس: ما كان رأي الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فيه؟ فقال: كان يقول: هو في حيرة، فقال الصفدي: وهذا أحسن ما يقال في أمره؛ لأن في كلامه تناقضا كثيرا. وإلى الله ترجع الأمور.
هذا ما وقفت عليه من كلامهم في سوء عقيدته، إلا قليلا منه سيرد عليك فيما يأتي من الفصول.
ونقلوا عن رسالة ابن العديم أنه قال: إني اعتبرت من ذم أبي العلاء ومن مدحه، فوجدت كل من ذمه لم يره ولا صحبه، ووجدت كل من لقيه هو المادح له.
وقال ابن الوردي بعد ما أورد مراسلاته مع القاضي أبي الطيب الطبري التي مر ذكرها في أخباره: «وشهادة أبي الطيب في الشيخ مقدمة على شهادة الغير، وحسن الظن خصوصا بالعلماء قد دل عليه القرآن والحديث، وهو لا يأتي إلا بخير. وكان شيخنا عبس حسن العقيدة؛ واعتراف الطبري له ومدحه يكفيه.
شهادة الطبري الحبر كافية
أبا العلاء فقل ما شئت أو فذر
من أغمد السيف عنه كان في دعة
ومن نضى السيف قابلناه بالطبر»
انتهى كلامه. وقوله: قابلناه بالطبر فيه تورية، والطبر هو الطبرزين، معرب، ومعناه: فأس السرح؛ لأن فرسان العجم كانت تحمله معها تقاتل به، ويقال له عندهم التبر. كذا ذكر المحبي في «قصد السبيل؛ فيما في اللغة العربية من الدخيل».
ونقلوا أيضا عن رسالة ابن العديم المذكورة أنه قال: قرأت بخط أبي اليسر شاكر المعري في ذكره، وكان رضي الله عنه يرمى من أهل الحسد له بالتعطيل، ويعمل تلاميذه وغيرهم على لسانه الأشعار، يضمنونها أقاويل الملحدة؛ قصدا لإهلاكه، وإيثارا لإتلاف نفسه، فقال رضي الله عنه:
حاول إهواني قوم فما
واجهتهم إلا بإهوان
وحرشوني بسعاياتهم
فغيروا نية إخواني
لو استطاعوا لوشوا بي إلى الم
ريخ في الشهب وكيوان
وقال أيضا:
غريت بدمي أمة
وبحمد خالقها غريت
وعبدت ربي ما استطع
ت ومن بريته بريت
وفرتني الجهال حا
سدة علي وما فريت
سعروا علي فلم أح
س وعندهم أني هريت
قال الصفدي: «أما الموضوع على لسانه، فلعله لا يخفى على من له لب. وأما الأشياء التي دونها، وقال بها في لزوم ما لا يلزم، وفي استغفر واستغفري، فما فيه حيلة. وهو كثير، فيه ما فيه من القول بالتعطيل والاستخفاف بالنبوات. ويحتمل أنه ارعوى وتاب بعد ذلك كله. وحكي لي عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه قال في حقه: هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت». انتهى كلام الصفدي. قلت: أما استغفر واستغفري فلم أقف عليه؛ فإن كان ما فيه يشبه ما في لزوم ما لا يلزم، فسيرد عليه ما يزيل الشك فيه.
وقال ابن الوردي في تاريخه: «وأنا كنت أتعصب له لكونه من المعرة، ثم وقفت له على كتاب استغفر واستغفري فأبغضته، وازددت عنه نفرة، ونظرت له في كتاب لزوم ما لا يلزم، فرأيت التبري منه أحزم؛ فإن هذين الكتابين يدلان على أنه كان لما نظمهما عالما حائرا، ومذبذبا نافرا، يقر فيهما أن الحق قد خفي عليه، ويود لو ظفر باليقين فأخذه بكلتا يديه؛ كما قال في مرثية أبيه:
طلبت يقينا من جهينة عنهم
ولم تخبريني يا جهين سوى الظن
فإن تعهديني لا أزال مسائلا
فإني لم أعط الصحيح فأستغني
ثم وقفت له على كتاب «ضوء السقط» الذي أملاه على الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الأصبهاني، الذي لازم الشيخ إلى أن مات، ثم أقام بحلب، يروي عنه كتبه، فكان هذا الكتاب عندي مصلحا لفساده، موضحا لرجوعه إلى الحق وصحة اعتقاده؛ فإنه كتاب يحكم بصحة إسلامه مؤلا، ويتلو لمن وقف عليه بعد كتبه المتقدمة «وللآخرة خير لك من الأولى»؛ فلقد ضمن هذا الكتاب ما يثلج الصدر، ويلذ السمع، ويقر العين، ويسر القلب، ويطلق اليد، ويثبت القدم؛ من تعظيم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خير بريته، والتقرب إلى الله بمدائح الأشراف من ذريته، وتبجيل الصحابة، والرضا عنهم ، والأدب عند ذكر ما يتلقى منهم، وإيراد محاسن من التفسير ، والإقرار بالبعث والإشفاق من اليوم العسير، وتضليل من أنكر المعاد، والترغيب في أذكار الله والأوراد، والخضوع للشريعة المحمدية وتعظيمها. وهو خاتمة كتبه، والأعمال بخواتيمها. وقد يعذر من ذمه، واستحل شتمه، فإنه عول على مبادئ أمره، وأوسط شعره؛ ويعذر من أحبه، وحرم سبه، فإنه اطلع على صلاح سره، وما صار إليه في آخر عمره؛ من الإنابة التي كان أهلها، والتوبة التي تجب ما قبلها. وكان يقول رحمه الله: أنا شيخ مكذوب عليه». انتهى كلامه بنصه.
قلت: وليس في لزوم ما لا يلزم ما يصل بالإنسان إلى حد التبري منه، كما ذكر الشيخ، والبيتان اللذان رواهما من مرثية أبيه لا يدلان على ما ذهب إليه، وإنما مراده أن علم الغيب محجوب عنه، فلا يدري عن أبيه: أهو في شقاء أم نعيم، وهما مثل قوله من هذه القصيدة:
جهلنا فلم نعلم على الحرص ما الذي
يراد بنا والعلم لله ذي المن
قال شارحه أبو يعقوب النحوي: «وهذا على معنى أن أمر السعادة والشقاوة مطوي عن العباد، وأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى، وهي مستورة. ولهذا كره السلف أن يقول القائل: أنا مؤمن حقا، بل أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لا على معنى الشك في الإيمان والاعتقاد، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله تعالى في ذلك، وانطواء أمر الخاتمة». انتهى.
وذكر ابن الوردي في تاريخه أيضا: أن حساده أغروا به وزير حلب، فجهز لإحضاره خمسين فارسا ليقتله، فأنزلهم أبو العلاء في مجلس له بالمعرة، فاجتمع بنو عمه إليه، وتألموا لذلك، فقال: إن لي ربا يمنعني، ثم قال كلاما منه ما لا يفهم، وقال: الضيوف، الضيوف! الوزير، الوزير! فوقع المجلس على الخمسين فارسا فماتوا، ووقع الحمام على الوزير بحلب فمات؛ فمن الناس من زعم أنه قتلهم بدعائه وتهجده. ومنهم من زعم أنه قتلهم بسحره ورصده. وهذه القصة رواها صاحب الكوكب الثاقب بزيادة تفصيل، فذكر عن الغزالي أنه قال: حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار، قال: دخلت معرة النعمان، وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل، فأمر محمود بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسا ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان، وقال: يا ابن أخي قد نزلت بنا هذه الحادثة، والملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار. فقال: هون عليك يا عم، ولا بأس عليك؛ فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال: في منزلة كذا وكذا. فقال: زنه واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا، واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل، يا علة العلل، يا صانع المخلوقات، وموجد الموجودات؛ أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام، الضيوف الضيوف، الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدة عظيمة. فسأل عنها، فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها، فقتلت الخمسين. وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ، فقد وقع الحمام على الوزير. قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك، دخلت على المعري، فقال: من أين أتيت؟ فقلت: من أرض الهركار، فقال: زعموا أنني زنديق، ثم قال: اكتب. وأملى علي أبياتا من قصيدة أولها:
أستغفر الله في أمني وأوجالي
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي
ثم ساق صاحب الكوكب الثاقب سبعة أبيات من هذه القصيدة. وسأوردها بتمامها عند الكلام على منظومه؛ فإنها من شعره المفقود. وهذه القصة رواها غير واحد، فلم يذكروا رصده للمريخ كما هنا، وهو الأشبه بمذهب أبي العلاء؛ فإن من يقف على كلامه في المنجمين وتقبيح أعمالهم، يحكم بأن هذا من الموضوع عليه. والله أعلم.
والخلاصة أن الذي ظهر لي من مطالعة مؤلفاته، أنه لم يكن ملحدا كما يزعمون، بل كان مؤمنا بالله وكتبه ورسله، وإنما كانت تقع له بعض الأحيان أحوال يضيق بها صدره، فينفث نفثات يوهم ظاهرها، وكان الأولى به تركها. وهي مهما بلغت من الشناعة والبشاعة لا تصل إلى الكفر والإلحاد، بل فيها ما إذا قارنته بما قاله في ضده لظهر لك جليا أنه لم يرد ما سبق إلى ذهنك فيه من أول وهلة: كإنحائه تارة على الديانات، ومدحه لها تارة أخرى؛ فإنك لو قابلت بين القولين بإمعان، لأقنعت بأنه لم يرد بالذم الديانات نفسها، بل أراد منتحليها المتاجرين بها، وكثير ما هم في كل زمن.
وإنما أتي الرجل من جهة حسدته وشانئيه، وولوع جماعة منهم بتقويله ما لم يقل، وإشهاره بما كانوا ينظمونه على لسانه من أقوال المعطلة والزنادقة؛ حتى صارت الأذهان لكثرة ما وقر فيها من ذلك، إذا ألقي إليها شيء من شعره فيه إيهام، انصرفت إلى إساءة الظن به. وسيرد عليك من أقوال ما وافق أقوال مشهوري المتصوفة، وكبار الزهاد، حذو القذة بالقذة. إلا أنها كتبت لهم، وكتبت عليه، ولله في خلقه شؤون. ولهذا اقتصرت في فصول معتقده على ما أثبته في مؤلفاته دون ما روي عنه غير معزو لشيء منها، وغالبه سخافات يتنزه شعر أبي العلاء عنها، ولا يخفى وضعها على ذي لب، كما قال الصفدي. كنسبتهم إليه قول القائل:
إذا ما ذكرنا آدما وفعاله
وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر
وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وهذا كلام لا يصدر إلا من معتوه فقد رشده، وحاشا لأبي العلاء أن يكونه. ولا يخلو قائله من أحد أمرين: إما أن يكون مقرا بالشرائع، عالما بأن زواج الأخ بأخته لم يكن محرما في شريعة سيدنا آدم
صلى الله عليه وسلم ، فيكون قوله هذا ضربا من الهذيان والهوس. وإما أن يكون منكرا لها، فيكون ذكره الزنا لا معنى له، فإن معرفة الحلال والحرام لا تتأتى إلا من الشرائع. فضلا عما في البيتين من بذاءة وقلة أدب تنبو عنهما نفس أبي العلاء . ولست منكرا أنه ذكر سيدنا آدم عليه السلام في لزوم ما لا يلزم بما كنت أحب له عدم ذكره، إلا أنه لا يبلغ في شناعته إلى هذا الحد؛ وغاية ما فيه لومه عليه السلام على أكله من الشجرة، وتسببه في أذى ذريته في الدنيا بخروجه من الجنة. وسيأتي الكلام على ذلك في فصل مستقل. وقد رد على هذين البيتين القاضي أبو محمد الحسن بن أبي عقامة اليمني بقوله:
لعمرك أما فيك فالقول صادق
وتكذب في الباقين من شط أو دنا
كذلك إقرار الفتى لازم له
وفي غيره لغو كذا جاء شرعنا
وليت القاضي تثبت من نسبة البيتين قبل تكلفه الرد بهذا الشعر الركيك. ونسبوا إليه أشياء أخرى من هذا القبيل أضربت عن ذكرها تفاديا عن الاشتغال بالعبث، إلا أن ألم ببعضها إلماما فيما يأتي من الفصول لمناسبة. كما أني لم أتعرض لما أخذ عليه في سقط الزند؛ لأنه لا يخرج عن كونه من الغلو الواقع لكثير من الشعراء، وقد كفانا مؤونة البحث فيه بقوله في خطبته:
وما وجد لي من غلو علق في الظاهر بآدمي، وكان مما يحتمله صفات الله عز سلطانه، فهو مصروف إليه، وما صلح لمخلوق سلف من قبل أو غبر أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به، وما كان محضا في المين لا جهة له، فأستقيل الله العثرة فيه.
وقد أورد شارحه في التنوير بعض أبيات من ذلك في شرح الخطبة. ومما لم يذكره قوله، وهو عندي أشنع ما في سقط الزند:
باهت بمهرة عدنانا فقلت لها
لولا الفصيصي كان المجد في مضر
فهذا ولا ريب من محض المين الذي لا جهة له، وقد استقال الله العثرة فيه، والله يغفر لمن يشاء. وما عداه ليس فيه شيء سوى الغلو المفرط. على أنه لم يأت به إلا في أبيات معدودة لا تتجاوز العشرة، ولكن القليل من هذا كثير. وعندي أن لا وجه لاغتفاره لقائله، وفي غيره من الكلام مندوحة عنه. ولعله سرى لأبي العلاء من أبي الطيب المتنبي ؛ فقد كان ولوعا بهذا النوع. ومنه قوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه
في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه
ما انشق حتى جاز فيه موسى
سامح الله أبا الطيب، ما كان أغناه عن هذا الغلو الممقوت، مع قدرته على نظم ما هو أوقع في النفوس، وأخف على الأسماع؛ وأقبح منه قبول ممدوحه له، وإجازته عليه. ولا أدري ما كان عذر المعز في قبوله قول ابن هانئ:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
اللهم إلا أن يكون ما نقل عن القوم من دعوى الألوهية في الباطن صحيحا.
وما في سقط الزند دون هذين القولين بمراحل.
وقد رأيت أبا العلاء شدد النكير على ابن هانئ وأضرابه في رسالة الغفران، واستقبح منهم مثل هذا الغلو، فلعله رجع عنه.
وقد عقد الثعالبي فصلا في يتيمته لما أخذ على أبي الطيب، جاء فيه بأشياء ممجوجة. ومع هذا فلم يلهجوا بإكفاره كما فعلوا مع أبي العلاء؛ وذلك لما وقر في النفوس من شهرته بالزندقة، كما ذكرت آنفا، حتى كادوا يلصقون به كل شعر من هذا القبيل. وقد رأيت بعضهم يروي له قول المتنبي:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
هذا وديوان أبي الطيب مشهور متداول في الأيدي، فما ظنك بغير المشهور؟ وكذلك أبو نواس لما كان مشهورا بالإجادة في وصف الخمر، نسبوا إليه فيها ما لم يقله، فكثر المنحول في شعره. ونقل عن بعض العلماء أنه كان يقول: أوشك هؤلاء الرواة أن ينسبوا للمجنون كل شعر فيه ليلى. وقوله هذا ينبغي للأديب أن يتنبه له، فلا يقدم على نسبة قول لقائل بسبب اسم اشتهر به، ولهج بذكره، في شعره؛ فقد كان للشعراء أسماء شائعة بينهم خفت على ألسنتهم، وحلت في أفواههم، فكانوا كثيرا ما يأتون بها زورا، نحو: ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، وأروى، وريا، وفاطمة، ومية، وعلوة، وعائشة، والرباب ، وجمل، وزينب، وأشباههن. ذكر ذلك ابن رشيق، ثم قال: وأما عزة وبثينة فقد حماهما كثير وجميل، حتى كأنما حرمتا على الشعراء. انتهى.
وكما اشتهر بعض الشعراء بأسماء، اشتهر غيرهم بفنون وأنواع غلبت عليهم، وسهلت على نفوسهم، فأجادوا القول فيها؛ كأبي نواس في الخمر، والبحتري في الطيف، وابن المعتز في التشبيهات، وديك الجن في المراثي، وأبي الطيب في الأمثال والحكم، وابن الرومي في الهجاء. بل رأيت بعض شعراء غلبت عليهم ألفاظ استعملوها كثيرا، كأم دفر عند المعري، وابن ودي عند الأمير محمود سامي باشا البارودي. ومن تتبع شعر كل شاعر، ربما لا يعدم أمثالها فيه.
فيكون اقتصارنا على ما أثبته أبو العلاء في مؤلفاته، أدعى إلى الإنصاف، وأبعد عن الاعتساف. •••
واعلم - أرشدك الله - أني لم أنتصر له في بعض المواضع جنوحا إلى عصبية، أو استرسالا مع هوى. ولكني وقفت في الكثير من أقواله على اعتقاد صحيح، وإيمان ثابت لا يخالطه شك. فكان تأويل ما عداها بما يحتمله اللفظ، أولى من التسرع إلى إكفار مؤمن، والحكم عليه بالزندقة، خصوصا وأن ما يدل على إيمانه صريح في لفظه، والذي يوهم محتمل لوجهين، فحمله على ما يوافق الصريح من أحد وجهيه أحق وأصوب. فإذا رأيت شيئا من ذلك فلا تتسرع في الإنكار علي، بل عليك بتحسين الظن، ومراجعة النظر، تجد ما قلته غير بعيد. وحسبك ما أثاروه على الإمام أبي حامد الغزالي في قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان، حتى وضعوا فيه المؤلفات، وشغلوا الناس بالترهات. ولا شك أنه لم يرد بقوله هذا ما ذهبوا إليه وتأولوه. وأي مسلم يخالجه ريب في عقيدة هذا الإمام، وهو حجة الإسلام؟
ولله در أبي العلاء حيث يقول:
جوارك هذا العالم اليوم نكبة
عليك وليس البين عنه ميسرا
سيعلم ذاك المدعي صحة الهدى
متى كان حق أينا كان أخسرا
ويقول:
لحي الله قوما إذا جئتهم
بصدق الأحاديث قالوا كفر
ويقول:
أما في الأرض من رجل لبيب
فيفرق بين إيمان وكفر
وقال أيضا:
لا تقيد لفظي علي فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز
ومثله قوله:
وليس على الحقائق كل قولي
ولكن فيه أصناف المجاز
فصل في معتقده في الله
من زعم أن أبا العلاء كان من منكري وجود الإله جل وعلا، فقد زعم باطلا، وأسرف في الشطط، ودل على جهله بحقيقة معتقده. وهيهات أن تنهض له حجة، أو يجد لزعمه مستندا، لو طالبناه بالدليل.
ونحن مثبتون في هذا الفصل من أقواله ما ليس وراءه متسع لطاعن، أو مجال لمتقول، وبادئون منها بثلاثة أقوال، ربما خفي المراد منها على كثيرين، فأولوها على غير ما ينبغي أن تؤول، ثم نتبعها بما يكشف الرين عن عقيدة الرجل في خالقه. •••
أولها قوله:
قلتم لنا صانع حكيم
قلنا: صدقتم، كذا نقول
زعمتموه بلا مكان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبي
معناه ليست لنا عقول
وليس في هذه الأبيات إنكار لوجود الإله، وحسبك منها قوله: «قلنا صدقتم، كذا نقول»، لكن يؤخذ من ظاهرها إثبات الزمان والمكان له تعالى، وهو ما لا يقول به إلا المجسمة وأضرابهم، تنزه الله عما يقولون. وقد ذكر صاحب معاهد التنصيص أن الفخر الرازي أورد هذه الأبيات في كتابه الموسوم بالأربعين، وأعقبها بقوله: «وقد هذي هذا في شعره»، وقد وقفت على نسختين من هذا الكتاب فلم أجده قال ذلك، فلعل العبارة تحرفت على صاحب المعاهد، فتوهم منها ما ذكره. ولما كان المقام يحتاج إلى تفصيل لاستيضاح ما يرمي إليه أبو العلاء، اقتضى أن ننقل إليك عبارة الأربعين، ثم نعقبها بما ظهر لنا في هذه الأبيات. قال «الفخر» في مبحث حدوث العالم، وإيراد شبهات المخالفين وردها:
السؤال الرابع: إذا قلنا كان الله موجودا في الأزل، وسيكون موجودا في الأبد، فقولنا «كان» يفيد أن أمرا كان موجودا وحاصلا، وقد انقضى وما بقي. ويكون يفيد أن أمرا سيصير موجودا وحاصلا، وبعد ما حصل. فإذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون، فهو محكوم عليه بكونه متجددا متغيرا، فذات الله تعالى لما كان واجب الدوام، ممتنع التغير، وجب أن لا يصدق عليه ألبتة أنه كان في الأزل، وسيكون في الأبد، وأنه كائن الآن . ثم لما جربنا عقولنا وجدناها حاكمة بأن كل ما لا يصدق عليه أنه كان قبل وسيكون بعد وأنه كائن الآن، فهو عدم محض. وعند هذا قال المنكرون إنكم لما أثبتم ذاته منزهة عن الجهات والأيون والأوضاع، خرج هذا الإثبات عن العقل، واقترب من العدم المحض؛ ثم إنكم لما أثبتموه منزها عن أن يصدق عليه قولنا كان ويكون وهو كائن، فهذا تصريح بالعدم المحض. فإن أدخلتموه تحت قولنا كان ويكون وهو كائن، اقتضى ذلك الحكم بكونه متجددا متغيرا، فكيف الخلاص من العقد المحيرة، والمضايق المضلة المعمية. ونظم المعري هذا المعنى في شعر له فقال ... انتهى.
ثم أورد الأبيات، إلا أنه روى مكان قوله «زعمتموه»، «ثم زعمتم»، وشرع في الرد على هذا السؤال. فقال:
الجواب عن السؤال الرابع: وهو قوله إن كل ما يصدق عليه كان ويكون فهو متجدد متغير، فنقول: المراد من قولنا كان ويكون استمراره مع الأزمنة الآتية والأزمنة الماضية، من غير أن يكون متغيرا بحسب تغير هذه الأزمنة؛ وهذا المعنى لا يدركه إلا العقل الذي نوره الله تعالى بنور هدايته، وإن كان الوهم والخيال يعجزان عنه. انتهى كلامه.
ثم ساق حجج المشايخ على بقاء الصانع بما يخرج عن قصدنا هنا.
ولا يخفى ما في قوله إن هذا المعنى لا يدركه إلا العقل الذي نوره الله بنور هدايته. فإذا علمت هذا، ثم علمت أن مذهب السلف رضي الله عنهم في الصفات النقلية، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا ونحوها، أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها والتصديق بها من غير تفسير ولا تأويل، مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه، لئلا يضاد النقل العقل - ظهر لك أن عبارة أبي العلاء إنما ترمي إلى هذا المعنى، وتشير إلى هذا القصد؛ فمراده أن مثل هذه الأمور لا تتسع العقول لإدراكها، بل هي مما استأثر الله بعلمه. وليس في الأبيات ما يمنع من حملها على ذلك. بل كيف يتصور في الرجل اعتقاد التجسيم ونحوه، وهو القائل في موضع آخر:
تعالى الله وهو أجل قدرا
من الإخبار عنه بالتعالي
ومن يذهب في التنزيه إلى هذا الحد لا يتصور فيه اعتقاد التجسيم. ثم اعلم أن مذهب السلف يرجحه كثيرون من المتكلمين. وكان الإمامان مالك والزهري يقولان به، بل هو عقيدة الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه إلى يومنا هذا. وإنما رجحوه لما فيه من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى، وهو الأوفق لحمل العامة عليه، صيانة لعقولهم عن الزلل، كما فصله الإمام الغزالي في «إلجام العوام، عن علم الكلام». وقد وقفت على فصل للفخر الرازي في تفضيل هذا المذهب، ذكره في تفسير الكبير عند قوله تعالى:
ثم استوى على العرش ، مع أن هذا الإمام من كبار الأشعرية القائلين بالتأويل.
ولله در الإمام خميس بن علي الواسطي حيث يقول:
تركت مقالات الكلام جميعها
لمبتدع يدعو بهن إلى الردى
ولازمت أصحاب الحديث لأنهم
دعاة إلى سبل المكارم والهدى
وهل ترك الإنسان في الدين غاية
إذا قال قلدت النبي محمدا
على أن كثيرا من أئمة الكلام أيضا يرجحون مذهب الخلف في تأويلهم هذه الصفات تأويلا يليق بجلال المولى عز وجل، لما في هذا المذهب من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم. ولكل من أصحاب المذهبين وجهة لا يريدون بها إلا الوصول إلى الحق، فرضي الله عنهم أجمعين، وجزاهم عنا أحسن الجزاء. •••
الثاني من الأقوال، قوله:
أما الإله فأمر لست مدركه
فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا
وليس في هذا أيضا إنكار لوجود الله تعالى، وإنما فيه الإيماء إلى عجز البشر عن إدراك كنه ذاته تعالى. ولعمري ما نطق إلا بالصواب. وأين لمخلوق ضعيف لا يصل إلى إدراك كنه نفسه من الوصول إلى هذا المقام؟ وفي كتاب تأييد الحقيقة العلية للسيوطي، قال شارح منازل السائرين في بيان عجز العقول عن إدراك الذات المقدس، وترك الفكرة في ذلك: «يعرف العبد أن عقله يعجز عن إدراك كل الموجودات من المخلوقات فضلا عن خالقها، وقد عجزت العقول عن إدراك الخاصية التي يجذب بها المغناطيس الحديد، والسقمونيا الأخلاط الصفراوية، إلى غير ذلك، مع القطع بوجودها. فإذا عرف العبد عجزه، وأيس من الوقوف على غاية مطلبه، حمله ذلك على التمسك بحبل التعظيم والإجلال، وسلم بذلك من الوقوع في شيء من الاختلال». انتهى.
وفيما نقل عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول: «التوحيد أن لا تتوهمه»، ويقول: «كل ما أدركته فهو غيره». وكان الصديق رضي الله عنه يقول: «يا من غاية معرفته القصور عن معرفته». أما قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار ، فالأكثرون على حمل البصر هنا على الجارحة، من حيث إنها محل القوة. وقيل هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام. فالبيت على هذا عقد لمعنى هذه الآية الكريمة. وقريب منه قوله من قطعة أخرى:
وإن إلهي إله السما
ء رب الوهود ورب النبك
سألت المحدث عن شأنه
فما زال يضعف حتى ارتبك •••
الثالث: قوله:
متى عرض الحجا لله ضاقت
مذاهبه عليه وإن عرضنه
ومعناه ظاهر بين، يشبه ما في القول السابق. وقد فسره بعضهم بقوله: «أي لا يزال عقل الإنسان يتسع مجاله في الأمور، ويستعمل أنواع القياس؛ حتى ينتهي إلى الله تعالى. فإذا انتهى إليه ضاقت المذاهب عليه، فلم يعلم أكثر من أنه سبحانه خالق المخلوقات». انتهى.
وقد أحسن أبو العلاء في قوله بعد هذا البيت:
وقد كذب الذي يغدو بعقل
لتصحيح الشروع وقد مرضنه
الشروع: جمع شرع. قال بعض الفضلاء: «مرض الشرائع أن تخفى أسبابها، فلا يوقف على حقائقها، فيظن الناظر فيها أنها فاسدة، وإنما الفاسد عقله، لأنه تعاطى سرا غامضا ليقف عليه». انتهى.
قلت: فليت المتبجحين كل يوم بإصلاح الدين الإسلامي ليوافق روح العصر كما يزعمون، ينظرون نظرة في هذا البيت، نسأل الله لنا ولهم الهداية. •••
وبعد، فليس في كلام أبي العلاء ما يوهم نقصا في حق الخالق سبحانه وتعالى، فضلا عن إنكار وجوده، غير هذه الأقوال الثلاثة. وقد عرفت أنها ليست في شيء من ذلك ألبتة. فلم يبق إلا أن نسرد لك عيون أقواله الدالة على حسن معتقده في خالقه. قال:
للمليك المذكرات عبيد
وكذاك المؤثنات إماء
فالهلال المنيف والبدر والفر
قد والصبح والثرى والماء
والثريا والشمس والنار والنث
رة والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عا
بك في قول ذلك الحكماء
خلني يا أخي أستغفر الله
فلم يبق في إلا الذماء
وقال:
إذا قيل لك اخش الل
ه مولاك فقل: آرا
آرا: كلمة فارسية، معناها: نعم. وقال:
بعلم إلهي يوجد الضعف شيمتي
فلست مطيقا للغدو ولا المسرى
غبرت أسيرا في يديه ومن يكن
له كرم تكرم بساحته الأسرى
أأصبح في الدنيا كما هو عالم
وأدخل نارا مثل قيصر أو كسرى
وإني لأرجو منه يوم تجاوز
فيأمر بي ذات اليمين إلى اليسرى
وإن أعف بعد الموت مما يريبني
فما حظي الأدنى ولا يدي الخسرى
اليسرى هنا: من اليسر ضد العسر، وليست من اليسار ضد اليمين. وقال:
الله لا ريب فيه وهو محتجب
باد وكل إلى طبع له جذبا
وقال:
لا تكذبن فإن فعلت فلا تقل
كذبا على رب السماء تكسبا
فالله فرد قادر من قبل أن
تدعى لآدم صورة أو تحسبا
وإذا انتسبت فقلت إني واحد
من خلقه فكفى بذاك تنسبا
وفي معنى البيت الثاني قوله من قطعة أخرى:
ما زال ملك الله يظهر دائبا
إذ آدم وأبوه في الإضمار
لعله أراد بأبيه: التراب الذي خلق منه، وفي بعض النسخ: وبنوه، وهو ظاهر.
وقال:
ولم يحبني أحد نعمة
ولكن مولى الموالي حبا
نصحتك فاعمل له دائبا
وإن جاء موت فقل مرحبا
ومن طمعه في عفو ربه، قوله:
أرى اللب مرآة اللبيب ومن يكن
مرائيه الإخوان يصدق ويكذب
أأخشى عذاب الله والله عادل
وقد عشت عيش المستضام المعذب
ومثله قوله:
وما أنا يائس من عفو ربي
على ما كان من عمد وسهو
ومثله قوله أيضا:
لم لا أؤمل رحمة من قادر
والسول يطلب في السحاب الأسول
وقال يذكر خوفه من العقاب:
طوبى لموءودة في حال مولدها
ظلما فليت أباها الفظ موءود
يا رب هل أنا بالغفران في ظعني
مزود إن قلبي منك مزءود
وقريب منه قوله :
قد فني الوقت فما حيلتي
إذا انقضى الإمهال والمهل
إن ختم الله بغفرانه
فكل ما لاقيته سهل
وقال في خوفه وطمعه:
أما الحياة فلا أرجو نوافلها
لكنني لإلهي خائف راج
رب السماك ورب الشمس طالعة
وكل أزهر في الظلماء خراج
ولله دره حيث يقول:
ليفعل الدهر ما يهم به
إن ظنوني بخالقي حسنه
لا تيأس النفس من تفضله
ولو أقامت في النار ألف سنه
وقال:
أرى انكفاتي إلى المنايا
أغنى عن الأسرة الكفاة
أثبت لي خالقا حكيما
ولست من معشر نفاة
وقال:
سبحان من برأ النجوم كأنها
در طفا من فوق بحر مائج
لو شاء ربك صير الشرطين من
هذي الكواكب عند أدنى ثائج
والتاج تقوى الله لا ما رصعوا
ليكون زينا للأمير التائج
وقال من أخرى:
فزعوا إلى ذكر المليك وحسبهم
أنسا بذلك في الضمير الوالج
وقال:
أحاذر السيل ومن لي بمن
جاة إذا أسمعني رعده
والوقت لا يفتأ في مره
مقربا من أجل بعده
فراقب الخالق بالغيب في ال
قيمة والنيمة والقعده
أراد الهيئة من القيام والنوم والقعود، فجاء بها على فعلة بكسر الأول. وهو عقد لمعنى قوله تعالى:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم . ومعنى الآية، والله أعلم: الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم، كما ذهب إليه بعض المفسرين.
وقال أبو العلاء:
إذا كنت من فرط السفاه معطلا
فيا جاحد اشهد أنني غير جاحد
أخاف من الله العقوبة آجلا
وأزعم أن الأمر في يد واحد
فإني رأيت الملحدين تعودهم
ندامتهم عند الأكف اللواحد
ليت شعري كيف يرمى بالإلحاد من يخاطب الملحدين بمثل هذا الكلام؟
وفيهم يقول أيضا:
أما المجاور فارعه وتوقه
واستعف ربك من جوار الملحد
ليس الذي جحد المليك وقد بدت
آياته بأخ لمن لم يجحد
ويقول:
إذا ما ألحدت أمم بجهل
فقابلها بتوحيد السيوف
كأنا في سجايانا نقود
كثيرات البهارج والزيوف
وهذي الأرض للملك المرجى
نلم بها كإلمام الضيوف
وقال:
تعالى الله كم ملك مهيب
تبدل بعد قصر ضيق لحد
أقر بأن لي ربا قديرا
ولا ألقى بدائعه بجحد
وقال:
بوحدانية العلام دنا
فذرني أقطع الأيام وحدي
سألت عن الحقائق كل قوم
فما ألفيت إلا حرف جحد
سوى أني أزول بغير شك
ففي أي البلاد يكون لحدي
وقال:
ولقد وجدت ولاء قوم سبة
فاصرف ولاءك للقديم الموجد
وقال:
يسمون بالجهل عبد الرحيم
وعبد العزيز وعبد الصمد
وما بلغوا أن يكونوا له
عبيدا وذلك أقصى الأمد
ولكنه خالق العالمي
ن ذائب أجزائهم والجمد
تعمده يغنك بالهدي أن
تدرس مغنيهم والعمد
المغني، والعمد: كتابان أحدهما في علم الكلام، والآخر في الأصول، وهما للقاضي عبد الجبار بن أحمد، من كبار أئمة المعتزلة، المتوفى سنة خمس عشرة أو ست عشرة وأربع مئة. ولأبي محمد عبد الله بن العباسي الرامهرمزي المعتزلي كتاب اسمه المغني أيضا، إلا أن ذكره مقرونا بالعمد يدل على أن المراد الأول.
وقال أبو العلاء:
كم غيرتنا بأمر خط حادثة
وربنا الله لم تلمم به الغير
وقال:
ما زال ربك ثابتا في ملكه
ينمي إليه للعباد جؤار
وقال:
والجهل أغلب غير علم أننا
نفنى ويبقى الواحد القهار
وقال في الإقرار بالذنوب من قطعة:
غفران ربك قل ما فعل الفتى
ما ليس محوجه إلى استغفار
صدق والله، فغفرانك اللهم. وقال:
رجزت بتسبيح المليك حمامة
بالشام توطن أو تحل حجازا
والطير مثل الإنس تعرف ربها
وترى بها الشعراء والرجازا
وقال في معناه:
سبح الله ناعب، صوته: غا
ق، وكدرية تصيح: قطا
وقال:
صنعة عزت الأنام بلطف
وعزتها إلى القدير العوازي
ملك أنشأ السموات فالبد
ر لديه في صورة الجلواز
كم له كوكب أبر وأز الن
اس حتى سطا على أبرواز
وقال:
لنا رب وليس له نظير
يسير أمره جبلا ويرسي
تظل الشمس ماهنة لديه
فما بلقيس أم ماست برس
وقال:
إذا كنت بالله المهيمن واثقا
فسلم إليه الأمر في اللفظ واللحظ
يدبرك خلاق يدير مقادرا
تخطيك إحسان الغمائم أو تحظي
وقال:
وسرت عمري إلى قبري على مهل
وقد دنوت فحق الخوف والهلع
ما نحن أم ما برايا عالم كثر
في قدرة بعضها الأفلاك يبتلع
وقال:
ندين بأن الله وتر وخوفه
رشاد فصلوا الوتر في الدهر والشفعا
وقال:
الأرض لله ما استحيى الحلول بها
أن يدعوها وهم في الدار أضياف
تنازعوا في عواري فبينهم
نبل حطام وأرماح وأسياف
إن خالفوك ولم يجرر خلافهم
شرا فلا بأس إن الناس أخياف
أخياف: أي مختلفون، ومنه: إخوة أخياف، إذا كانت أمهم واحدة وآباؤهم شتى؛ فإذا كانوا لأب واحد من أمهات شتى، قيل: هم أبناء علات.
وقال في معنى ما تقدم:
هو الفلك الدوار أجراه ربه
على ما ترى من قبل أن تجري الفلك
له العز لم يشركه في الملك غيره
فيا جهل إنسان يقول: لي الملك
ومثله قوله:
ويقول داري من يقول وأعبدي
مه فالعبيد لربنا والدار
وقوله أيضا:
والملك لله من يظفر بنيل غنى
يردده قسرا وتضمن نفسه الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من التراب لكان الأمر مشتركا
ذكر الإسحاقي في تاريخه أن السلطان سليما العثماني لما فتح مصر نزل بالروضة في مكان أعد له بالمقياس، ونقل عن القطبي أنه رأى هذين البيتين مكتوبين بخطه بأعلى المقياس على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بالتأمل، ومرقوم تحتهما: كتبه الفقير سليم. ثم قال: ولعمري إن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما في غاية البيان والبراعة، ونهاية في الشعر العربي الفصيح المنسجم؛ وإن كان تمثل بهما فهما أيضا مرتبة عالية في حسن التمثيل ولطف الاستحضار. انتهى. قلت: أما كونهما له فقد ثبت خلافه؛ فلم يبق إلا أنه تمثل بهما. وما هو بكبير على فضل هذا السلطان واطلاعه. وسلاطين آل عثمان، وإن اشتهر عنهم قلة الاهتمام باللغة العربية، فقد نبغ منهم جماعة فيها. منهم: السلطان محمد الفاتح؛ وفضله في الاشتغال بالعربية غير منكور. ومن شيوخه المولى خواجه زاده، قرأ عليه متن عز الدين الزنجاني في التصريف؛ وكانت العلماء تجتمع عنده للمناظرة، وتعجبه مباحثاتهم. ويحكى أنه كان في صغره غير مهتم بالطب، فأمر والده السلطان مراد المولى شمس الدين الكوراني بالتشديد عليه، فصدع بأمره، حتى ضربه مرة ضربا موجعا، ولم يزل به حتى ختم القرآن الكريم في مدة يسيرة. ومنهم: السلطان مراد الثالث ابن سليم المتوفى سنة 1003، كان أجمل أهل بيته علما وأدبا وذكاء وفهما. اشتغل بالتصوف وبرع فيه، ونظم الشعر باللغات الثلاث: الفارسية والتركية والعربية. ومنهم: السلطان أحمد بن محمد حفيد السلطان مراد المار ذكره. كان من فضلاء وقته، مال للأدب والمحاضرات، ونظم الشعر بالتركية. ومما يروى له من الشعر العربي قوله:
ظبي يصول ولا وصول إليه
جرح الفؤاد بصارمي لحظيه
ما قام معتدلا وهز قوامه
إلا تهتكت الستور عليه
يسقي المدامة من سلافة ريقه
ويخصنا بالغنج من جفنيه
عيناه نرجسنا وآس عذاره
ريحاننا والورد من خديه
يا شعر في بصري ولا في خده
إني أغار من النسيم عليه
عجبي لسلطان يعز بعدله
ويجور سلطان الغرام عليه
لولا أخاف الله ثم جحيمه
لعبدته وسجدت بين يديه
والبيتان الأخيران من قصيدة لابن رزيك الشيعي، أتى بهما السلطان على سبيل التضمين.
رجع إلى شعر أبي العلاء
فمن دلائل إيمانه بالله، وتفويضه الأمر إليه، قوله:
رددت إلى مليك الخلق أمري
فلم أسأل متى يقع الكسوف
فكم سلم الجهول من المنايا
وعوجل بالحمام الفيلسوف
وقال:
والروح طائر محبس في سجنه
حتى يمن رداه بالإطلاق
سيموت محمود ويهلك آلك
ويدوم وجه الواحد الخلاق
وقال:
أزول وليس في الخلاق شك
فلا تبكوا علي ولا تبكوا
خذ واسيري فهن لكم صلاح
وصلوا في حياتكم وزكوا
وقال:
تسمت رجال بالملوك سفاهة
ولا ملك إلا للذي خلق الملكا
أرى فلكا ما دار إلا لحكمة
فلا تنس من أجرى لحاجتك الفلكا
وقال:
إن يرسل النفس في اللذات صاحبها
فما يخلدن صعلوكا ولا ملكا
ومن يطهر بخوف الله مهجته
فذاك إنسان قوم يشبه الملكا
وقال:
شفاء ما بك أعياني وأعياكا
فارج الذي هو أبداني وإياكا
ما لي أراك غبيا لست تقدر أن
تحصى خطاك فهل تحصي خطاياكا
وقال:
يا خالق البدر وشمس الضحى
معولي في كل حالي عليك
وكل ملك لك عبد وما
يبقى له ملك فيدعى مليك
قد رامت النفس لها موئلا
فقلت: مهلا، ليس هذا إليك
إن الذي صاغك يقضي بما
شاء ويمضي فازجري عاذليك
البحر في قدرته نغبة
والفلك الأعظم فيها فليك
وقال:
إله الأنام ورب الغمام
لنا الفقر دونك والملك لك
وقال:
فلا تسأل المرء الغني عطاءه
ورج الغنى من ربك المتعالي
وقال:
أما ترى الشهب في أفلاكها انتقلت
بقدرة من مليك غير منتقل
وقال:
نموت لأننا حلفاء نقص
ويبقى من تفرد بالكمال
وقال:
حكم تدل على حكيم قادر
متفرد في عزه بكمال
وقال:
توهم بعض القوم وهما فأصلوا
يقين أمور بات يتبعها الوهم
جهلنا، ولكن للخلائق صانع
أقر به فسل من القوم أو شهم
وقال في رد تأثير الأشياء لله تعالى:
وقد يأمر الله الكهام إذا نبا
فيفري وقد ينهى الحسام فيكهم
وزاد هذا المعنى وضوحا بقوله وأجاد:
لو ينطق السيف نادى ليس لي عمل
إذا قضى مالك الأفلاك أنضاني
متى أراد فصفحاي اللذان هما
بحر الردى من حياض الموت حوضان
وإن كهمت فأمر الله أكهمني
وإن مضيت فأمر الله أمضاني
وقال:
ما في بني آدم غني
بل كلهم مقتر عديم
يغنى الذي ما له فناء
وذلك الواحد القديم
وقال:
رأيت سجايا الناس فيها تظالم
ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما
وقال:
فساد وكون حادثان كلاهما
شهيد بأن الخلق صنع حكيم
وقال:
أبالقدر المتاح تدين جن
تسمع غير هائبة الرجوم
وتعلم أن ما لم يقض صعب
فما تخشى المنية في الهجوم
بإذن الله ينفذ كل أمر
فنهنه فيض أدمعك السجوم
يجوز بحكمه موت الثريا
وأن تبقى السماء بلا نجوم
وكم وجم الفتى من بعد ضحك
وأضحك بعد إفراط الوجوم
وقال:
إذا مدحوا آدميا مدح
ت مولى الموالي ورب الأمم
وذاك الغني عن المادحين
ولكن لنفسي عقدت الذمم
له سجد الشامخ المشمخر
على ما بعرنينه من شمم
ومغفرة الله مرجوة
إذا حبست أعظمي في الرمم
وقال:
أدين برب واحد وتجنب
قبيح المساعي حين يظلم دائن
وقال:
إذا ما شئتم دعة وخفضا
فعيشوا في البرية خاملينا
ولا يعقد لكم أمل بخلق
وبيتوا للمهيمن آملينا
وقال:
مطيتي الوقت الذي ما امتطيته
بودي ولكن المهيمن أمطاني
وما أحد معطي والله حارمي
ولا حارمي شيئا إذا هو أعطاني
وقال:
لعمري لخير الذخر في كل شدة
إلهك ترجو فضله وألاه
ولا ملك إلا للذي عز وجهه
ودامت على مر الزمان علاه
وقال:
تهجد معشر ليلا ونمنا
وفاز بحندس متهجدوه
إلهك أوجد الأشياء جمعا
فلا يفخر بشيء موجدوه
وربك أنجد الأقوام حتى
بنى أعلى القصور منجدوه
فمجده فلم يخسر أناس
أنابوا للمليك ومجدوه
ولنختم هذا الفصل بقوله:
تشابهت الأشياء طبعا وصورة
وربك لم يسمع له بشبيه
هذه أقوال من يتهمه المتخرصون بإنكار الإله، سقناها إليك لتكرر النظر فيها المرة بعد المرة، ثم نكلك إلى محاسبة نفسك، ومحاكمة فكرك؛ هل ترى فيها غير التوحيد والتنزيه، وإجلال اسمه تعالى، والطمع في رحمته، والخوف من عقابه، والحض على التقوى، والإنكار على الملحدين؟
ولا نخالك بعد ذلك إلا منصفه، إن كنت من المخلصين.
فصل في معتقده في النبوات والرسل
يتهم الكثيرون أبا العلاء بجحد النبوات، وعدم الإيمان بالبعث والنشور؛ وكثيرا ما يتعمدون تحريف كلمه، أو صرف ظاهره إلى غير مراده، افتياتا عليه، وانتصارا لمدعاهم. فضلا عما وضعوه على لسانه من الكذب والبهتان، كما أثبته نقلة أخباره. وقد مر بك حديثه مع القاضي المنازي، وكيف اقتضبه الرواة ليثبتوا إلحاده وإنكاره للآخرة. ونقل ياقوت والسلوي عن القاضي أبي يوسف عبد السلام القزويني أنه قال: «قال لي المعري: لم أهج أحدا قط. فقلت: صدقت، إلا الأنبياء عليهم السلام! فتغير لونه. أو قال: وجهه. ا.ه.» ولا أدري ماذا يثبته هذا الحديث أو ينفيه.
وإليك ما ذكره العلامة ابن الوردي في تتمة المختصر، وهو من أدق الباحثين في أمره. قال: «قال لي يوما بعض أصحابي من الأمراء ذوي الفهم: كيف كان أبو العلاء في اعتقاد البعث ؟ فأنشدته قوله:
فيا وطني إن فاتني منك سابق
من الدهر فلينعم لساكنك البال
وإن أستطع في الحشر آتك زائرا
وهيهات، لي يوم القيامة أشغال
وبلغني أن بعضهم زعم أن أبا العلاء كان ينكر النبوات، فهذا مردود بقول أبي العلاء:
عجبت وقد جزت الصراة رفلة
وما خضلت مما تسربلت أذيال
أعمت إلينا أم فعال ابن مريم
فعلت، وهل يعطى النبوة مكسال
وقوله في شريف:
يا ابن الذي بلسانه وبيانه
هدي الأنام ونزل التنزيل
عن فضله نطق الكتاب وبشرت
بقدومه التوراة والإنجيل
وقال في الشريف أبي إبراهيم العلوي الموسوي:
يا ابن مستعرض الصفوف ببدر
ومبيد الجموع من غطفان
أحد الخمسة الذين هم الأغ
راض من كل منطق والمعاني
والشخوص التي خلقن ضياء
قبل خلق المريخ والميزان
قبل أن تخلق السموات أو تؤ
مر أفلاكهن بالدوران
وافق اسم ابن أحمد اسم رس
ول الله لما توافق المعنيان
يا أبا إبراهيم قصر عنك الش
عر لما وصفت بالقرآن
أشرب العالمون حبك طبعا
فهو فرض في سائر الأديان
وقوله:
أيدفع معجزات الرسل قوم
وفيك وفي بديهتك اعتبار»
انتهى كلام ابن الوردي. وما ذكره من الشعر منقول من سقط الزند.
ولقائل أن يقول: ما لكم تنتصرون للرجل بكلامه في سقط الزند، وهو لم يقصد به بيانا لمذهبه، أو شرحا لمعتقده، بل جرى فيه مجرى الشعراء في أفانينهم الشعرية، وأخرجه مخرج هيامهم في كل واد من القول وضرب من الخيال؛ وهم كما تعلمون يجوزون الكذب، ويقولون ما لا يفعلون؛ فشأنه في ذلك شأنهم ودعواه دعواهم؛ فإذا مدح شريفا لم يكن له بد من تقديس آبائه، والإقرار لجدهم
صلى الله عليه وسلم
بالنبوة والرسالة، تعظيما لشأن الممدوح؛ كما لا مندوحة له في الرثاء عن وصف ما لقيه المرثي من التكريم في جنات النعيم، ليكون قوله مقبولا لدى من يخاطبهم، وأدعى للحظوة عندهم، وإن لم يكن هو معتقدا له. وما يقال في هذا يقال في غيره، وإلا للزمكم أنه كان على غير ما تدعون له من الزهد والتقوى، لما أثبته في هذا الديوان من الغزل والتشبيب وبكاء الشباب والفخر ، وهي والزهد على طرفي نقيض. فلو اقتصرتم على ما في لزوم ما لا يلزم ونحوه من الكتب التي وضعها لبيان فلسفته وآرائه، لسلمتم من مثل هذا النقد.
ونقول في رد ذلك: ربما كان لما ذكرت وجه من الصحة، إلا أنا لما رأيناكم آخذتم الرجل على بعض ما جاء في هذا الديوان، واستدرجتم به إلى الطعن في عقيدته، مع أنه لا يخرج عن الغلو المألوف للشعراء كما بيناه آنفا - استجزنا أيضا أن نحجكم بما جاء فيه من صريح ذكر الحشر، والإيمان بالرسل وإثبات المعجزات لهم عليهم السلام. وشتان ما بين حجتينا. على أن ما ادعيتموه لا يصح الحكم به على مطلق شعر يقوله الشاعر، وإلا فالويل للشعر والشعراء بعدئذ. •••
وبعد، فإنا لم نحكم لأبي العلاء بصحة إيمانه بالرسل والنبوات إلا من أقواله المثبتة لذلك، المصرحة به. فلا ريب في أن ما يوهم في ظاهره نقيضها من أقواله الأخرى، مؤول بما يحتمله لفظه؛ وكثير منها لم يرد به الطعن على الأديان نفسها، بل أراد أهلها ومنتحليها، لتفريطهم فيها أو إفراطهم، كما صرح به في أقوال أخرى، سنأتي عليها في هذا الفصل.
وقد رأيت بعض المتعصبين عليه يظفر بالبيت الموهم، فيرويه فذا من غير نظر لما قبله أو بعده. ولو تدبر ذلك لظهر له مراده، ولم يجد سبيلا للطعن عليه.
على أنا مع هذا لا نبرئه رحمه الله من بعض سقطات زل بها لسانه، ليس فيها جحد للنبوات، ولكن ذكرها لا يخلو من شناعة. فكان الأولى له التفادي عن نظمها في هذا السمط. ولا مشاحة في عذر من أنكر عليه فيها، وإنما كلامنا فيمن يرميه بالإلحاد، وهو براء منه، بدليل ما ذكرناه من كلامه وما سنذكره. •••
أما من استدل على إنكاره النبوات، وتحكمه العقل في التحسين والتقبيح، بقوله:
علم الكائنات في كل وجه
أول عنده السماك صبي
خالق النيرات ما يتغابى ال
عبد لكنه ضعيف غبي
أيها الغر إن خصصت بعقل
فاسألنه فكل عقل نبي
فقد أخطأ المرمى، ونكب عن سبيل القصد، فإن مراده بقوله «فكل عقل نبي» أن العقل كاف في الإخبار والدلالة على وجود صانع لهذه الكائنات، ولا عذر للعبد في جهله بخالقه، ما دام له عقل ينظر به ويستخبره، كما يدل عليه سياق الأبيات عند التأمل.
وهذه المسألة من المسائل التي قام فيها الخلاف بين أئمة الكلام، وانقسم فيها أهل السنة إلى قسمين. فذهب جمهور الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند إلى أنه تعالى لو لم يبعث للناس رسولا لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته واتصافه بما يليق به من الحياة والعلم والقدرة وغيرها، وكونه محدثا للعالم؛ وهو أيضا أرجح قولي الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب جمهور مشايخ الأشاعرة إلى أنه لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل بعث الرسل. ولا يرد على الأول أنه لو كان العقل حجة كافية ما أرسل الله الرسل، ولاكتفى به؛ لأنه يقال في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل على العقل وحده، إلا بعظيم تأمل فيه، وكذلك أنواع العبادات والحدود ونحوها لا تنال بمجرد العقل - كان إرسال الله تعالى رسله وإنزال كتبه، لبيان ذلك. وأصل الخلاف إنما هو في الإيمان بالله، لا في أحكام الشرائع. فإن قيل لو كان العقل كافيا في ذلك لاقتصرت الشرائع على بيان ما ذكرتم، ولم تتعرض لأحكام الإيمان بالله تعالى وتنزيهه، واتصافه بصفاته اللائقة ونحوها، اكتفاء بدلالة العقل عليها. قلنا: كان ذلك لزيادة التمكين وتتمة البيان، من قبيل توارد الأدلة وتعاقبها. فإنه تعالى لم يدعنا والبيان بآية واحدة، بل من علينا سبحانه بآيات متكررة، وكذلك لم يدعنا ورسولا واحدا من أول الأمر إلى آخره، والحجة كانت قائمة بالواحد، كما بقيت بنبينا
صلى الله عليه وسلم
إلى القيامة؛ فلا يدل ذلك على أن الرسول الواحد أو الآية الواحدة لم يكونا حجة كافية.
هذا محصل ما ذكروه في هذا المقام، ولكل من الفريقين أدلة من الكتاب والسنة يحتج بها لمذهبه، فاطلبها إن شئت في كتب الكلام، خصوصا فيما ألف منها في الخلاف بين الماتريدية والأشعرية؛ وانظرها أيضا في كتب التفسير عند قوله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
صفحه نامشخص