Líderes de la Reforma en la Era Moderna
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
Géneros
ولما اعتزم محمد علي باشا إرسال بعثة إلى فرنسا اختار المتفوقين من هذه المدرسة فوقع الاختيار عليه فيمن اختير، فها هو ذا في باريس بعد برنبال والقاهرة، لا يعرف أي كلمة في اللغة الفرنسية، والمدرسون فرنسيون لا يعرفون كلمة عربية، فضاق بالأمر ولم يجد حيلة إلا أن يجمع الكتب الفرنسية الموضوعة للأطفال ويستعين بمن يعرف الفرنسية من زملائه، ويسهر على حفظها ليلا، حتى تمكنت منه عادة السهر الطويل والنوم القليل، وهي عادة لازمته طول حياته، وبعد ثلاثة أشهر استطاع أن يتابع الدروس تلقى باللغة الفرنسية، ويفهمها ويتفوق فيها. وتصل سمعته الحسنة إلى أولي الأمر في مصر - لقد درس سنتين في باريس الهندسة المدنية، ودرس سنتين في «متز» الهندسة الحربية، وتمرن في ذلك نحو سنة أخرى، فكانت إقامته في فرنسا نحو خمس سنين رأى المدارس والجامعات ونظم التعليم وحالة البلاد الاجتماعية، وأخذ من كل ذلك على حسب استعداده ودقة نظره، ولم ينس أبدا وهو في باريس ومتز أبويه في عرب السماعنة أو برنبال، فقد رتب له مائتان وخمسون قرشا ليصرف منها على شئونه الخاصة غير مسكنه ومأكله وتعليمه، فنزل عن نصفها لأبويه منذ فارق القاهرة إلى أن عاد ....
لقد سافر إلى فرنسا في عهد محمد على باشا وعاد في عهد عباس الأول، كان عهد عباس هذا عهد انكماش في التعليم؛ إذ لم يكن يرضى عن الحركة العلمية في البلاد بل كان همه بناء القصور لا فتح المدارس، بل ولا الاحتفاظ بالموجود فألغى الكثير منها، وخفض ميزانية التعليم حتى بلغت خمسة آلاف جنيه، وكان أميل إلى تعليم أولاد الأتراك دون المصريين، فعهد إلى علي مبارك في إدارة البقية الباقية القليلة من المدارس.
وكان طريفا أن يزور يوما أبويه في برنبال - بعد أن عاد إليها - وكان قد مضى عليه أربعة عشر عاما لم ير أهله ولا بلده؛ إذ كانت المدرسة في مصر ثكنة عسكرية قاسية النظام، من كان فيها لا يزور ولا يزار، فأمضى سني الدراسة في مصر كسنيه في فرنسا، لا يرى أهله، حتى أتيحت له الفرصة فعرج على برنبال لابسا بزته
4
العكسرية على النمط الفرنسي، متقلدا سيفا. وكان وهو في الطريق يسترجع أحداث الماضي: كيف كان في الكتاب، وكيف كان يضرب، وكيف كان يهرب، وكيف قسا عليه الكتبة الذين التحق بخدمتهم، وماذا تحمل من المشاق حتى وصل إلى مدرسة قصر العيني، وكيف كانت حياته في باريس ومتز؟ ودق الباب ليلا فأجابته أمه: من؟ فقال: علي مبارك، فلم تصدق ونظرت إليه من خرق الباب، وسألته أسئلة تتعرف منها صدقه، حتى إذا فتحت الباب ورأته وقعت مغشيا عليها، ثم أفاقت وهي تهذي، تبكي وتضحك وتزغرد، ثم يخرج من جيبه عشرة (بنتو) لتقيم الولائم وتدعو معارفها من أهل البلد. وكلهم مغتبط بما أنجبت برنبال من حاكم من الحكام.
توالت على «علي مبارك» أيام بؤس وأيام نعيم، وكانت حالة في مصر غير مستقرة، وكل الموظفين وخاصة كبارهم رهن بإشارة الحاكم ورهن بما يحاك حوله من دسائس، فيوما يرضى فيرفع إلى السماء، ويوما يغضب فينزله إلى الحضيض، والبيت الحاكم منشق على نفسه. إذا تقرب أحد إلى بعضه غضب عليه بعضه الآخر، يرضى محمد علي باشا وإبراهيم باشا عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، فإذا جاء عباس غضب عليه وأخرجه من إدارة مدرسة الألسن وعينه ناظرا لمدرسة ابتدائية تنشأ في الخرطوم، ويرضى عباس الأول عن علي مبارك ويقربه إليه، ويعهد إليه في تنفيذ أمور كثيرة، فإذا جاء سعيد باشا غضب على علي مبارك وأعاد الشيخ رفاعة الطهطاوي وقربه إليه.
ولما غضب سعيد باشا على «علي مبارك» ألحقه بالفرقة الحربية التي سافرت لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فأقام ببلاد تركيا (الآستانة والأناضول) نحو سنتين لقي فيهما عناء كبيرا وشقاء جما فاحتمله في صبر وثبات، ومع هذا فقد استطاع في هذه المدة أن يتعلم اللغة التركية ويجيدها، وعاد إلى مصر يوظف حينا ويطرد حينا. فإذا طرد فكر في الأعمال الحرة، فاشتغل تاجرا أحيانا، يشتري من «الزاد» بعض السلع المدرسية التي تبيعها الحكومة بعد أن قللت من مدارسها ويبيعها بربح يكفل له رزقه، ويشتغل أحيانا مهندسا حرا، يضع «تصميمات» منازل لمن شاء، وصمم أحيانا على أن يعود إلى أهله في برنبال يعمل عمل الفلاحين ويعيش معيشتهم وعلى الله العوض فيما تعلم، وفي كل مرة لا يلبث طويلا حتى يستدعي لوظيفة، ولا يلبث في وظيفة طويلا حتى يطرد. ولما جاء إسماعيل باشا أعيدت الحياة العلمية وتوسع فيها، واستقر الحال بعلي مبارك في درجة ما، فكان هذا العهد أبرك عهوده، وأخصبها وأكثرها إنتاجا - لقد عمل علي مبارك أعمالا كثيرة تتصل بما اختص به من هندسة مدنية وحربية، فقد عهد إليه في «تصميم» شوارع وفتحها و«تصميم» ترع وإنشائها، وبناء جسور واستحكامات ومساجد وغير ذلك من أعمال هندسية عظيمة، ولكن كل ذلك لم يكن سر عظمته وصحيفة خلوده، إنما كان ذلك في شيء لم يتعلمه ولم يتلقه عن أستاذ، هو إصلاحه للتعليم في مصر بالوسائل المختلفة، وبناؤه في ذلك بناء ضخما يعد دعامة النهضة التعليمية في مصر - لقد أريد له أن يهندس المباني والاستحكامات فهندس هو طرق التربية والتعليم، ووضع تصميماتها، ووقف على تنفيذها في دقة وأحكام، حتى عد من كبار المصلحين.
لم يتعلم في مصر ولا في فرنسا البيداجوجيا ولا السيكولوجيا على معلم مختص، وإنما تعلمها من حسن استعداده وصدق نظره، ومن دروس في التربية الفاسدة تلقاها في الكتاب حين يضرب وفي مدرسة قصر العيني حين يعذب، ومدرسة أبي زعبل حين يلقى عليه الدرس فلا يفهم، هذا إلى طبيعة خيرة توحي إليه بالرحمة بالناس والإشفاق عليهم والألم من جهلهم. لقد وصف هو نفسه؛ إذ عهد إليه مرة في إدارة مدرسة فقال: «كنت ألتفت للتلاميذ، في مأكلها ومشربهم وملبسهم وتعليمهم، وكنت أباشر ذلك بنفسي، حتى أعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها، مع التشديد على الضابط والخدمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم، فامتنع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتف بذلك بل رتبت على نفسي دروسا كنت ألقيها على التلامذة ... وكان ما يحصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت والثناء والتشويق والترغيب داعيا لهم لزيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين المودة والألفة، وتربت الأطفال على الأخوة، وغرس فيهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم بالنصيحة واللوم، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، وبالجملة كانت أغراضي فيهم أبوية، أنظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده. وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راع في رعيته، حتى يحصل الغرض من التربية. وقد تحقق لي نتيجة ما صرف من الهمة في تربيتهم والشفقة عليهم، حتى أنه لما تولى سعيد باشا ودعيت للسفر مع العساكر لمحاربة المكسوف مع الدولة العلية خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرا عن ضباطهم لوداعي، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده، حتى بكت عيني لبكائهم، ولكن انشرح صدري لمشاهدة ثمرات غرسي، وآثار تربيتي، فحمد الله».
كان التعليم المدني الذي أنشأه محمد علي في مصر تعليم أساسه الجيش: فالمدارس الحربية لتخريجه، ومدرسة الطب لطبيبه، والهندسة لتصميماته، والمدارس الصناعية لإمداده، والبعثات لسد حاجات، فإن جاءت من كل ذلك فائدة لغير الجيش، فبالتبع لا بالقصد، حتى أن المدارس كانت ثكنات عسكرية في نظامها ومأكلها وملبسها ، ورتب المعلمين والنظار والمديرين رتب عسكرية، فملازم وصاغ وأميرالاي وميرمران إلخ، حتى الطلبة في البعثة في باريس لهم بيت يقيمون فيه يدار إدارة عسكرية، كل أنواع التعليم على هذا الوجه في القاهرة والإسكندرية فقط، أما المدن الأخرى والأرياف فليس لها حظ من هذا التعليم. وبجانب هذا التعليم تعليم آخر يبتدئ بالكتاب، وهو منتشر في القاهرة والمدن والقرى وينتهي بالأزهر، وهذا التعليم لا تعني به الحكومة ولا تتدخل فيه ولا يهمها أمره، وكل ما فعله عباس الأول وسعيد أن ضيقا التعليم المدني، حتى إذا جاء إسماعيل بدأ يتغير هذا النظام وينظر إلى التعليم نظرة أخرى غير النظرة الحربية، وكان من أكبر العاملين على هذا علي مبارك - فلو قلنا إنه حول التعليم من وجهة حربية إلى ثقافة شعبية، كان ذلك وصفا مجملا صادقا.
رأى أن عماد التعليم الشعبي الكتاتيب في المدن والقرى، وهي حالة يرثى لها،
Página desconocida