Líderes de la Reforma en la Era Moderna
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
Géneros
وأخيرا أخذ يتحرى السبب من خدم المأمور، نعرف أن هذا العبد كان مملوكا لسيدة من كبرى السيدات، وقد أدخلته مدرسة قصر العيني فتعلم فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن هذه المدرسة تخرج الحكام - إذ ذاك - وضع يده على سر الأمر، فهناك مدرسة لتخريج الحكام وهي لا تقيد بالأتراك، فقد كان هذا العبد الأسود تلميذا فيها، فإذا استطاع أن يصل إلى الدخول في هذه المدرسة أصبح حاكما كعنبر أفندي. ولكن كيف السبيل؟ - أصبحت هذه المدرسة شغله الشاغل، وهمه بالليل والنهار، وسؤاله المتكرر ممن يأنس منهم المعرفة - أين مدرسة قصر العيني؟ وما هو الطريق إليها؟ وما المسافة بين كل مرحلة وأخرى؟ وكيف يأخذون التلاميذ لها؟ وهكذا، ثم يكتب كل هذا في ورقة معه، وقد صمم على أن يحتال للدخول في هذه المدرسة بأية وسيلة.
وكان أهم ما عرفه عن هذه المدرسة أن مفتشا يمر على مكاتب القرى من حين إلى حين يختار أنجب التلاميذ وأذكاهم ، فيلحقهم بمدرسة قصر العيني.
هذا هو علي مبارك يترك العمل عند عنبر أفندي ويلتحق بكتاب ينتظر المفتش، ويحاول أبوه مرارا أن يصده عن ذلك فلا يفلح، ثم إذا بالمفتش يحضر ويختار علي مبارك فيمن يختارهم. وإذا هو تلميذ بمدرسة قصر العيني يمني نفسه الأماني في أنه سيكون حاكما كعنبر أفندي، وعمره إذا ذاك نحو اثنتي عشرة سنة كانت حافلة بالمغامرات الغريبة، والمفاجآت العجيبة، والصبر على البؤس والفقر والغربة.
دخل علي مبارك مدرسة قصر العيني، ولكنه سرعان ما شعر بخيبة الأمل، فلم يجد المدرسة هي الجنة التي وعد المتقون، وإنما هي النار التي يشقى بها المجرمون، وكانت المدارس المدنية إذ ذاك في أول العهد بها، لم يستقر أمرها ولم تنظم شئونها، فلم تعجبه في علمها، إذا لم يجد هندسة ولا حسابا كما قيل له، وإنما كان أكثر الوقت يصرف على تعليم المشي العسكري، ولم يجد أكلا يرضيه - وهو الفقير القنوع - فكان يفضل عليه الجبن والزيتون يشتريهما من ماله الخاص، ولم يجد نظافة يطمئن إليها، فنومه على حصير قذر، يلتحف ليلة بنسيج من الصوف الغليظ حتى أصيب بالجرب وبكثير من الأمراض. وإذ ذاك تبخرت كل آماله، وزاره أبوه في مرضه، وحاول أن يسرقه، وفكر هو أيضا في أن يفر معه، وما منعه إلا ما سمعه من أن من فر قبض عليه وعذب هو وأهله عذابا شديدا، فسلم الأمر لله واستمر في المدرسة، ثم من الله عليه فنقل إلى مدرسة الهندسة بأبي زعبل لتخلى مدرسة قصر العيني لتعليم الطب.
وكانت المدرسة الجديدة خيرا من القديمة، ففيها علم كثير يرضي نهمه،
2
ولكنه يقع في مشكلة عويصة، فعقله لا يستسيغ الهندسة ولا النحو بتاتا، ويسمع للمدرس كأنه يسمع تعاويذ سحرية لا يفقه لها معنى، ثم تبين أن المشكلة مشكلة المعلم لا مشكلة التلميذ، فكانت في نفسه عقدة منعته من فهم الهندسة؛ إذ سمعهم يسمون مثلثا أ ب ج وآخر ح د ه، فاختلط عليه الأمر، ولم يدر لم سمي هذا المثلث بهذا الاسم دون ذاك ، حتى رزق بمعلم حسن التدريس، جمع التلاميذ المتخلفين في فصل، وشرح لهم الهندسة من أولها شرحا جليا واضحا، وأبان أن هذه التسمية للمثلثات وسائر الأشكال ليست إلا مواضعات
3
للشرح والتفسير، فالمثلث ا ب ج أو ح د ه أو أي حروف كانت ليست إلا أسماء اصطلاحية يسمى بها الشكل، فانحلت عقدة علي مبارك، وتفوق على سائر التلاميذ في الهندسة، وكان أول فرقته دائما. ولم يرزق في النحو ما رزق في الهندسة، فظل معمي عليه.
ثم اختاروا من مدرسة أبي زعبل خير التلاميذ وأدخلوهم مدرسة المهندسخانة ببولاق، فكان علي مبارك أحدهم، درس فيها كل فروع الهندسة وما إليها حتى أتمها.
Página desconocida