كانت الساعة الثالثة حين دخلت المدموازال «راين» إلى غرفة رجاء باشا وقالت: هنا يا صاحب السعادة هانم تريد مقابلة سعادتكم. - من هي؟ بطاقتها؟ اسمها؟ - كل ذلك محفوظ لسعادتكم يا سيدي.
فنظر رجاء باشا إلى الساعة وقال: إني أنتظر زيارة البرنس سناء الدين باشا الساعة الرابعة. والآن الساعة الثالثة ونصف. لا بأس، أدخليها إلى الحجرة الآخرى لا إلى البهو. بعد دقيقة أكون هناك.
وما تأخر رجاء باشا دقيقة حتى دخل إلى الحجرة، فبهت إذ وقعت عينه على عين الزائرة، وأجفل وانتفض. ثم تمالك روعه وأقفل باب الحجرة ودنا إلى مقربة منها وقال: لقد لاحت لي خواطر مختلفة حين أنبأتني مديرة المنزل أن سيدة تريد مقابلتي، ولكن ما خطر لي أن تكوني أنت يا نميقة. - أمديرة منزل هذه الحسناء؟ - نعم، إن المنزل المعد لاستقبال الأمراء يجب أن تكون مديرته حسناء هكذا. فهل جئت لكي تنتقدي منزلي يا نميقة؟ - كلا، أنت مستقل بشئونك. وإنما جئت لكي أتحقق إن كان رجاء هو أمل الدين نفسه. - كيف خطر لك أن يكون الاثنان واحدا؟ - لأن الرجاء والأمل لفظان لمعنى واحد. ويهمني المعنى. - أراك قلقة جدا، كأن جميع أعصابك ترتج وجميع جوارحك ترقص، فماذا طرأ عليك؟ - إني على أبواب أزمة هائلة يا أمل الدين. - ماذا؟ أنبئيني. - هي أن أدفن حية أو ميتة. - ولماذا تدفنين حية أو ميتة، ولا تعيشين كما يعيش البشر؟ - جئت إليك لكي تسهل لي طريق الحياة. - من أسهل الأمور عندي تسهيلها، ولكني لم أفهم كيف تدفنين حية أو ميتة؟ - لقد أحرجوا موقفي، فإما أن يزوجوني للبرنس عثمان أو أن أنتحر. - أما وجدوا خيرا من هذا العلج زوجا لك؟ فهل يصلح هذا زوجا وهو لا يعود إلى قصره في الأسبوع مرة، ويقضي أيامه في المواخير. - لهذا لا أجد أمامي إلا الانتحار. وإنما قبل أن أقدم عليه جئت إليك. - أهلا وسهلا. أنت تعلمين كم أحببتك، وسأجدد ذلك الحب، فها هو بيتك، والمأذون يحضر لكتابة الكتاب في نصف ساعة إذا شئت. - ويحك! هكذا تتزوج بنت البرنس سناء الدين؟ - بل هكذا يتزوج رجاء باشا راغب. - لا أظنك تعني ما تقول. - ماذا تريدين أن أعني؟ - أريد أن تجدد الطلب لأبوي وأنا أؤيد طلبك.
فنظر فيها نظرة كادت تشق فؤادها نصفين، وقال: ويحك! لم أنس ولن أنسى «شبشب» أمك ولا كف أبيك. هل تظنين أني أصغر قلبا من سلطانك أو ملكك أو ... لا تدعيني أكفر.
فقالت نميقة بصوت تضرع: لا بأس يا أمل، لقد أصبحت الآن في منزلة الكبراء، ونلت ثقة الأمراء، فلم يعد أبي ولا أمي يستنكفان مصاهرتك. فإذا طلبت يدي من أبي فأنا أقنعه بأن يرضى. - ويحك! هل يسلم عقلك بأن أطلب يدك من غيرك. فإذا كانت يدك ملك الآلهة فلا أطلبها منهم. هل تظنين أني صفحت عن أبيك وأمك! لن أصفح، بل يصعب علي أن أصفح عنك لأنك لم تعصي أمرهما وفوق ذلك نكثت عهدك لي.
فتجهمت نميقة وقالت: معاذ الله، لم أنقض عهدنا.
فصاح بها: لا تمكري يا نميقة، لا تعظمي إثمك بالكذب. أما طمعت في أن تتزوجي الغازي مصطفى باشا كمال؟ - هذه كانت أمنية أبواي؛ لأنهما لما رأيا أن قوة السلطان بادت وأصبح الخليفة بلا حول ولا طول فصار موقف الأمراء مزعزعا والأمراء لم يعرفوا أن يتحدوا، افتكر أبي أن يعزز مركزه بمصاهرة مصطفى باشا كمال. - إذن تعترفين أن أباك كان يتاجر بك.
فتمرمرت نميقة وصاحت: لقد تجاوزت الحد يا أمل الدين. - ما أنا أمل الدين الآن، بل أنا رجاء باشا زعيم الأمراء. أما بلغ هذا إلى مسامعك؟ - نعم، بلغ إلى مسامعي أنك تحاول جمع كلمة الأمراء. ولهذا جئت إليك لظني أن الفرصة مناسبة لإتمام العهد. ولكن وا أسفاه، لا أرى منك إلا شموخا وصلابة. - عجبا! أتحسبين هذه الرحابة مني بعد صدك وجفائك شموخا؟ أوتعدين هذا التسامح مني بعد إهانة أبويك لي صلابة. قلت لك: إني أجعلك أفضل الزوجات في كل شيء حتى في الجاه. - ولكن لا بد من استرضاء أبوي حتى لا أكون مضغة في أفواه الأميرات والأمراء.
فصاح بها رجاء باشا أو أمل الدين: ويحك! هل تظنين أن الأمراء والأميرات يقدرون أن يكسبوك شرفا أو يسلبوك نبلا. فلينظروا إلى أنفسهم أولا وثم يدينوننا. - مهما يكن الأمر يا أمل الدين، لا يليق أن تخرج فتاة من منزل أبويها من غير علمهما لكي تتزوج. هل تقبل أنت بذلك؟ - إنه أمر غير مألوف، ولكنه ليس بفرية. ناهيك عن أني لا أستطيع أن أذل نفسي لأبويك بعد الذي جرى منهما. - ماذا يمنع أن تكلف أحدا من الأمراء أن يكون واسطة بين أبي وبينك. أليس فريد باشا الداماد صديقك؟ كلفه أن يخاطب أبي في الأمر وهو صديق أبي.
ففكر رجاء باشا هنيهة، ثم قال: لا أدري إن كان فريد باشا أو غيره يتوسط في الأمر بالصيغة التي أريدها. - يكفي أن يكون في أول الأمر وسيلة للصلح بينكما. وبعد ذلك يسهل الطلب وأنا أعززه. وقد أصبح كل ذلك سهلا الآن. - عجبا. كيف ذلك؟ - لأن المقام الذي بلغت إليه كالتلسكوب الذي يقرب الأبعاد أو الميكروسكوب الذي يكبر الأمجاد. - أستغرب كيف عرفت كل ذلك يا نميقة. - لقد أصبح أمرك حديث الأمراء في جميع أنديتهم، وإنما أنا أستغرب كيف وصلت إلى هذا المقام! - إن أبويك هما اللذان دفعاني في هذا الطريق. إن كف أبيك جعلتني أجري بلا انقطاع، وشبشب أمك منحني قوة لا تفنى. فهما صاحبا الفضل الأول في توصيلي إلى هذا المقام. - إني آسفة لما حدث يا أمل الدين، ولكن النتائج حسنة، فأود أن تخفف من غلواء حقدك. سوف تتكيف المسائل وتتحول كلها إلى الخير. فلا تغال في غيظك ولا عنفوانك. هل تظن أن مؤتمر الأمراء يأتي بفائدة؟
Página desconocida