مقدمة لازمة
1 - هزة مقدمة لزلزال
2 - جوزفين مصطفى
3 - شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب
4 - التنقيب تحت عرش
5 - ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
6 - عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
7 - ويل أهون من ويلين
8 - رسالة من عالم الأرواح
9 - مؤامرة ضد مؤامرة
10 - خيالات ذات قيمة
11 - واشرح هواك فكلنا عشاق
12 - جنية البحر
13 - حرب سياسية في المجلس الوطني
14 - المعركة الفاصلة
15 - البعث
16 - سامع شتيمته بأذنه باسم
مقدمة لازمة
1 - هزة مقدمة لزلزال
2 - جوزفين مصطفى
3 - شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب
4 - التنقيب تحت عرش
5 - ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
6 - عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
7 - ويل أهون من ويلين
8 - رسالة من عالم الأرواح
9 - مؤامرة ضد مؤامرة
10 - خيالات ذات قيمة
11 - واشرح هواك فكلنا عشاق
12 - جنية البحر
13 - حرب سياسية في المجلس الوطني
14 - المعركة الفاصلة
15 - البعث
16 - سامع شتيمته بأذنه باسم
وداعا أيها الشرق
وداعا أيها الشرق
تأليف
نقولا حداد
مقدمة لازمة
هذه الرواية تبسط الحد التاريخي بين عصر العثمانية البائد وعصر الطورانية المستجد: فهي ديباجة الفصل الجديد في حياة الأتراك.
قضي أن تتحول الدولة العثمانية إلى جمهورية، وأن تصبح الخلافة عند الترك أمرا معنويا مضمونا في الجمهورية - كما قال عصمت باشا. وقدر أن يكون عامل هذا التحول يدا أجنبية: فلا أمراء بني عثمان كانوا مذنبين، ولا الغازي مصطفى باشا كمال وأعوانه كانوا مفتئتين، وإنما شيطان البلشفية كان آلة في يد القضاء.
ففي هذه الرواية ترى الدور الذي لعبه هذا الشيطان أعجب درس في فن الدهاء، وأغرب أمثولة في علم المكر. في هذا الحادث المتفرد في تاريخ الشرق انفصمت آخر عروة من عرى علائق العرب بالترك، وانفصل جنين الوحدة العربية من أمه وبدأ يحبو مستقلا، ولكنه لم يزل طفلا.
ألفت هذه الرواية على إثر إلغاء الأتراك الخلافة؛ لأن الموضوع اقتدح زناد القريحة، فاقتبست شررها على الفور قبل أن ينطفئ. وإنما لم يصبها نصيب النشر عاجلا إذ كان غيرها من روايات المجلة يزاحمها. ولما كثر التحدث بأمر مؤتمر الخلافة، رأيت أن الوقت وقتها فلم أعد أسوف نشرها.
وإذا كان القارئ ممن تتبعوا أنباء تلك الحوادث في حينها، فلا بد أن يرى أن كثيرا من حوادث هذه الرواية وقائع حقيقية.
نقولا الحداد
مصر، شبرا
الفصل الأول
هزة مقدمة لزلزال
كانت الساعة العاشرة والنصف حين سمع دولة الغازي مصطفى باشا كمال دوي رصاصة لدى بوابة صرحه. فاستغرب الأمر جدا؛ لأنه يعهد أنه لا أحد يجسر أن يحرك ساكنا تحت ظل سؤدده. فمن يجسر أن يطلق طلقا ناريا لدى داره. هل من ثائر أو نذير بثورة؟
الرجل العظيم من حسب حساب كل صغيرة. فهب الغازي من مكانه وخرج إلى رحبة الدار يسأل: ما الخبر؟ فقال الخدم: إن الحارس الداخلي يا مولاي خرج يستجلي الخبر.
وفي لحظة ظهر يقول: مولاي، جاء رجل مجنون يصر على مقابلة دولتكم في هذه الدقيقة، ولما كان ميعاد المقابلات للأشخاص المجهولين قد فات رده الحارس، فأصر، فرده ثانية، وأخيرا رام أن يدخل عنوة وقهرا، فأطلق الحارس مسدسه تهويلا له فولى. - أين هو. ألا يزال هنا؟ - أظنه ما زال واقفا في آخر الشارع. - أما ذكر من هو؟ - قدم بطاقة باسم مجهول. - استدعه حالا وقل له أني أود أن أراه. أسرع!
بعد دقائق عاد الحارس يقود شابا في شرخ الشباب، عالي الجبين وضاح المحيا، حديد الباصرة حداق الحدقة، طويل القامة أنيق الملبس.
ثم أومأ الغازي مصطفى باشا كمال إلى الحارس فخرج، وبقي الشاب وحده لديه. فقال الغازي: ماذا تريد هنا في آخر السهرة؟ - جئت بمهمة إليك. - من أنت أولا وما اسمك؟ - اسمي رجاء الدين أفندي موظف في السفارة الروسية.
فاستغرب الغازي وقال: عجبا! لا أتوقع رسولا من السفارة الروسية في مثل هذه الحال، ولا أعتاد أن يأتي إلي مندوب من السفارة بهذه الكيفية وفي مثل هذا الوقت. فلا ريب أنك ...
فقاطعه رجاء الدين أفندي قائلا: مهلا يا فخامة الغازي، لا أسهل من إثبات شخصيتي. وضرب الشاب يده في جيبه واستخرج بعض أوراق. ومن غير أن يتناولها الغازي قال: ولكن لماذا لم تقل للحارس إنك مندوب من السفارة الروسية؟! قدمت له بطاقة باسم غير معروف عندنا، فهو معذور فيما فعل. - كلا يا صاحب الدولة، إنه غير معذور؛ فقد رجوته أن يقدم بطاقتي للحارس الداخلي فأبى. فرجوته أن يسمح لي بمقابلة الحارس الداخلي كي أتفاهم معه فلم يسمح. فحاولت أن أدخل لمقابلة الحارس الداخلي عنوة فتهددني بإطلاق الرصاص. - ولكن بطاقتك لا تدل على وظيفتك. - ليس هذا شغله. كان عليه أن يقدمها لدولتكم وأنتم تفهمون. - كيف أفهم وأنا لا أعرف هذا الاسم؟ - أما خاطب سعادة السفير حضرتكم بالتلفون منذ برهة؟ - كلا. - عجبا! لقد أخبرني سعادته أنه سيخاطب دولتكم تلفونيا وينبئكم بتشرفي! - لم يفعل. وهبه فعل، فماذا كان يضرك لو قدمت بطاقة تدل على وظيفتك؟ - إني مأمور بزيارة سرية لدولتكم، وأستغرب أن سعادة السفير لم يتلفن لدولتكم.
عند ذلك رن جرس التلفون، فتقدم الغازي إلى السماعة ووضعها على أذنه، فإذا سفير روسيا يخاطبه وسخط على مصلحة التلفون لأنها لم تلبه. ثم أخبره أن مندوبا من قبله سيصل إليه ويبسط له أمرا.
فقال الغازي: لقد وصل والحمد لله بالسلامة ونجا من خطر. - عجبا! ماذا جرى؟ - حدث سوء تفاهم بينه وبين الحارس، وسيروي لك ما حدث.
فقال السفير: وهو سيروي لك الآن ماذا حدث.
عند ذلك خاطب مصطفى باشا مركز التلفون ووبخ الإدارة، وكان عذرها أن عطلا حدث كالعادة.
فتمرمر الغازي لنفسه وقال: يالله! متى نستطيع أن نتقن أعمالنا كالإفرنج! إن هذا الشرق عليل، عليل، عليل، يجب أن نطلقه.
ثم انفرد الغازي بمندوب السفارة الروسية في مكتبه الخاص، ونظر إلى رجاء الدين أفندي كأنه يسأله ماذا يريد أن يقول. فقال رجاء الدين: إن سعادة السفير يرجو من دولتكم الرفق بوليد بك، فهو أخف جرما من سواه.
فنظر فيه الغازي مستغربا كلامه وقال: أهذا ما لقنكه سعادة السفير؟ - نعم يا سيدي، هل فيه ما يسوءك؟ - كلا، وإنما لا أعرف من هو وليد بك. - عجبا! ألا تعرف وليد بك صاحب جريدة توحيد أفكار في الآستانة؟ - لعلي لا أعرفه، وإنما أعرف أن صاحب توحيد أفكار يسمى وليد بك. - حسنا. هو الذي يرجو السفير منك أن ترفق به؛ لأن ذنبه أخف من ذنوب آخرين.
فتململ الغازي وقال: إلى الآن لم أزل غير فاهم ما تقول. - عجبا! أما أمرت بالقبض على وليد بك؟ - كلا، لماذا نقبض عليه؟ - أولا أمرت بالقبض على سواه من الصحفيين في الآستانة؟ - لا. لا. - إذن لقد تأخرتم دولتكم عن القبض عليهم، ولا بد أن تفعلوا غدا. - ولكن لا أدري لماذا نقبض عليهم. - الله! أما بلغت إلى دولتكم رسالة علي أغا خان، النبيل الهندي؟
فاختلج الغازي مصطفى باشا مضطربا، وجعل عقرب القلق يلسع صدره، فقال: رسالة أغا خان الهندي؟ لا أعرف شيئا عن رسالة لأغا خان، فما هي هذه الرسالة؟
فتمايل رجاء الدين أفندي في خيلاء وقال: وي وي! رسالة أغا خان الموجهة إليكم وفيها يطلب منكم إعادة السلطة والنفوذ للخليفة، وإلا تضعضعت صولة الدولة التركية.
فانتفض الغازي وقال: ولهذا جئت من قبل سعادة السفير؟ - نعم، سل سعادته، إني لست حائدا عن موضوع المهمة التي وكل إلي سعادته قضاءها. - إن الحديث الذي ترويه يا هذا أشبه عندي بالتخيلات الشعرية منه بالحقائق.
فضحك رجاء الدين أفندي وقال: إذن لم تزل الصولة في الآستانة كما كانت يا مولاي، فلماذا لا تقيمون دولتكم في الآستانة.
فامتعض مصطفى باشا كمال من هذا الغمز وقال: لا تخرج عن دائرة مهمتك، قل ما تريد أن تقوله باختصار وصراحة.
فأجاب: أريد أن أقول لدولتكم: إن جرائد الآستانة تنشر الرسائل الواردة عليكم قبل وصولها إليكم. فنفوذ الدولة لا يكون في أنقرة بل في الآستانة. فحبذا أن تنقلوا العاصمة إلى الآستانة لكي تنقل السفارة معكم؛ لأني ضجرت من العيشة في أنقرة وميداني في الآستانة. عذرا يا دولة الغازي، كلامي الأخير هذا خارج عن دائرة مهمتي، وجل ما أريد أن أقوله لدولتكم: إن رسالة أغا خان المرسلة إليكم نشرتها صحف الآستانة اليوم، وبعضها علقت عليها تعليقات لا تسركم. فلا بد أن تقبضوا على تلك الأقلام التي علقت عليها. ولا بد أن يكون وليد بك من جملة المغضوب عليهم الضالين. فأرجو بلسان سعادة السفير أن ترأفوا به لأنه أقل إثما وأسلم نية من سائر الصحفيين. وسعادة السفير يود أن تتغاضوا عنه إكراما لخاطره.
أما الغازي مصطفى باشا كمال فلم يكن يسمع الكلام الأخير جيدا؛ لأن باله اشتغل قلقا لهذا الخبر الغريب، وقال: ويحك يا هذا، إن كان كلامك هذا إفكا فالويل لك! كيف عرفت كل هذا وكيف تثبته؟ هذا مستحيل.
فتبسم رجاء الدين وهو لا يتقلقل من مكانه، كأنه صاحب الصولة والدولة ومصطفى كمال الصعلوك أمامه، وقال: أما كيف عرفت كل هذا فقد جاء تفصيله من قنصلنا في الآستانة إلى السفارة هنا في تلغراف جفري سري، وأما إثبات هذا الكلام فعلى دولتكم يا سيدي، على دولتكم أن تتحققوا إن كان إفكا أو حقيقة. ولو شئت يا مولاي التحقيق الدقيق لرأيت أن الرفيقين شيشرين وتروتسكي عرفا برسالة أغا خان الهندي لكم قبل أن يكتبها.
فازداد الغازي تأثرا ودهشة وقال: مهلا يا هذا، إني مشغول على التلفون بضع دقائق.
ولكن قبل أن ينهض الغازي من مكانه وافى الحارس الداخلي بتلغراف، ففضه الغازي. وما وقعت عينه على الإمضاء إلا ضرب بيده على المكتب، فصاح: تبا له من بارد بليد. جعلناه حاكم الآستانة لكي ...
ثم أمسك عن الكلام؛ إذ فطن أنه لا يزال مع شخص غريب لا يليق أن يطعن برجال حكومته أمامه، ولكن رجاء الدين تناول الحديث معتذرا عن حاكم الآستانة وقال: عذرا يا صاحب الدولة، ليست مصلحة التلغراف أحسن حالا من مصلحة التلفون، راجع التاريخ.
وكان الغازي يقرأ التلغراف وهو ينتفض غضبا، ثم طواه وقال: لقد ثبت ما تقول يا رجاء الدين أفندي. وسيعلم الذين ... أبلغ سعادة السفير أن خاطره عزيز عندي.
وكان كلام مصطفى باشا كمال الأخير يدل على أنه خاتمة الحديث، فقال له رجاء الدين: إن سعادة السفير لا يزال يترقب بفروغ صبر الأدلة الواضحة على تنفيذ وعودكم.
فنظر إليه الغازي مستفهما وقال: أي وعود؟
فقال رجاء الدين مبتسما: الوعود المقدسة المختصة بالفائدة من محالفة الجمهورية التركية لحكومات السوفيات. - اسمح لي الآن. إن لي شغلا مع ... - عفوا يا دولة الغازي. أعلم أن لكم شغلا الآن مع عصمت باشا وغيره. ولكن شغلكم معنا أهم.
فقال مصطفى باشا كأنه يريد أن يختصر الحديث: نعم. نعم. أنا عالم أن شغلي معكم أهم. سلم على سعادة السفير وقل له أن يرجئ الموضوع إلى جلسة خاصة بيني وبينه. - عفوا يا دولة الباشا، إن كل أشغالك التي تشغلك بعد هذه الدقيقة تتوقف على معلوماتي التي لا تعلم منها شيئا بعد، والتي لا تأتيك بتلغراف من حاكم الآستانة ولا يقدر أن يفيدك إياها أحد. فمهلا، تسلح قبل أن تناضل. أنا الجبخانة يا باشا، فخذ مني السلاح والذخيرة!
فازداد الغازي دهشة لحديث هذا الرجل الذي لا يعرفه أكثر من كاتب في السفارة، وقال: هل عندك أخبار أخرى مهمة؟ - من غير شك، وإلا لما جئت أنا إليك، بل كان السفير يجتمع بك وكفى، فمهلا، إن شغلك مع عصمت باشا وشكري بك ومظهر مفيد بك ومحمد أمين بك وإحسان بك وغيرهم يمكن تأجيله. وأما حديثك معي فلا يؤجل دقيقة. - حسنا. تفضل قل ما عندك. - قبل كل شيء أرجو أن تجيب على سؤالي الأول، وهو: متى تنفذون الوعود المقدسة التي وعدتموها، وأعني بها: متى تتبلشفون تماما!
فتجهم مصطفى باشا وقال: هل أنت مفوض بهذا الحديث! - نعم، السفير يتحاشى أن يجتمع بكم كثيرا حتى لا يجعل سببا لاتهام أعدائكم لكم. ولكنه يود أن يعلم متى تنفذون وعودكم. - يالله! أما كفاه أننا فصلنا الدين عن السياسة، وألغينا التعلم الديني أو حصرناه بفئة رجال الدين الذين جعلناهم تحت سلطتنا، وألغينا المحاكم الشرعية، ورفعنا الحجاب عن المرأة، ومنعنا تعدد الزوجات. أما كفى كل هذا؟ - فعلتم كل ذلك، ولكنكم لم تعلنوه، كأنكم تهابون مغبة إعلانه. فمتى تعلنونه؟ - تدريجيا. أما أعلنا نزع السلطة الزمنية من الخليفة! - ولكن العالم الإسلامي لا يزال يتطلع إلى منصة السلطة التركية كالركن المتين أو الحمى المنيع. ولهذا ترى أغا خان وأمثاله لا يزالون يشدون إزر الخليفة ويطالبون برد السلطة الزمنية له. والخليفة بما له من أمثال هذه المؤازرة يكيد المكايد ويدس الدسائس وينقب تحت أساس جمهوريتكم حتى يقلبها رأسا على عقب.
فانتفض مصطفى باشا كمال وازبأر شعر رأسه، وقال: ويحك! ماذا تقول؟ - أقول: إن مؤامرة عظيمة تدبر لأجل هدم الجمهورية، وستسمعون دولتكم خبرها في حينها. - أخبرني الآن ماذا تعرفه عنها، من هم القائمون بها! - ليس الآن يا باشا، ليس الآن، بل حين أستوفي معلوماتي، وإنما أقول لك: إن فريد باشا الدماد زنبلكها. - والسلطان وحيد الدين؟
فوجم رجاء الدين عن الكلام، ثم قال: يكفي الآن يا دولة الباشا أن تعلم أن هناك مؤامرة، وحين تنضج تطلع عليها جيدا، فلا تتعب نفسك كثيرا في البحث عن ذويها، لا تكسر البيضة قبل أن ينضج الجنين، وإلا فلا تستطيع أن تقتل «الكتكوت» ولا «الفرخة» ولا الديك، فمهلا، وإنما يجب أن تقتل الديك أخيرا وإلا ... - لا تكلمني ألغازا. - بل أكلمك بصراحة يا دولة الباشا، يجب أن تقطع الرأس. - أجل، أنا عالم أننا سنضطر إلى خلع الخليفة الحالي عبد المجيد.
فضحك رجاء الدين وقال: لا لا. هذا وحده لا يكفي. - وسننفي كل من يشد أزره أو يلتف حوله. - لا لا. كل هذا لا يفيد شيئا يا دولة الباشا؛ تخلعون خليفة فيأتي خليفة آخر. - إذن! - يجب إلغاء الخلافة برمتها، كما ألغى لنين البطركية بتاتا وكما ألغت فرنسا الدين والإكليريكية والرهبنات.
فاختلج مصطفى كمال، وقال: ويحك يا هذا! إن الخلافة رأس ثلاث مائة مليون مسلم. فهل تريدون أن أقطع رأس ثلاث مائة مليون مسلم! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. - نحن قطعنا رأس مائة وثمانين مليون أرثوذكسي، وسنقطع رءوسا أخرى. وإلا فكيف يتحرر العالم من قيود التقاليد القديمة لكي يستطيع أن يرتدي رداء المدينة الجديدة.
فبهت مصطفى كمال. قال: هل أنت أرثوذكسي؟ - كلا، بل أنا تركي مسلم. ولكني الآن موظف بلشفي. فبأمر سيدي السفير البلشفي أتكلم، وباسم البلشفية أقول.
فكان لفظ البلشفية يعبر في مسمعي مصطفى كمال الجبار كعبور كهرباء السمك الرعاد في بدن فريسته.
وبعد بهته هنيهة قال: إن سفيرك يطلب مني أن أحمل نقمة ثلاثمائة مليون مسلم على رأسي. - لا بأس يا باشا، إن لنين حمل نقمة ألف وخمسمائة مليون آدمي على رأسه. سمعا يا سيدي الباشا، إذا لم تستطع أن تحمل نقمة فريق من الناس، فكيف تتوقع لقب إمبراطور تركيا وتركستان؟
فانتفض مصطفى كمال وقال: ويلك، لا تجربني أيها الشيطان. من قال لك: إني أتوقع ... - التاج الطوراني؟ أجل، إذا لم تتوقعه فهو يتوقعك. إن نابليون لم يكن يتوقع أن يأخذ التاج من يد البابا ويضعه على رأسه، يا نابليون طورانيا العظمى.
فحملق فيه مصطفى كمال وقال: تبا لك من رجيم مجرب. كيف تظن أني أتشبه بنابليون.
وكان رجاء الدين لا يزال في برودته يجاوب مبتسما، فقال: ما أنا ظننت يا سيدي الباشا. وإنما كل الأتراك، بل كل العالم يقول عنك الآن: إنك نابليون الأناضول. فإذا ألغيت الخلافة شرعوا يقولون عنك نابليون طورانيا. فلا تضع هذه الفرصة. إن أبواب سراي طولمة بغجة العظيمة وسائر سرايات الآستانة مفتوحة لجلالتكم وجلالة الإمبراطورة لطيفة هانم عقيلتكم.
فسخط به مصطفى باشا كمال وقال: ويحك يا وقح، ما هذا الكلام الذي تتطاول به؟
وهم مصطفى باشا أن يضربه، فرفع رجاء الدين يده كأنه يرد الضربة وقال: حاذر يا باشا أن ترفع يدك علي، فكأنك ترفعها على لنين. لا تنس أني موظف في سفارة روسيا.
فارتد مصطفى باشا كمال واجما وامتلك عنان خلقه، ثم قال: ولكنك تماديت في الحديث معي كأنك تمازحني. - كلا يا مولاي، لست أمازحك. وإنما أريك المستقبل في مرآة جلية واضحة. فإن لم تشأ أن تنظره فلا تلم إلا نفسك. الخليفة يخلع والخلافة تلغى، وإلا فالجمهورية التركية تنسف نسفا والحلم الطوراني يذهب وهما بعد أن كان حقيقة.
وهم رجاء الدين أفندي أن ينهض لكي يخرج، فأمسك به مصطفى باشا قائلا: مهلا. - أظن أنه حان الوقت يا مولاي لاجتماعكم بعصمت باشا وغيره من الأعوان. - مهلا. أود أن أسألك أمورا. - تفضل يا سيدي سل، إني في خدمتك بكل إخلاص. - تقول إنك تركي. وما الذي قذف بك إلى حضن السفارة الروسية؟ - وماذا يمنع هذا يا مولاي؟ يقول المثل: «حيث ترزق الزق.» - ليس ما يمنع ذلك يا صاح. وإنما رجل مثلك تحتاج إليه الجمهورية أكثر من روسيا. - لا بأس! أستطيع أن أخدم الجمهورية وأنا في سفارة روسيا أكثر مما كنت خارجها، ولا سيما لأن مصلحة الجمهورية تتفق مع سياسة الحكومة الروسية البلشفية. - كيف تستطيع أن تخدم الجمهورية؟ - بما يتسنى لي من الاطلاع على خفايا أعدائها وأسرارهم. - كيف يتسنى لك ذلك؟
فضحك رجاء الدين وقال: أوه! إني أعرف كل أعداء الجمهورية. ومعظمهم في قصور الأمراء. وأعرف الأمراء واحدا واحدا. وأعرف أصل كل واحد وفصله. - لعلك كنت متصلا بهم جميعا. - بل كنت متصلا ببعضهم. كنت سكرتيرا مدة عام للداماد فريد باشا، وكاتبا في دائرة البرنس برهان الدين أفندي، وبعد حين مديرا لأشغال البرنسس خديجة هانم بنت السلطان مراد. وأخيرا كنت سكرتيرا للبرنس سناء الدين. وأعرف جميع الأمراء. - ولكن هذا يستلزم أن تكون في الآستانة يا صاح.
فابتسم رجاء الدين وقال: أقدر أن أكون حيث أشاء متى أشاء يا سيدي. - وإنما إذا كنت تجد أقل صعوبة أو عرقلة، فإني أسهل لك كل سبيل. - إن السبيل سهل يا سيدي بإذن الله. أستودعكم الله الآن يا صاحب الجلالة الإمبراطور العتيد. إن طورانيا وضعت فيكم كل آمالها. فحققوا هذه الآمال. أظن جرس التلفون ... لعل عصمت باشا يريد أن يخاطبكم الآن. وداعا! - إلى ملتقى قريب يا رجاء الدين أفندي، أود أن أراك من حين إلى آخر.
الفصل الثاني
جوزفين مصطفى
وكأن رجاء الدين أفندي كان نبيا، فإن حرم عصمت باشا كانت تخاطب دولة الغازي بالتلفون لأن عصمت باشا ضعيف السمع، فسألت: هل عند دولتكم أخبار جديدة من الآستانة؟
فأجاب الغازي: نعم يا هانم. سلي سعادة الباشا هل يمكنه أن يأتي إلى هنا الآن. هل ورد له خبر؟ - نعم، ورد تلغراف من حاكم الآستانة الدكتور عدنان بك. - إذن هو نفس نص التلغراف الذي ورد إلي. قولي للباشا أن يحضر. هل يقدر؟ - لقد انتصف الليل يا باشا. - نعم. ونحن ما تعودنا أن نفرق بين الليل والنهار يا هانم.
وحدثت فترة خاطبت الهانم فيها عصمت باشا، ثم قالت: نعم، الباشا يقول أنه في برهة قصيرة يكون عندكم.
ثم خاطب الغازي كلا من سيد بك وزير الحقانية، وشكري بك نائب أزمير، وطلب إليهما أن يأتيا إليه.
ثم دخل إلى قسم الحريم فوجد لطيفة هانم زوجته لا تزال مستيقظة. فنظر فيها ونظرت فيه، وقال: ما بالك يقظة؟ لماذا لم تنامي؟
فأجابت: وأنت ما بالك متجهما هكذا؟ إن من يراك يظنك تبتغي المصارعة.
فحاول الابتسام وقال: نعم، إني أستعد لاحتمال نقمة ثلاث مائة مليون. - ثلاث مائة مليون ليرة ورق أو ذهب؟ دع هذا الحمل على رأس وزير المالية أو على المجلس الوطني الكبير.
فقهقه مصطفى باشا بالرغم من اضطراب مقلتيه في وقبيهما بسبب خفقان فؤاده، وقال: لله منك! ألا تلهجين بغير الذهب؟ ولكنك معذورة، فإن النساء نساء حيثما كن وكيفما كن، لا يخلب ألبابهن إلا بريق الذهب والجواهر. - إذن ضعوا هذه المسئولية على أعناق السيدات وكل واحدة تنزع عقدها من جيدها وتقدمه للوطن. وأنا أفعل ذلك في مقدمتهن. - بورك بك وطنية غيورة يا عزيزتي. لست أقصد ثلاثمائة مليون ليرة، بل ثلاثمائة مليون نفس سأتعرض لنقمتها.
فهبت لطيفة هانم من مكانها مذعورة، وقالت: ويلاه! لماذا؟
فقال الغازي ممازحا: لكي أجعلك إمبراطورة في قصر طولمة بغجة. ألا تريدين؟
فتوردت لطيفة هانم زوجته وقالت: بالله ماذا تقول يا مصطفى؟
فقال متظاهرا بالجد: أقول: سأخلع الخليفة والخلافة معا، وأطرد كل بني عثمان من تركيا الجمهورية. فاستعدي لكي تتوجي إمبراطورة في الآستانة.
فقالت ومقلتاها تضطربان في وقبيهما اضطراب الزئبق في كف الأشل: أتمزح يا مصطفى؟ إن كثيرا من المزاح يتحول إلى جد. لقد كان نابليون يمازح جوزفين قبل أن صار إمبراطورا.
فكادت نشوة الغرور ترفع فؤاد بطل أنقرة إلى أعلى صدره. ولكن فخر رجال اليوم بالزعامة أعظم من فخر رجال الأمس بالتيجان، فقال مستدركا غرور زوجته: نحن نهدم إمبراطورية لكي نبني جمهورية يا لطيفة. ولا محل لإمبراطور في الجمهورية.
فقالت: ولكن في عهد نابليون احتاجت فرنسا الجمهورية الجديدة إلى إمبراطور، فولت نابليون. أو هو تولى وخلع سلطة البابا عن أوروبا كلها. أفلا يحتمل حدوث ذلك في جمهورية تركية لعهد مصطفى كمال نابليون تركيا؟
فقال باسما ومبالغا في الممازحة: ولكني أخاف أن تنوئي تحت تاج الإمبراطورية التركية يا لطيفة!
فقالت: أما زلت تظن هذا مستحيلا والناس يعتقدونك نابليون تركيا الذي ليس في قاموسه لفظ المستحيل؟ ليتك تفكر في المسألة بجد يا مصطفى. إن عرش تركيا الجديدة يكاد يكون تحت قدميك. الفرصة سانحة فلا تضيعها.
فقال الغازي مبالغا بالممازحة: وتريدين أن تكوني جوزفينا لنابليون تركيا؟
فقالت: لا وربك. أتجهل ماذا كان حظ جوزفين مع نابليون حين صار إمبراطورا.
فطوق عنقها بذراعه وقبلها قائلا: معاذ الله أن يكون حظك كحظها؛ لأنه لا يوجد لنابليون تركيا «أنة» بنت ملك نمسا. فأنت «أنة» مصطفى و«جوزفينه» معا.
فنظرت إليه نظرة دلال وقالت: إذا لم توجد «أنة» بنت ملك نمسا فتوجد نميقة بنت الأمير سناء الدين. - ما الذي جعلها تخطر على بالك الآن! - الحديث. والحديث أعاد ذكرى ماضية. - أي ذكرى؟ - أتتجاهل أن نميقة كانت في قائمة العرائس اللواتي افتكرت فيهن. - انا لم أفتكر بواحدة. وإنما عرضت علي فتيات كثيرات فما اخترت سواك. - أوما كانت نميقة من جملتهن؟ - لقد حاول أبواها أن يصاهراني فلم أرد. - عجبا! كيف ترفض أميرة معروضة عليك عرضا كالسلعة؟ - لأني لا أريد أميرة مؤمرة، بل أريد أن أبدع أميرة أنا أؤمرها. - هل رأيت نميقة؟ - لا، حتى ولا أبويها، ولا أعرفها. - إنها جميلة. - أتعرفينها؟ - نعم، كنا معا مدة في مدرسة واحدة. - إذن تعرفين كثيرا من أحوالها. - نعم، إنها تمثال الكبرياء والحسد والغيرة والغرور والتهور والطيش. - عجبا عجبا! - نعم، وأمها قبلها. وإذا تسنى الآن لنميقة أن تذبحني فلا تتأخر. - خسئت. لا تستطيع أن تنال منك قلامة ظفر. - بل استطاعت. - عجبا! كيف؟ - لما ذهبنا بعد زواجنا إلى الآستانة، زارتني بعض البرنسات وبعض حريم الباشاوات، إلا هي ، فقد استنكفت أن تزورني. وبعض الزائرات نقلن إلي حديثا جرى في مجلس البرنسيس سنية هانم أم نميقة حرم البرنس سناء الدين، مفاده أنها تحتقر كل أميرة تزورني. وكانت تقول: من هي هذه الحقيرة لطيفة التي تزرنها! ومتى كانت أميرات آل عثمان يزرن عبيدهن؟ ومن هو مصطفى كمال حتى تصبح زوجته، وهي من عاميات أزمير، مزارا للأشراف والأميرات؟! ما هو إلا جندي متمرد. بمثل هذا الحديث كانت سنية وبنتها نميقة تتدفقان.
فقهقه مصطفى كمال باشا وقال: خففي من حقدك يا عزيزتي، إن سنية هانم وبنتها معذورتان أن تهيجا غضبا وحقدا بعد أن رفضت أنا نميقة زوجة.
فتدللت لطيفة هانم وقالت: من يدري أن لا تتزوج نميقة وتجعل أباها خليفة، فيكون مؤتمرا بأمرك. - هذا ما كان يحلم به البرنس سناء الدين فيما أظن، ولكن لم أنله وطره. - ليس ما يمنع أن تنيله إياه يا مصطفى إذا اقتضت السياسة، كما اقتضت سياسة نابليون أن يتزوج «أنة» بنت ملك النمسا. - يستحيل. لأننا قررنا في قانون الجمهورية تحريم تعدد الزوجات. - نابليون لم يتزوج «أنة» إلا بعد أن طلق جوزفين. - وقررنا في قانون الجمهورية تحريم الطلاق إلا لسبب يقتضيه. وحيث يوجد حب فلا يكون طلاق. - ما أظن نابليون أحب امرأة كما أحب جوزفين. ومع ذلك طلقها لأن السياسة اقتضت ذلك. - نابليون كان مغرورا يريد ولي عهد، فما بقي ملكه ولا ولي عهده. - إن ولي العهد في يد الله يا عزيزي. - لست أطلب منك إلا الحب يا لطيفة، وأعاهدك على أن أقلب ملك آل عثمان عن العرش ... أظن عصمت باشا جاء، فيجب أن أقابله الآن.
وخرج مصطفى من خدر زوجته إلى بهو المقابلة.
الفصل الثالث
شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب
ننتقل بالقارئ الكريم إلى الآستانة، حيث نجد البرنس سناء الدين جالسا في مجلسه الخاص ومعه صديق يدعى نامق بك، وهو يرتجف غضبا أو غيظا، ويقول: ما خطر لي قط أن الشخص الذي أحسن إليه يكون عقربا فيلسعني في أرق عواطفي. خذ يا عزيزي نامق بك اقرأ هذه الرسالة.
ودفع إليه ورقة، فقرأ ما يأتي:
صاحب السمو البرنس عثمان أفندي
إني عارف بسر تجهله، ولا أدري إن كان يعرفه شخص آخر أيضا. ولما كان يهمك أن تعرفه رأيت أنه يجب علي أن أبوح لك به.
لقد خطبت سمو الأميرة نميقة هانم كريمة سمو البرنس سناء الدين أفندي، وإلى الآن لم تدر أنها عشيقة شخص آخر يدعى أمل الدين أفندي رغبت. فقد كان مدة في خدمة سمو البرنس سناء الدين وأتاحت له الظروف أن يتعرف بالأميرة نميقة وتنقدح بينهما شرارات الحب. وإثباتا لذلك أرجو أن تتأمل الصورة التي تجدها طي هذا. ومتى تيقنت صحة هذا السر فهمت لماذا لا تجد من الأميرة نميقة الميل الذي تبتغيه؟ بل لماذا تجد منها الجفاء الذي يؤلمك؟ ها قد عرفت الحقيقة، فلا تلم في المستقبل إلا نفسك إذا عرضت لك أمور لا تسرك. قد تسخط على من يفضح لك هذا السر، ولكنك تشكره على كل حال.
المخلص
صديق من بعيد
فلما انتهى نامق بك من تلاوة هذا الخطاب امتقع قليلا، وقال: كيف وصل هذا الخطاب إلى سموك يا مولاي؟
ورد مع هذه الرسالة من البرنس عثمان. تفضل اقرأها.
فتناول نامق بك ورقة أخرى، وقرأ:
سيدي البرنس سناء الدين
ورد إلي أمس هذا الخطاب، وطيه الصورة التي تجدها معه. وبعد تردد طويل رأيت أن من الواجب أن أرسلهما إليك لأن أمرهما يهمك. واقبل فائق احترامي.
ونظر نامق بك إلى البرنس سناء الدين أفندي، ففهم هذا أنه يريد أن يرى الصورة، فقدمها له بيد ترتجف. فلما رآها نامق بك اكفهر وقال: هذه صورة نميقة هانم، وإلى جنبها ... هل هو أمل الدين المشار إليه بالرسالة؟ - أي نعم يا عزيزي. هي صورة ذلك الساقط الذي كان جائعا فأشبعته وعاريا فكسوته. وكان يتواطأ على قدمي تذللا وعبودية. - ولكن كيف أمكنه أن يتصور والأميرة إلى جنبه. - أيصعب عليه يا عزيزي أن يسرق صورتها ويكلف مصورا أن يحتال على وضعها بأسلوب شيطاني إلى جنب صورته، ويأخذ عنها صورة فوتوغرافية واحدة كأنهما كانا واقفين جنبا إلى جنب؟
فقال نامق بك: والله إنها لبراعة. والله إنها لقباحة ووقاحة لا مثيل لهما، إن ذلك الخائن يستحق قطع العنق. - قد لا أعتب على ذلك الرذيل القبيح السافل المنحط الذي فعل هذه الفعلة الشنيعة. وإنما أعتب على البرنس عثمان لتصديقه إفك هذه الرسالة التي يراد منها الفتنة بيننا وبينه، وأما ذلك الوغد الزنيم الذي يحاول التطاول على أعراض الأمراء فلا يستحق أن نلتفت قط إلى رذائله أو أن نهتز لها. أما البرنس عثمان، وهو العزيز في الأسرة والمؤمل بأن يكون فخرها، فلم يكن يظن أن تؤثر عليه هذه السعاية الشنيعة تأثيرها الذي أراده فاعلها، بل كنت أومل أن يكون ساخطا على ذلك الوغد الزنيم.
فقال نامق بك: ولكني لست أرى في رسالة البرنس عثمان ما يفيد تغيير قلبه. - عجبا يا عزيزي نامق بك، ما الداعي أن يرسل هذه الرسالة مع رسول خاص. وماذا يمنع أن يأتي بها هو بنفسه إذا لم يكن قلبه متغيرا؟ لقد انقطع عن زيارتنا من أول أول أمس. فما معنى هذا؟
ففكر نامق بك قليلا، وقال مترددا: وإنما هل يمكنني أن أسأل يا سمو البرنس عن صحة كلام ذلك الأفاك الزنيم بشأن جفاء نميقة للبرنس؛ لأن في نيتي أن أباحث البرنس في الأمر، ولذلك أود أن أكون على بينة من كل شيء. - لا بأس أن تخاطبه يا عزيزي نامق بك. وإنما أود أن يفهم من مخاطبتك له أنه ليس الغرض من مخاطبته العودة إلى نميقة؛ لأن ذلك لم يعد يهمني. وإنما أود أن يقتنع أن هذه الصورة مفتعلة بلؤم ومكر، وأن الأميرة نميقة بريئة من كل ما يتهمها به ذلك الوغد الزنيم. - بالطبع هذا أول ما يجب أن أقنعه به؛ صونا لطهر كريمتكم المصونة الأميرة نميقة، ولاعتصام مقامكم السامي بالنبل والمجد والشمم. وبعد ذلك نرى ماذا يكون بيننا وبينه. - حسنا، وأنا أدعو نميقة الآن وأنت تسمع كلامها. فأنت كعمها وهي لا تستحي في مجلسك الشريف يا عزيزي نامق بك، بل أتركها معك لكي تقول لك كل ما في نفسها، حتى إذا كانت تكتم عني أو عن والدتها أي عاطفة فلا تكتمها عنك.
وفي الحال استدعى البرنس سناء الدين بنته الأميرة نميقة، فبدت بدو البدر من وراء الغيوم. سبحان مقسم المحامد والمواهب. بهاء تستتر الشمس من أمامه خجلا وتضطرب الدراري في السماء لديه غيرة وحسدا. وهي القامة التي قال فيها الشاعر:
سافر الوجه عن محاسن بدر
مائس القد عن معاطف بانه
لست أدري أراكة هز من أع
طافه الهيف أم لوى خيزرانه
وهما اللحظان اللذان قال فيهما آخر:
وألحاظ بأسياف تنادي
على عاصي الهوى الله أكبر
وهما الوجنتان اللتان قال فيهما المعز:
أطلع الحسن من جبينك شمسا
فوق ورد في وجنتيك أطلا
وكأن الجمال خاف على الور
د جفافا فمد بالشعر ظلا
وهو الثغر الذي قال فيه شهاب الدين الأعزازي:
ثم اتخذن من المدام مراشفا
ونظمن من حبب المدام ثغورا
ولما استوت في مقعدها كاستواء الشمس على نصف قامة فوق الأفق، وبادلت نامق بك التحية، خرج البرنس سناء الدين مستأذنا بحجة أنه فطن لأمر كان قد سها عنه.
ولما خلا المكان لها ولنامق بك سألها هذا: اسمحي لي يا بنتي يا أميرة نميقة أن أغنم هذه الفرصة القصيرة لأسألك سؤالا بيني وبينك، قد لا يتسنى أن أسألك إياه في فرصة أخرى. هل بينك وبين البرنس عثمان من جفاء؟
فأجابت الأميرة نميقة بصوت خافت: لا. - اعلمي يا بنتي أن على جوابك هذا تتوقف سعادتك. إذا كان لم يكن منك رضى تام فلا يحسن أن تكوني له زوجة في المستقبل لئلا يتنغص عيشك.
فازدات الفتاة توردا وقالت: إن هذا الحديث قد انبت فيه يا سيدي نامق بك، وقد سلمت الأمر لوالدي لأنهما أعظم مني علما وحكمة وخبرة. وهما قد قررا قرارهما وانتهى الأمر.
وهنا شعر نامق بك كأن الحديث انتهى، ولكن ضميره غير مطمئن للنتيجة، فسكت هنيهة ثم قال: وهل كان من علاقة بينك وبين أمل الدين أفندي رغبت؟ - كان أمل الدين كاتبا عندنا وكان يقضي مهام أبي البرنس. ولم تكن بيني وبينه أية علاقة سوى هذه المعرفة البسيطة. - وما قولك بالرسالة والصورة؟
فامتقع لون الأميرة نميقة أي امتقاع، وكان من يراها في تلك اللحظة يظن أنها تشتعل تأثرا، فقالت:عفوا يا سيدي نامق بك، لا رأي لي في ذلك البتة. ولا أدري كيف يجوز أن أسأل هذا السؤال أو أن أكون مسئولة عن عمل أجهل مصدره وسببه ولا طوق لي بتلافيه. ألا توافقني يا سيدي على أن الناس أحرار في أعمالهم ساءت أم حسنت؟ - نعم. نعم. وإنما كل غرضي من هذا الحديث يا بنتي أن أعلم حقيقة ضميرك لكي أعلم كيف أباحث البرنس عثمان في المسألة، ليس فقط لإزالة أي عثرة أو عقبة بينكما بل للحرص على شرف الأسرة.
عند ذلك باغتهما دخول البرنسيس سنية هانم زوجة البرنس سناء الدين. وهي كالفرس الجموح التي ازدرت فارسها ولم تعد تطيق عنانها في يده.
دخلت وارتمت توا على المقعد واكمداد الغضب على وجهها كالدخان فوق الأتون المتقد. وما أن استوت على المقعد حتى قالت: عذرا يا سعادة نامق بك، إن الشخص الذي يجب أن أبرهن له شرفي وطهارتي ولا يسلم بهما إلا ببرهان، لا يستحق أن يكون زوج بنتي. أحمد الله أنه حتى الآن لم يكتب عقد الزواج. إن البرنس عثمان من أنبل نبلاء الأسرة العثمانية السليلة المجد، فهو حفيد سلطان، وكذلك زوجي ابن سلطان وأنا حفيدة سلطان أيضا وبنتى حفيدة سلطان. وإذا كان بيننا وبينه من تمايز فنحن المتمايزون. ولذلك أرجو منك يا حضرة الصديق المخلص ألا تكلف نفسك أي مشقة في مخاطبة البرنس عثمان. إذا كان سموه يريد بنتي فيجب أن يسعى كثيرا للحصول عليها بعد أن يبرهن كفاءته بكل وسيلة.
وكانت البرنسيس سنية هانم تزداد حدة جملة بعد جملة. فما أتت على الجملة الأخيرة حتى كادت تختنق بالكلام. فتداركها نامق بك قائلا: عفوا وعذرا وحلما يا سمو البرنسس السلطاني. لست أنوي قط أن أرجو البرنس عثمان رجاء أن يتزوج العزيزة الأميرة نميقة. أظنك تثقين أني أعرف كيف أتكلم. - نعم. ولكني كنت أظن يا حضرة الصديق أنك تستنكف مخاطبة البرنس عثمان بأي أسلوب بعد أن يقبل خطابا وسخا كذلك الخطاب وصورة مصطنعة بيد شيطانية كتلك الصورة ولا يتردد في إرسالهما إلينا. وأخيرا يقرر أن يرسلهما ولا يخجل أن يرسل لنا نتيجة مكيدة لخزي بنتنا وعارها. ولو كان نبيلا حقيقة لكان أقل ما يجب أن يفعله هو أن يمزق ذلك الخطاب القذر ويحرق تلك الصورة المخزية، لا أن يرسلهما إلينا لكي تطلع بنتي على أمر مشين. وإن كان الأمر قد همه فقد كان حريا به أن يبحث عن الدساس الكائد ويحرض أحد رجاله أن يلطمه كفين ويصفعه صفعتين. نعم، كان يجب أن يفعل ذلك من غير أن يدعنا نعرف شيئا. أما وقد أرسل لنا الخطاب البذيء والصورة مع خطاب بارد فصرنا نخجل أن نقول: إننا نعرف شخصا يدعى البرنس عثمان ويدعي أنه نبيل. لا لا، أرجو منك يا نامق بك ألا تخاطبه بهذا الأمر بتاتا. لقد انتهت كل علاقة بيننا وبينه. هلمي يا نميقة.
وقامت البرنسيس سنية تتبعها نميقة من غير أن تدعا لنامق بك فرصة لكلمة.
عند ذلك دخل البرنس سناء الدين مستغربا خروج زوجته في حالة تأثر شديد. فسأل نامق بك في أمرها. فأخبره ماذا كان من حديثها.
فقال سناء الدين: إني أعذر نفسها الكبيرة، فإنها تتأثر كثيرا. فاعذرها يا عزيزي نامق بك. - إني أمتدح أنفتها هذه. وإنما سأعمل عملي بحسب ما تعهده من حكمتي يا سيدي البرنس. هل تسمح لي بالخطابين والصورة إلى حين؟ - لا بأس، وإنما أرجو ألا يراهما أحد.
الفصل الرابع
التنقيب تحت عرش
ثم قال البرنس سناء الدين بصوت خافت، كأنه يريد أن يدخل في حديث يخشى عليه من كيد الجواسيس: وماذا عندك يا نامق من الأخبار الجديدة من جهة سان ريمو؟ - أهم أخباري من جهة أنقرة يا مولاي.
فاشرأب البرنس سناء الدين وقال: ماذا يا نامق. ماذا عندك من أخبار أنقرة؟ - إن زوبعة هائلة قادمة من أنقرة يا سيدي البرنس. فإذا لم تتأهبوا لها أطارتكم بين السماء والماء. - ويحك ماذا؟ هل ينوون خلع الخليفة عبد المجيد؟ - لو كانت الزوبعة تقتصر على خليفة فقط لكانت نعمة؛ لأنها قد تئول إلى تنصيبك أنت في عرش الخلافة. ولكنهم يتحدثون عن إلغاء الخلافة برمتها.
فانتفض سناء الدين في مكانه كأنه جالس على كرسي مكهرب، ثم قال: ويحهم من مجانين. كيف يكون ذلك! لا أظنهم يجنون هكذا يا نامق. لا تصدق كل ما تسمع. ربما كان بعض غلاة الجمهورية المتفرنجين يتحدثون به في مجالسهم. وأما مصطفى وعصمت وغيرهما فيستحيل أن يتهوروا إلى هذا الحد. - كذا أعتقد يا سيدي البرنس. ولكن ألا تعلم أن العجين يختمر كله من خميرة صغيرة؟ فإذا لم تقابل حركة الغلاة حركة مقاومة لها بشدة امتدت إلى نفوس العقلاء كمصطفى وعصمت وغيرهما. وكل فكرة ثورية ابتدأت أولا عند المتهورين المتهوسين. الفكرة الثورية لا تنشأ في رءوس المتعقلين المتبصرين ولا في رءوس الزعماء والقادة ولا في أدمغة أهل العلم والحنكة وأساطين الساسة. بل تبدأ في العصبيين المتهوسين من عامة الشعب، بل قل: في المجانين. ثم تسري في الجمهور سريان الداء في البدن، فتعدي الطبقة الوسطى ثم الخاصة ثم أهل الحنكة والسياسة. وثم تستنبت منهم زعماء وقادة للحركة.
وكان البرنس سناء مضطرب النفس يبدو اضطرابه في كلامه وجلسته وحركاته، فقال: يستحيل يا نامق، يستحيل. لا أعتقد أن مصطفى وأعوانه يجنون هذا الجنون ويتركون من يدهم قوة سياسية عظيمة كانت فيما مضى مصدر عز الدولة وصولتها وسؤددها، ولا تزال كذلك حتى هذه الساعة، بالرغم من فصل السلطة الزمنية عنها. لا تزال تركيا حتى هذه الساعة كلما هاجمتها الدول الغربية تتحرك لها الهند ومصر وتونس ومراكش وكل بلاد إسلامية في العالم. فلا أصدق أن هؤلاء المستفحلين المتغطرسين يجنون إلى حد أن يخسروا هذه القوة بلا ثمن أو عوض أعظم. - يعتقدون يا سيدي البرنس أنهم يستعيضون منها بالتمدن الغربي الذي لا مناص منه لكل أمة تريد السير في سبيل النجاح إلى جنب الأمم الغربية، وإلا هلكت. كذا يعتقدون. - ولكن الخلافة لا تقف في سبيل تقلد محاسن التمدن الغربي. ولا سيما لأن الحسن والجيد من التمدن الغربي مقتبس من تمدن شرقي سبقه. فنحن يمكننا أن نسترد كل محاسن التمدن الغربي الحاضر ونظل ضمن دائرة شريعتنا الغراء السمحاء. فإذا كانوا لهذا الغرض يريدون إلغاء الخلافة فلا ريب أنهم مجانين. يستحيل أن يرتكبوا هذا الضلال. - لا شيء مستحيل يا سيدي. إن لمصطفى وعصمت وغيرهما نظريات غير نظرياتنا.
فتململ البرنس سناء الدين وقال: لا يا نامق، لا تظن أن مصطفى كمال وعصمت وأعوانهم يجسرون أن يحملوا على رءوسهم نقمة ثلاثمائة مليون نسمة بسبب إلغاء الخلافة.
فضحك نامق بك وقال: لا ينقم عليهم أحد يا سيدي البرنس. بل جميع الأمم تسر بإلغاء الخلافة من تركيا؛ لأن إلغاءها منها ليس معناه إلغاء الخلافة من العالم الإسلامي كله. فإذا ألغوها من تركيا تنازعتها الأمم الإسلامية الأخرى.
فتبرم البرنس سناء الدين وقال: مهما يكن الأمر، فلا أظن أن مصطفى وعصمت يفاديان بقوة الخلافة العظمي لقاء أي فدية أخرى؛ إذ لا تعادلها قوة أخرى يمكن اكتسابها بإلغائها. فهل أنت واثق بصحة هذا الخبر؟ - نعم يا سيدي البرنس. إني واثق بأن الخبر آخذ شأنا بين بعض الأمراء الآن لأن مصدره وثيق. والظاهر أن الحركة تجاوزت المتهوسين إلى المتعقلين. وصار مصطفى وأعوانه يتباحثون فيها. - من هم الأمراء الذين تشير إليهم؟ - برهان الدين وفريد باشا الداماد ومحمد سيف الدين أفندي وعبد الكريم أفندي، وغيرهم. وهم يتحادثون الآن بعقد مؤتمر من جميع الأمراء يقررون فيه خطة السير مع الجمهورية، من غير أن يغض من مقام الخليفة أو حقوق الأسرة. وإلا فإن مصطفى وأعوانه يتمادون في اهتضام حقوق الأسرة وإضعاف نفوذ الخليفة.
فتململ سناء الدين وقال: إن المصيبة كلها أتت من قبل الخليفة عبد المجيد؛ لأنه ما صدق أن تربع في العرش من غير قيد ولا شرط كما يريد الكماليون، فضيع حقوق الخليفة وحقوق الأسرة جميعا. ولو جمعنا - نحن الأمراء - كلمتنا في ذلك الحين واتحدنا اتحادا متينا لأمكننا أن نحول دون خلع السلطان وحيد، وكان السلطان وحيد قد ثبت في عرشه لو وجد حوله معضدين ومناصرين. نعم، كان يبقى في العرش ولا يهرب ولو عرض نفسه للخطر. ولكننا نحن نهدم مصلحتنا بأنفسنا. فهل رجع هؤلاء الأمراء إلى رشدهم الآن وصاروا يودون أن يعقدوا مؤتمرا يوحدوا كلمتهم! لقد فات الوقت وضاعت الفرصة واستفحل الكماليون، فماذا يفعل الأمراء! - الظاهر أن فريد باشا الداماد يريد أن يجدد اتحاد الأمراء. والسلطان وحيد يوعز بالتعليمات. والمسألة آخذة الآن دورا اللهم من غير علم الخليفة عبد المجيد. - عجبا! ماذا علمت من هذا الدور؟ - لقد وفد إلى الآستانة منذ عهد قصير شخص ذو شأن يظهر أنه ذو اتصال بالسلطان وحيد، واسمه رجاء باشا راغب، ويقال: إن نسبه من جهة أمه يتصل بالأسرة العثمانية الكريمة. - رجاء باشا راغب؟ لم أسمع بهذا الاسم من قبل. - نعم، لم يكن معروفا لأنه قضى برهة طويلة في أوروبا. وقد اتصل أخيرا بالسلطان وحيد في سان ريمو وجاء برسالة منه إلى الداماد فريد باشا. وهو الآن يفاوض الأمراء ويأخذ رأيهم في عقد هذا المؤتمر قبل أن يتقرر عقده. - أخاف أن الكماليين يخنقون هذا المؤتمر وهو جنين يا نامق. - رجاء باشا يقول إنه يتحمل كل مسئولية، ولا سيما لأن الغرض من المؤتمر ليس مناهضة الكماليين بل الاتفاق معهم على كيفية معينة لمعاملة العيلة.
ثم قال نامق بصوت كالهمس: وأخيرا يمكن الاتفاق معهم على خلع عبد المجيد؛ لأنهم ليسوا مسرورين منه كثيرا، وإعادة السلطان وحيد الدين إلى العرش أو تعيين أمير آخر. ولماذا لا تتعين أنت يا سمو البرنس؟!
فأبرقت أسرة البرنس سناء الدين وقال: لا، لا أريد أن أزاحم، وإنما أود أن يتقرر أمر الأسرة تقريرا نهائيا ولا يكون موضوع مساومة بين عبد المجيد وعصمت ومصطفى. - كل شيء ممكن يا سمو البرنس إذا كان الأمراء يتكاتفون. فلماذا لا تزور رجاء باشا وتتباحث معه في الأمر وتبدي له رأيك، فهو يقيم في منزل فخم.
لماذا لا تدعوه إلى هنا؟ - الأفضل ألا يأتي لئلا يشتبهوا بمؤامرة، وأما زيارة الأمراء له فتقصر الشبهة عليه، وهو محتاط لكل مسئولية. والظاهر أنه مسلح بحمايات دولته. - إذن زرته؟ - نعم، فقد انتدبني فريد باشا الداماد لمقابلته لأجل مسألة بهذا الموضوع؛ لأن فريد باشا يتجنب أن يتردد عليه كثيرا، ولا يخفى عليك أن فريد باشا يثق بي كما تثقون سموكم. وتعلمون أني كنت سكرتيره في سفارة ... - نعم لا أنسى، وإذا كان رجاء باشا هذا حاصل على حماية دولية قوية فلا خطر من تداخله. وإنما هل هو أهل؟ - يلوح لي يا سمو البرنس أنه داهية عظيم يعرف أمورا كثيرة، وله نظر صائب في الأمور. فحبذا أن تزوره. - لا بأس أن أزوره، متى؟ غدا؟ ألا يوافق غدا؟ - حسنا، أنا اليوم أبلغه أنك مشرف غدا بعد الظهر. وسأقابل البرنس عثمان اليوم وفي جلسة واحدة ينتهي الأمر معه، وأفهمه أنه أخطأ بقبول خطاب وسخ كهذا على علاته. وكان يجب أن يفهم من نفسه أن كل الحكاية مفتعلة بسوء قصد. - أي نعم. ولا تعلق أهمية كبرى على كلام البرنسيس سنية هانم. فهي من شدة غيظها ... - أي نعم. إني أعرف مزاجها وطبعها، وقد عذرتها، وسأبذل جهدي بإقناع البرنس عثمان أن يعيد مياه الود إلى مجاريها. - نعم. نعم. هذا ما يهمني جدا يا عزيزي نامق. أود أن يتم الأمر عاجلا. إذا أمكن أن نكتب الكتاب في هذا الأسبوع كان أفضل؛ تجنبا لمثل هذه السعايات الدنيئة.
فتلمظ نامق بك لعابه، ثم قال: إني أود أن أكون مسلحا بكل السلاح يا سمو البرنس حتى أستطيع النصر. هب أن البرنس عثمان فاجأني بحكاية أخرى كهذه أو بتفاصيل عن هذه الحكاية كان علمه بها سببا لإحجامه هذا، فيجب أن أكون عارفا بكل شيء حتى أعلم كيف أجاوبه. فاسمح لي أن أسأل بحرية سؤال صديق مخلص: هل كان بين سمو الأميرة نميقة وذلك الوغد أمل الدين رغبت شيء من التودد؟
فتمهل سناء الدين باشا، وقال: كان ذلك الزنيم كاتبا عندي، وكنت أكل إليه كثيرا من أشغالي، فكان يقضيها كالواجب لأنه ذكي . ولذلك كنت أعامله كخادم أمين وأقربه، حتى أصبح ذا دلال علي. وكان يأتي أحيانا إلى المنزل لقضاء أشغال الأميرتين، فصارت له علاقة معرفة بهما، كمعرفة الخادم بالسيد. وما خطر لي أن تسامحنا معه يجرئه أن يتواقح ذات يوم ويطلب مني أن أزوجه نميقة. فلطمته على وجهه وشتمته وحذرته أن يفوه ثانية بمثل هذا الكلام. فأجاب بكل قحة أنه ليس تحت السماء من قوة تمنعه أن يفوه بمثل هذا الكلام وبأعظم منه، لأنه يحب نميقة ولا يكف عن طلبها. فغضبت عليه غضبا شديدا وقلت له: من أنت يا هذا حتى تتجاسر على طلب يد أميرة لا تستطيع أن تنال منها موطئ نعلها. ونهضت لكي أضربه ففر من أمامي. ثم انتهز فرصة وقصد إلى الأميرة سنية وطلب منها نفس الطلب، وقال لها إنه يحب نميقة ويجب أن يتزوجها. فما تمالكت الأميرة سنية أن أوسعته ضربا بالشبشب حتى خرج خروج الكلب المطرود. لهذا السبب هو يحاول أن ينتقم بمثل هذه السعايات الدنيئة. - لعنة الله عليه وألف لعنة. ولكن سعاياته لا تؤثر قط في مقام لا يستطيع أن يناله. على أني أود أن تسمح لي يا سيدي بسؤال آخر: هل كانت سمو البرنسيسة نميقة توده أو تمازحه حتى تجرأ هذه الجرأة؟ - لا أعتقد قط. وإنما هو وقح يسوغ لنفسه ما لا يسوغ. وقد خاطبت نميقة فماذا قالت لك؟
قالت إنها طوع لإرادة والديها. ولكن الفتاة المرباة لا تقول إلا هكذا وتكتم كل ما في ضميرها. فأخاف أن يكون بينها وبين البرنس عثمان جفاء حقيقي.
فتبرم البرنس سناء الدين وقال: لا لا، لا تخف. اجتهد في إقناع البرنس أن يكتب الكتاب في هذا الأسبوع ونحن كفيلون برضى نميقة. لا تستغرب يا عزيزي نامق بك إلحاحي هذا. فإن ابنتي هذه سيئة الحظ، ولطالما عرض لها في حياتها مثل هذه الحوادث. قبلما كنت سفير الدولة في روسيا كانت في أول صباها وكاد يحدث لها مثل هذا الحادث هناك، إذ إن موظفا روسيا حدثته نفسه أن يخطبها، إذ كان قبلا يدرسها قواعد اللغة الروسية وقد برعت بها. وأعجب بها ذلك الموظف الروسي وطمع أن يتزوجها. فانظر سخافة هؤلاء المغرورين. يكونون مستخدمين عندنا فنعاملهم بكل حسنى فيتطاولون علينا. لذلك اضطررت في الحال أن أعزل ذلك المترجم الروسي من السفارة اتقاء لتماديه في غروره، ولذلك صرت تراني أود أن أزوج نميقة عاجلا حتى لا تبقى تطمح أنظار المغرورين، ولا يخفى عليك أن نميقة جميلة، والجمال يعرض صاحبه للأخطار. فأرجو أن ... - اطمأن يا سيدي البرنس. سآتيك بالخبر السار عاجلا إن شاء الله. إلى الملتقى غدا.
ثم ودع نامق بك البرنس ومضى مفكرا.
الفصل الخامس
ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
ننتقل بالقارئ الآن إلى منزل فخم أحاطت به حديقة غناء صغيرة وامتلأ رياشا فاخرا، تعنى به مدبرة أوروبية على جانب من التبرج والأبهة تليق بأن تستقبل الزائرين في خير فنادق باريس. وفي بابه خادم يفتح للطارقين، حسن المرأة أيضا مشرق الطلعة. وبالإجمال يقال: إن منزل رجاء باشا كان مضارعا قصور الأمراء ولائقا لاستقبالهم.
كانت الساعة الثالثة حين دخلت المدموازال «راين» إلى غرفة رجاء باشا وقالت: هنا يا صاحب السعادة هانم تريد مقابلة سعادتكم. - من هي؟ بطاقتها؟ اسمها؟ - كل ذلك محفوظ لسعادتكم يا سيدي.
فنظر رجاء باشا إلى الساعة وقال: إني أنتظر زيارة البرنس سناء الدين باشا الساعة الرابعة. والآن الساعة الثالثة ونصف. لا بأس، أدخليها إلى الحجرة الآخرى لا إلى البهو. بعد دقيقة أكون هناك.
وما تأخر رجاء باشا دقيقة حتى دخل إلى الحجرة، فبهت إذ وقعت عينه على عين الزائرة، وأجفل وانتفض. ثم تمالك روعه وأقفل باب الحجرة ودنا إلى مقربة منها وقال: لقد لاحت لي خواطر مختلفة حين أنبأتني مديرة المنزل أن سيدة تريد مقابلتي، ولكن ما خطر لي أن تكوني أنت يا نميقة. - أمديرة منزل هذه الحسناء؟ - نعم، إن المنزل المعد لاستقبال الأمراء يجب أن تكون مديرته حسناء هكذا. فهل جئت لكي تنتقدي منزلي يا نميقة؟ - كلا، أنت مستقل بشئونك. وإنما جئت لكي أتحقق إن كان رجاء هو أمل الدين نفسه. - كيف خطر لك أن يكون الاثنان واحدا؟ - لأن الرجاء والأمل لفظان لمعنى واحد. ويهمني المعنى. - أراك قلقة جدا، كأن جميع أعصابك ترتج وجميع جوارحك ترقص، فماذا طرأ عليك؟ - إني على أبواب أزمة هائلة يا أمل الدين. - ماذا؟ أنبئيني. - هي أن أدفن حية أو ميتة. - ولماذا تدفنين حية أو ميتة، ولا تعيشين كما يعيش البشر؟ - جئت إليك لكي تسهل لي طريق الحياة. - من أسهل الأمور عندي تسهيلها، ولكني لم أفهم كيف تدفنين حية أو ميتة؟ - لقد أحرجوا موقفي، فإما أن يزوجوني للبرنس عثمان أو أن أنتحر. - أما وجدوا خيرا من هذا العلج زوجا لك؟ فهل يصلح هذا زوجا وهو لا يعود إلى قصره في الأسبوع مرة، ويقضي أيامه في المواخير. - لهذا لا أجد أمامي إلا الانتحار. وإنما قبل أن أقدم عليه جئت إليك. - أهلا وسهلا. أنت تعلمين كم أحببتك، وسأجدد ذلك الحب، فها هو بيتك، والمأذون يحضر لكتابة الكتاب في نصف ساعة إذا شئت. - ويحك! هكذا تتزوج بنت البرنس سناء الدين؟ - بل هكذا يتزوج رجاء باشا راغب. - لا أظنك تعني ما تقول. - ماذا تريدين أن أعني؟ - أريد أن تجدد الطلب لأبوي وأنا أؤيد طلبك.
فنظر فيها نظرة كادت تشق فؤادها نصفين، وقال: ويحك! لم أنس ولن أنسى «شبشب» أمك ولا كف أبيك. هل تظنين أني أصغر قلبا من سلطانك أو ملكك أو ... لا تدعيني أكفر.
فقالت نميقة بصوت تضرع: لا بأس يا أمل، لقد أصبحت الآن في منزلة الكبراء، ونلت ثقة الأمراء، فلم يعد أبي ولا أمي يستنكفان مصاهرتك. فإذا طلبت يدي من أبي فأنا أقنعه بأن يرضى. - ويحك! هل يسلم عقلك بأن أطلب يدك من غيرك. فإذا كانت يدك ملك الآلهة فلا أطلبها منهم. هل تظنين أني صفحت عن أبيك وأمك! لن أصفح، بل يصعب علي أن أصفح عنك لأنك لم تعصي أمرهما وفوق ذلك نكثت عهدك لي.
فتجهمت نميقة وقالت: معاذ الله، لم أنقض عهدنا.
فصاح بها: لا تمكري يا نميقة، لا تعظمي إثمك بالكذب. أما طمعت في أن تتزوجي الغازي مصطفى باشا كمال؟ - هذه كانت أمنية أبواي؛ لأنهما لما رأيا أن قوة السلطان بادت وأصبح الخليفة بلا حول ولا طول فصار موقف الأمراء مزعزعا والأمراء لم يعرفوا أن يتحدوا، افتكر أبي أن يعزز مركزه بمصاهرة مصطفى باشا كمال. - إذن تعترفين أن أباك كان يتاجر بك.
فتمرمرت نميقة وصاحت: لقد تجاوزت الحد يا أمل الدين. - ما أنا أمل الدين الآن، بل أنا رجاء باشا زعيم الأمراء. أما بلغ هذا إلى مسامعك؟ - نعم، بلغ إلى مسامعي أنك تحاول جمع كلمة الأمراء. ولهذا جئت إليك لظني أن الفرصة مناسبة لإتمام العهد. ولكن وا أسفاه، لا أرى منك إلا شموخا وصلابة. - عجبا! أتحسبين هذه الرحابة مني بعد صدك وجفائك شموخا؟ أوتعدين هذا التسامح مني بعد إهانة أبويك لي صلابة. قلت لك: إني أجعلك أفضل الزوجات في كل شيء حتى في الجاه. - ولكن لا بد من استرضاء أبوي حتى لا أكون مضغة في أفواه الأميرات والأمراء.
فصاح بها رجاء باشا أو أمل الدين: ويحك! هل تظنين أن الأمراء والأميرات يقدرون أن يكسبوك شرفا أو يسلبوك نبلا. فلينظروا إلى أنفسهم أولا وثم يدينوننا. - مهما يكن الأمر يا أمل الدين، لا يليق أن تخرج فتاة من منزل أبويها من غير علمهما لكي تتزوج. هل تقبل أنت بذلك؟ - إنه أمر غير مألوف، ولكنه ليس بفرية. ناهيك عن أني لا أستطيع أن أذل نفسي لأبويك بعد الذي جرى منهما. - ماذا يمنع أن تكلف أحدا من الأمراء أن يكون واسطة بين أبي وبينك. أليس فريد باشا الداماد صديقك؟ كلفه أن يخاطب أبي في الأمر وهو صديق أبي.
ففكر رجاء باشا هنيهة، ثم قال: لا أدري إن كان فريد باشا أو غيره يتوسط في الأمر بالصيغة التي أريدها. - يكفي أن يكون في أول الأمر وسيلة للصلح بينكما. وبعد ذلك يسهل الطلب وأنا أعززه. وقد أصبح كل ذلك سهلا الآن. - عجبا. كيف ذلك؟ - لأن المقام الذي بلغت إليه كالتلسكوب الذي يقرب الأبعاد أو الميكروسكوب الذي يكبر الأمجاد. - أستغرب كيف عرفت كل ذلك يا نميقة. - لقد أصبح أمرك حديث الأمراء في جميع أنديتهم، وإنما أنا أستغرب كيف وصلت إلى هذا المقام! - إن أبويك هما اللذان دفعاني في هذا الطريق. إن كف أبيك جعلتني أجري بلا انقطاع، وشبشب أمك منحني قوة لا تفنى. فهما صاحبا الفضل الأول في توصيلي إلى هذا المقام. - إني آسفة لما حدث يا أمل الدين، ولكن النتائج حسنة، فأود أن تخفف من غلواء حقدك. سوف تتكيف المسائل وتتحول كلها إلى الخير. فلا تغال في غيظك ولا عنفوانك. هل تظن أن مؤتمر الأمراء يأتي بفائدة؟
عند ذلك طرقت المدموازيل راين الباب، فنهض رجاء باشا وفتحه، فهمست قائلة: قدم البرنس سناء الدين مع صاحبك نامق بك.
فالتفت رجاء باشا إلى نميقة وقال: مهلا، انتظريني ريثما أعود. قد أتأخر نحو الساعة أو أقل. فانتظري هنا.
وخرج رجاء باشا إلى البهو، ولما دخل قال نامق بك: سعادته رجاء باشا يا سمو البرنس.
أما البرنس فلما وقعت عيناه على الباشا ارتد إلى الوراء كأنه ذعر من رؤيته. ولو تيسر حينئذ تصوير ذلك اللقاء الغريب لرأيت في الصورة عيني البرنس تقدحان شررا ووجهه قد تجهم وبدنه ينتفض، ولرأيت رجاء باشا يحدق فيه بحدقتين كأنهما قطبا مغنطيس وفي فمه شبه ابتسامة، وفي جميع محياه مسحة من الأنفة والاستعلاء.
دام هذا المنظر نحو ربع الدقيقة، كان فيها شاربا البرنس يتراقصان غيظا وحنقا، والغيظ يشتد حتى صار البرنس ينتفض كله. ثم التفت إلى نامق بك وقال له: ويلي منك يا نامق! أإلى هذا الرجل الحقير الدنيء الوغد السافل تأتي بي! أإلى هذه القاذورة تجرني! أبهذه الوساخة تلوثني! تبا لك!
فدهش نامق بك وجزع لهذه المقابلة الغريبة التي لم يفهم سرها، وقال مرتعدا: عفوا يا مولاي لا أفهم شيئا مما تقول، ماذا تعني؟ ويلاه، ماذا طرأ على سيدي البرنس؟
فقال البرنس سناء الدين: ويحك! أما كان يجب عليك أن تتحقق من هو الشخص الذي تدعوني لزيارته، وما هو المنزل الذي تدخل بي إليه؟ هل نسيت أن لي مقاما لا أنزل عنه، وأن لي كرامة يجب أن تبقى مصونة، وأن لي ...
فتناول رجاء باشا الحديث وقال: أجل، إن لك سموا لا تدانيه الكواكب في أفلاكها، فكيف استطعت أن تصل إلى هنا متجاوزا الكواكب؟
فأعرض البرنس سناء الدين عنه والتفت إلى نامق بك قائلا: هلم يا نامق من حيث جئنا. لا أستطيع أن أصفح عن ذنبك هذا.
فازداد نامق بك ارتباكا وقال: ويلاه! أفصح يا مولاي، لا أفهم ماذا جرى.
فصاح به البرنس: أتمكر علي! أتنكر أنك كنت تعلم أن هذا الوغد هو الذي كتب ذلك الكتاب للبرنس عثمان، وهو الذي اصطنع تلك الصورة المهينة المشينة؟
فقال نامق بك مستعطفا: مولاي! تيقظ جيدا. لقد قلت لي: إن مفتعل تلك الصورة يدعى أمل الدين رغبت. ونحن الآن في قصر سعادة رجاء باشا راغب، جامع كلمة الأمراء. - ويحك! أما رأيت الصورة؟ أما تأملت ملامحها؟ ألا تراها في وجه هذا الوقح؟ أما رأيته أمس وقبل أمس؟ أو ما فهمت أن أمل ورجاء لفظان بمعنى واحد؟ فكيف تأتي بي إلى من تهجم على عرضي وحاول ثلم شرفي؟ هلم يا صاح، هلم. كفاني هوانا. كفاني تدنسا تحت سقف هذا الأفاك القبيح. إني أستغرب كيف جازت حيلته على الأمراء! أمس مكان يلتمس الرزق من فضلات موائدهم، والآن يخدعهم بوجاهة كاذبة ونبالة مزيفة. هلم يا نامق، هلم نخرج من هذا الماخور.
واتجه البرنس سناء الدين إلى الباب. وإنما رده في الحال أمران: الأول انتهار رجاء باشا له قائلا أن قف مكانك لتفوز بحياتك. والثاني صرخة أنثوية سمعها البرنس من خارج البهو ولم يعلم مصدرها ومعناها. فالتفت إلى رجاء باشا فإذا هو ينتضي مسدسا قد سدده إليه. فنظر فيه البرنس وهو يجالد ويكابر وقال: وقاتل أيضا؟
فأجاب رجاء: نعم، في استطاعتي أن أفعل كل شيء، أجل، كل شيء مما لا تتصوره. ولكن لا أفعل إلا إذا أحرجتني. فلا تحرجني. قبل أن تخرج من هنا أريد أن تفسر أقوالك الأخيرة. لقد فهمت أني وغد، وقح، قذر، نجس، دنس، دنيء، حقير، شرير ... إلخ؛ لأني في يوم من الأيام طلبت يد ابنتك، وأنت تحسب أن الأمراء من طينة غير طينة البشر، فلا يجوز أن تتزوج الأميرات بشرا. هذا قد فهمته سابقا، والآن فلا أستغربه. ولكن حكاية الصورة والخطاب لم أفهمها. فلا أدعك تخرج من هنا حيا إلا إذا فسرت لي حكاية الصورة.
فاعترض بينهما نامق بك وقال: حلمك يا سيدي الباشا. حلمك. إن سمو البرنس معذور. فقد ورد إلى خطيب بنته البرنس عثمان خطاب بإمضاء مجهول يخبره فيه أن البرنسس نميقة تحب كاتب سر أبيها السابق «أمل الدين أفندي رغبت»، وضمن هذا الخطاب صورة نميقة وأمل الدين أفندي معا. والحق يا سيدي الباشا أني لم أفطن إلى أن الصورة صورتك حقيقة، كأن الإنسان تتغير ملامحه متى ترقى من أفندي إلى باشا. فاعذر سمو البرنس واعذرني أنا أيضا، لأني ما كنت أتصور أن أكون سبب هذا الموقف الحرج الخطر يا سيدي. أما الآن فأود أن أصلح الأمر بينكما إن أمكن.
فصاح البرنس: نامق. نامق.
فقال رجاء باشا: أما أني أحببت الأميرة نميقة فلا أنكر. ولا أزال أحبها ولن أعدل عن حبها. وأما الصورة والرسالة اللتان تذكرانهما فلا علم لي بهما البتة. إني أحب الأميرة حبا جما وأنزه اسمها وسمعتها عن كل شين كهذا. إنما قد أفعل هذه الفعلة لو كنت أحتقر الأميرة. وأما وأني أحبها كالعبادة فيستحيل أن أحتقرها بمثل هذه الفعلة الشنعاء، صدقتما أو لم تصدقا لا يهمني. وإذا لم يشأ سمو البرنس أن يعلم أن في طينة البشر من النبل والشرف أكثر جدا مما في طينة الأمراء المتألهين فلسوف يعلم. إني أتجاوز عن كل بذاء صدر من البرنس تجاوز الكريم عن سفه اللئيم. إني أرد مسدسي إلى جنبي الآن إذ انتهى مطلبي. وأنتم حران أن تحسبا نفسيكما زائرين أو مرتدين من قارورة أوساخ.
أما نامق فأصبح في حالة من الارتباك لا يدري كيف يتصرف. وصار ينتظر قرار البرنس. أما البرنس فرام أن يتكلم ولكن خانه لسانه، بل عقدته كبرياؤه عن الكلام. فأشار إلى نامق أن اخرج. وخرج الاثنان غير مودعين. •••
أما رجاء فبقي يتمشى في البهو مضطربا هائجا كثور المصارعة الإسبانية. وما أن ضعف وقع الأقدام في درج المنزل حتى سمع شهيقا مزعجا. فأسرع إلى حيث ترك نميقة. فإذا هي مستلقية على المقعد والمدموازال راين تعالجها بالمنبهات. وقالت المدموازال راين همسا: يلوح لي يا سيدي الباشا أن الهانم اعتادت أن تصاب بنوبة عصبية. - أين كانت؟ - أظنها كانت في الحجرة الثانية التي بين هذه والبهو. - لا بأس. دعيها الآن. وأرجو أن لا تنسي أن ما حدث في هذا المنزل مهما كان يجب أن يبقى خبره دفينا فيه. - إني عالمة بهذا يا سيدي.
ثم خرجت المدموازال راين وأقفلت الباب وراءها، وبقي رجاء إلى جنب نميقة وهي مسترسلة في تأثرها بين شهيق وتنهد، فقال لها: هدئي روعك يا نميقة. هدئي روعك. لقد أنقذني وجودك هنا من جريمة.
فنظرت فيه متنهدة، ثم قال متلجلجة في الكلام: لله منك شريرا. ليتك تفرغ إحدى رصاصاتك في صدري الآن فكنت تنقذني من موقفي الحرج. ويحك! هل كنت تنوي أن تقتل أبي بمسدسك؟ - لو عصى أمري ليتمتك اليوم. ولولا وجودك هنا لنقص الأمراء أميرا الآن. - ويحك من سفاك! - وويح أبيك من بذيء! من يستطيع أن يحتمل قباحة لسانه غير فتى عاشق بنته. ما خطر لي أن يكون متغطرسا إلى هذا الحد. ما خطر لي أن يبلغ منه الغرور هذا المبلغ. لسوف أريه مقام الأمراء. - ويلاه. أما كان عندك علم أنه آت لزيارتك؟ - بل علمت وعينت له هذا الميعاد. - ولماذا لم تقل لي؟ - لم أشأ أن أقول لك؛ لأني خفت أن أجفلك أو أن تعودي على أعقابك، وأستغرب كيف أنك عرفت بزيارات الأمراء لي ولم تعرفي بموعد زيارة أبيك. - عرفت أن نامقا كان يقنع أبي أن يزورك. ولكن ما خطر لي أن تكون الزيارة عاجلة هكذا. وما جئت إليك إلا لأمهد طريق السلم لهذه الزيارة. فسبق السيف العذل. يالله من مشاكسة الأقدار! - أي نعم، إن هذه المشاكسة قطعت كل أمل بالصلح بيني وبين أبيك. - بربك يا أمل الدين ... - لا تستغيثي. لقد قضي الأمر ونفد الصبر. وسيرى هؤلاء الأمراء الذين ربوا على أن يعدوا الرعية كلها عبيدا لهم أن لفظ الإمارة سيرادف لفظ التشرد. ويحهم من نقمتي، ويلهم من غضبي!
فقالت نميقة: رحمة يا أمل الدين، لا توسع الخرق. - كيف لا أوسعه يا مجنونة بعد كل صبري واحتمالي وطول أناتي، وتأكيدي لأبيك أني لست كاتب الخطاب ولا مصطنع الصورة. خرج وهو لا يعتذر حتى ولا عدل اعتقاده، ولا قال كلمة تشم منها رائحة التصديق لكلامي. فكيف يمكن أن نتفق بعد؟ وهل تريدين عاشقا لا يتأثر من إهانة ولا يحس بتحقير؟ لا لا، لا أطيق. لا أحتمل. قطعت جهيزة قول كل خطيب. لقد أعلنت الحرب بيني وبين أبيك، فالويل للمغلوب!
فجزعت نميقة كل الجزع إذ رأت رجاء باشا أو أمل الدين يزداد هياجا، وقالت: ليتك أخبرت نامق بك حين كلمك عن إزماع أبي لزيارتك أنك أمل الدين رغبت الذي كان سكرتيرا، وأنك قد ترقيت، حتى لا يفاجأ أبي بأمر ليس في حسبانه. - كنت أظن أنه متى حضر إلى منزلي وشهد حالتي يكون ألين عريكة، فأصلح ذات البين بيني وبينه. فخاب ظني، وإذا به قد ازداد شكاسة وغطرسة وكبرياء وغرورا. - لعل له عذرا. - ربما كان الخطاب والصورة يوجدان له عذرا، فلو كنت أعلم من افتعل الخطاب واصطنع الصورة! - ماذا كنت تفعل به؟ - أهدر دمه هدرا. - إذن لك أن تفعل الآن وتخلصني من موقفي الحرج.
فحملق فيها رجاء باشا وقال: ويحك! ماذا تعنين؟ هل أنت ...؟ - نعم، أنا اصطنعت الصورة وافتعلت الخطاب وأرسلتهما إلى البرنس عثمان، عسى أن يعدل عن الزواج بي. وكدت أنجح، لولا أن أبوي كلفا نامق بك أن يصلح الأمر مع البرنس عثمان. وقد أصلحه. وهم يصرون الآن على كتابة كتاب الزواج في الأسبوع التالي. فهل تسلم بذلك؟ - لا تخرجي من هنا بعد الآن، في هذه الساعة أستدعي المأذون ليكتب كتاب زواجنا. - هذا يستحيل يا أمل الدين. إني أميرة، ولا أريد أن أتزوج إلا كأميرة. - وأنا يستحيل أن آخذك من بيت أبويك. إذا كنت تريدين زوجا بلا كرامة فابحثي عن غيري.
فقالت متنهدة: لا نعدم وسيلة لإصلاح الأمر بينك وبين أبي. - أقول لك: هذا مستحيل، ومستحيل. لقد صممت على الحرب، وسأضرب الأمراء كلهم ضربة قاضية. سترين. وسترين أن ما يقوله رجاء مفعول لا محالة. إن رجاء اليوم ليس أمل الدين من قبل. ما غيرت اسمي إلا لأني غيرت فعلي. سترين الأمراء يترامون لدي مسترحمين. - بربك يا أمل الدين. دبر أمري بلا هوان ولا فضيحة. - لقد دبرته. لا تخرجين من منزل رجاء باشا زعيم الأمراء. فهل تريدين شرفا أعظم من هذا؟ إذن سأريك عرش آل عثمان في قبضة يدي. - دعني من كل هذا التهويل إذا كنت لا تتفق معي ... - يستحيل يا نميقة. يستحيل. - ويستحيل أن آخذ البرنس عثمان. إذن آخذ من يأخذه الجميع بلا استثناء. وداعا يا أمل الدين.
فنهضت نميقة تريد الخروج. فأمسك رجاء باشا بيدها، وقال: لن تخرجي من هنا إلا وقد صرت زوجتي. - يستحيل. وداعا أبديا. - بالقوة أبقيك. - لا أريد. يستحيل. لا تستطيع. - إنك لعنيدة. بنت أمك. - إني لكذلك. وأنت أعند. دعني الآن، لقد آذن الوقت بالعودة إلى المنزل. - إذن نلتقي في أول فرصة. - هيهات!
وخرجت كالعصفور أفلت من قفص، وبقي رجاء يفكر في حوادث النهار.
الفصل السادس
عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
هنا نرانا مضطرين أن نعود بالقارئ برهة قصيرة إلى أنقرة؛ تقريرا لحادث حدث شديد العلاقة بهذا التاريخ الخاص. وقد غير مجرى الحوادث تغييرا جوهريا.
ورد إلى دولة الغازي مصطفى باشا كمال في أنقرة من دائرة البوليس في الآستانة أن البوليس السري اكتشف مؤامرة سرية يشترك فيها جانب من الأمراء، والغرض منها قلب الجمهورية.
فاضطرب فخامة الغازي أي اضطراب، ولا يخفى أن البناء العالي أكثر تأثرا بالزلزال من الأبنية الواطئة. فأمر دولته في الحال بالقبض على كل من تقع عليه الشبهة، وبإرسال الأشخاص الذين يعدون زنبلك الحركة إلى أنقرة واعتقال الآخرين، إلى حين تصدر أوامر أخرى.
فتنفذ الأمر بلا ضوضاء ولا جلبة حسب إيعاز فخامته. وما هي إلا بضعة أيام حتى كان ثلاثة من المقبوض عليهم في أنقرة وما وصلوا حتى جعل الغازي يستدعيهم واحدا واحدا. ولما دخل الشرطة بالشخص الأول منهم عليه، دهش إذ وقعت عينه على عينه، وقال: يالله! رجاء أفندي كاتب السفارة الروسية؟ - نعم يا فخامة الغازي. - عحبا. هل تركت السفارة لكي تعقد مؤامرات ضد الجمهورية؟ - نعم يا مولاي. - عجبا. وبكل قحة تعترف بذلك! - أجل يا مولاي؛ لأني لست أكذب في أعمالي. إن الصدق يريحني أكثر من الكذب. - ولكنك وعدتني غير ذلك. - بل إني أفعل كما وعدتك. - لله منك. تعقد مؤامرة وتقول: إنك تفعل كما وعدتني. - نعم يا سيدي. هل تستطيع أن تعاقب أحدا قبل أن يجرم؟ - لا. طبعا لا. - أنا أدبر لك مجرمين، وأنت عاقب. - كيف ذلك؟ - أنت تريد أن تثل عرش آل عثمان، فكيف تستطيع ذلك إذا لم يجرم الأمراء وتعاقبهم ولو بالنفي على الأقل؟ فأنا كنت أمهد سبيل الإجرام للأمراء. ولكنك أفسدت عملي قبل أن ينتهي وأضررت نفسك. - كيف ذلك؟ أما كان في الآستانة مؤامرة؟
كلا. بل كان فيها استعداد لعقد مؤتمر. والمؤتمر أحوله إلى مؤامرة. على أن جواسيسك تسرعوا، وهم يظنون أنهم بهذا التسرع يبرهنون على سهرهم على مصلحتك. - لا تقل: مصلحتي، بل مصلحة الجمهورية. فأخبرني الآن ماذا كان من أمر هذه المؤامرة؟ - قلت لك يا سيدي أن لا مؤامرة حتى الآن بل مؤتمر. وقد شرعت أن أطبخ الطبخة فما انتظرتم حتى تنضج، بل سكبتموها نيئة. لست أطلب منكم جزاء ولا شكورا حتى ولا مصاريف. لا أطلب إلا أن تكفوا مراقبة جواسيسكم عني وكفى. السلام عليكم الآن.
وهم رجاء أفندي أن يقوم لكي يخرج، فأمسك الغازي بيده قائلا: إلى أين؟ أنسيت أنك معتقل؟ - لا لا ياسيدي. لا تقدر الجمهورية التركية بكل ما لها من حول وطول أن تعتقل أصغر صعلوك بلشفي. فكيف إذا كان هذا الصعلوك موظفا في السفارة الروسية؟! - عجبا. ألا تزال في السفارة؟ - نعم، وإلا فبأي حول وطول ومال أشتغل وأخدمكم يا سيدي الباشا.
فاستغرب الغازي حديث هذا الماجن، ثم دخل إلى غرفة أخرى وتناول التلفون وخاطب السفارة الروسية: هالو. حضرة السفير؟ - نعم، فخامة الرفيق الغازي؟ - نعم، هل رجاء الدين أفندي لا يزال موظفا في السفارة؟ - نعم نعم، هل تعرف أين هو؟ - هو عندي الآن. - إذن أرجو أن ترسله حالا؛ لأني في حاجة شديدة إليه. أستغرب أن يذهب إليكم قبل أن يأتي إلى السفارة. هذا ذنب يعاقب عليه. - بل أرجو أن تعذره؛ لأنه جيء به إلينا معتقلا. - عجبا! كيف تعتقلون موظف سفارتي بلا إذني؟ - عذرا يا سعادة الرفيق السفير، لقد حدث الأمر خطأ. - إذن أرجو أن ترسله حالا.
ثم عاد الغازي إلى رجاء وهو يقول في نفسه: ما هذه السفارة الروسية إلا بؤرة شياطين وأبالسة. ما معنى كل هذا؟ يدفعون الأموال ويعرضون الرجال للأخطار والأهوال في سبيل قلب بني عثمان عن عرش السلطنة والخلافة. فلماذا؟ وماذ يهمهم من الخلافة؟ إن هذه الدعوة البلشفية سر من الأسرار التي لا يفهمها أهل هذا الجيل. أما رجاء أفندي فداهية من أكبر الدهاة، يجب أن أحاذر منه بقدر ما أرجو منه النفع بل أزيد. ما الذي يدفعه إلى خدمة بلاشفة الروس وهو تركي؟
ولما دخل إلى الغرفة قال لرجاء: إذن تقول: إن الطبخة لم تنضج بعد. - نعم، وقد «دلقتها» يا مولاي قبل أن تنضج. - وترى أن المقبوض عليهم أبرياء؟ - إذا شئت نصيحتي فأطلق سراحهم من غير تحقيق حالا. ولا تدعهم يفهمون التهمة التي اعتقلوا لأجلها؛ وبذلك تسهل لي أن أطبخ طبخة أخرى. - أشكرك. إن سعادة السفير ينتظرك، ففي إمكانك أن تذهب إليه الآن. - قبل أن أذهب أقول: إن لي عليكم قضية لا أدري كيف أقاضيكم بها؟ - ما هي؟ - إن اعتقالكم إياي أفضى إلى ارتكاب انتحار هائل. - انتحار؟ ماذا تعني؟ - أعني انتحار الأميرة نميقة بنت البرنس سناء الدين أفندي.
فاختلج الغازي وقال: الأميرة نميقة انتحرت؟ كيف ذلك؟ - نعم، وجدت ملابسها على شاطئ البحر بعد اختفائها يومين . وظهر أنها أثقلت جسمها بسلسلة حديدية حتى لا تستطيع أن تعوم. ولعل الحيتان أكلت جسمها. - يالله! كيف عرفت ذلك؟ - قرأته في الجريدة التي ابتعتها بعد اعتقالي بيومين، وحين أخذوني من الآستانة. - وكيف كان اعتقالك سببا لهذا الانتحار؟ - لأني لو لم أعتقل لتلافيته. - إذن أحل المسألة على القضاء والقدر يا رجاء أفندي، فقد اعتدنا أن نصب على رأس القضاء والقدر كل مصيبة تصيبنا. أليس كذلك؟ - إذن تقضون يا مولاي ببراءتكم من هذا الإثم؟
فأجاب الغازي مصطفى باشا باسما: الإثم الذي نرتكبه على غير علم منا لا يعد إثما، وإن عد إثما فلا يستحق عقابا. يلوح لي أنك تعرف هذه الأميرة. - أظن أني ذكرت لك مرة أني كنت سكرتير أبيها في حين من الأحيان، ولهذا كان في إمكاني أن أنقذها. - ترى ماذا كان سبب انتحارها؟ - أظن سببه أن أبويها كانا يرغمانها على زواج لا تريده. - وكيف كان يمكنك إنقاذها؟
فوجم رجاء عن الكلام كأن غصة وقفت في حنجرته، وقطرت عيناه دمعتين كأنهما بقية ما بقي من دموعه التي ذرفها في مدة السفر، ثم قال متلجلجا: يلوح لي يا باشا أنك تستلذ الحديث في هذا الموضوع. - الحديث يجر بعضه بعضا يا رجاء أفندي. فهل يسوءك أن أتحرى شكل الذنب الذي ارتكبناه باعتقالك. أود أن أعلم هل كان اعتقالك سبب انتحارها أو مانعا لك من إنقاذها.
فتمهل رجاء وقال: لا ريب يا باشا أنك داهية في التحقيق والاستجواب. سواء كان اعتقالي هذا أو ذاك فهو ذنب في عنقكم؛ لأنه كان سبب انتحار الفتاة ومانعا من إنقاذها معا. ولا أدري كيف أقتص منكم أو كيف تستطيعون أن تكفروا عن هذا الذنب العظيم؟ - دع الاقتصاص والتكفير للأقدار يا رجاء أفندي، وما علينا إلا أن نترحم على تلك الفتاة. - هل كنت تعرف هذه الأميرة يا باشا؟ - كلا. - إن زوجتكم لطيفة هانم تعرفها، ولا بد أن تكونوا قد سمعتم بخبرها.
فاختلج الباشا وبدا في وجهه امتقاع، وقال: هل كان لها خبر يسمع؟ - نعم، كانت مشهورة بجمالها العصبي لا العضلي، أعني أن جمالها لم يكن في شكل جسمانها بل في عواطفها. ومع ذلك فقد كانت في نظر البعض جميلة الصورة جدا. ولكن هذا لا يهمني أبدا. وإنما كان يعجبني فيها توقدها: توقد عينيها وقلبها ولبها وعصبها. فعيناها تتواثبان دائما من محجريهما، وقلبها يندفع مع لسانها في كلامها، ورشاقة جوارحها تتبارى مع نباهتها ويقظتها ونشاطها. يقولون: إنها خفيفة؛ أي قليلة الرزانة، وهذا ما أستحبه أنا في المرأة، حتى لو قالوا: إنها متهورة، بل مجنونة، لزادوها قيمة في عيني؛ لأن التهور والجنون هو الطرف الأخير من النشاط. لقد أسفت على نميقة عظيم الأسف يا باشا. - عزاك الله يا رجاء أفندي. وما زلت أنتظر خدمك الصالحة. - لا تشك بخدمي الصالحة يا باشا؛ لأن غرضي متوقف مع غرضكم. الآن أرجو الإيذان لي بالخروج حتى لا يطول انتظار السفير.
ثم ودع رجاء الدين الغازي مصطفى باشا وخرج، وفي نفس كل منهما عواطف وأفكار لا تظهر إلا لعالم الخفيات والأسرار.
ثم أمر الغازي في الحال بإطلاق سراح المتهمين الآخرين، وبإطلاق سراح المقبوض عليهم في الآستانة جميعا من غير تحقيق، بزعم أن القبض عليهم كان بناء على سعاية كاذبة.
الفصل السابع
ويل أهون من ويلين
بعد حين كان دولة الغازي مصطفى باشا كمال في أزمير، بلد عقيلته لطيفة هانم. وفي ذات يوم كان راكبا أوتوموبيله من المنزل إلى دار الحكومة. وفي أثناء الطريق رماه شخص مجهول بقنبلة، فوقعت على مقربة من الأتوموبيل ولكنها لم تنفجر. فأمر بإيقاف الأوتوموبيل في الحال. واتفق لسوء حظ هذ الجاني أن رآه بعض الناس يفعل فعلته فقبضوا عليه. ثم أمر الغازي بالقنبلة أن توضع في الأتومبيل وأخذ الجاني معه توا إلى دار الحكومة، واختلى به.
وكان الشخص متوسط الجسم والعمر حسن البزة، تدل ملامحه وحركاته على أنه عصبى المزاج، يعد ممن يتهوسون لما يعتقدون. ولما أصبح مع الغازي وحدهما في مكتبه الخاص قل إكفهراره، وصار يحاول أن يبتسم كمن لم يرتكب وزرا.
أما الغازي فكان متجهما مقطب الجبين حداق العينين، فسأله : من أنت يا هذا؟ - أنا أحد الناس العامة الذين لا تعرف عنهم شيئا ولا تفيدك المعرفة عنهم شيئا. - ما اسمك؟ - لا يهمك اسمي، بل يهمك جسمي، وها هو تحت سلطانك. - بل يجب أن تقول. - ليس الامتناع عن قول اسمي أعظم فرية مما حدث. فاقض ما أنت به قاض.
فسكت الغازي هنيهة، ثم قال محاولا الملاطفة: ولكني أود أن تعلم أن اعترافك بكل شيء ينجيك من العقاب.
فضحك الجاني بالرغم من كابوس جنايته على نفسه، وقال: إن الإنسان يادولة الباشا يختار من الويلين أخفهما. إن قضاءك مهما كان عنيفا فهو أسهل عندي من هذا التحقيق الذي لا يجديك نفعا. لقد شهدت الجناية وها الجاني أمامك. والحمد لله أن القدر كتب لك حياة طويلة سعيدة، فتمتع بها، وعاقب غريمك العقوبة التي يستحقها، ولا تضيع وقتك فيما لا فائدة منه.
فاستغرب الغازي أمره كل الاستغراب، ولا سيما إذ جعل يملك روعه كلما تقدم في الكلام. وقال له: أين تقطن؟ - لست من أزمير. - أين بلدك؟ - لا أقول. - ما هو عملك؟ - لا أقول.
وفتشه الغازي تفتيشا دقيقا، فما وجد معه ورقا ولا أداة ولا شيئا يدل على هويته، سوى بعض نقود ورقية قليلة في جيبه. فسأله: هل لك أهل هنا؟ - لا أقول. - عجبا عنادك يا هذا! - ما أنا العنيد يا سيدي الباشا، بل أنت العنيد. إن معرفة أصلي وفصلي لا تفيدك شيئا، ولا هما ذوا علاقة بالجناية. - أود أن أعرف من هم شركاؤك في المكيدة، فأعفو عنك. - لا أطمع بالعفو. فثق أنه لا شريك لي فيها. أنا مستقل بها كل الاستقلال. - عجبا! تقول إن العقاب أهون ويلا عليك من الإقرار، كأن لك شركاء يتهددونك بالتعذيب إذا أقررت عنهم.
فضحك الجاني وقال: كلا. كلا ياسيدي، كلا. ليس لي شركاء ولا تعذيب شركاء أهون ويل علي، ولست هاربا من التعذيب ولا من القتل.
فتحير الغازي في أمر هذا الجاني الغريب وقال: هل لك من ثأر علي؟ قل فأنصفك. - كلا، كلا يا سيدي. ليس في نفسي شيء ضدك البتة، ولا أنا ممن احتكوا بك. - إذا لم يكن أحد قد حرضك، فلماذا قصدت أن تقتلني؟ - الحمد لله أنك سلمت يا مولاي وأنا فشلت. فماذا يهمك بعد؟ - هذا كلام فارغ. قذفت القنبلة علي لكي تهلكني، فإذا لم تفصح عن سبب تعمدك قتلي فلا بد أن يكون لك شركاء، فيجب أن تقول عنهم. - أقسم لك بأعز عزيز عندي أنه ليس لي شركاء ولا أنا عضو في جمعية سرية. - من هو أعز عزيز عندك؟ - هذا سر من أسراري يا سيدي. - إذن أنت عضو في مؤامرة. فإذا لم تقل كل ما تعرفه أعذبك تعذيبا. - لا بأس يا سيدي. التعذيب يبلغني إلى النتيجة التي أسعى إليها. - ما هي النتيجة التي تسعى إليها؟ - هي أن أموت. لم أستطع أن أنتحر فارتكبت هذا الوزر لكي يحكم علي بالموت. - عجبا! ألا تريد أن تموت ما لم تقتل شخصا آخر؟ إن هذا لجنون.
ثم استدعى الحارس وأمره أن يأخذ الجاني إلى السجن ويبقى فيه حتى يطلبه.
وأوفد مندوبا يمنع الجرائد أن تشير أقل إشارة إلى الحادث. وأبلغ الخبر تلغرافيا إلى عصمت باشا، وقال له: «إني أبشرك أن المؤامرة وجدت وأسباب الخلع والإلغاء تهيأت. ولا ينقصنا إلا كلاب لاستخراج الأسرار من دماغ هذا الجاني. فتعال جرب دهائك فيه.»
الفصل الثامن
رسالة من عالم الأرواح
نعود ثانية بالقارئ الكريم إلى الآستانة أم مدائن الشرق الأدني، التي كانت - ولا تزال - أوسع مسارح السياسة وأكثر المسارح غرفا خلف الأستار للمكايد والدسائس.
في تلك الأثناء وافى إلى نامق بك رسول من قبل صديقه الحميم البرنس سناء الدين يدعوه لحاجة به إليه.
وفي نحو نصف ساعة كان نامق بك في مجلس البرنس سناء الدين، وهذا يدخن النارجيلة. فقال نامق: أراك تفرط بالتدخين يا سيدي البرنس، فأشفق على صدرك.
فتنهد البرنس والدمع يكاد يطفر من موقيه، قال: آه يا نامق! إن نميقة تركت فى قلبي حسرة لا تزول. وأحاول أن أخففها بالتدخين. لقد جرنا عليها والذنب ذنبنا، فلا أجد تكفيرا لذنبنا.
ثم تناول البرنس ورقة من جيبه وقدمها لنامق قائلا: أرجو منك أن تقول لي ماذا تفهم من هذا التلغراف يا عزيزي نامق؟
فتناول نامق بك ورقة التلغراف وقرأ:
سمو البرنس سناء الدين أفندي
حاذر أن تزور الدوقة!
ثم نظر نامق وقال: بلا إمضاء؟ - بلا إمضاء. هذا هو التلغراف الذي ورد بعينه كما تراه، فما علمت من هو مرسله ولا فهمت منه شيئا؟ لعل في المدينة أميرا آخر باسم سناء الدين. - كلا يا مولاي. والأرجح جدا أن التلغراف موجه إليك شخصيا ولا خطأ فيه. - إذن من هي هذه الدوقة. هل سمعت بخبر دوقة في ستمبول؟
فنظر نامق بالبرنس مبتسما قليلا وقال همسا: لاح لي خاطر قريب الاحتمال جدا يا مولاي. لعلك سمعت بمدموازال دلزل.
فهز البرنس رأسه وقال: كلا، لم أسمع بهذا الإسم. فمن هي هذه المدموازال؟ - هي ممثلة في جوقة أفرنجية الآن في ستمبول، تدعي أنها ألزاسية من أصل ألماني. وهي على غاية من جمال الوجه والصوت، ومن رشاقة الحركات والرقص، ومن لطافة المعشر والحديث، حتى افتتن بها كثيرون من الكبراء والأمراء، وهم يتزاحمون في مجلس زيارتها، وهي تتيه تارة وتتلطف أخرى. وسمعت أخيرا أن بعض الأمراء اكتشف انها دوقة روسية قريبة النسب للقيصر نقولا، آخر قياصرة روسيا. وبعضهم يدعي أنها بنت الغراندوق نقولا عم القيصر، وبعضهم يقول: بل حفيدته. والله أعلم. - هل رأيتها يا نامق؟ - نعم، رأيتها في التياترو تغني وترقص وتخلب الألباب بجمالها ودلالها. - هل حضرت مجلسها؟ - لا. لم يتسن لي؛ لأنها لا تقبل زيارة أحد إلا بعد وسائط، كأنها سلطان البرين وخاقان البحرين، وإلى الآن لم يحظ بزيارتها إلا بعض الأمراء. - والأغنياء أيضا طبعا. - كلا؛ لأنها ليست من النساء اللواتي يبذلن أنفسهن لأجل الليرة. وقد رووا عنها حكايات تدل على تعففها وكبر نفسها، مما يرجح دعواها السرية أنها دوقة حقيقة. وإنما تتنكر باسم حسناء ألزاسية ألمانية؛ تحاميا لغدر البلاشفة بها. فلعل لمقصود بالدوقة في هذا التلغراف هذه المرأة. - والتلغراف يحذر من زيارة الدوقة، فهل في زيارتها من خطر؟ - لا أدري يا مولاي الأمير. ولا أعلم أن زائرا من زوارها وقع في خطر. فما زارها زائر إلا عاد معجبا بنبلها وشرف نفسها وعفافها، وهو يقول: حقا إنها دوقة، يقينا إنها نبيلة. وقد اعتادت كلما زارها أمير أو عظيم أن تطلب منه أن يكتب جملة حكمية أو أي جملة جميلة في دفتر مذكراتها ويمضي بإمضائه، وتحفظ ذلك كتذكار عندها. - هل يمكن أن يكون الخطر في هذه الكتابة يا نامق؟ - لا، لا أظن. ولعل الخطر في زيارتها من التعرض لانتقام البلاشفة؛ إذ لا يخفى عليك أن البلاشفة لا يزالون يطاردون أفراد هذه الأسرة القيصرية. وهي في ستمبول تحت خطر منهم أكثر منها في أي مكان آخر؛ إذ لا يخفى عليك أن أصحابنا الكماليين جعلوا البلاد دارا للبلشفيك. - معقول. ولكن من أرسل هذا التلغراف يا ترى؟ لا بد أن مرسله أدرك أن في زيارة هذه الدوقة خطرا إن كان يعنيها ولا يعني سواها ... - لا يهمك مرسل التلغراف قدر ما يهمك التلغراف نفسه. فلا تزر هذه المرأة والسلام. - بالطبع لا أزورها، ولا خطر لي أن أزورها أو أزور غيرها وأنا في إبان حزني. ولكني أود أن أفهم أسرار هذا التلغراف. - لا تهتم كثيرا به يا سيدي البرنس، دع الأيام تفسر لك أسراره. فإن الأمور مرهونة بأوقاتها. •••
عند ذلك أبلغ الخادم البرنس أن رجلا وضابطا من ضباط البوليس يرجوان مقابلته. فأذن لهما بالدخول، فالتمسا مقابلته وحده، وفي الحال نهض نامق وخرج. ثم قال أحد الرجلين: داعيكم موظف في مصلحة التلغراف. وقد ورد تحت يدي في السهرة أمس تلغراف معنون باسم سموكم. فهل هو لكم؟
فقال البرنس: عسى أن يكون التلغراف مرسلا لي خطأ يا هذا. - هل هنا أمير آخر باسم البرنس سناء الدين أفندي؟ - لا أعرف أميرا غيري بهذا الاسم. - إذن التلغراف لكم بلا جدال. فهل تعرفون سموكم من أرسله لكم؟ - كلا. لهذا شككت أنه لي. - هذا هو أصل التلغراف بخط مرسله، فهل تعرفون هذا الخط؟
فما وقع نظر البرنس سناء الدين على أصل التلغراف حتى انتفض انتفاضة المجفل الفازع، وقال: ويحكم. هذا خط ... خط يد يشبه ... خط ... يد ... بنتي ... آه بنتي ... آه بنتي ... أحقيق؟
وجعل البرنس ينتفض كمن أصيب بنوبة عصبية.
فقال التلغرافي: أتذكر أن الذي قدم لي هذا التلغراف مع قيمة أجرته غلام في العاشرة من العمر، وأرجح أنه أجنبي. وقد كلمني بالفرنسية. وكانت النقود ملفوفة بورق التلغراف. تناولتها منه وفحصت النقود فإذا هي على قدر الأجرة تماما. أما الغلام فمضى في الحال.
وكان الأمير لا يزال مضطربا، فقال متلجلجا: أجل هذا الخط يشبه خط بنتي كثيرا. آه بنتي. هل يمكن أن تكون في قيد الحياة؟ - أين هي بنتك يا مولاي البرنس؟ - آه. أرجو منك أن تنادي نامق بك، فهو يجاوبك عني، لقد كنا الآن في حديث التلغراف. بربك لا تسألني مزيدا. لا أحتمل هذا، إني أرى طيف بنتي يلوح أمامي الآن.
فنادى الضابط نامق بك من البهو. فوافي هذا سريعا، وجزع إذ رأى البرنس في حالة تأثر شديدة وهو يقول: نعم، نعم، إن طيف نميقة يتمثل أمامي يا نامق، انظر، هذا خطها. هل هي في قيد الحياة؟ أو هل هي روحها تظهر لي؟ رباه، لقد ظلمتها. لقد قسوت عليها.
وكاد البرنس يغمى عليه من شدة التأثر، فسأل نامق بك: ما الخبر؟
فقال له التلغرافي: هل اطلعت على التلغراف الذي ورد إلى البرنس صباح اليوم؟ البرنس يقول: إنكما كنتما في حديثه الآن. - نعم. - وهذا هو الأصل. وقد جئت به إليه لكي نسأله بشأنه، فلما نظره قال: إنه خط بنته. فأين هي بنته؟ - أما قرأت يا سيدي في الصحف أنها غرقت في البحر وأكلتها الحيتان، وما ظهر أخيرا غير بعض ملابسها ممزقة.
فنظر التلغرافي في الضابط وقال: أجل، إني قرأت هذا الخبر ولم أنتبه للأسماء جيدا.
فقال الضابط: وأنا قرأته.
فقال التلغرافي لنامق بك بصوت واطئ: هل ترى أن هذا الخط يشبه خط المرحومة؟
فنظر فيه نامق وقال: الحق أني لم أر خط المرحومة إلا نادرا، فلا أدري إن كان هذا الخط يشبهه. أريه للأميرة حرم البرنس. ولكني أخاف من تأثرها أيضا.
فقال البرنس وهو لا يزال متأثرا شديد التأثر: أجل هو خطها، أو خط روحها، آه نميقة! هل روحك تزور الأرض أم أنت في قيد الحياة؟
فقال نامق: حقق الله ظنك يا سيدي الأمير.
فقال البرنس للتلغرافي: ألا تعرف الغلام الذي جاءك بهذه الورقة. ابحث عنه، فلا بد أن يكون عارفا بمقر بنتي. آه! بربكم أين الغلام؟
فقال التلغرافي: لو أمكن أن نعرف الغلام لما جئنا إليك يا سيدي البرنس. فماذا خطر لك يا سمو البرنس حين ورد لك هذا التلغراف؟ أما خطر لك خاطر عمن أرسله؟ - كلا البتة. بل كنت في حيرة لا أدري سره؛ ولهذا استدعيت صديقي نامق بك ليحل رموزه. - من هي هذه الدوقة المشار إليها هنا؟ - لا أعرف دوقة يا ابني. أخبره يا عزيزي نامق الحكاية التي قلتها لي.
فانتفض نامق، ونظر في البرنس كأنه يلومه على هذا الافصاح. فقال البرنس: لا بأس يا عزيزي نامق. قل له ما تعرفه. لا أنت ولا أنا ممن لهم شأن في دسائس أو مؤامرات.
فاضطر نامق بك أن يروي حكاية المدموازال دلزل الممثلة وأنها تدعي لبعض زائريها أنها دوقة.
فقال الضابط: وماذا تظن غرض مرسل هذا التلغراف من إنذار سمو البرنس؟ - لا أظن شيئا يا سيدي. ولا أعرف مدموازال دلزل إلا كما يعرفها كل من حضر رقصها وسمع غناءها.
ولما لم يستفيد الضابط والتلغرافي شيئا، ودعا البرنس والبك وخرجا.
الفصل التاسع
مؤامرة ضد مؤامرة
نعتذر للقارئ الكريم أننا لم نستطع أن نمكث معه كثيرا في ستمبول الجميلة، بل نرانا مضطرين أن نعود معه إلى أنقرة عاصمة تركيا الجديدة؛ وذلك لأن الحوادث المتشابكة المعقدة تأخذنا وتردنا كمكوك الناسج بين العاصمتين. وفي العاصمة الأولى القوة التقليدية المتقلقلة. وفي الثانية القوة الجديدة المستقوية. وكلتاهما تتجاذبان حوادث التطور.
كان عصمت باشا ومصطفى باشا كمال يتغديان معا في منزل مصطفى باشا؛ تذرعا للتحدث الشخصي فيما بينهما، فقال عصمت باشا: هل علمت أن فوزي باشا رئيس أركان الحرب لما كان في ستمبول زار الخليفة؟ - نعم، وكاظم قرة بكير باشا زاره أيضا. - كاظم لا يهمنا كثيرا يا مصطفى. وأما فوزي فلا نقدر أن نتسامح معه لمكانته في الجيش.
إن فوزي ينذعر إذا قلت له بإلغاء الخلافة؛ لأنه متدين، ويعتقد أن الخليفة شخص مقدس. - لذلك أرى أن نتخلص منه. - كيف نتخلص منه وقد كان كما تعلم يدنا اليمنى في حربنا مع اليونان، ولا يزال صديق الجمهورية إلا من حيث الخلافة. فلا نقدر أن نعزله بتاتا وكثيرون من الضباط محازبون له. - إذن ننقله من وظيفة عسكرية إلى وظيفة ملكية. - ما هو غبي حتى لا يفهم معنى هذا النقل. - إذن نفصل منصب أركان الحرب من الوزارة. - هذا هو الرأي المعقول أكثر من كل رأي؛ لأن رئاسة أركان الحرب ما كانت في أي نظام من أنظمة الدول ذات ضلع في الوزارة. وما جعلناها نحن هكذا إلا ترضية له لتمسكه بها. أما الآن فإذا فصلناها عن الوزارة رددنا الشيء إلى طبيعته. - يجب أيضا أن نمنع اشتغال الجنود في السياسة بتاتا.
فضحك عصمت وقال: يا سلام، الغرض مرض. الآن صرت تقول الجندي والسياسة لا يلتقيان، ونحن قمنا على التقائهما. وما قولك برءوف بك (كان رئيس الوزارة سابقا)؟ - رءوف أقل تدينا وتمسكا بالخلافة من فوزي، ولكن إذا أحرج يتمسك بها ويناضل لا لأجلها بل لأجل غرضه. - وكاظم قرة بكير باشا؟ - لا يهمنا كثيرا؛ لأنه لا يقدر أن يكون زعيم حزب. - نعود إذن إلى النواب لنرى من منهم تخشى معارضته؟ - لا خوف من معارضة أي نائب مهما كان قوي العارضة مادامت الأكثرية معنا. - ما قولك بعبد الله عزمي بك، نائب إسكي شهر.
فتململ عصمت وقال: هذا النائب قليل الذوق حقيقة؛ لأن أي نائب من إسكي شهر لا ينتظر أن يكون معارضا؛ لأن إسكي شهر مديونة للثورة بإنقاذها من فظائع اليونانيين. وما قولك؟ - ليس غير عزمي من يجعجع في المجلس، فلا تحسب حسابا لغيره. - حسنا، فلنر الآن على من نعتمد نحن بالأكثر؟ أعني أصحاب الأصوات العالية الذين يسكتون أصوات المعارضين . - عندك سيد باشا وزير الحقانية. - هذا دعه على جنب. فهو ركن قضيتنا وليس أحد غيره يخرس الشيخ مصطفى فوزي وزير الشريعة. - نسيت زكي بك نائب كموشخانة، فهو ممن يعارضون أحيانا. - نعم، يرفع صوته أحيانا، ولكنه جبان وأحيانا يتذبذب. ففي خطيرات المسائل لا يجسر أن يعارض. عندك من أصحاب الأصوات العالية رجب بك نائب كوتاهيه، وواصف بك نائب صاروحان، وشكري بك نائب أزمير، ومظهر مفيد بك نائب دنزلى.
فقال عصمت باشا: ولا تنس محمد أمين بك شاعر الطورانية.
فضحك مصطفى باشا وقال: ولكن لم تكن الحرب بالشعر إلا عند العرب. ولا تنس أننا مودعو العرب بل الشرق كله. - لا أنسى ذلك. ولكن لا تنس أن ناظم المارسلياز أسس جمهورية فرنسا. فقد تأتي ساعة نحتاج فيها إلى قصيدة من نظم شاعر الطوراينة تثير الأناضول كله على الخلافة.
فقال مصطفى باشا: المهم الآن أن نعين ميعادا مناسبا لقذف هذه القنبلة الهائلة التي سترج العالم الإسلامي. - هذه موقوفة على الحوادث يا عزيزي مصطفى. إذا لم يكن من حادث يرج البناء ويزعزعه فلا تقدر أن تهدمه. علينا أن نصبر حتى يبدو لنا حادث من الخليفة أو من أسرته لكي يكون لنا سبب لخلعهم جميعا عن كراسيهم، وإلا فيخشى أن نهيج الرأي العام ضدنا.
فهز مصطفى كمال رأسه وقال متململا متبرما: لقد ورد علي اليوم تلغراف من الآستانة ربما كان فيه بارقة أمل. خذ اقرأ. فتناول عصمت الورقة وقرأ:
مولاي دولة الغازي
عثر اليوم مفتش التلغرافات على تلغراف للبرنس سناء الدين أفندي واشتبه به، وهذا نصه: «سمو البرنس سناء الدين، حاذر أن تزور الدوقة!» فأرسلت مندوبا من قبلي مع مفتش التلغراف إلى البرنس يسأله من أرسل إليه هذا التلغراف، عسى أن نعلم من هي هذه الدوقة؟ ولماذا يجب أن يحاذر منها؟ وأرسلنا إليه أصل التلغراف لكي يطلع عليه؛ لعله يعرف من خطه من هو مرسله؟ أما البرنس فلما اطلع على أصل التلغراف ورآه مشابها لخط بنته، هاجت عواطفه، وجعل يناجي روح بنته الغريقة ويقول: هذا خط بنتي! ولذلك لم نستفد منه شيئا البتة. وإنما اتفق أن كان عنده صديق له يدعى نامق بك، وكان قد استدعاه قبلا إليه لكي يساعده على تفسير هذا التلغراف، وبعد تحقيق مندوبي مع نامق بك فهم أنه يوجد في ستمبول الآن ممثلة تدعى مدموازال دلزل يتردد إليها الأمراء، ويقال: إن بعضهم اكتشف أنها دوقة روسية متنكرة، وهم يزورونها ويجتمعون بها. فماذا تأمرون بشأنها؟
عدنان حاكم الآستانة
فبعد أن اطلع عصمت على هذا التلغراف مرتين، نظر في مصطفى وقال: وماذا أجبت عليه؟ - وهل هناك جوابان؟ أمرت بالقبض على الدوقة وتفتيش منزلها.
فقال عصمت متبرما: لا أظن وراء هذا البرق سحابا. - يجب يا باشا أن نهتم بكل صغيرة وكبيرة. ما أدرانا أن يكون بين هذه الدوقة الصحيحة أو المزيفة وبين السجين رامي القنبلة علاقة. - ربما كان بينهما اتصال، ولكن القبض على المرأة لمجرد ورود لفظة دوقة في تلغراف لشخص آخر يعد تسرعا. كنت أفضل الاقتصار على مراقبة هذ الممثلة حتى تقوى الشبهة بأنها بؤرة مؤامرة. - إن تردد الأمراء عليها كاف للشبهة يا عصمت. ونخاف أن التأخر أو التأني يورث الندم. وأعتقد أن تهجم السجين الذي ألقى القنبلة التي لم تنفجر لهو نذير بوجود مؤامرة. ولا سيما لأن السجين مصر على التكتم. فقد بذلنا جهدا في أزمير وهنا أن نستقطر روح أسراره فلم نستطع. - أظن أن تفويض تحقيق أمره لشخص يماثله في المزاج والعقلية قد ينجح. - أجل. لقد أذكرني قولك هذا برجاء الدين الموظف في السفارة الروسية، لعله يستطيع كشف سره. فإذا اكتشفنا علاقة بين هذا العنيد والممثلة دلزل قبضنا على مفتاح المؤامرة.
عند ذلك جاء خادم بتلغراف، ودفعه إلى الغازي مصطفى كمال وقرأه على مسمع عصمت باشا:
سيدي صاحب الفخامة الغازي
باغت ثلاثة من ضباط البوليس السريين منزل الممثلة دلزل أو الدوقة الروسية وفتشوه. فوجدوا عندها أوراقا هائلة الأسرار لم تبق شكا بوجود مؤامرة بين الأمراء، وهذه المرأة مركز المؤامرة. والظاهر أنها دوقة حقيقية ولها أغراض بعيدة لم تنجل تماما. وإنما لي الأمل أن التحقيق يجلوها. بين الأوراق التي وجدناها عندها رسائل ثورية ضد الجمهورية المقدسة من الأمراء: برهان الدين، وفريد، وناظم، وعبد الكريم، ونظام الدين. وقد وضعنا المرأة تحت الحفظ ريثما نرى ماذا يكون رأيكم!
عدنان
حاكم استمبول
ولما انتهى مصطفى من القراءة نظر إلى عصمت متهللا مبتهجا وقال: لقد تهيأ السبب الذي كنت أنتظره يا عصمت لإلغاء الخلافة. فهل تصبر بعد هذا؟ يجب أن نقبض على المشتبه بهم ونشرع بالتحقيق حالا. - لا تتسرع يا عزيزي مصطفى. لا نقبض على أحد الآن حتى ولا على المرأة. يكفي أن نجعلها تحت المراقبة. يجب أن نطلع على رسائل الأمراء التي تثبت التهمة عليهم، ثم نقرر هنا إن كنا نقبض عليهم أو لا. يجب أن نتجنب الضوضاء في أول الأمر. - إني ضد رأيك يا عصمت. يجب أن نضرب الضربة عاجلا، وإن تأنينا وجعلنا ندقق في كل شيء ضيعنا الفرصة. - لا أخالفك كثيرا. وإنما أود أن أنبهك لأمر، وهو أن الضربة التي تضربها يجب أن تهيئ لها الأفكار أولا، حتى يكون تيار عواطف الجمهور معها لا عليها. يجب أولا أن نستوثق من قيمة تقرير عدنان بك؛ لكي نعلم مبلغ أهمية هذه المؤامرة. وهذا يستلزم أن نطلع على الأوراق التي اكتشفوها عند هذه المرأة. وثانيا قبل أن نعلن اكتشاف هذه الدسيسة يجب أن نثير التيار في المجلس الوطني معنا. ثالثا نعلن أمر هذه المؤامرة تقريرا لمشروعنا. وحينئذ مهما عملنا كان عملنا مبررا وكان الجمهور معنا.
فقال مصطفى باشا: وإنما أخاف أن المطل في العمل يفضح التدبير.
فقال عصمت: لا تخف. ألق التبعة علي. أرسل الآن تلغرافا لعدنان واطلب الأوراق كلها حالا مع رسول خاص، ودعه يكتفي بمراقبة المرأة والأمراء.
وبعد مناقشة قليلة بهذا الموضوع على هذا النحو، أذعن الغازي مصطفى لرأي عصمت باشا، وتلفن إلى حاكم ستمبول بالأوامر التي صاغها عصمت باشا.
ثم قال عصمت باشا: وأنا أتعهد الآن بمفاوضة أنصارنا في المجلس كل على حدة، حتى أخمر فكره. وهكذا أعد أذهانهم للمعركة الفاصلة في المجلس في جلسة واحدة، وثم نأخذ التقرير من المجلس بالتنفيذ وننفذ في الحال. •••
في اليوم التالي كان رجاء الدين أفندي الموظف في السفارة الروسية جالسا في حضرة دولة الغازي يبتسم. فبش له الغازي قائلا: أهلا وسهلا! هل لك مؤامرة ضدنا يا رجاء؟ - معاذ الله يا سيدي الباشا. أنا خادمكم المطيع. وإنما توجدونني أحيانا في مواقف حرجة تعرقل عملي. لقد قبضتم على امرأة روسية فأغضبتم الرفيق سعادة السفير. - هل تعني الدوقة مدموازال دلزل؟ - نعم الدوقة أو المدموازال دلزل. - إذا كانت دوقة روسية حقيقة أسلمها للسفير؛ لأن الدوقات ضد البلشفيك. - ليس هذا شغلك يا باشا، بل هو شغلنا. نحن نعرف أعداء البلشفيك أكثر من غيرنا. فسعادة السفير يرجو منك أن تأمر الآن بإطلاق سراحها حالا. - يالله! ليس هذا في وسعي؛ لأنها وجدت بؤرة مؤامرة ضد الجمهورية. فلا بد من التحقيق معها. إننا في حاجة إلى معلوماتها، فيجب أن تبقى في يدنا حتى نستخرج آخر معلوماتها.
فتجهم رجاء الدين، وقال كأنه ذو سلطان: كلا يا دولة الغازي. يجب أن يطلق سراحها في هذه الساعة لا بعد ساعة.
فقال مصطفى باشا غاضبا: عجبا! هل أنت تملي علي أوامر؟ - كلا، بل موسكو تملي عليك. وما أنا إلا لسان موسكو. - عجبا! أهكذا أوامر سفيرك! - نعم. - لماذا هذا الإصرار؟ - لأنكم لا تستحقون معلومات مفيدة.
فامتعض الغازي وقال: كلمني بأدب. - أجل يا سيدي. بأدب أقول لك: إنك رجل ملحاح عديم الصبر متسرع. تريد أن تصعد إلى العرش بخطوة واحدة، مع أني أقيم لك عرشا عاليا جدا لا يمكن الوصول إليه إلا على درجات متعددة. قلت لك قبلا: إنك تسكب الطبخة قبل أن تنضج. تقطف البرعمة قبل أن تفتح أكمامها عن الزهرة. - يالله! وهل نصبر على المؤامرة حتى تصبح ثورة يتعذر قمعها؟
فتبرم رجاء الدين أفندي وقال: أوه يوه! ما كنت أظنكم مغمضي العيون إلى هذا الحد. من قال لك: إنه سيكون في البلاد ثورة؟ أنتم الثورة الأولى والأخيرة. - إذن ما الغرض من المؤامرة؟ - الغرض منها أن تكون حجة بأيديكم على تنفيذ مشروعكم. - ما سمعت بمؤامرات باردة كهذه. - يجب أن تسمع وتعلم أنه يوجد نور بلا لهيب ودخان بلا نار. نعم، هذه مؤامرة باردة كمصباح أدسون تنير سبيلكم من غير أن تحرقكم. ولكنكم أطفأتموها قبل أن تريكم الطريق واضحا. - إنك يا هذا لتذهلني. هل تريد أن تقول لي: إن هذه المؤامرة مدبرة؟ - لم آت لأقول شيئا سوى أن مدموازال دلزل الدوقة الروسية يجب أن تطلق حريتها قبل نهاية هذه الساعة. حسبكم أوراقها. وحسبكم أنها تخرج من ستمبول؛ لكيلا يبقى وجودها سببا للظن أن المؤامرة زائفة. لا تتعجلوا وإلا خسرتم حججا أخرى مدبرة، وقوة أضمن لتدبير مشروعكم وإنجاز وعودكم لنا.
فقال الغازي مرتبكا: ويك يا رجاء! أهذا الكلام ... - نعم هو كلام السفير نفسه. - إذن خسرنا كثيرا بهذا التسرع؟ وما العمل الآن لإصلاح هذا الخطأ. لقد نصح عصمت بالتمهل فحسبت التمهل خطأ. - الأفضل أن يكون عصمت الدماغ وأنت اليد الضاربة. - وهو كذلك. ولكن الآن نود أن نصلح هذه الغلطة يا رجاء. ألا تسمحون ببقاء الدوقة سجينة بضعة أيام لكي نستفيد منها معلوماتها؟ - قلت لكم: إنها لا تقدر أن تفيدكم بمعلومات؛ لأنها لا تملك من المعلومات غير الأوراق التي أخذتموها قبل أن تتم وتنضج.
فتمهل الغازي وقال: تكاد يا هذا تجنني. كيف لا تملك معلومات؟ إذن ماذا كانت تفعل لو أغضينا عنها؟ - كانت تنجز عملها الذي انتدبت إليه. أما الآن فقد خربتم العش ونفرتم العصافير. فاكتفوا بما وصلت إليه أيديكم من المعلومات أو الأوراق ودبروا أشغالكم. إني نافض يدي من مهمتكم. أرجو أن ترسل تلغرافا الآن إلى عدنان بك وتأمره أن يطلق سراح الدوقة في الحال، ونحن نوعز إليها أن ترحل إلى حيث لا يدري إلا علام الغيوب. لقد أعذر من أنذر يا باشا! السلام عليكم.
وهم رجاء أن يخرج، فأمسك الغازي بتلابيبه وقال: مهلا، إني في حاجة إليك.
ثم نهض الغازي إلى التلفون وخاطب السفير الروسي، فبادره السفير قائلا: افعل ما يقوله لك رجاء أفندي. - حلما يا سعادة السفير. - بل حلما يا باشا ، إني مشغول جدا مع موسكو الآن، والأهم يتقدم عن المهم، عذرا!
ثم رد السفير السماعة. فعاد الغازي إلى مكتبه. وفي الحال أرسل تلغرافا إلى عدنان يوعز إليه أن يطلق سراح الدوقة. ثم اجتمع ثانية برجاء أفندي.
الفصل العاشر
خيالات ذات قيمة
جاء الوفد الاستمبولي يحمل الوثائق التي يتسجل فيها قضاء الله والقدر على الدولة العثمانية، بل يحمل الفصل الأخير من تاريخ آل عثمان. أو قل: إنه جاء بالقنابل التي تنسف أساس العرش العثماني وتدك والعياذ بالله صرح الخلافة.
رقص فؤاد مصطفى كمال في صدره حين تقدم إليه رجلان أنيقا البزة شامخا الأنفين، معجبان بالهدية التي يقدمانها لرأس الحكومة التركية الجديدة، أو بالأحرى فخورين برأس الحية الذي كان يخشى أن يلدغ قلب الجمهورية.
تناول مصطفى منها طامورا كبيرا من الأوراق والوثائق المختلفة. وقلبها في أول الأمر تقليبا عاما. ثم جعل يقرؤها ورقة وقة، ويفرز الأهم من المهم ويرتبها ترتيبا متناسبا. فكان في مقدمتها ورقة دعوة مطبوعة «بالطيب ريطر»؛ أي مكتوبة بالآلة الكاتبة باللغة الفرنسية، هذا نصها:
سمو الأمير (من غير تعيين شخص)
إن الموقف الحرج بل المقلقل الذي بلغت إليه أسرات الشرف في كل أوروبا والشرق يستلزم أن يعقد مندوبون من هذه الأسرات مؤتمرا عاما، يبحثون فيه بأمورهم ويرسمون خطة لضمانة حياتهم الاجتماعية. ولذلك أتشرف بأن أرجو من سموكم التشريف إلى منزلي للبحث التمهيدي في هذا الموضوع.
أرجو أن تثقوا أن هذه المقابلة سرية الآن وأن تدعوني أثق هذه الثقة أيضا.
الدوقة
مريم رومانوف
ثم الرسالة التالية بالفرنسية أيضا:
حضرة صاحبة السمو الدوقة مريم رومانوف
تشرفت ببطاقتك العطرة. وقد قابلت الأشخاص الذين اتفقنا على مباحثتهم في المسألة، فاستحسنوا الخطة. وإنما هم يتخوفون من سوء المغبة. ولذلك أقترح أن يعقد مؤتمر علني ليس فيه ما يدل على عداء للجمهورية، فيكون تمويها وإظهارا لحسن القصد. وفي خلال ذلك يعقد مؤتمر خاص سري تبسط فيه المسائل وتتقرر فيه الخطط.
من فريد هذا؟ خطر للغازي أولا أن يكون البرنس فريد. ثم لاح في باله فريد باشا الداماد. ثم قرأ الرسالة التالية بالتركية، وقد أضيفت إليها ترجمتها بالإفرنسية، كأن شخصا آخر ترجمها للدوقة:
سمو الدوقة
إذا زارك اليوم سمو البرنس برهان الدين أفندي، فأرجو ألا تذكري له الحديث الخاص الذي جرى بيننا؛ لأنه سيء الظن، قد يفهمه على غير ظاهره، ولا سيما؛ لأنه يطمع بالخلافة. فأرجو أن ترجئي مباحثته بالموضوع إلى حين أكون معكما فأشرح له قصدي. أرجو ألا تبحثي مع البرنس سيف الدين في الموضوع؛ لأنه متهور وقد يضر ولا ينفع. ثم أرجو أو تستوثقي من نية النبلاء الذين أخبرتنا عن قصدهم، هل يستطيعون أن يبروا بعهودهم وينجزوا وعودهم؟
ثم هذه الرسالة بالتركية:
سيدتي الدوقة العزيزة
إن القصد الشريف الذي ترمين إليه يجعلنا نتهالك في سبيل رضائك. إن ما رسمته من حيث مفاوضة بعض الأمراء قد تم حسب مرغوبك. فعسى أن نراك بعد حين في صدور مجالسنا مكللة بإكليل العز.
إني أسير لطفك.
عبد الكريم
ثم هذه بالتركية، ولا ترجمة تحتها:
عزيزي عبد المجيد
لقد قضيت أمس نصف ساعة عند الدوقة كانت فيها مثال الغيرة والحماسة. الحق أن مسألتنا سهلة إذا كنا نتحد. ويمكن أن نرد السلطة إلى مركزها باتحادنا من غير عمل ثوري. سلم على الدوقة وأخبرها أني عائد بعد غد. وأود أن أتشرف بزيارة أخرى إذا كانت تسمح.
نظام الدين
ثم هذه بالتركية:
عزيزي نظام الدين
بحثنا مليا. لم نر بدا من الاستنجاد ببعض الضباط المخلصين لنا. يجب أن نكون على استعداد تام للطوارئ وإلا تعرضنا للخطر. وقد دبرنا مشروعا حسنا جدا. ومتى قابلت الدوقة تشرحه لك. إن الدوقة شعلة ذكاء وغيرة ونبل.
عبد المجيد
ثم هذه بالألمانية:
سيدتي الدوقة
أحذرك من عبد الحميد؛ فقد علمت أنه يكلم بعض الأشخاص بعكس خطتنا. أخاف خيانته.
نظيم
من نظيم هذا؟ لم يلح في بال مصطفى باشا شخص بهذا الاسم. لعله ليس أميرا. هل يمكن أن يكون من ضباط الجيش؟
ثم هذه بالألمانية أيضا:
سيدتي الدوقة
باحثت بعض الذين تكلمنا عنهم فوجدتهم على استعداد عند أول إشارة. وإنما أرجو الإسراع بالأمر قبل أن تنفضح المسألة.
الزائر أمس
ثم هناك رسائل أخرى من أشخاص أجانب فيها ما يدل على مفاوضات ثورية سابقة مع الدوقة. ثم دفتر مذكرات الدوقة بعضه بالإفرنسية وبعضه بالألمانية، وفيه أقوال مبهمة وأقوال صريحة، وإليك نموذجا منها:
زارني اليوم البرنس صباح. إنه رزين. يعتمد عليه. باحثته في ... فوافق، ولكنه قليل الجرأة.
خطر لي أن أشرك بعض الهوانم في المسألة، فلما زارني الكبير سرا استشرته فما وافق.
آه لو كنت أكسب فؤاد م ... كنت أجعل العرش له. تبا للحب فهو خطر على السياسة، وإن كان أحيانا يخدمها. وإنما أمانة الحب آفته. فليفهم العشاق هذا.
وهناك أوراق أخرى لا طائل تحتها.
ثم تلفن الغازي إلى عصمت أن يحضر حالا. وفي بضع دقائق كان عصمت باشا عند مصطفى باشا، فاستقبله هذا متهللا وأدخله إلى مكتبه، ثم بسط له الوثائق العظيمة الشأن. فجعل عصمت يطلع على الأوراق واحدة واحدة ويتأملها، حتى انتهى منها كلها. فنظر إلى مصطفى باشا باسما، فقال هذا له: ماذا رأيت يا عصمت؟
فتبرم عصمت. ثم قال: أتصور وأنا أقرأ هذه الأوراق أني أطلع على ألاعيب صبيان المدارس. لا أقدر أن أتصور أن هذه الرسائل يكتبها أمراء، إلا إذا كانوا ممازحين.
فقال مصطفى باشا هازئا: وهل كنت تنتظر أن هؤلاء الأمراء أكبر عقلا من غلمان المدارس؟! - لكني لا أقدر أن أستنتج من هذه الرسائل شكل مشروع أو خطة لثورة. لا أدري ارتباطا تاما بين رسائل الأمراء والدعوة. - يلوح لي أنهم غيروا شكل الموضوع بعد اجتماعهم بالدوقة. فكان المشروع في أول الأمر شكل مؤتمر سلمي وبعد المفاوضة صار شكل مؤامرة.
فتململ عصمت وقال: ما زلت أرى أن هذه المؤامرة مؤامرة أولاد. - عجبا! ألا ترى أنهم يعتمدون فيها على قوات أجنبية؟ لاحظ قول ناظم في رسالته: «أرجو أن تستوثقي من نية النبلاء الذين أخبرتنا عن قصدهم!» فلا ريب أنه يعني نبلاء أجانب. ثم لاحظ أن بين أوراقها رسائل من أجانب تفيد عن حركات ثورية. - أي نعم، لاحظت كل ذلك. ولكني لم أزل أشعر أنه ليس في هذه الرسائل روح ثورة ولا روح مؤامرة. وأستغرب أن حبر هذه الرسائل المختلف الألوان يشبه كتابة أقلام الرصاص الملونة. لاحظ اللون البنفسجي في رسالة نظيم فما هو معروف إن كان حبرا أو قلم رصاص. ما قولك بهذه الخطوط والإمضاءات؟ هل هي صحيحة؟
فقال مصطفى: وعندي رسالة من البرنس عبد الكريم كان قد كتبها لي يوصيني بشخص بصفة أنه صديق لي. فقابلتها برسالته فلم أجد فرقا في الخط. - وهل تظن أن جميع الإمضاءات صحيحة قياسا على إمضاء هذه الرسالة؟ - كذا أعتقد. ولا أرى وجها للشبهة في هذه الإمضاءات يا عصمت. - ورأيك الآن؟ - رأيي القبض على هؤلاء الأمراء والتحقيق معهم حتى نثبت تهمة المؤامرة عليهم. - وهبها لم تثبت. - عجبا يا عصمت! هل نعجز عن إثباتها! - لا، لا نعجز عن إثباتها. ولا نعجز عن إعدام الأمراء بلا محاكمة أيضا.
فتبرم مصطفى باشا وقال: لا أعني أننا نستبد ونظلم. - لا تستطيع أن تظلم لئلا تفقد قوة الجمهور، لا تقدر أن تظل قابضا على عنان الشعب إلا ما دمت مقنعا إياه بأنك تقول الحق وتفعل الحق وتؤيد الحق، ولو بالإفك والحيلة. - نعم. نعم. ولهذا إذا ظهر من التحقيق أن الشبهة ضعيفة نثبتها بأي الطرق ونحكم عليهم بالإعدام. ثم نبدل هذا الحكم بالنفي وبذلك نكسب عطف الجمهور.
فتململ عصمت وفكر برهة، ثم قال: وهب أن التحقيق أثبت لك أن هذه الأوراق كلها إفك وزور وبهتان، وثبتت براءة هؤلاء الأمراء ثبوتا تاما.
فتمرمر مصطفى باشا وقال: عجبا! يستحيل أن تثبت براءتهم. أمس رماني بعض صنائعهم بقنبلة لو انفجرت لأطارتني هباء منثورا. لقد ندمت على كتمان خبرها. - يمكنك أن تذيع خبرها بعد أن يعترف ذلك الجاني بأسباب ارتكاب جنايته. ولكن هب أنه ثبت عدم وجود علاقة بينه وبين مؤامرة الأمراء. - لا بد أن تظهر علاقة كهذه يا باشا. نحن لا نعرف لنا أعداء في الشعب. إن أعداءنا في الأسرة العثمانية وبعض الذين لا يزالون يشدون إزرها من الرجعيين. فأنا واثق أن هذا الجاني متى أفرغ جراب معلوماته رأينا بينها بريق سعايات الأمراء والخليفة عبد المجيد والسلطان وحيد الدين وغيرهما بلا محالة. فلذلك لا يرتاح رأس الجمهورية إلا بقطع رأس الأفعى. فرأيي أن نبادر بالقبض على هؤلاء الأمراء.
فهز عصمت باشا رأسه وقال: أما أنا فلست من هذا الرأي، بل رأيي أن نحقق سرا حتى تتوفر عندنا الأدلة والبراهين، فنظهر هذه الأوراق لتعزيز التهمة.
فتبرم مصطفى باشا وقال: إن هذا التحقيق السري الذي تتصوره يفضح المسألة قبل أن نستفيد منها. فإذا لم نغنم هذه الفرصة الآن لضرب الضربة القاضية. لا تتسنى لنا فرصة أخرى. يجب ألا نضيع الفرصة. - لا بأس لا نضيعها. وإنما نخاف أن تضيعنا؛ ولهذا أود أن نحتاط كل الاحتياط. - كيف نحتاط؟
فضرب عصمت بيده على المكتب وقال: إذا قبضنا عليهم وجب أن نحاكمهم جهرا. وكيف نستطيع أن نثبت عليهم جهارا تهمة يمكن أن تكون غير صحيحة؟ ولكن إذا حققنا سرا كان عندنا مجال للاحتياط أكثر. إلى الآن لسنا على ثقة أننا نستطيع أن ننفذ مشروعي خلع الخليفة وإلغاء الخلافة من غير خطر، إذ ليس في أيدينا من الحجج ما يبرر هذا العمل الخطير الشأن. فالتحقيق السري يرينا إن كنا نستطيع أن نظهر للعالم ما يبرر عملنا أو لا يبرره.
وطالت المناقشة بين مصطفى وعصمت على هذا النحو، حتى اتفقا على تحقيق سري أو شبه سري يتولاه نور الدين بك من غير جلبة ولا ضوضاء، وأن يتولى عصمت بك عجم أعواد النواب ليعلم قدر استعدادهم للموافقة على إلغاء الخلافة وخلع الخليفة ونفي الأمراء.
الفصل الحادي عشر
واشرح هواك فكلنا عشاق
نعود إلى السجين الذي رمى القنبلة على فخامة الغازي في أزمير ولم تنفجر. وقد نقل إلى أنقرة ووضع في سجن انفرادي، فضجر وابتأس وتمنى النهاية الفاصلة، فعزت عليه. وقد عاوده المحققون مرارا فلم يأخذوا منه حقا ولا باطلا. وأحيانا كانوا يهينونه ويتهددونه بالعذاب لكي يقر بما يعلمه عن المؤامرة، فلم يقل شيئا. ثم أعيد إلى سجن أزمير ثانية .
وفي ذات يوم وهو في سجن أزمير أدخلوا إلى غرفته سجينا آخر وهو ينحب ويتضرع ويستغيث ويقول إنه مظلوم بريء. ولكن ليس من يرثى ولا من يرحم. وبقي يندب حظه ويعول ويولول حتى تضايق منه السجين الأول، وسخط به قائلا: ويحك! هل أنت خلو من أخلاق الرجال تولول كالنساء والعيال وتنحب كالأطفال! لقد أزهقت روحي. إني أرى فيك شكل الرجل، أفلا تخجل أن تبكي هكذا؟
فأجاب السجين الثاني: والله يا صاح ضقت ذرعا. فكل يوم يأخذونني لدى الضابط فيحقق معي ثم يردونني. وبعد أيام قليلة يأخذوني لدى ضابط آخر فيستجوبني فأعيد نفس الكلام فيردونني إلى السجن، وهلم جرا. ولم أعلم إلى الآن متى تكون نهاية هذه الرواية؟ زهقت روحي، ضاق خلقي. حرت كيف أقنعهم أني بري؟ في أيام عبد الحميد ما ذاق الناس مثلما أذوق. - بماذا يتهمونك؟ - والله يا سيدي إلى الآن لا أدري. - إذن بأي حالة قبضوا عليك؟ - كنت في ذات يوم سائرا في الطريق، فإذا بي أرى أوتوموبيل الغازي مسرعا ثم توقف بغتة، وسمعت بعض المارة يقولون: «قنبلة»! فأسرعت هاربا من تلك الناحية، ولكن ما ركضت عشر خطوات حتى كان أحد الناس قد قبض علي وطوق صدري بذراعين كأنهما كلاب من حديد. ثم ساقوني إلى المخفر. - وهل أصيب أحد بأذى من القنبلة؟ - كلا؛ لأن القنبلة لم تنفجر. - إذن أنت متهم برمي القنبلة؟ - كلا البتة. بل قالوا لي: إنهم قبضوا على رامي القنبلة. - إذن لماذا قبضوا عليك؟ - لأني هربت خوفا من القنبلة ومن عواقب المسألة. قلت لهم كذلك فقالوا: بل هربت؛ لأنك شريك رامي القنبلة ولك شركاء. فأقسمت لهم بكل إله ونبي أني لا أعرف رامي القنبلة ولا رأيته. ولكنهم أصروا على أني شريك الجاني وأن لنا شركاء. - قل لهم عن شركائك. - عمن أقول؟ ومن أظلم؟ وأي شخص أساء إلي حتى أرميه بهذ المصيبة. لا يا سيدي، لا أريد أن أظلم أحدا. - خفف من غمك يا صاح، إن الدنيا مملوءة مصائب ومظالم. - أظن حضرتك مثلي متهم بريء. - بل أنا مجرم وما أنكرت جرمي. أنا رامي القنبلة الذي قبضوا عليه متلبسا بالجريمة. - ويحك! إذن ... بربك قل لهم إنك لا تعرفني ولا علاقة لك بي. هل تقابلنا يا سيدي غير اليوم! بربك خلصني بكلمة أنا مظلوم. - أعدك أني أقول إن كانوا يصدقون. - أحمد الله أني وجدت رفيقا في هذا السجن أستأنس به. لقد قضيت أياما وحدي في سجن آخر فكدت أجن من العزلة. - من أي بلد أنت؟ - من أزمير. - وماذا تشتغل فيها؟ - أستاذ في المدرسة العليا، أدرس الطبيعة والرياضيات. ولي كتاب في كل منهما. - إذن كان يجب أن تكون طويل البال؛ لأن حرفة التعليم تعود المرء على طول البال والصبر. - إني يا سيدي طويل البال، إلا في السجن.
وما انقضى يوم حتى ائتلف السجينان واستأنسا، وشعر السجين الثاني الدخيل أن رفيقه ليس ضعيفا إنما هو ذو عواطف رقيقة يتأثر لأقل شيء. فقد استشف من أحاديثه أنه على ذكاء وعلم وأخلاق. وفي خلال الحديث سأله: إلى الآن لم تشرفني باسم حضرتك أيها الزميل. - هذا ما يريد المستنطق أن يعرفه. - هل حضرتك من أزمير أيضا؟ - وهذا ما يود المستنطق أن يفهمه أيضا. - عجبا! وماذا يصير لو أخبرتني اسمك وبلدك و... - كل هذا يدفع ثمنه المستنطق غاليا. - يا أخي نحن صديقان. - المستنطق أقدم عهدا بصداقتي منك. فقد اجتمع بي إلى الآن عشر مرات. وأما أنت فمنذ أمس فقط. - إذا كان يضرك أن تقول اسمك وبلدك وحرفتك فلا تقل؛ لأن معرفة هذه الأمور لا تزيدني اعتبارا لشخصك. فقد فهمتك ذا نبل. ولعل لك عذرا فيما فعلت.
فبقي السجين الأول ساكتا. ثم قال الثاني: يلوح لي أنك شاعر أو تحب الشعر، لأني أراك تزج في حديثك أشعارا. - لا أنظم الشعر وإنما أحبه. - أظنك عاشقا. - ومن لا يعشق؟ أما عشقت أنت؟ - أنا الآن عاشق. وما صعب علي إلا أن عشيقتي تندب حظي الآن. آه لا أود الحياة إلا لأجلها! - يلوح لي أنك لم تتلوع في الحب قبل الآن. - كيف يكون التلوع في الحب؟ - اعني أنك لم تقع في حب خليلة كانت تتيه عليك أو أعرضت عنك أو خانتك مثلا؟
فتنهد الثاني وقال: لا. - إذن لماذا تتنهد؟ - لأني وقعت في حب حبيبة تحول حبي لها إلى بغض.
فقال الأول: أظنها خانتك. - لا أقدر أن أقول: إنها خانت. - إذن لم تكن تحبك. - كلا بل كانت تحبني. - إذن أنت ظالم. وإلا فما علتها؟
فتنهد الثاني وقال: تغلبت طاعة أبويها على حبها لي. مع أن الحب يجب أن يكون فوق كل سلطان. - صدقت. أظنها تزوجت سواك.
وترقرق الدمع في عيني السجين الثاني، وقال وهو يغص في القول: لا. لا.
فقال الأول: إذن بقيت محافظة على عهدك. - لا أدري. دعني من هذا الحديث.
وشعر السجين الأول أن ضيفه الجديد أصبح شديد التأثر. فأحجم عن تساؤله. وأمهله ريثما ملك روعه وقال: أظنك تعني حبيبة غير حبيبتك الحالية. - نعم. نعم. - يظهر أنك تحب تلك أكثر من هذه. - كنت أحبها حبا شديدا، لم يذق أحد حبا مثله. والآن أكرهها. - عذرا وعفوا. ألعلها عالية المقام جدا حتى حال أبواها بينكما؟ - لك أن تقول: إنها ملكة. - يالله! كل حبيبة لعاشقها ملكة.
لا لا. إنها لفي مقام ملكة. فهل عشقت في حياتك ملكة لكي تدرك قيمة حبي؟
فتمطى السجين الأول كأن أعصابه تتشنج، ثم قال: إنك يا هذا تثير في شجونا كانت آخذة بالسكون.
فقال الثاني: تعني أنك عشقت ملكة؟
فقال الأول متململا: أجل، عشقت عشيقة كنت أجهل أنها شبه ملكة. فلما بدأت أكتشف حقيقتها أفلتت من يدي.
كنت كآدم في الجنة. فلما أكلت من شجرة معرفة الخير والشر طردني الله من الفردوس.
فقال الثاني راثيا: الحق أن مصيبتك أعظم من مصيبتي. فماذا فعلت؟ - لا تسل. كدت أجن، بل جننت. آه، إن قصتي قصة يا صاحبي. تؤرخ كتاريخ.
فقال الثاني: يا أخي، لكل إنسان قصص. - لا لا. مثل قصتي لم يحدث. - وأنا أقول لك قصتي وانظر.
فقال الأول يريد اختصار الحديث: تريد أن تقول لي إنك أحببت بنت ملك أو بنت أمير أو بنت ذات مثلا، وهي لحداثة سنها أظهرت لك الحب ثم لما كبرت شعرت أنها أخطأت فأعرضت؟
فقال الثاني: لا لا. بل لما شعر أهلها بحبنا زجروها وبقيت تحبني. أليست هذه قصة أليمة؟
فقال الأول متبجحا: لا لا. هذه حادثة بسيطة تحدث كل يوم. أما حكايتي أنا فلا مثيل لها. فاسمع واعتبر.
فاشرأب عنق الثاني وقال: ها أنا سامع.
فقال أول: كنت في مدينة عظيمة. - في استمبول؟ - لا لا. دع هذا التحقيق. لا أود أن أقول أين. كنت في مدينة عظيمة وتعرفت بمرأة جميلة الصوت وبارعة في فن الموسيقى. وكانت تدرس الغناء والبيانو في المنازل. وقد أعجب معارفها بآدابها ونبالة أخلاقها وسمو مبادئها. وما مضى على تعارفنا برهة حتى وقعنا كلانا فريسة للحب. وأما أنا فشعرت أن حياتي هي حب هذه المرأة. فإذا قتل هذا الحب ضاعت الحياة.
فتبسم السجين الثاني وقال: يا أخي كل حب حقيقي هكذا يكون.
فتمرمر السجين الأول وقال ساخطا: سمعا يا سيدي سمعا. رضيت مني كل شيء، ولبت كل طلب إلا الزواج. فاستغربت أمرها؛ لأن الزواج كان من مصلحتها. وكانت في أصبعي مثل الخاتم في الخنصر. انتقلت بها من بلد إلى بلد ومن حي إلى آخر، ومنعتها من تعليم البيانو، فطاوعتني. وقد رجوتها بكل جوارحي أن نتزوج حتى أضمن بقاءها لي، فذهب كل رجاء كالهباء. - لعلها كانت مرتبطة بسواك. - لو كانت كذلك لما تجاسرت أن تستسلم لي كالنعجة، بل كانت تؤكد لي أنها غير مقيدة مع أحد. في ذات يوم وقع في يدي خطاب وارد لها كان في درج المكتب نسيته خطأ. فكان فضولا مني أن أفتحه وأقرأه، فدهشت؛ إذ هو مبدوء هكذا: حضرة صاحبة السمو الدوقة فلانة الفلانية.
وبعد ذلك خطاب من مرأة كانت خادمة لها، تقول لها إنها تود مقابلتها لأمر. ثم دخلت ورأتني أقرأ الخطاب. فاستاءت جدا؛ لأني اطلعت على الخطاب. وبالغت بالاعتذار لها. ولكن الاعتذار لم يجد؛ لأن اطلاعي على الخطاب كان كاشفا لسرها، ولم يعد ممكنا إخفاء السر عني. منذ ذلك الحين فهمت لماذا لم تشأ أن تتزوجني؟ أجازت لنفسها أن تعيش كسائر الناس وهي في الظاهر من عامة الناس، وإنما حسبت حساب أن تعرف بعدئذ دوقة أو أن تود أن تعود إلى طبقة الأريستوقراط. فرامت أن تبقى مطلقة الحرية.
وكان السجين الثاني قد سمع منصتا مستغربا، فقال: يا عزيزي عفوا، لقد كنت فضوليا في أن تقرأ خطابا لها وهي ليست زوجتك.
فلطم السجين الأول خديه، وقال: أي نعم، كنت فضوليا، وقد كلفني هذا الفضول كل سعادتي. في اليوم التالي اختفت من الوجود. بحثت عنها فلم أجدها لا في سماء ولا في أرض. - يالله! كيف استطاعت أن تختفي عنك؟ أين الحب؟ أين الدهاء؟ أما استطاع فؤادك أن يطير وراءها حيثما كانت؟
فتنهد السجين الأول - رامي القنبلة - ملء صدره، وأن وقال: أجل، طار قلبي شعاعا. طفت المدينة العظيمة كلها. ثم انتقلت إلى مدن أخرى. ولكن هل إذا طفت العالم كله باحثا عنها أجدها؟ هذا شبه المستحيل. فوكلت أمري للقدر والقدر خدمني.
فاشرأب السجين الثاني قائلا: وجدتها؟ - حلمك. دخلت ذات يوم إلى ملعب كبير فخم أنيق، بغية أن أسري عن نفسي؛ لأني كدت أذوب غما. وفي الفصل الثاني ظهرت على المسرح امرأة آية في الجمال والأبهة، وجعلت تغني غناء شجيا. فحدثتني نفسي أن تكون هذه المرأة دوقتي. الملامح ملامحها بيد أنها ازدادت أبهة وجمالا. والعينان عيناها بيد أنهما أشد بريقا. والقامة قامتها على أنها أرق خصرا. وما غالطت نفسي قط؛ لأن الصوت صوتها وقد ازداد شجوا. لم يبق عندي ريب في أنها هي. فطار لبي شعاعا وهاج قلبي خفوقا، وخفت أن يستخفني الطيش فأثب إلى المسرح؛ لأني لم أكن بعيدا عنه. ما صدقت أن انتهى الفصل حتى خرجت وقصدت توا إلى جناح الممثلين في الملعب، وطلبت مقابلة «كوكب المسرح» مقدما بطاقتي. فقال حارس الباب: إنها لا تقبل زوارا هنا بتاتا. فقلت: لا بأس أعطها هذه البطاقة وانظر ماذا تقول؟
فعاد بالبطاقة وقال: إنها لا تقبل بطاقات.
فقال السجين الثاني: ألا تشعر أنك أخطأت بتقديم بطاقتك لها وهي نافرة منك؟ أما كان يجب أن تباغتها مباغتة في منزلها مثلا؟ - نعم. نعم. كذا كان يجب أن أفعل. وقد ندمت بعدئذ على تسرعي هذا. سألت عن منزلها فأنكر الحارس أنه يعرفه. فصبرت حتى انتهى التمثيل وترصدتها عند باب الجناح الخلفي في أوتوموبيل. فإذا بها خارجة يختصرها شخص، فهمت حينئذ أنه من العظماء؛ لأن الذين كانوا وقوفا هناك أعظموا قدره في التحية. فاعترضت في طريقهما لكي أكلمها، فانتهرني ذلك الرجل العظيم قائلا: «يا لقلة الذوق والأدب!» فخجلت وارتددت وأنا أقول بصوت خافت تسمعه هي: أهكذا تعاملين فلانا يا فلانة؟ - وماذا بدا منها حين رأتك أو سمعت كلامك؟ - تصرفت كأنها تجهلني بتاتا. فذبت غيظا ووجدا. وركبت أتوموبيلا مع ذلك الرجل العظيم. فتبعتهما في أوتوموبيلي وراءهما إلى أن وقف أوتوموبيلهما لدى قصر فخم، فحسبته قصر ذلك العظيم. ولكن لما دخلا فيه ترجلت من أوتوموبيلي وسألت البواب عن صاحب القصر، فقال: هذا قصر الممثلة فلانة. فاستغربت ذلك كل الاستغراب، وقدمت بطاقتي للبواب وطلبت إليه أن يقدمه لها في الحال؛ لأني أود أن أقابلها لأمر ذي شأن.
فعاد البواب بالبطاقة يقول: إنها لا تقابل أحدا قط. فكدت أجن من شدة الغيظ. وعدت أفكر ماذا أفعل لكي أحصل على لقاء بها؟ ففي تلك الليلة كتبت كتابا مسهبا لها أشرح فيه ما قاسيته من العذاب لهجرانها. وبالغت في الاستغفار منها والاعتذار عن فضولي، وفي الاستعطاف والتذلل والترجي والتمني والتوسل، إلى غير ذلك مما يمكن أن يحرك قلب المعشوقة عطفا على العاشق. وفي صباح اليوم التالي أخذت هذه الرسالة وأعطيتها لبواب القصر لكي يقدمها لها. فما لبث أن عاد وردها لي مختومة كما أخذها وقال: إنها رفضت قبولها ولا تريد أن تأتي ثانية. ثم قال البواب من نفسه: أرجو يا هذا ألا تعود ثانية إلى هنا؛ لأني لن أدخل بطاقتك ولا رسالتك إليها لكيلا أسمع كلاما باردا كما سمعت الآن.
ثم أرسلت الرسالة في البريد مسجلة. وصرت أحضر التمثيل وأنا أتقلى على مثل الجمر. وكلما ظهرت في المسرح وغنت كانت تهيج كل بلابلي. ومتى خرجت أتبعها إلى دراها والبواب يزجرني قائلا: حاذر أن تدنو من هنا. فبقيت أحوم حول ذلك القصر وأنا أستغرب كيف أنها تعيش في قصر عظيم كهذا؟ فمن أين لها المال حتى تدفع أجرته وتفرشه وتنفق هذه النفقات الوافرة؟ هل تكسب ما يوازي هذه النفقة؟ وهل ينفق عليها هذا العظيم الذي يرافقها إلى منزلها؟ بيد أني فهمت أنه ليس غنيا كثيرا. وبقيت بعد ذلك أسبوعين على هذا الحال: أحضر التمثيل في الملعب، ثم أتبعها إلى منزلها، وأحوم حول قصرها حتى يتولاني الكلال والملال، فأعود حزينا وأكتب لها متضرعا فلا تجيب. ثم كتبت لها ذات يوم مهددا أن أفعل كل منكر إذا لم تسمح بمقابلتي. فأوعزت للبواب أن يسمح لي بالدخول، فدخلت إلى مجلسها فإذا عندها رجل. فقالت: إلى متى هذا الجنون؟ ما هذه الخطابات التي ترسلها إلي؟ وما هذه الحكايات التي تلفقها؟ متى عرفتك ومتى التقيت بك؟
فقلت لها: إن الذين يعرفوننا معا كثيرون يا فلانة، فأستغرب أن تتجاسري على الإنكار.
فسخطت بي قائلة: أين هم الذين يعرفونني ويعرفون أني أعرفك؟ لا أعرف شيئا من هذه الأسماء التي تذكرها والمحلات التي تشير إليها في رسائلك هذه. لعلك تعني امرأة أخرى غيري!
فتململت وقلت لها: لا بأس يا سيدتي، إذا شئت فنرجئ الحساب والعقاب إلى حين آخر. وقصدت بذلك أن يكون اجتماعنا وحدنا وليس معنا غريب. فقالت: بل الآن أود أن أصفي هذا الحساب الثقيل. فإما أنك يا هذا غلطان تعني امرأة أخرى غيري تشبهني، أو أنك مجنون. وأنا غير مسئولة عن عواقب جنونك أو أخطائك. فإن كنت تحرك أقل ساكن بعد الآن فثق أني أقدم كل هذه الرسائل التي أرسلتها لي إلى المدعي العمومي وأقاضيك. إني أحفظها لهذا القصد. تفضل يا سمو الأمير اقرأ رسائل هذا الأحمق واحكم!
وناولت الرسائل كلها إلى ذلك الضيف لكي يقرأها. فذبت خجلا وكدت أغالط نفسي.
فقال الثاني: لا ريب أنك غلطان؛ لأن الناس يتشابهون كثيرا. فلطالما حدثت مثل هذه الأغلاط بسبب المشابهة. - مستحيل أفندم، مستحيل. غالطت نفسي فلم تقبل المغالطة: المرأة التي عشت معها أكثر من عامين وكانت كل دقيقة من دقائق ملامحها، وكل نبرة من نبرات صوتها، وكل حركة من حركاتها مطبوعة في أعماق ذاكرتي، يستحيل أن أضل عنها. هي هي بعينها، فما أنا سكران ولا مجنون. وإنما هي رامت أن تنكر شخصيتها السابقة بتاتا.
فقال الثاني: يلوح لي أن قلبها تغير عليك. - نعم نعم. وثقت حينئذ أنها لم تعد تحبني ذلك الحب. - لعل نسق المعيشة الجديدة الذي حصلت عليه كان السبب. - نعم، إني لا أستطيع أن أجعلها في مثل ذلك البذخ ولا في مثل ربعه. ولكنها لما فارقتني لم تكن تحلم بمثل هذا البذخ. ولا أعتقد أن الحب تؤثر عليه ...
فقاطعه الثاني قائلا: آ ... يا ... يظهر يا صاحبي أنك قليل الخبرة أو جديد في عشرة النساء. إن البذخ والترف عند المرأة فوق الحب، بل هما غذاء الحب لها. - لا أدري يا أخي لا أدري. آه! لا تقدر أن تتصور ماذا كان تأثير هذا الجفاء الهائل علي. شعرت أنها لم تعد تحبني، وأن الاستعطاف لا يلين قلبها. فصرت أتمنى علاجا ناجعا لشفائي من حبي. فماذا تفعل لو كنت مكاني؟
فتمايل الثاني في مجلسه قليلا، ثم قال: أنا مكانك أبغضها إلى حد الحقد وأنتقم منها شر نقمة. أقل ما أفعله أني أفرغ رصاصة في صدرها.
فهز الأول رأسه وقال: إذن أنت لست من طائفة العشاق، بل من طائفة محبي النفس القساة. لقد لاح لتلك المرأة أني قد أنتقم منها فأغدر بها فأقامت حراسا لها. فكتبت لها كتابا يلين الحجر لو يحب، وقلت لها فيه: إني أحبك إلى حد أن أضحي بنفسي لأجلك، فإذا علمت يوما أني انتحرت فثقي أني لم أجد علاجا لمرض حبي غير الانتحار.
فقال الثاني: حقا إن الناس أصناف في الحب. أنا لا أستطيع أن أفعل هكذا مهما عظم حبي واشتد وجدي. إذا عظم الأمر أقتلها وأقتل نفسي على الأثر.
فتنهد الثاني ملء صدره، ثم سكت كمن يأخذ هدنة.
الفصل الثاني عشر
جنية البحر
ودام السكوت نحو عشر دقائق كأن السجين الأول لم يعد يستطيع الكلام لشدة تأثره. وأما السجين الثاني الذي لا يطيق الصبر على قصة مبتورة فقال: ما فهمنا كيف انتهت المسألة؟
فتنهد الأول وقال: لا تسل كيف انتهت المسألة، بل كيف ابتدأت؟ جئت أستشفي من حب فوقعت في حب آخر. بل قل: جئت أموت في الحب فولدت ثانية. كأن الحب لا يعتقني من عبوديتي له.
فاعتدل الثاني في مكانه وقال: إن حكايتك لذيذة جدا يا صاحبي. فهات أخبرني ما هو الحب الآخر؟ يظهر أنك موجود في جو مشبع بالحب. - نعم. لقد أصبحت أعتقد أن الأرواح تتقمص مرتقية. فقد انتقلت من عالم حب عادي إلى عالم حب أرقى. فاسمع الحكاية الثانية وادهش واستغرب. - هات. لقد كدت أستلذ السجن معك يا صاحبي. ليتهم يبقوننا معا في سجن واحد. هات قل لي يا أمير العشاق!
فاعتدل الأول وقال: بعد ذلك الخطاب الأخير انتظرت منها كلمة عطف فلم ترد على خطابي. فعدت إلى الملعب وحاولت أن أسترق نظرة منها لي فما استطعت. انتظرت خارج الملعب عسى أن تشير إشارة عطف فخاب المؤمل أيضا. ومضت في أوتوموبيلها مع رجل عظيم فذبت وجدا وعدت إلى منزلي في منتهى اليأس وشعرت أن منزلي لا يسعني. بل شعرت أن العالم كله ضاق بي. خرجت من المنزل الساعة الثانية بعد نصف الليل وأنا أتخيلها إلى جنب ذلك العظيم في الأتوموبيل، فخيل لي أن السماء أطبقت على الأرض.
تمشيت على غير هدى كمن يهرب من لهيب حريقة، فإذا بي أشعر أن اللهيب في بدني. أريد إطفاء هذا اللهيب. ما وجدت نفسي إلا على شاطئ البحر. فخطر لي أن أطلب فرجا من هذا الكرب عند نبتون إله البحر، وأن ألتمس مطفئا لهذا اللهيب في اللجة. أي نعم، أي نعم. البحر خير مدفن للقلوب الملوعة. لعل عشرة جنيات البحر تلطف هذا الهياج الغرامي! ولعل رقصهن يسلي الفؤاد فيهدئ روعه. أي نعم إلى عشرة جنيات البحر!
ما زلت أتمشى على الشاطئ إلى أن بلغت إلى بعض الصخور حيث المياه عميقة عند الشاطئ، فقلت: لا ريب أن هنا مرتع جنيات البحر. إليك أيتها الجنيات التي كنت معبودة أسيا الصغرى. إليك قربانا على مذبحك. كلي جسده وسري روحه.
وما ترددت في أن ألقيت بنفسي إلى الماء الذي يصادم تلك الصخور. ما أزعجني حينئذ سوى برد الماء إذ كان الفصل فصل برد. على أني ما لبثت أن أحسست بشيء يتخبط أمامي وقد صدمني صدمة خفيفة. فارتددت مذعورا. فما ارتددت حتى رأيت الاختباط قد ازداد أمامي. ثم ظهر شبه رأس من وراء الموجة، فقلت لنفسي مرتعبا: لقد صح ما ظننته خرافة تاريخية. هذه جنية البحر.
عند ذلك حدث الاختباط ثالثة، فإذا بي أرى مثل ملابس تخفق مع الموجة على بدن. الله! ما هذا؟ ظهر القمر قليلا من وراء الغيم، واتضح لي ما رأيت بعض الاتضاح، شبح في الماء، أهذه جنية البحر؟
لا أدري كيف أني شعرت بدافع يدفعني إلى هذا الشبح المختبط الذي يظهر لحظة ثم يغوص؟ فوثبت إليه. فإذا بي أقبض بكفي على كف. ثم شعرت بكف أخرى تقبض على ذراعي. وإذا بجسم كأجسام البشر قد ارتفع فكدت أغوص تحته. ثم سمعت مثل صرخة خافتة. الله أكبر! أهكذا تكون الجنيات؟! لماذا لا تخطفني إلى قعر اليم؟
ما عتمت أن انتفضت نفضة حتى أفلت من تينك الكفين وابتعدت. تالله، إن الجنية في ضيق. وثبت وثبة أخرى نحوها وقبضت على ذراعها وقذفت بنفسي قذفة شديدة إلى جهة الصخور. فإذا البدن يرتفع قليلا كأن العمق أقل. ثم جذبت الذراع قليلا ووثبت وثبة أخرى نحو الصخور، وأمسكت بنتوء فيها وجذبت نفسي إليه حتى اقتربت بذلك البدن إليه. ثم تمكنت من الصعود إلى ذلك الصخر وأصعدت ذلك البدن، فإذا هو بدن امرأة. يالله! هل جنيات البحر كالبشر؟ وهذه الملابس المبتلة، إنها من نسيج البشر. غريب! أصعدت الجنية إلى الصخر تماما وهي واهية القوى لا تكاد تستطيع حراكا. وإنما استغربت أمرا وهو أني رأيت سلسلة تقيد القدمين ومعها قطعة من الحديد مرتبطة بالسلسلة. الله، ما هي جنية! إن هي إلا بشر كريم.
وكان الثاني يسمع مبهوتا، فاختلج وقال: امرأة هي؟ لا ريب أنها مرأة. - نعم، إنها مرأة بنت حواء. وأول ما خطر لي حينئذ أنها أغرقت نفسها عمدا وكان الحديد والسلسة لأجل تثقيلها حتى لا تعوم. والظاهر أنها كانت تنتفض في القعر فتظهر فوق الموج. ثم تغوص. فأسرعت ورفعت ساقيها إلى فوق وأفرغت ما دخل من الماء إلى صدرها، واجتهدت في الحال بإعادة التنفس إليها.
عاد التنفس في الحال. وجعلت أدلك صدرها حتى أرد لها شيئا من الحرارة. فتحركت ثم جلست. فقلت لها: يجب أن نذهب حالا من هنا.
فما أجابت بكلمة قط، وإنما شعرت أنها لا تسطيع النهوض. فما ترددت أن احتملتها على منكبي ومشيت بها وأنا لا أحسب حسابا للعواقب. في وقت قصير جدا وصلت إلى بيتي. ليس عندي أحد في البيت. دخلت إليه بها، وألقيتها على المقعد ونزعت بعض ملابسها، وألقيت عليها لحافا وحراما من الصوف، ثم أوقدت النار، وجئتها بكأس من الكنياك ممزوج بالماء، وكنت أجرعها كل هنيهة جرعة، وأفرك يديها وذراعيها وقدميها، حتى دفئت قليلا وصارت تستطيع أن تتحرك. فجئتها بدثار من الصوف وبقميص من الفلانلا وألقيتهما إلى جنبها، وقلت لها: قومي إني أتركك وحدك هنا ريثما تبدلين ملابسك. فتركتها ودخلت إلى مخدعي وجعلت أبدل ملابسي المبتلة. إلى أن انتهيت. فكلمتها من وراء الباب فلم تجب. ففهمت أنها لا تزال في حالة ونى. فدخلت وكانت الغرفة قد دفئت جيدا، فجرعتها جرعة من الكنياك. وتأملت ذلك الوجه تحت النور فإذا بي أرى ملاكا. إذا قلت لك: إني كنت أرى وجه ملاك فلك أن تتصور ما تشاء من لطف الملائكة وأخلاقها. شعرت أن كل عواطفي الطيبة تجسمت في في تلك الساعة، وكل طبائعي الشريرة انتفت. أصبحت قديسا بكل معنى الكلمة. ركعت لديها وهي لا تزال في سباتها ولكنها تتنفس تنفسا طبيعيا مطمئنا. جثوت لديها وحدثتني نفسي أن أقبلها، فجزعت من هذه الفكرة وقلت : ويحك يا إنسان، لا تدنس طهارة الملائكة. فارتددت ثم قلت: أقبل يدها! كلا. لا فرق بين اليد والوجه. إذن أقبل رجلها! لا، لا. لا فرق بين الرجل واليد. فبقيت جاثيا أتأمل ذلك البهاء الغريب العجيب. ثم تنهدت وتململت وفتحت عينيها قليلا، وتنهدت ثم جعلت تبكي.
وكان الثاني يسمع مدهوشا وهو يترنح كل هنيهة بعد أخرى في مكانه ويختلج لكل كلمة يسمعها، فقال: ويحك يا هذا! هل أنت مختلق حكاية أو تروي حقيقة؟
فتمرمر الأول وقال: أبعد كل هذا الذي رويته لك تقول لي إني مختلق حكاية؟ قبحا لك، هل تحسبني مازحا في أقدس أخباري وحوادثي؟ - عفوا وعذرا يا صاحبي. إن ما تقوله غريب جدا، يكاد يتوهمه الإنسان رواية تخيلية.
فاستأنف الأول الكلام وقال: جعلت تبكي بكاء مرا، فقلت لها: ثقي يا سيدتي أنك في مكان أمين وفي منزل حصين، ليس منزلك أكثر تحصنا منه، وأنت فيه صاحبة الأمر والنهي المطلقين. فلا توجسي شرا.
فقالت بصوت خافت: ويلاه. أين أنا الآن؟
فأجبت: في منزل عبدك هذا. ومنذ هذه الدقيقة أصبح المنزل تحت أمرك وصاحبه خادمك الطائع، والمنزل أمين وليس أحد يعرف أنك هنا سواي.
فتململت وقالت: من جاء بي إلى هنا؟
فقلت: عبدك الجاثي أمامك. - لماذا جئت بي إلى هنا؟ - لم أعرف أين تريدين أن تذهبي يا سيدتي فكنت آخذك.
فظهر عليها التمرمر وقالت: ولكن لماذا جئت بي؟ لماذا؟ - مولاتي! ماذا كنت تنتظرين مني أن أفعل؟ - أين كنت أنت؟ - أنا كنت هناك أيضا. - ماذا كنت تفعل؟ - الأقدار ساقتني إلى هناك ثم وجدتك تتخبطين في الماء فانتشلتك.
فتأففت وقالت: من قال لك أن تنتشلني؟ - العواطف الإنسانية يا سيدتي.
فقالت متألمة: آه. ويلاه! ما الذي جاء بك في تلك الساعة إلى هناك؟
فاستغربت أمرها كل الاستغراب، وقلت لها: هل أسأت السلوك؟ - نعم. لقد تعرضت لما لا يعنيك.
فصحت: ويلي، ويلي! ما خطر لي أني أجني بهذا التعرض عليك يا سيدتي. فسامحيني! - يجب أن تردني إلى حيث وجدتني.
فانتفضت وقلت: ويلاه! أما أنت بشر ؟ - نعم، أنا امرأة من البشر وحرة فيما أفعل، وأريد أن أعيش في قعر البحر. لقد أسأت لي إساءة عظيمة يا هذا. يجب أن تدعني الآن حرة.
وحاولت أن تنهض فخانتها قوتها. فقلت لها: لا تقدرين أن تخرجي الآن.
فقالت ساخطة: شرعت تتعرض لحريتي منذ الآن. - كلا، لا أعارضك يا سيدتي. وإنما تمهلي ريثما تستطيعين الخروج. - أنت تأخذني كما جئت بي. - إني سأفعل يا سيدتي كما تقولين، وإنما أوشك الصبح أن يأتي فقد يصادفنا أحد فيسلمنا للبوليس.
فتململت وقالت: أف. أف! لقد أسأت إلي يا هذا إساءة عظيمة. والآن تقيم العقبات في سبيل عودتي. - أعترف أني أسأت إليك يا سيدتي وقد حدث الذنب. فأمهليني إلى الليلة التالية فأنفذ أمرك هذا حين لا خوف من أن يرانا أحد.
فتململت تململا شديدا وسكتت هنيهة، ثم قالت: ما الذي ذهب بك إلى تلك الصخور في وسط هذا الليل؟ - ذهب بي ما ذهب بك. - ماذا كنت تفعل هناك؟ - كنت أفعل مثلما كنت تفعلين. كنت أختبط مثلك في الماء مقدما نفسي قربانا لآلهة البحر أو جنياته. ثم اشتبهت بأن الشبح الذي يختبط بشر لا جن، فجاهدت حتى رفعتك إلى البر. فوجدت قدميك مثقلتين بحديدة وسلسلة. ففهمت أنهما مثقلان عمدا لكي تغرقي. وبالطبع أول ما لاح لي أن شخصا أو أشخاصا فعلوا كذلك بك عمدا لكي يغرقوك. - يالله! أما رأيت يدي مطلقتين. لو كان ذلك فعل آخرين يريدون أن يجنوا علي جناية لكان أقل ما يفعلونه أنهم يوثقونني جيدا ويثقلون جسمي.
فقلت: إذن أنت تتعمدين إغراق نفسك؟ - طبعا. - هل كان أحد هناك؟ - يستحيل أن يكون أحد غيري هناك؛ لأني قصدت إلى حيث لا يكون أحد. أين السلسة والحديد؟ - ما زالا على الصخور. - إذن دعني أذهب إلى هناك. - قلت لك يا سيدتي السبب في عدم صواب خروجك من هنا في آخر الليل. فأنت حرة. لا أستطيع أن أعارضك.
فسكتت هنيهة، ثم قالت: إذن رأيك أن أبقى هنا إلى الليلة الآتية، وهل تكتم كل شيء؟! - قلت لك: إني مأمورك الأمين.
وكانت قد انتعشت واستعادت جانبا من قوتها، وصار صوتها أفصح لفظا وجعلت مقلتاها تضطربان في وقبيهما، وبدأ يظهر شيء من اضطرابها وقلقلها.
ثم قالت: إذن قم وامض إلى الصخرة وعد بالسلسلة والحديد. لا أريد أن يعثر عليهما أحد. - حسنا. وإنما أرجو أن تعديني بألا تفارقي هذا المنزل في غيابي. - طبعا، لا أخرج منه. لقد اتفقنا على أن أؤجل رحلتي النهائية إلى البحر إلى منتصف الليلة القادمة. - حسنا. وأنا ذاهب معك الليلة القادمة. - لماذا؟ - لكي أنجز عملي. ويسرني أن أجد رفيقة تقدم نفسها معي قربانا لآلهة البحر. - حسنا. إذن أسرع الآن وعد بالسلسلة والحديدة، وأنا أنتظرك هنا وأكون ضيفتك غدا فقط. - في دقائق معدودة أعود. هنا جنبك قميص صوف ودثار وجوارب، وإن كنت تحتاجين إلى شيء آخر فقد تجدين في الغرفة الأخرى.
وخرجت وأوصدت الباب بالمفتاح وأنا خائف أن تمكر علي وتأتي بنفسها أمرا إدا. فأسرعت إلى الصخرة ثم عدت بالسلسلة والحديدة، وفي نحو 15 دقيقة كنت في البيت ثانية. فإذا هي قد خلعت ملابسها وتدثرت بالدثار الذي تركته لها، وجعلت تجفف ملابسها أمام الموقد. وكانت أمائر الأسى بادية على وجهها كأن غما مخيما فوق صدرها.
وكان السجين الثاني يسمع ويختلج حسب حوادث الحكاية، فقال: أما سألتها: من هي وما اسمها؟ وبنت من؟ ولماذا؟
فقال الأول متبرما: أو هل تظنها يا غبي تجيب على هذه الأسئلة؟ وما الفائدة من سؤال ليس له إلا جواب واحد وهو «ليس ذلك من شأنك» مثلا. ولذلك كنت أحاورها محاورة في الخطاب حتى أستخرج منها أسرارها باختيارها لا باضطرارها. فقلت لها: أظنك تأخذين الآن كأسا من اللبن.
وناولتها الكأس ثم قدتها بيدها إلى المقعد، وجلست على كرسي لديها وقلت: بعد قليل تأخذين إذا شئت كأسا أخرى مع صفار البيض فيشدد فؤادك.
فقالت: وما حاجة الراحل إلى جنيات البحر بالطعام البشري؟ - لكي تقويك في الطريق إلى البحر.
ثم تنبهت إلى أمر فسألتني: هل يكون خادمك هنا في النهار؟ - ثقي أني سأدفع له أجرته في الباب وأقول له : إني مسافر ولن أعود. - بل قل له أن يعود غدا. فلماذا تتركه؟ - أما اتفقنا على السفر معا إلى دار جنيات البحر؟ - لا لا. افتكرت أنه لا يليق بي أن ترى جثتي مع جثة شخص آخر، ولا سيما إذ لا علاقة لي بهذا الشخص. - صدقت. لا يليق. إذن أعدك أني أدعهم يرون جثتي في شاطئ آخر بعيد. - ولماذا تفرط بنفسك وما زلت في شرخ شبابك؟ - ولماذا أنت يا سيدتي تفرطين بشبابك وأنت في الدور الملائكي السامي؟
فتململت وقالت: هذه مسألة أرجو أن تتحاشاها. ثم هل تعرفني من قبل؟ - كلا يا سيدتي. وما زلت لا أعرفك. - حسنا. أود ألا تبحث عن هويتي بتاتا. - لا أبحث. ثقي أني لا أخالف لك أمرا. - في أي حي نحن الآن؟ - في حي كذا.
فقال الثاني على الفور: في أي حي منزلك؟
فقال الأول: هذا السؤال مثل قولك: ما اسمك ومنزلك وصفتك ... إلخ.
فقال الثاني: عذرا يا سيدي. لقد وقع مني هذا السؤال سهوا بسبب تسلسل الحديث. إن حكايتك يا سيدي مؤثرة، ثم ماذا؟ - فقالت: أخاف أن يعرف بي الجيران.
فقلت لها: لا أعرف أحدا منهم ولا يعرفني أحد. وإذا شئت فننتقل من هنا بعدئذ. - متى بعدئذ؟ في النهار لن أخرج من هنا. وفي الليل إلى الصخور.
فقلت: صدقت. لم يبق من العمر إلا يوم.
فقالت: ولكني مستغربة لماذا تريد أن تغرق نفسك؟ - عندي سبب يوجب الانتحار يا سيدتي. - أينتحر شاب مثلك مستقل حر يستطيع أن يفعل ما يشاء؟
فقلت متوسما حسن المستقبل: هل أستطيع أن أجبر شخصا على أن يحبني؟ - إذن قصتك قصة حب. - وهل ينتحر الرجل لغير الحب يا سيدتي. - ولماذا تجبر شخصا على حبك؟ - لأني أحبه. - ولماذا تحب من لا يحبك؟ - ليس هذا في اليد يا سيدتي. الحب سلطان لا يقدر أن يعصاه إنسان. - وهل إذا لم تحبك من تحبها تنتحر لأجلها؟ - لا. لست أنتحر لأجلها بل أنتحر لأني جربت كل علاج لكي أنساها أو أبغضها أو أشفى من حبها فلم أجد علاجا ناجعا غير الانتحار. - إذن ما زلت تحبها حتى الآن. - كلا يا سيدتي. بل بقيت أحبها إلى أن رميت بنفسي في البحر، ثم عدت منه فإذا بي شفيت من حبها. - حسنا. إذن لماذا تزمع أن تغرق نفسك الليلة القادمة في البحر؟ - لأني أصبت بحب آخر أصعب من الحب الأول.
فأغضت نظرها وابتسمت، ثم قالت: هذه مداعبة في الحديث يا صاح.
فقلت لها: أقسم بالله العلي العظيم إني مغرق نفسي في البحر الليلة القادمة إذا كنت أنت ترمين بنفسك فيه.
فقالت: تظلم نفسك بلا سبب. لا أعرفك ولا تعرفني. فلا شأن لك بي. - لست أدعي أن لي بك شأنا يا سيدتي. إن تعرضت لك بأمر كان لك علي حق المجني عليه على الجاني. - إذن لماذا تنتحر إذا أنا انتحرت؟ - ألست حرا يا سيدتي بحياتي؟
فسكتت برهة. ثم قالت: هل كانت حبيبتك تعلم أنك تنتحر بسببها؟ - نعم. - عجبا. ولماذا لم تحبك؟ - لسبب ليس مني ... دعينا من ذكر الأسباب. أحمد الله أني شفيت من حبها. •••
انقضى الليل وجاء الصباح، وضيفتي انتعشت تماما واهتمت بطعامها اللطيف، وبذلت جهدي في تلطيف ثورتها النفسية ما استطعت إذ كان قلقها عظيما واضطرابها شديدا. حاولت أن أتحقق ما بها فلم أستطع أن أفهم شيئا. تحايلت عليها حتى أعلم من هي فلم تبح بشيء عن شخصيتها. وإنما ظواهرها تدل على أنها ذات نبل وأدب وعلم أيضا. لم يوجد معها شيء يدل على شخصيتها أو منزلتها سوى خاتم في إصبعها ثمين وسوارين نفيسين. ملابسها اعتيادية الزي وإنما هي ثمينة المادة. حيرني أمرها.
فقال الثاني: كم عمرها بالتقريب؟ - شابة وأرجح أنها عذراء. وقد قضت كل النهار وهي تتضجر لطوله. وكانت تسخط كلما لاح في بالها أنها لم تنته من مهمتها أمس. وأخيرا قلت: لماذا تخسرين حياتك يا سيدتي مجانا؟ ومهما كان من تبذلين حياتك بأجله عظيما فحياتك أثمن. ومهما كان السبب الذي حملك على الانتحار قويا عظيما فيمكنك أن تتحايديه.
فحاولت الابتسام في إبان غمها وقالت: عجبا! لماذا لم تقل لنفسك هذا القول ؟ - أقول لك الحق، لقد كنت على ضلال وقد عدت إلى رشدي الآن. لقد كان الحب قبلا يزين لي أن حياتي قد أصبحت عبئا على نفسي وأني ما دمت حيا فأنا معذب بسبب هذا الحب. أما الآن فصرت أرى أن الحب مهما كان عذابا فهو عذب ومهما كان شقاء فهو سعادة. فلذلك صرت أود أن أعيش لأشقى بالحب.
فتململت وقالت: إن مسألتي تختلف عن مسألتك يا سيدي. إن حياتي أصبحت مرة لخلوها من الحب. - غيري مجرى حياتك وحوليها إلى مجرى الحب وعيشي سعيدة، إذ لا سعادة إلا بالحب.
فانتفضت وجعلت تنتحب وتقول: يستحيل. يستحيل! هل تظنني أعود إلى قومي وناسي وأعيش سعيدة بعد هذه الغيبة الوحيدة التي غبتها عنهم في كل حياتي. آه، لا أدري ماذا هم فاعلون الآن؟ لا ريب أنهم أقاموا الدنيا وأقعدوها بالبحث عني آه، متي ينتهي هذا النهار وأفارق هذه الحياة فلا أعود أشعر ولا أعلم بما يكون بعدي؟
وهنا شعرت أني قد ملكت ناصية الأمل، فقلت لها: لكل كربة فرج، ولكل أزمة حل يا سيدتي. وأزمتك سهلة الحل جدا.
فنظرت في نظرة المتضرع، كأنها تؤمل أن تجد فرجا لكربها في رأيي، وقالت: كيف؟
فقلت: إنك يا سيدتي حاولت الانتحار لكي تهربي من مصيبة أو أزمة أو شقاء، وصرت تستصعبين أن تعودي لقومك وأهلك. - نعم، فقد اشتدت أزمتي بعد أن حلت أنت دون انتحاري. - لا أنكر ذلك، وأشعر باشتداد أزمتك. فأنت قد فارقت أهلك خلسة لكي تنتحري، فاعتبري أن الانتحار قد تم وأنك غرقت، ولم تعودي أنت فلانة بنت فلان، بل أنت شخص آخر. أنكري شخصيتك القديمة وانتحلي شخصية جديدة، كما فعلت صديقتي التي حملني جفاؤها على الانتحار.
فأمسكت عنان نفسها وكفت عن البكاء، وقالت كأنها ترعوي: لكن الذين يعرفونني إذا رأوني. - تقدرين أن تعيشي في جهة لا يعرفك فيها أحد. وتغيرين كل شيء في أزيائك. اجعلي النقاب كثيفا قليلا، شعرك فاتح فأكثري سواده أو اجعليه ذهبيا. على أنك لا تضطرين أن تفعلي شيئا من كل هذا إذا عشت بعيدة عن قومك.
وكانت تسمع الكلام مفكرة كأن الفكرة وجدت في ضميرها اقتناعا. ثم قالت: ولكن أهلي يظلون يبحثون عني؛ لأنهم لا يجدون لي جثة لكي يقتنعوا أني انتحرت.
فقلت: أوهو ... هذه مسألة بسيطة جدا جدا. ندعهم يعثرون عند الصخور على ملابسك وعلى السلسلة والحديد المثقل لبدنك. وإذا وجدوا الملابس ممزقة قالوا أن حوتا أخذ جثتها وأكلها وبقيت بقايا ملابسها.
فقالت على الفور: فكرة حسنة، ولكن ... وتوقفت عن الكلام، فاستأنفت أنا قائلا: إذن في منتصف الليل آخذ ملابسك وأمزقها بعض التمزيق، والسلسلة والحديد وأبعثرها كلها في البحر على بعد من تلك الصخور. من تاريخ الغد تصبحين في يقين ذويك ومعارفك فريسة الجنيات وروحك في الأبدية. وأما أنت كما أراك الآن فتصبحين شخصا جديدا باسم جديد وحياة جديدة. وتعودين إلى الحياة البشرية حرة تفعلين ما تشائين. فقد تجدين السعادة التي تنشدينها. لماذا تموتين مجانا بلا ثمن وليس من يحسب هذه التضحية لك؟
ففكرت هنية ثم قالت: ويحك يا هذا! إنك تقترح علي مشروعا هائلا يحتاج إلى عصب أقوى من أعصابي، بل إلى قلب أقوى من قلبي.
فبادرتها بالرد حالا قائلا: لا تنسي يا سيدتي أني وضعت نفسي تحت سلطانك بلا مكافأة ولا تمنين. فما يحتاجه مشروعك هذا من الأعمال الرجلية أسر بأن أعمله ولا أقبل أي ثمن له. فلك أن تختاري المنزل الذي تريدينه وأنا أقوم بجميع النفقات.
فصاحت: يستحيل. يستحيل. لا أسكن مع رجل ولا مع أحد قط. - حلمك يا سيدتي. لست أقول: إنك تسكنين معي أو مع غيري. تسكنين وحدك وتنفقين من يدك.
فقالت: شكرا لهذه العواطف، ولكني لا أدري لماذا تفعل هذه المكرمة مجانا؟ - لست أفعلها مجانا يا سيدتي. إن لذتي بمجرد فعلها وحده خير مكافأة لي.
فقال السجين الثاني: لله درك من داهية في سياسة الحب!
فقال الأول: بالطبع يا صاح. لا أقدر أن أكسب فتاة طاهرة كهذه ما لم أكسب قلبها أولا. ولا أقدر أن أكسب قلبها إلا من طريق التضحية لأجلها. بعد مناقشة طويلة بهذا الموضوع سلمت بتنفيذه كما اقترحته. وفي منتصف الليل كنت في البحر عند الصخور أسبح مبعثرا بعض ملابسها الممزقة هنا وهنالك. ثم عدت بسلام معتقدا أني قد ملكت ذلك الملاك الطاهر. وفي اليوم التالي استأجرت لها منزلا صغيرا في مكان بعيد عن الشبهة، وأخذتها إليه في السهرة، وهي ادعت لمن يراني أتردد إليها أني أخوها. ومنذ ذلك الحين هي صارت شخصا جديدا وأنا صرت شخصا جديدا أيضا.
فقال الثاني، مهتما بالتساؤل: وماذا كان من أمر أهلها؟ أما عرفت؟ أما قرأت في الجرائد؟ - لم أعرف شيئا ولم أقرأ شيئا؛ لأني كنت كل الوقت منهمكا بتدبير أمورها.
فقال الثاني وهو قلق، كأنه يريد أن يعرف النتيجة: وفزت أخيرا بحبها إذن؟ - نعم، شرعت أكسب رضاءها؛ لأنها وطنت النفس على أن تعيش متناسية ذويها ومجددة حياتها، وصارت عشرتها أنيسة أكثر من الأول.
فقال الثاني ملحاحا: إذن ظفرت أخيرا بقلبها، هل أحبتك؟ - صه يا هذا. لما أوشكت أن أنال عطفها ورضاها حدث هذا الحادث المشئوم الذي قذف بي إلى السجن.
فتنهد الثاني وقال متلعثما: إذن لم تساكنها. - لا، بقيت بعيدا عنها أزورها في المواعيد التي عينتها لي في عصارى النهار. وأحيانا كنت أخرج معها مساء لنزهة ثم نعود في أول السهرة، فأودعها عند الباب وداع الأخ للأخت وأعود.
فقال الثاني وصوته يتهدج قليلا: إذن لقد كنت كالأخ الأمين لها. كسبت محبة الأخت منها ليس أكثر. - بل كدت أكسب محبة العشيقة لولا هذه المحنة. بل أقدر أن أقول: إني كسبت محبتها تماما ولكن ...
وهنا أجهش السجين الأول وقال: آه. لا أدري كيف حالها الآن؟ لقد تركتها وليس معها إلا نفقة شهر، وهي ممن يقلقون للمستقبل. - قلت: معها خاتم وسوارين فتستعين بهما. - أظنها لا تجسر أن تبيعهما مخافة أن ينما عن شخصيتها.
فقال الثاني مؤنبا: أتكون عاشقا ملاكا كريما كهذه ثم ترتكب جناية كهذه؟ ما هذا الطيش؟ إن عاشقا مثلك يجب أن يكون حذورا جدا لا يعرض بنفسه للتهلكة حرصا على راحة عشيقته.
فجعل السجين الأول ينتفض غيظا ولم يتكلم كلمة، بل كان يجهش بالبكاء كالطفل. وبعد هنيهة قال الثاني: أستغرب أنك تفعل هذه الفعلة وأنت عاشق، ثم تصر على إنكار رفاقك، على أن الإقرار يفيدك إذ يعفى عنك ويطلق سراحك. - والله يا سيدي لا رفاق لي ولا أنا مدفوع من أحد. - ولا جمعية فوضوية؟ ولا مؤامرة سرية؟ إذا كان ثمة شيء من ذلك فأخبرني لعلي أستطيع أن أبدي لك رأيا مفيدا تجهله. - والله وتالله وبالله لا مؤامرة ولا جمعية سرية ولا فوضوية ولا أنا من هذه الفئة من الناس. - لعلك تخاف انتقام شركائك. - لا لا. ألا تفهم ما أقوله لك بصراحة أن لا شركاء لي، ولا أخاف انتقاما! وهل أنا في خطر منهم أكثر مني الآن وأنا في قبضة الحكومة؟ قد يمكن أن أفر من وجه نقمتهم إذا خرجت من السجن، وأما من السجن فلا أستطيع الفرار. - والحكومة تحميك من نقمتهم، وأقل ما تفعله أنها تسهل لك طريق الفرار منهم إلى بلاد أمينة. - أنا أعلم ذلك جيدا، ولهذا ما كنت أسكت عن الإقرار لو كان لي شركاء أو كنت عضوا في جمعية فدائية.
فقال الثاني ساخطا: إذن كيف تقدم على ارتكاب هذه الجناية يا حمار وأنت متعهد بواجبات نحو فتاة تحبها وتطمع بحبها وقد غررت بها؟ كان أحرى بك أن تدعها في البحر تغرق من أن تعرضها لفضيحة عتيدة. لا ريب أنك مجنون. لا أفهم لماذا ترمي قنبلة على مصطفى باشا كمال. هل لك من ثأر عليه؟
فتمرمر الأول وقال: كلا البتة. دعنا من هذا الحديث يا صاح دعنا! - كيف أدعك يا بغل. لا أنت مكلف من قبل جمعية فدائية، ولا أنت شريك مؤتمرين في مؤامرة، ولا لك ثأر على مصطفى باشا، وأنت عاشق ومعشوق وكنت على وشك الحصول على حب حبيبتك. فلماذا إذن ترتكب الجناية يا جاهل؟ - اسكت يا هذا، اسكت، كل هذا الذي تراه من التناقض سببه الحب. إن سلطان الحب ظالم غشوم. - لا أفهم معنى هذه السخافة. - طبعا لا تفهم. لا تفهم كيف الحب يحكم؟ وكيف العاشق يحب أن يطيع؟ الحب كالنوم المغناطيسي. - أظن حبيبتك غررت بك. فأحرجتك لارتكاب هذه الجناية. لعل لها ثأرا على مصطفى كمال.
فقاطعه الأول مضطربا وقال: لا لا لا. دعنا من هذا الحديث. لقد أخطأت في أن رويت لك قصة كهذه. دعنا من هذا الحديث يا سيدي.
وجعل يثور تغيظا ويهيج تغضبا، فكان تارة ينحب وأخرى يغضب. فسكت الثاني صابرا. وبعد برهة طويلة قال الثاني: خطر لي خاطر يا صاحبي: إذا كنت تؤكد للمحقق أني لست شريكك في الجناية ولا تعرفني ولا أعرفك، فأنا أسعى لمقابلة حبيبتك من قبلك وأخدمها وأقدم لها حاجتها، ونسعى كلانا فى إنقاذك.
فضحك الأول في إبان حزنه وغمه وقال: أما أني أؤكد لهم أنك لست شريكي في الجناية فهذا سأفعله بلا قيد وشرط ولا تمنين؛ لأني إذا أقسمت على ذلك لا أكون كاذبا. وأما أنك تذهب إليها من قبلي فهذا هو الرأي الأخرق الذي يدفعها ثانية إلى البحر. فلا تتعب نفسك يا صاح. •••
بعد حين استدعاهما المستنطق. وكان أول ما فعله السجين الأول أن أقسم أن الثاني ليس شريكه في الجناية. فأطلق المستنطق سراحه. وأعاد الكرة في الاستنطاق على الأول، فعاد إلى خطته الأولى من حيث التكتم عن سبب ارتكابه الجناية. فردوه إلى السجن.
لا بد أن يكون القارئ قد أدرك أن السجين الثاني هو أمل الدين أو رجاء باشا، وكان سجنه حيلة لاستخراج الحقائق من ضمير رامي القنبلة، وأن الفتاة هي نميقة بنت البرنس سناء الدين. وهنا يسائل القارئ نفسه: إن صح أن الفتاة أحرجت هذا الرجل أو غررت به ليقتل الغازي كما ظن رجاء، فما السبب يا ترى؟ سترى.
الفصل الثالث عشر
حرب سياسية في المجلس الوطني
كان الغازي مصطفى باشا كمال منهمكا شديد الانهماك بمقابلة بعض رجال حزبه، وغيرهم ممن يأخذون منه التعليمات ويعطونه المعلومات عن أفكار النواب الذين يوافقون على المشروع، والذين يعارضونه، والذين يريدون تعديله، والذين يتقلبون مع الأهواء أو يتذبذبون إلى غير ذلك. وقد أصبح مشروع إلغاء الخلافة وطرد آل عثمان حديث جميع النواب وغيرهم من رجال السياسة في أنقرة وفي أزمير وفي الآستانة، وتضاربت الأقاويل والإشاعات.
في إبان هذا الانهماك جاء رجاء أفندي وقال: لا تعلق يا باشا أهمية البتة على رامي القنبلة، واعتبر الحادثة كأنها لم تكن. - ويحك يا رجاء أفندي. إننا نحسبها من أمهات البينات والبراهين. فكيف تقول هكذا؟ - أقول؛ لأني تأكدت أن الرجل فعل فعلته من تلقاء نفسه، وليس له شركاء ولا هو عضو في جمعية فدائية، ولا شريك في مؤامرة بتاتا. - إذن، ماذا غرضه؟ - مدفوع من جراء حب جنوني لعشيقة! - إذن يجب أن نقبض على العشيقة. - هذا مستحيل؛ لأنه لا يقر عنها. - إذن، هل تعرف شيئا عنها؟ - قد أعرف، سأبحث. وإنما لا تعلق أهمية على التحقيق معها. - لماذا؟ ألا تكون تلك العشيقة متصلة بجمعية سرية أو مؤامرة؟ - لا لا. بل أظن أن لها ثأرا خاصا على الأرجح. سأتحقق كل شيء وأخبرك. وإنما ثق أن حادثة القنبلة مهما حققت فيها فلا تكشف لك مؤامرة. دعها فتستفيد من غموضها أكثر من وضوحها.
فنظر فيه مصطفى باشا كمال مستغربا وقال: إذن كيف نستطيع أن نعزز قضيتنا في المجلس الوطني؟ صرت ميالا إلى العدول عن المشروع؛ لأن حججنا واهية كما تعلم.
فقال رجاء: الذنب ذنبك؛ لأنك متسرع. لقد أنذرتك قبلا فما استفدت من إنذاري. نعم، إن المؤامرة كانت مفتعلة كأنها دور تمثيل فقط، ولكنك لو تركتها حتى تنضج لكان ممكنا أن تصبح حقيقة وتكون وثائقك ذات قيمة. وربما صار بعضها حقيقيا حينئذ.
فتجهم مصطفى باشا كمال وقال: لقد تحرج موقفنا وكدنا نكون مجازفين. أظن أننا سنضطر إلى تلطيف المشروع.
فاعتدل رجاء في مكانه وقال: كيف؟ - نعدل عن إلغاء الخلافة الآن ونكتفي بخلع الخليفة. - ما ظننتك ضعيفا بالسياسة هكذا. أنت الجراح الماهر وستشق البطن على كل حال لأجل عملية واحدة، فاعمل العمليتين معا بشق واحد، اخلع والغ واطرد أيضا.
ففكر كمال باشا وقلبه يكاد يثب إلى دماغه من شدة إغراقه في التفكير، ثم قال: إذن نلغي الخلافة بلا خلع، فيكون الخلع حادثا من تلقاء نفسه. ونبقي الأمراء في مكانهم مهددين.
فصاح رجاء: بل تطرد الأمراء أولا وإلا بقي الدرن في مكان العملية. - هذا صعب. لا أفعله. - إذن لا أدعك تستفيد شيئا من الوثائق التي في يدك.
فصاح كمال: ويحك! تتهددني؟ - بلا شك. إني اشتغلت لعرشك مجانا، ولا أطمع بأمر سوى طرد الأمراء كلهم، وإلا فإني أسترد خدمتي. - ويلك! كيف تسترد خدمتك؟ - أفضح الدسيسة كلها وأفسد مشروعكم وأحبط آمالكم.
فازداد الباشا تجهما وقال: إذا كنت ترد الدوقة الروسية أو مدموزال دلزل لقبضتي لكي أستعين بشهادتها، أطرد الخليفة والأمراء. - دع الدوقة؛ لأن شهادتها تضرك أكثر مما تنفعك. اعتمد على ما معك من الأوراق والوثائق مهما كانت. لا تتهم الأمراء رسميا حتى لا تضطر إلى القبض عليهم. بل اتهمهم أمام النواب بأسلوب غير رسمي، واجعل التغاضي عنهم شفقة عليهم وسترا لخيانتهم. كذا يتوهم النواب أن الأمراء خونة يستحقون الطرد. اقترح المشروع على المجلس الوطني حالا؛ لأن الأفكار ثائرة الآن ومستعدة للتأثر من فصاحة الخطباء وبلاغتهم. استشهد بحادثة القنبلة ولكن لا تحقق بها. أسرع أسرع. جازف وأقدم ولا تخف، وإلا خسرت العرش يا جلالة الإمبراطور مصطفى! وداعا الآن.
ثم هز رجاء يد الغازي مصطفى وتركه في مثل بحران من شدة التفكير. •••
هنا يجب أن نوجز للقارئ الكريم مجمل الحوادث التي حدثت في أواخر فبراير من ذلك العام سنة 1924 استعدادا للعمل العظيم الذي أقدم عليه الكماليون؛ وهو إلغاء الخلافة.
فقد نشرت جريدة «توحيد أفكار» تلغرافا من مراسلها في أنقرة بتاريخ 26 فبراير أن مصطفى باشا كمال دعا إليه الشيخ مصطفى فوزي وزير الشريعة في الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر ذلك اليوم.
وجعل الغازي ورئيس الوزارة عصمت باشا يتفاوضان مع الوزير المذكور بشأن إلغاء الخلافة ووزارة الأمور الشرعية؛ بغية توحيد الإدارة في النظام الجمهوري، وإلغاء المحاكم الشرعية؛ لأجل توحيد القضاء في المحاكم الدينية على حد ما فعلت فرنسا وغيرها من الجمهوريات، وإلغاء المدارس الخاصة بالمشايخ؛ بغية توحيد التعليم الأهلي، وإزالة الأوقاف وجعلها ملكا حرا للأمة تحت تصرف الحكومة. وقد دامت هذ الجلسة الخصوصية ساعة كاملة أفحم فيها وزير الشريعة.
وفي 27 فبراير انعقد المجلس الوطني للمناقشة في ميزانية الحكومة، فأثارت هذه المناقشة نفوس الأعضاء لما فيها من التبذير على أمور لا فائدة منها للأمة، وأطلقت ألسنة كثير من الأعضاء في الإعراب عما تكنه أفئدتهم عن مسألة التخلي عن آل البيت العثماني، وعن مسألة توحيد الإدارة والقضاء والتعليم، إلى غير ذلك مما تختصر به النفقات وتتحسن الإدارة.
ووقف في هذه الجلسة واصف بك نائب مقاطعة صاروحان خطيبا في موضوع الميزانية جملة، واستطرد منه إلى موضوع عزل شئون الدين عن الدولة. فدافع عن البيانات التي صرح بها شكري بك نائب أزمير بشأن الخلافة والقضاء والتعليم وغيرها، وبشأن اختصار نفقاتها. واندفع في موضوع تجديد بناء الدولة وتجريدها من هذه الزوائد التقليدية حتى تستطيع النهوض. ثم استطرق إلى موضوع نفقات العائلة المالكة التي تعد عالة على البلاد ولا نفع منها لها. ثم جنح إلى تهمة الأسرة المالكة بخيانة الجمهورية.
ثم قام بعده خطباء آخرون ضربوا على الوتر نفسه بالنغمة نفسها، وعارضهم معارضون وناقشهم مناقشون. وأخيرا نهض مظهر مفيد بك نائب دنزلي وضرب على نفس الوتر، وختم كلامه بقوله: «أنا أرى أنه لا يكون في الميزانية قرش واحد لآل عثمان. فنحن كنا نحترم هذه العيلة؛ لأنها تنتمي لمنصب ديني، فإذا هذا المنصب وأهله يسيئون إلينا إساءة الكفار.»
فصاح بعض الأحرار: أفصح لا تكتم!
فقال: ماذا أقول لكم أكثر من أنهم خانونا وكادوا ضدنا؟ فليس لهم مكان في تربة الجمهورية التركية المباركة.
فقال فوزي باشا: نود برهانا على هذا الادعاء، وإلا فهو تهجم.
فصاح آخرون: سترى البرهان، سترى. سوف يأتي يوم الدينونة.
وفي يوم 28 فبراير زار أحد محرري جريدة «توحيد أفكار» الرجل الذي يمثل حزب الكماليين في الآستانة، وهو علي بك العضو في المجلس الوطني الكبير. فسأله عن حقيقة ما عزم عليه الكماليون بشأن الخلافة وسائر الأوضاع الدينية، فقال النائب: «أنتم ترون أن تقويم هاشت المطبوع في باريس عن هذه السنة كتب عن الجمهورية التركية أن لها صفة إسلامية، وهذا يدل على أن أوروبا لا تزال تنظر إلى بلادنا وإدارتنا بهذا النظر؛ لذلك أؤكد لكم أنه قد آن أوان التوحيد في ثلاث مسائل: توحيد الإدارة بإزالة الخلافة ووزارة الأمور الشرعية، وتوحيد القضاء يإزالة المحاكم الشرعية، وتوحيد التعليم بإزالة المدارس الخاصة بالمشايخ.»
وقال شكري قايا آلب بك نائب «منتشا» في المجلس الوطني الكبير لمحرر جريدة «مستقل»: «إن بعض أعضاء المجلس يرون بعد إزالة الخليفة أن تكون الخلافة ممثلة في الشخص المعنوي للمجلس. وأنا ضد هذا الرأي. فإذا كان في العالم من يريدون الخلافة فليأخذوها.»
وفي 28 فبراير أرسل مكاتب «توحيد أفكار» تلغرافا من أنقرة قال فيه: «إن عددا كبيرا من حزب مصطفى كمال باشا وضع تقريرا يتضمن البراهين العلمية والتاريخية على أن الخلافة في الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي إنما هي إمارة وحكومة. من أجل ذلك هم يطلبون إلغاءها بتاتا وهم أقوى حزب في المجلس الوطني الكبير.»
وفي يوم 29 فبراير قال إحسان بك رئيس محمكة الاستقلال بالآستانة لمحرر جريدة «أقشام»: «إن الخلافة لم تنفع المسلمين بشيء في ثلاثة عشر قرنا مضت، وهي أيضا لم تنفع الترك بشيء من أيام السلطان سليم إلى الآن. وإن قوانيننا ومحاكمنا وحقانيتنا لمن لا يكون لها علاقة قط بالأحكام النقلية بعد الآن. ولا يوجد في حزب الشعب - الحزب الذي أسسه مصطفى باشا كمال - ولا رجل واحد يخالف هذه الحقائق.»
بعد ذلك اجتمع مصطفى باشا كمال وعصمت باشا بواصف بك نائب صاروحان، وشكري بك نائب أزمير، ومظهر مفيد بك نائب دنزلي، ومحمد أمين بك الشاعر، ورجب بك نائب كوتاهيه، وغيرهم من ألسنة حزب اللبرال القوية. وهنأهم مصطفى باشا بفوزهم في النضال الخطابي في المجلس الوطني وشكر لهم غيرتهم. ثم سألهم ماذا رأوا من لهجة الخصوم؟ وماذا شعروا من روح المجلس العمومية بعد هذه المناقشات؟ وهل حان الوقت للاقتراع على المشروع؟ فقالوا كلهم تقريبا: إن المشروع نضج في أذهان المجلس، وهيهات أن يجد معارضة ذات شأن. فقال مصطفى باشا: إني لا أزال أحسب حسابا لمعارضة فوزي ورءوف وغيرهما من زعماء المحافظين.
فقال واصف بك: نناقشهم حتى نخذلهم.
فقال واصف باشا: إنهم يطلبون منا إثبات اتهام الخليفة والأمراء بالخيانة.
فقال شكري بك: حينئذ نظهر أوراقنا ونقبض على الأمراء ونحاكمهم.
فنظر مصطفى باشا إلى عصمت نظرة كأنه يقول: إن شكري بك لا يفهم ما يقول؟ ولا يدري أن حججنا مؤسسة على الرمل.
فتدارك عصمت بك الحديث وقال: إذا دخلنا في تحقيق فلا نعود ننتهي. نحن نود أن نبت في المسألة عاجلا، فإذا لم نستطع التعجيل فشلنا.
فقال مصطفى: ولكن فوزي يهددنا بقوله: إنه في إمكانه أن يظهر إفك سنداتنا وبطلان تهمة الأمراء. فعلى من يستند يا ترى؟
وقال رجب بك: إن فوزي يناضل بالظاهر عن الخلافة، والحقيقة أنه يناضل عن الخليفة عبد المجيد والأسرة العثمانية. فإذا كنا نعفو عن هؤلاء الأمراء فيمكن أن تخف حدة المعارضة.
فقال مصطفى باشا: إن طرد الخليفة والأمراء هو الفوز الحقيقي. فإذا لم نطردهم نبقى عرضة لمكايدهم ودسائسهم، ونبقى كأننا مقيدون بالخلافة.
فقال عصمت: أي نعم. يجب أن نقلع الشجرة من جذورها، وإلا نبتت ثانية. يجب أن نقيم حجابا منيعا بيننا وبين الماضي، ولا يبقى أمامنا إلا المستقبل.
وتكلم البقية بهذه الروح أيضا، وأخيرا قال مصطفى باشا: إذن ما رأيكم النهائي؟ هل نصوغ المشروع ونطرحه للاقتراع في الجلسة القادمة؟
فقال الجميع: نعم. يجب بت المسألة في الجلسة التالية. ولا ريب أن الاقتراع ناجح.
وبعد مناقشة قصيرة اتفقوا على صيغة المشروع، وعلى أن يخطب مصطفى باشا خطبة ضافية ثم يطرحه للاقتراع. •••
في أول مارس سنة 1924 انعقدت جلسة المجلس الوطني والأفكار ثائرة؛ لأن الموضوع شغل بال جميع الأعضاء، ولغطوا به في كل مجلس ومجتمع، وأصبح حديث الأندية والمجتمعات، وما من أحد إلا تكلم فيه وقال قولا. فلما التأمت الجلسة كان كل الأعضاء حاضرين، وكان الناس حول المجلس متجمهرين ينتظرون النتيجة مهما كانت.
ثم وقف الغازي مصطفى باشا. وألقى خطبة رنانة استغرقت نحو ساعة، حام فيها حول موضوعين رئيسيين؛ الأول : أن أعضاء الأسرة المالكة، الذين هم عالة على الأمة، ينقبون تحت أساس الجمهورية لكي يهدموها. والثاني: أن الخلافة كانت عبئا ثقيلا على الدولة، وأن أوروبا محمرة العينين من تركيا بسبب الخلافة التي هي مركز تآلب المسلمين. ولذلك يجدر بتركيا الجديدة أن تطرح هذا العبء عن عاتقها وتلقيه على أمة إسلامية أخرى. وثم يتسنى للأتراك أن يرقوا أنفسهم من غير أن تناهضهم أوروبا.
وما زال يطرق على هذا السندان ويتلقى الاعتراضات من جهة فيصدها بترس أشد منها، والتحبيذات من جهة أخرى فتشد أزره، حتى انتهى بين التصفيق العام والتحبيذ من معظم النواب، وصاح كثيرون: فلتلغ الخلافة من عندنا وليأخذها العرب.
فهاج آخرون وقالوا: هذا إلحاد. فلتحيا الخلافة!
واشتدت الضجة، وحاول مصطفى باشا أن يرد النظام، فهدأت الضجة. وظهر بعدها صوت فوزي باشا واضحا، وقال بصوت عال: إني أتكلم بلسان حزب كبير في هذا المجلس، فأرجو أن يصغى لكلامي حتى لا يحدث في المجلس ما لا يليق. إن هذا الكلام الذي سمعناه من فخامة رئيس الجمهورية لا غبار عليه. إذا كان الذين ملئوا مقام الخلافة لم يحسنوا ملء هذا المقام، ما ذنب الخلافة نفسها حتى نصب عليها جام الغضب؟ وإذا كانت بعض الأمم الإسلامية عقت الخلافة وخرجت عليها، فما ذنب الخلافة؟ وإذا كانت دول أوربا تعادينا لأجل الخلافة بصفة كونها مقاما سياسيا، فقد نزعنا من الخلافة الصبغة السياسية وأبقيناها نظاما دينيا بحتا. فهذا التهجم على الخلافة سببه قصد التهجم على الأمراء؛ آل عثمان. فإذا صح أنهم خونة فليعاقبوا ليس بالطرد بل بالصلب كما اقترح بعضهم. فأنا وإخواني لا نسلم بطرد آل عثمان بلا محاكمة. (أصوات: خونة. خونة. فليهلكوا!)
واستمر فوزي يتكلم فقال: أنا لست من أعداء الجمهورية، وأنتم تعلمون أني من جملة القوات العاملة في تأسيسها. (صوت من بعيد: أما زرت الخليفة عبد المجيد؟ أما كان يتآمر ضد الجمهورية؟) - زرته وأزوره؛ لأني لا أعلم أنه خائن. فإن كان خائنا كما تقولون يجب أن يحاكم، وأما أن تنقموا على الخلافة بسبب تهمة ضد الأمراء لم تثبتوها بعد فذلك جرم يعاقبكم عليه التاريخ. (صوت: إنهم خونة. خونة. عندنا براهين.) - هاتوا براهينكم، فلعلي أستطيع كشف فسادها. إن هذه الطريقة في التجريم والحكم غير مألوفة. والمجالس النيابية ليست محاكم.
ثم انفضت الجلسة لتناول الطعام، ولما التأم المجلس ثانية حاول المحافظون أن يقنعوا حزب الشعب على أن يقتصروا على خلع الخليفة وإبقاء الخلافة. فلم يرعوا هؤلاء.
ثم بسطوا الاقتراح للاقتراع، فهب فوزي باشا وطلب تأجيل الاقتراع إلى الغد؛ لأن الموضوع خطير يجب أن يتناقش فيه أيضا قبل البت فيه. وقال إن عنده براهين وأقوالا معارضة لآراء وزير الحقانية، وعنده معلومات جديدة. وانتصر له المحافظون في تأجيل الاقتراع إلى اليوم التالي. وساد اللغط، وأخيرا نجح المحافظون بالتأجيل، وقال الأحرار فيما بينهم: لا بأس منه ما دام القرار النهائي معروفا والأكثرية ساحقة.
فتأجل الاقتراع إلى الغد.
الفصل الرابع عشر
المعركة الفاصلة
في ذلك المساء زار رجاء الدين أفندي مصطفى باشا كمال، فوجده باشا أكثر من قبل، ولكنه لا يخلو من شيء من القلق. فقال له: كيف الحال يا باشا؟ - لم يبق شك في النجاح؛ لأن أكثرية المجلس أصبحت معنا على كل حال. - وهل أنت واثق أنه لا يبدو شيء من غامض علم الله يقلب أفكار المجلس أو يعرقل الاقتراح؟ - الكل مقتنعون بصواب إلغاء الخلافة، وهو الأمر الجوهري. - وهل تسمح ببقاء آل عثمان في البلاد؟ - متى ألغيت الخلافة سهل طردهم. - وهب أن نورا من البينات على براءتهم سطع في جو أنقرة غدا، فهل تستطيع أن تحجب هذا النور بكفيك؟ وإذا لم تستطع أن تحجبه فلا تقدر أن تطردهم. وإذا لم تطردهم بقي ظل الخلافة كالخلافة نفسها يهدد إمبراطوريتك. - ويحك يا رجاء. ألا تدع المزاح؟ وما الذي حملك على هذا التخوف؟ - أما سمعت فوزي باشا يقول: إن عنده معلومات جديدة؟ - لله درك! تنتبه لكل كلمة. فماذا يمكن أن يكون عنده من المعلومات يا رجاء؟
وظهر قلق مصطفى باشا بالرغم من مكابرته، فقال له رجاء: لا أدري. وإنما الحكيم من حسب الحساب للصغيرة كالكبيرة. فهو يقول: إن عنده معلومات جديدة، فلماذا لم يقلها في الحال؟ - ماذا تظن في تأجيله قولها إلى الغد؟ - أظنه ينتظر معلومات جديدة غدا؛ ولذلك يجب أن تتحقق إن كان فوزي على اتصال مع بعض الأمراء سرا. - كيف يمكن تحقيق ذلك؟ - يجب أن نبحث في البريد والتلغراف. يجب أن نخترق كل قانون الآن. يجب أن نحجز رسائل فوزي والتلغرافات التي ترد إليه. - صدقت يا رجاء، صدقت. يجب أن أعرف أشياء الليلة.
وفي الحال طلب مصطفى باشا مأموري التلغراف والبريد، وسألهما أسئلة مختلفة وأمرههما أن يأتيا بكل رسالة ترد لفوزي ورفاقه. وبعد ساعة عاد إليه مأمور التلغراف بهذه الرسالة البرقية بلا إمضاء:
فوزي باشا. تصلكم المعلومات اللازمة غدا مع مندوب خاص.
فلما اطلع مصطفى كمال عليها اضطرب، وفي الحال أوعز باستدعاء رجاء الدين أفندي. فلباه هذا كالبرق الخاطف.
فلما جاء قال له مصطفى باشا: هل كنت تعلم شيئا يا رجاء أو أنك نبي؟ اقرأ هذا التلغراف.
فلما اطلع رجاء على التلغراف دهش، وقال: ماذا فهمت من هذا يا باشا؟ - أخاف أن تكون دوقتك خانتك وهي التي أرسلت هذا التلغراف لفوزي، وقد أرسلت له حججا ضدنا؟ - لا لا. دوقتي لا تستطيع أن تحنث بيمينها؛ لأنها تعلم أن وراء الحنث عذابا أليما ولو كانت في زحل. - إذن ما رأيك؟ - لا أدري. وإنما يجب اتخاذ الاحتياطات وإلا فضحتنا معلومات فوزي المنتظرة، وقلبت عرش الإمبراطورية الذي نبنيه.
فانتفض مصطفى باشا وقال: ويحك! كيف ذلك؟ - لقد ارتكبت جرما عظيما بتأجيل الاقتراع، لظنك أن الأكثرية مضمونة لك. ولكن إذا ظهرت المعلومات فلا يبعد أن تنقلب الأفكار والآراء. - ويحك! وما العمل إذن؟ - يجب أن تزودني بكل سلطة وحق في أن أستقبل القطار الحديدي القادم غدا في أي مكان قبل أن يصل إلى أنقرة؛ لأني أظن أن المعلومات التي ينتظرها فوزي آتية مع رسول في قطار الغد. - هذا أمر سهل. - وأرجو أيضا أن تكون معي سلطة بوليس فوق كل سلطة بوليسية. - لك ذلك أيضا. بعد ساعة. - حسنا جدا . إذن أعدك بالفوز التام. •••
في اليوم التالي انعقدت الجلسة في المجلس الوطني الكبير. وافتتح فوزي باشا المناقشة بإلقاء خطبة، كان يرد فيها على جميع النقط التي ذكرها أعداء الخلافة. وكان المحافظون يصفقون له والأحرار يضحكون تارة ويهزءون أخرى. وأخيرا جعل بعضهم يقولون: لقد اكتفينا من المناقشات، نريد الاقتراع! الاقتراع! الاقتراع!
فصاح فوزي باشا قائلا: قلت لكم أمس: إن عندي معلومات خطيرة الشأن ستصل في هذه الساعة، وستظهر لكم حقائق فتغير كل يقينكم. أفلا تصبرون ساعة!
فصاح بعضهم: لقد صبرنا وكفى. فهمنا معلوماتك. نريد الاقتراع.
وحدث لغط واضطراب في المجلس، فوقف زكي بك نائب كموشخانة، وارتقى على المنبر وقال: «إن الوقت لم يحن بعد لإلغاء الخلافة، وليس هنالك مناسبة بين الثورة الفرنسوية الكبرى والانقلاب الذي نحن أحدثناه. وهنالك أعمال كثيرة اقتصادية وسياسية يجب علينا أن نقوم بها قبل إلغاء الخلافة.»
ولما سمع رجال الأكثرية هذه الأقوال انهالوا على الخطيب بالأقوال الجارحة. وقامت ضجة عظيمة في المجلس، فكان القوم يقاطعون الخطيب ولا يمكنونه من الكلام، وقال له بعضهم: انزل عن المنبر، اسكت!
علي رضا بك :
أنت صديق الداماد فريد باشا.
زكي بك :
وأنت الذي كنت تتجر باحتكار قوت الفقراء أثناء الحرب بقوة الحكومة!
وقال إحسان بك نائب جبل بركت: وأنت كنت جاسوسا!
وازداد الهرج والمرج في المجلس، وجعل الأعضاء يضربون بقبضات أيديهم وبأكفهم على المناضد التي أمامهم. وبصعوبة عظيمة تمكن الرئيس من إعادة السكينة. فاستمر زكي بك في كلامه، ومما قاله: «إن الميثاق الذي أعلنه حزب الشعب وقانون التشكيلات الأساسية الذي قام عليه هذا المجلس لا يجيزان لنا إلغاء الخلافة. فيجب عليكم أن تعودوا إلى التصويت على هذه المسألة.»
عند ذلك حدثت جلبة واشتد اللغط وجعل بعضهم يصيح: الاقتراع! الاقتراع!
فصاح فوزي باشا: لقد وعدتكم بمعلومات جديدة.
فصاح آخرون: لقد انتهت الساعة ومعلوماتك لم تظهر.
فقال: لم يزل باقيا نحو نصف ساعة من الوقت. أفلأجل نصف ساعة تضيعون حقائق وحقوقا!
وجعل يصيح. فاقترح بعضهم أن تتوقف الجلسة نحو نصف ساعة هدنة. فتوقفت . وسرى بين الجمهور لغط شديد في ماذا عسى أن تكون هذه المعلومات التي ينتظرها فوزي باشا؟ وتضاربت الأقاويل بشأنها، واضطرب الزعماء من الجانبين. وأما فوزي باشا فرؤي يهامس رسلا من قبله فيذهبون إلى المحطة.
انقضت الساعة أو وصل القطار الذي كان ينتظره فوزي باشا. وانعقدت الجلسة ثانية ولم يكن فوزي باشا فيها. وحدث الاقتراع فاقترعوا على إلغاء الخلافة، وتقرر إلغاؤها. كما تقرر طرد جميع آل عثمان من رجال ونساء إلى خارج البلاد في خلال عشرة أيام على الأكثر. أما المنسوبون إلى أمهات من آل عثمان لا إلى الأمراء فلم يعودوا من آل عثمان الذين جردوا أيضا من صفة الوطنية التركية وحرموا من التصرف في أملاكهم الموجودة في تركيا. والذين تركوا الملك منهم تنتقل جميع أملاكهم إلى الخزينة.
وجميع قصور وسرايات وأملاك السلطنة الملغاة، وكل ما فيها من مفروشات ولوحات مصورة وآثار الفنون الجميلة وسائر الأموال، صارت ملكا للأمة.
وقد وافق حزب الشعب في ذلك اليوم بأكثرية عظيمة على جميع ما تقدم من الأمور.
وعقد الحزب جلسة ثالثة، قرر فيها: فصل رئاسة أركان الحرب عن الوزارة، وفصل وزارة الأمور الشرعية عن الحكومة. فاعترض على هذا القرار الأخير كل من الشيخ عبد الله عزمي والشيخ موسى كاظم، فخطب رجب بك نائب كوتاهية مسفها رأيهما ومثبتا أن قرار الحزب في هذه المسألة هو الصواب. وعلى ذلك تقرر إلغاء وزارة الأمور الشرعية والأوقاف أيضا.
الفصل الخامس عشر
البعث
ترى ماذا جرى للرسول الذي كان قادما إلى أنقرة ومعه المعلومات الخطيرة الشأن التي تبرئ الأمراء من التهم التي بنى عليها الكماليون حججهم في إلغاء الخلافة؟
تجد بيان ذلك في هذا الفصل العجيب.
القطار القادم إلى أنقرة حاملا ركاب الآستانة يصل الساعة الرابعة بعد الظهر. ففي الصباح ركب رجاء الدين أوتوموبيلا واتجه به إلى الجهة التي يأتي منها القطار، وانتظر في محطة تبعد عن أنقرة نحو 150 كيلومترا تقريبا. وانتظر هناك إلى أن وصل، فصعد إليه بصفة كونه راكبا كسائر الركاب. ولما سار القطار قام من مكانه يتمشى من مركبة إلى مركبة كمن يبحث عن شخص افتقده أو عن مقعد يقعد عليه، حتى طاف جميع المركبات وشاهد كل الركاب، فلم يشتبه بأحد منهم كرسول لفوزي باشا. وكيف يشتبه؟ وهل لرسول فوزي باشا علامة خاصة حتى يستطيع أن يتحقق أنه هو؟
وبعد أن قدح زناد فكره طويلا قصد إلى مفتش القطار، وقدم إليه ورقة قائلا: أرجو منك أن تنفذ ما في هذه الورقة.
فنظر المفتش في الورقة مستغربا اقتراح رجل من الركاب لا يعرفه، ورأى أنها من أوراق مصلحة السكة الحديدية، فتناولها وقرأ فيها هذه العبارة:
على أي موظف من موظفي السكة الحديدية متى قدمت إليه هذ الورقة أن يفعل ما يأمره مقدمها مهما كان. وله أن يطلب من مقدمها أن يكتب فيها شكل الطلب الذي طلبه منه. وعلى الموظف أيضا أن يحتفظ بهذه الورقة لحين لزومها.
مدير مصلحة السكة الحديدية
فلما اطلع المفتش على هذه الكتابة، استغرب أمرها كل الاستغراب، وخشي أن يكون مقدمها محتالا أو مزورا. فقال له رجاء بلهجة السيد الآمر: هل فهمتها جيدا، وهل تحققت إمضاء المدير؟
فجزع المفتش وقال: نعم. ماذا تطلب مني يا بك؟ - لا أطلب إلا ثوبك، أو على الأقل معطفك الذي يدل على وظيفتك، لأني أريد أن أفتش ركاب القطار. فلا تتردد في تنفيذ أمري. وها أنا أكتب لك صيغة أمري على هذه الوثيقة واحفظها معك حجة لك.
وتبادلا في الحال الملابس الكافية والأدوات اللازمة للتفتيش. وجعل رجاء يطوف على الركاب يفتش تذاكرهم، فمن رأى أن تذكرته تدل على أنه قادم من الآستانة كان يسأله همسا: هل جنابك قادم إلى أنقرة لمقابلة شخص خاص؟
فقد يسأله صاحب التذكرة: «لماذا هذا السؤال؟» أو «أي شخص خاص؟» أو ينظر فيه مستغربا ويقول: «لا».
فكان رجاء يتوسع في السؤال حسبما يتوسم من ملامح الشخص ومن جوابه. فقد يقول له: أعني هل أنت قادم لمقابلة المشير؟
فقد يجاوب: «لا» أو «أي مشير؟»
فيجيبه: فوزي أو فوزي باشا.
على هذا النحو كان رجاء يحاول أن يستفهم من القادمين من الآستانة، ومع ذلك لم يستطع أن يهتدي إلى ذلك الرسول، فعزت حيلته. وكاد القطار يصل قبل أن يبلغ هذه الأمنية. فما كان منه إلا أن قصد إلى سائق القطار وقدم له ورقة كتلك التي قدمها للمفتش بعد أن كتب عليها: «أطلب إيقاف القطار حيث هو الآن إلى أن آمر بتسييره.»
وبعد مناقشة قليلة أذعن سائق القطار وأوقف قطاره، فظن الركاب أن سبب توقف القطار عطل بسيط وسيسير بعد قليل.
أما رجاء فرأى أن خير وسيلة لعرقلة معلومات فوزي باشا هي أن يؤخر القطار ريثما يضيق ذرع النواب وينفد صبرهم، فيقترعون غير منتظرين معلومات فوزي باشا. ثم خطر له خاطر آخر فجاءة وقال لنفسه: ألا يمكن أن يكون الرسول في إحدى حجرات الحريم؟
وفي الحال جعل يطوف على حجرات الحريم واحدة واحدة، إلى أن اشتبه باثنتين مؤتزرتين مقنعتين باليشمق، وثالثة بغير إزار وبقبعة ولكنها مقنعة بقناع قليل الشفافية - فوال كثيف. فلما وقع نظرها عليه رأى في بدنها خلجة ظاهرة. ثم أغضت نظرها مطرقة، وقدمت إليه التذكرة ويدها ترتجف كثيرا، فتناولها منها وأبقاها معه. وفحص تذكرتي السيدتين الأخريين. وخرج حالا وقال للمفتش الآخر: افتح حجرة فارغة واستدع إليها السيدة ذات القبعة والقناع الكثيف التي في هذه الحجرة حالا. وقل لها أن تقابل المفتش الكبير لأجل مسألة تخص تذكرتها.
ثم دخل رجاء إلى الحجرة التي فتحها المفتش وانتظر. وما هي إلا دقيقة حتى دخلت المرأة ذات القبعة ترتجف وتقشعر، وأقفل رجاء الباب وهو يقول: أظن أن حضرة الهانم تريد أن تستوثق أني مفوض من قبل المشير فوزي باشا لاستقبالها.
فلم تجب، فقال: ثقي يا هانم أني مندوب من قبله لمقابلتك قبل أن يصل القطار إلى أنقرة، لكي أقول لك كلاما عن لسانه.
فلم تجب. بل كانت تزداد اضطرابا، فقال: لا تخافي يا سيدتي. ثقي أني من قبله، وهاك التلغراف الذي ورد إليه مبشرا بقدومك إليه. فهل المعلومات التي معك له شفهية أو مكتوبة؟
فازدادت انتفاضا وسمعها تقول بصوت خافت : ويحك! ويلي! ويحي! بالله! إلى غير ذلك. فما كان منه إلا أن رفع النقاب الكثيف عن وجهها. فلما وقعت عينه على عينها انتفض جازعا وارتد إلى الوراء قائلا: ويلي! أطيف نميقة أم حقيقتها؟ يالله! لقد تصورتك حية ترزقين حين كان ذلك السجين رامي القنبلة على مصطفى كمال يصف حادثة عودتك من عالم الأموات إلى العالم البشري ثانية، وقد غالطت ظني كثيرا، لأني كنت أقول: إن الملجأ الذي تلجئين إليه في حياتك الثانية هو أنا لا سواي. يالله! أحقيق أن الله ردك إلي؟
أما هي فما زالت تنتفض من شدة التأثر وهو يجزع لتأثرها. ثم أمسك بيدها قائلا: ويحك! اصدقيني الخبر اليقين. ألي أم لغيري حفظك الله؟
فلم تستطع الإجابة لشدة تأثرها، فأمهلها هنيهة ثم قال: ويحك يا هذه! لقد التقينا في تقاطع الطرق، فأخبريني هل قدر لنا أن نسير في طريق واحد أو أن نفترق.
فهزت رأسها علامة الإيجاب، فقال: لا أفهم. انطقي. هل كنت لي أولا وثانيا وما زلت لي؟
فأومأت إيماء مختصرا بالإيجاب.
فقال: إذن. إذا قبلت هذه اليد كنت مقبلا يدا لم يعتد عليها أحد ولا دنستها شفتان أخريان.
فأومأت قائلة بهمس: نعم. نعم. فرفع معصمها إلى شفتيه وهو يقول: إني أعتقد أنك لا تستطيعين أن تخدعيني.
وطبع عليها قبلة لطيفة وقال: ماذا جاء بك إلى هنا؟ وإلى أين؟
فقالت بصوت خافت: إلى فوزي باشا.
فاستغرب وقال: عجبا! أحقيق؟
فقالت بصوت يكاد يسمع: أليس أقل تكفير عن ضلالي أن أسعى جهدي لرد القضاء الرهيب عن قومي؟ - يالله! إذن أنت الرسول حامل المعلومات للمشير فوزي باشا؟ - بل أنا المعلومات نفسها. - الله أكبر. إذن ...
ثم رد رجاء نفسه عن الكلام ونهض الباب وفتحه ونادى المفتش قائلا: قل للسائق أن يسير بالقطار حالا رأسا إلى أنقرة.
فأجاب المفتش: بعد نصف ساعة نصل إلى أنقرة يا مولاي.
فقالت نميقة: ويلاه! أخاف أن يكون الوقت قد فات. ما هو الكلام الذي كلفك المشير فوزي باشا أن تقوله لي؟ - كلفني أن أقول لك أن تطاوعيني وأن تذهبي معي حيث أشاء. - لا لا. بل أريد أن أذهب إليه أولا لئلا يفوت الوقت وتضيع الفرصة ويقرر المجلس قراره الفظيع الهائل ضد الخلافة والخليفة والأمراء. - لا تخافي. إن المجلس أجل الجلسة إلى اليوم لكي يسمع المعلومات التي ينتظرها المشير فوزي باشا من الآستانة. هل أنت قادمة من الآستانة؟ - من ضواحيها. - ماذا يقول الأمراء؟ - وهل تظنني كنت بين الأمراء؟ لقد مت وفنيت من ذلك الجو. أنا الآن امرأة عامية عاملة واسمي تريزا برسكا الروسية. فحاذر أن تذكر اسم نميقة أو أميرة.
فضحك رجاء وقال: وما هي حرفتك؟
فأجابت: أكون كاتبة إذا وجدت سيدة تستخدمني كاتبة سر لها. - إذن كيف عرفت بالحالة السياسية الحاضرة؟ - عرفتها من الجرائد ومن لغط العامة بها. - أما سمعت شيئا عن الأمراء؟ - سمعت أنهم واقعون في حيص بيص لا يدرون ماذا يفعلون. إن مصطفى كمال باشا لهو رسول إبليس الرجيم. من كان يعرف أن هذا الشرير وأعوانه يجسرون أن يفعلوا ما يفعلونه الآن. يالله! خلع الخليفة وإلغاء الخلافة وطرد الأسرة كلها. ياللفظاعة! - وما هي معلوماتك لفوزي باشا؟ - إن معلوماتي أوراق سأبسطها له حين أقابله وستكون أنت حاضرا. ألا تكون؟
وكان رجاء يجاوبها وفكره يشتغل بأمور أخرى، فقال: بلا شك. وهل أنت أرسلت هذا التلغراف؟ - نعم، أرسلته بهذه الصيغة للتمويه خوفا من أن يقع في يد سواه: فوددت أن يفهم أن ناقل المعلومات له رجل لا مرأة.
فقال رجاء باسما: حسنا فعلت. وهل تعرفين المشير فوزي باشا شخصيا؟ - لا. - كيف خطر لك أن تقدمي هذه المعلومات له؟ - لأني اطلعت في الجرائد أن المشير فوزي باشا يدافع عن الخليفة والأمراء. وعلمت من الجرائد أن أعداء الأمراء يتهمونهم بالخيانة وأن عندهم وثائق ضدهم. ولما كنت أعلم طبيعة هذه الوثائق وأصلها وتزويرها وعندي وثائق ضدها كتبت لفوزي باشا تفصيلا بذلك. فكتب لي أن أرسل له الوثائق حالا مع شخص مأمون. - لله درك! وكيف حصلت على هذه الوثائق الهائلة؟ - ستعلم ذلك في حينه. أرجو أن تأخذني توا إلى المشير فوزي باشا. حاذر أن تدعه يفهم أني أميرة أو بنت أمير. لأن صديقتك الجديدة الآن تدعى تريزا برسكا الروسية.
فقال رجاء: أجل الروسية والبلشفية أيضا. ألست بلشفية؟ - معاذ الله! إن هؤلاء البلاشفة سبب مصيبتنا. وهل كنت كل هذا الحين في أنقرة؟ - كنت حيث تدعوني الظروف، تارة في أنقرة وأخرى في أزمير. - ماذا كنت تفعل في أزمير؟ - كنت سجينا مع صديقك الذي رمى القنبلة على مصطفى باشا. - ولماذا سجنك ذلك اللعين مصطفى؟ - لأني كنت حاضرا ساعة رمي القنبلة هناك. وركضت فظنوني شريكا للجاني فقبضوا علي وزجوني في السجن. - لله من شرهم! بالطبع برهنت على براءتك واقتنعوا أنك بريء. - أي نعم. وأما الرجل رامي القنبلة فلم يزل في السجن. وقد روى لي حكاية طويلة غريبة من غير أن يسمي أشخاصا، فهمت منها أنك رميت نفسك في البحر وهو انتشلك. وحاولت كثيرا أن أفهم منه عن مقرك فلم أستطع لأنه كان شديد التكتم. وما زلت الآن مستغربا إقدام ذلك الأهوج على قتل مصطفى باشا. هل ذلك الأحمق كان عضوا في جمعية فوضوية؟
فابتسمت نميقة أو تريزا وقالت: كلا، وإنما فعل ذلك بناء على إيعازي له. - ويحك! لماذا؟ - لأن الخبيث مصطفى باشا اعتقلك. ألا تذكر أن ذلك كان بعد يومين لالتقائنا في قصرك وأنت باسم رجاء باشا؟ - نعم. - لما علمت أنه اعتقلك أكدت أنه سيقضي عليك بلا محالة. فلما قطعت الأمل من اللقاء بك ثانية، وصار أبواي يحرجانني للزواج بالأمير عثمان، لم أعد أجد فرجا لي إلا في الانتحار. فرميت نفسي في البحر. واتفق أن ذاك المسكين كان يريد أن ينتحر أيضا، فعثر علي وأنقذني وهو يظن أنه يفعل خيرا. فنقمت عليه وغضبت. ولكن ما الفائدة! وما لبث أن أقنعني بأن أغير شخصيتي وأبقى حية. فاقتنعت برأيه وسميت نفسي تريزا برسكا الروسية. وكان ذلك المسكين يتضرع إلي ملتمسا رضاي وأنا أتمنع. وأخيرا مللت توسله وتضرعه، فاقترحت عليه أن يسعى لاغتيال مصطفى باشا كمال. فإن اغتاله وسلم من العقاب أتزوجه، وإلا كان بخته سيئا. وما ظننت أنه يقبل هذا الشرط. فما تردد في أن برح إلى أزمير وشرع بالاغتيال ولكنه ما نجح.
فقال رجاء متوردا: وهل كنتت تفين بالوعد لو نجح؟ - بالطبع، ولو بالرغم مني، لأن وعد الحر دين، ولا سيما لأني يئست من اللقاء بك بعد أن علمت أنك وقعت في قبضة مصطفى كمال كمتهم بجريمة الجناية العظمى التي لا أمل ببراءتك منها. وكان جل ما أفعله أني أنتقم لك. وخير وسيلة للانتقام أن أحرض الرجل على فعلها. وقد أقدم ولكنه فشل. فهذا بخته وبختي أيضا إذ تخلصت من مضايقته لي. هل هذا يسوءك يا أمل أو يا رجاء؟ - كلا يا نميقة. لقد وفيت حق الحب. - بربك لا تقل: نميقة بعد الآن. قل لي: كيف نجوت من نقمة مصطفى كمال؟ - ستعلمين ذلك في حينه.
عند ذلك وصل القطار إلى أنقرة وهب الركاب للخروج، فأخذ رجاء الدين نميقة وركبا أوتوموبيلا وهي تقول: بربك توا إلى المشير فوزي باشا. أين نجده؟
ومن غرائب الصدف أن رجاء لمح فوزي باشا حينئذ في زحمة المحطة وعيناه شائحتان هنا وهناك كأنه يبحث عن الرسول القادم بالمعلومات، فقال لها: إن فوزي باشا ينتظرنا الآن في منزله. فإلى منزله. فهناك تبسطين المعلومات أولا وبعد ذلك نعود نحن إلى معلوماتنا الخاصة.
الفصل السادس عشر
سامع شتيمته بأذنه باسم
في دقائق معدودة كان الأتوموبيل أمام دار مصطفى باشا كمال، فخرجا منه ودخلا بين الحراس، ودخل رجاء مع نميقة إلى غرفة خاصة بسيطة وقال: انتظري هنا يا عزيزتي. سيأتي المشير فوزي باشا لمقابلتك حالا.
وبقيت نميقة وحدها خافقة الفؤاد وهي تجيل نظرها في الغرفة، فلا ترى فيها إلا بعض الأسلحة المعلقة في الجدران كتحف، ومنضدة وبعض كراسي ومقعد.
وبعد نحو عشر دقائق دخل رجاء يصحب الغازي مصطفى باشا وهو في ثوب جندي برتبة مشير، وقال له: حضرتها الآنسة تريزا بريسكا الروسية يا دولة المشير فوزي باشا. وقد وصلت الآن لكي تقدم لك معلوماتها.
ثم جلس الغازي في مقعده لدى المكتب وتريزا لديه، وقال: إني شاكر اهتمامك أيتها السيدة المحترمة في إعطائنا المعلومات الثمينة، التي يتوقف على إعطائها تقرير المصير. فتكرمي بها الآن.
فقالت تريزا - أو نميقة: إن معلوماتي يا سيدي جاءت عرضا إلي، ولا بد من رواية حكاية اتصالي بها بالاختصار الممكن، لأني أخاف يا دولة المشير أن يفوت وقت الحاجة إليها. - لا تخافي، لقد اتخذنا الاحتياطات اللازمة.
فقالت: إني يا سيدي فتاة روسية من أودسا، ولكن أبوي أقاما في الآستانة، فأصبحت كأني تركية وتعلمت في مدارس الآستانة. - أنعم بك من روسية تركية. - ثم رزئت بوالدي وأصبحت ولا ملاذ لي إلا الله ونفسي. وقد عني أبي بتعليمي فتعلمت بعض اللغات والعلوم جيدا، وكنت أسعى أن أشتغل في تدريس دروس خصوصية. وأخيرا نمى إلي أن في الآستانة دوقة روسية متنكرة وأنها غنية وتحتاج إلى كاتبة أسرار.
فقاطعها المشير قائلا: ما اسمها؟ - قيل يا سيدي: إنها تدعى الدوقة مريم رومانوف، وإنها بنت الغراندوق نقولا أو حفيدته والله أعلم. وإنما كانت تنكر باسم المدموازال دلزل. وكانت تغني في أحد الملاعب لأن صوتها بديع. ولما كنت أنا أعرف اللغة الروسية جيدا قصدت إليها وعرضت نفسي كاتبة سر لها. فقبلتني بكل سرور ولاطفتني جدا. ولكني ما لبثت أن شعرت أن منزلها مزار للكبراء والأمراء ممن يتحببون إليها ويتوددون. فقلت لها: «إني أود أن أكون منفردة في مكتبي ولا أود أن أختلط مع أحد من زوارك يا سمو الدوقة، فإذا كنت تحتاجين إلي في خدمة أو عمل فأرجو أن تشرفي إلى المكتب.»
فقال الغازي: ونعم الشرط! فعسى ألا تكون قد أبته. - كلا، بل كانت مسرورة بشرطي هذا. واغتنمت فرصة مناسبة ذات يوم وقالت لي: إنها تثق بأمانتي واستقامتي، ولهذا لا تتخوف من اطلاعي في بعض الأحيان على أسرارها. وأفهمتني أنه ليس لها من الأسرار والمساعي ما يخالف الضمير والعدل، وإنما هي تسعى لصيانة مقامات الكبراء التي صار يخشى عليها من تطاول عامة الشعب. فشكرت لها حسن قصدها، وفهمت أنها طريدة البلشفيك، وأنها تسعى لعقد جمعية سرية أو شبه سرية لجمع كلمة الأمراء والكبراء في كل البلاد لاتخاذ كل الوسائل المشروعة لوقاية مقاماتهم.
فقال المشير الغازي: نعم المسعى! وهل عندك بينات ومعلومات عن هذا المسعى؟ - نعم، فقد استكتبتني ذات يوم دعوة عمومية لعديد من الأمراء والكبراء لعقد اجتماع أو مؤتمر عندها. وعندي نسخة منه.
وفتحت تريزا - نميقة - حقيبتها واستخرجت عدة أوراق، وانتقت منها تلك الورقة وقدمتها للمشير الغازي، وكان رجاء إلى جنبه يطلع عليها معه. فإذا هي نسخة نفس الدعوة التي وجدوها بين الأوراق. ثم قال مصطفى باشا: وهل عندك أوراق أخرى؟ - نعم، سأري دولتكم كل شيء. ثم قدمت لي الدوقة ذات يوم ورقا منضدا بكل عناية، وأمرتني أن أكتب عليه أسطرا قليلة مكتوبة على ورقة أخرى، فكتبت. - ماذا كانت الكتابة؟ - لا أتذكرها بالحرف الواحد لأنها غامضة، وإنما يستدل منها أنها رسالة من أحد الأمراء لها. فاستغربت الأمر كل الاستغراب. ثم كلفتني بكتابة أسطر أخرى على ورق آخر منضد، أعني عدة صفحات بعضها فوق بعض، وبينها أوراق أخرى من غير شكلها، ولاحظت أيضا أن هذه الأسطر كرسالة من شخص لآخر. وفي ذات يوم قدمت لي رسالة مكتوبة وقد قطع منها العنوان والإمضاء، وسألتني إن كنت أستطيع أن أكتب خطا مشابها لخط هذه الرسالة. فمارست الكتابة حتى استطعت أن أكتب خطا مشابها لها. وعند ذلك أملت علي كلاما كتبته على أوراق منضدة أيضا. وقد تكرر الأمر واستكتبتني أسطرا مختلفة على أوراق مختلفة، حتى ارتبت فيها وأوجست منها وشغل بالي شغلها هذا. وفي ذات يوم عثرت على مكتبي بنضيد من هذا الورق كأنها نسيته، وعليه كتابة من خط يدي. فقلبت الورقة التي كتبت عليها فإذا تحتها ورقة من ورق الكربون الجيد جدا البنفسجي اللون، فقلبت هذه الورقة فظهرت كتابتي تحتها تماما كأنها مكتوبة بحبر بنفسجي. والغريب أني رأيت في آخر الكتابة إمضاء أحد الأمراء مع أني لم أكتب إمضاء. فاستغربت كل الاستغراب كيف جاء هذا الإمضاء في آخر الكتابة؟! وبعد تفكير قليل أدركت أن الإمضاء كان مكتوبا من قبل على الورقة المغطاة بورقة الكربون التي كانت تحت الورقة التي كتب عليها، وأن كتابة الإمضاء نفسها كانت بلون الكربون، كأن ذلك الأمير أمضى إمضاءه على ورقة غير تلك التي كانت فوق الكربون. فظهر الإمضاء على الورقة التي تحت الكربون. ولكن لماذا أمضى ذلك الأمير إمضاءه؟ وفي أي حال وكيف؟ هذا هو السر الذي بقي غامضا عندي.
وكان مصطفى باشا يسمع الكلام مستغربا وينظر في رجاء ورجاء يبتسم. ثم قال: وهل بقي هذا السر مكنونا؟ - كلا، بل اكتشفته أخيرا.
فاشرأب الغازي وقال: كيف؟
فقالت: لما صرت أرتاب بأعمال الدوقة وحركاتها، صرت أحتاط لنفسي؛ بمعنى أني أتجنب ما أمكن أن ألبي أوامرها هذه، وصرت أفتكر في أن أنفصل عنها مخافة أن أقع تحت شبهة. ولكن قبل أن أبت أمرا قالت لي ذات يوم: «أرجو منك أن تأخذي إلى منزلك هذه الحقيبة وتنتظري مني رسالة أنبئك إلى أين توافينني بها، لأني مسافرة اليوم. وبعد يومين أو ثلاثة ترد إليك مني رسالة بتعليماتي. وهذه عشرة جنيهات لأجل النفقات.» فأخذت الحقيبة. وفي اليوم التالي علمت أن الحكومة قبضت عليها وعلى بعض الأشخاص الذين كانوا يزورونها. فدهشت وجزعت وخفت أن تكون الحقيبة التي عندي مشتملة على أذية لي. ففتحتها فإذا فيها أوراق كتلك الأوراق التي كانت تستكتبني عليها. فجعلت أفحص تلك الأوراق، فما لبثت أن فهمت الحيلة الشيطانية. فهمت أن تلك الدوقة كانت تغري أولئك الأمراء الساذجين السليمي النية وتقدم لكل زائر منهم ذلك الورق المنضد، وتلتمس منه أن يكتب أي جملة ويوقع تحتها لتحفظها كتذكار عندها، فكان يكتب هذا مثلا: «الله جميل يحب الجمال» ويوقع اسمه تحته. وذاك يكتب: «العدل أساس الملك» ويوقع اسمه تحته. وكانت تضع تحت الورقة ورقة صغيرة من ورق الكربون الجيد اللون في نفس النقطة التي يوقع عليها كاتب الجملة، بحيث لا تظهر الجملة على الورقة التي تحت الكربون بل يظهر الإمضاء فقط. ثم كانت تضع تلك الورقة - التي أصبحت ممضاة على بياض - تحت ورقة الكربون وتضع فوق ورقة الكربون ورقة بيضاء وتستكتبني عليها الأسطر التي تريدها. وكانت تعين لي المكان الذي يجب أن أكتب عليه حتى تقع الكتابة فوق الإمضاء لا بعيدة عنه ولا طامسة عليه.
فتمايل مصطفى باشا في مكانه وقال: يا للعجب! يا للدهاء! ولكن ماذا كان غرضها من هذه الأوراق التي تزور فيها رسائل من الأمراء، وهي تزعم أنها تريد جمع الأمراء في جمعية تعمل حرصا على حقوقهم؟ - الحق يا سيدي المشير أني تحيرت بدهاء هذه الماكرة وعملها. فخطر لي أنها ليست دوقة كما تدعي. وقد تكون جاسوسة لذلك الكافر الملحد المتبلشف مصطفى باشا كمال.
فاختلج الغازي ونظر إلى رجاء وهما يتباسمان، فقال رجاء: لو كانت هذ الدوقة جاسوسة الغازي مصطفى باشا لما كان يأمر بالقبض عليها.
فقالت نميقة: وما أدراك أنه أطلق سراحها وكان قبضه عليها تمويها. ألا تظن كذا يا فوزي باشا؟
فقال مصطفى باشا: لا يهمنا أمرها، وإنما يهمنا أن نطلع على هذه الأوراق الآن.
ففتحت نميقة الحقيبة وجعلت تستخرج تلك الأوراق التي شرحت أمرها. وكانت تشفع كل ورقة بشرح خاص. وأخيرا قالت: ترى يا دولة المشير فوزي باشا أن هذه الأوراق إذا أظهرت بإزاء أوراق كمال وعصمت التي يرومون بها أن يثبتوا تهمة الخيانة على الأمراء أظهرت كالصبح لذي عينين فساد تلك. وأمكنك يا دولة فوزي باشا أن تفقأ حصرمة في عيون مصطفى وعصمت وأنصارهما.
فقهقه مصطفى باشا ورجاء، وقال الأول: أود أن أعلم يا آنسة ما الذي حملك على حفظ هذ الأوراق وتقديمها لنا لكي ندفع بها التهمة عن الأمراء؟ - الضمير والحق يا سيدي. علمت أن الأمراء سيطردون مظلومين مضطهدين بتهمة مزورة. وفي يدي براهين على براءتهم. أفلا أكون لئيمة أو شريرة أو بلا مروءة إذا كنت لا أظهر هذه البراهين؟ - بارك الله غيرتك يا آنسة. بقي أني أود يا سيدتي أن أعلم: ألست أنت التي أرسلت ذلك التلغراف بلا إمضاء إلى البرنس سناء الدين تحذرينه من زيارة الدوقة؟
فامتقعت نميقة وحارت ماذا تجيب وبقيت صامتة. فقال مصطفى باشا: إنما أسألك هذا السؤال لأن ذلك التلغراف هو الذي جاء بالنكبة على الأمراء؛ بسبب أنه كان مفتاحا لفتح باب المكيدة. ذلك التلغراف نبه الحكومة لتفتيش بيت الدوقة والعثور على تلك الرسائل التي تثبت الخيانة على الوزراء.
فقالت: ما زلت مستغربة يا سيدي فوزي باشا أن الدوقة لم تضع تلك الرسائل في الحقيبة مع سائر الأوراق التي رامت تهريبها؟! ولهذا اعتقدت أنها كانت تكيد المكيدة للأمراء؛ لكي توقعهم في يد الحكومة، فكانت تشتغل لأجل مصطفى كمال. ولا ريب أن تلك الأموال التي كانت تنفقها بغزارة كانت من خزينة حكومة مصطفى كمال اللص البلشفي.
فامتقع لون مصطفى باشا وهو يسمع شتيمته بأذنيه صامتا، وإنما أخفى امتقاعه بضحكة مصطنعة اشترك بها رجاء، وقال: إذن كانت الرسالة منك للبرنس سناء الدين، وأستغرب أنك خصصته بها دون غيره من الأمراء. - اختصصته بها إكراما لروح بنته التي كانت صديقتي في أيام المدرسة.
فقال الغازي: يظهر أن هذه العشرة الطويلة جعلت خطك كخط بنته نميقة، حتى إن البرنس لما رأى نسخة التلغراف الأصلية صاح: «هذا خط بنتي! إن روح بنتي حاضرة.» أليس هكذا حدث يا رجاء الدين أفندي؟
فقال رجاء الدين: لم أسمع بهذه الحكاية يا باشا. ربما حدثت حين كنت سجينا.
فضحك الغازي وقال: لا. لعلك لم تسمع بها لأنها لم تنشر في الصحف، وأنت لا تعرف إلا أخبار الصحف. أظن حضرة الآنسة قد جادت بكل ما عندها.
فقالت نميقة: نعم يا سيدي المشير، وأظن هذه المعلومات كافية لتبرئة الأمراء، فحبذا أن ترغم بها أنف مصطفى كمال.
فقال رجاء: إن دولته لعامل اليوم على إرغام الأنوف يا آنسة. ولك الآن أن تقترحي على دولته المكافأة التي ترغبينها.
فقالت نميقة: لا أطلب إلا إنقاذ الأمراء مكافأة وحسبي.
فقال مصطفى باشا: ثقي أن سناء الدين أبا صديقتك لا يمسه الضر. وفوق هذا لك يد رجاء مكافأة، فهل تكتفين بها؟ ومعها أيضا وظيفة عالية له. فما قولك؟
فأطرقت نميقة ولم تجب. فقال الغازي: السكوت خير جواب. قم يا رجاء واستدع المأذون لعقد زواجكما، فهو منتظر أمرنا الآن.
وفي بضع دقائق كان المأذون معهم يكتب عقد الزواج والغازي شاهد. فلما طلب المأذون إلى الغازي أن يوقع شهادته على عقد الزواج كتب هذا إمضاءه، وقدم العقد لنميقة لتطلع على الإمضاء. فلما رأت أنه اسم الغازي مصطفى باشا كمال انتفضت وصاحت: ويلي! أهكذا خدعتني يا رجاء؟ ويحك!
ولطمت خديها. أما الغازي فصافحها قائلا: أهنئك بهذا الزوج الداهية الذي لا يصلى له بنار.
فصاحت: ويلي! والأمراء يا باشا؟ - وعدتك بألا يمس أبواك بضر وإني على الوعد. وأما سائر الأمراء فاطلبي حياتهم من رجاء.
وخرج الغازي وبقيت نميقة مع رجاء تصيح وتصخب: ويحك! ما هذا الخداع؟ الأمراء. الأمراء! الخليفة!
فقال لها: اشكري الله أن الغازي منحك سعادة أبويك. أما سائر الأمراء والخليفة فغدا يبرحون الآستانة، ونرتاح من وطأة غطرستهم. قلت لك: إني منتقم. وقد انتقمت. ولولا الغازي لسحقت أبويك أيضا، فهما أعدى أعدائي وبسببهما وجهت نقمتي للأمراء كلهم. فاشكري الله أنهما في حمى الغازي. •••
في ذلك المساء ذهب رجاء بزوجته نميقة إلى دار السفارة الروسية، فاستقبلهما السفير وعيلته بكل ترحاب واحتفلوا بهما وأولموا لهما وليمة فاخرة. وقال السفير: أهنئك يا رجاء بسليلة السلاطين.
فقال رجاء: وأنا أهنئك يا سيدي ببلشفة تركيا. ها قد انضم إلى عقيدتكم عضو جديد، هو الشعب التركي.
فقال السفير: العقبى للشعوب الأخرى، بهمتك يا رجاء.
في تلك الساعة ضرب جرس التلفون، فتناول السفير السماعة. - من؟ - مصطفى باشا كمال. - أهلا يا دولة الغازي. - ها. هل سكتت ثورة نفسكم يا سعادة السفير؟ لقد نفذنا كل برنامح اتفاقنا الشفهي. فهل تريدون بلشفة أقوى من هذه؟ - لا لا. كفى كفى! إني أصافحك يا باشا سلكيا، وموسكو تصافح أنقرة لاسلكيا!
Página desconocida