إن فائدة هذه التمارين - الخاصة بالإعراب والتطبيق ونحو ذلك - تنحصر في شيء واحد، هو تدريب عقلك على تعرف سر تركيب الجمل، وموقع الفاعل والمفعول من الجملة ... إلخ.
ولكن الإنشاء شيء آخر غير هذا كله، شيء يخالف ذلك كل المخالفة، وأوجز ما أقوله لك: إن عملك في الإنشاء هو عكس عملك في الإعراب وتطبيق القواعد النحوية ... إلخ.
ربما خطر ببالك أن التفوق في النحو- الذي يكسبك خبرة صحيحة بمواقع الكلمات من الجمل - سيكسبك نفس هذه الخبرة في إنشاء موضوع ما، وهذا وهم يكذبه الواقع، وتنقضه التجربة؛ فليست هذه القواعد عديمة الجدوى في تفوقك في الإنشاء فحسب، بل هي - إلى ذلك - أكبر عقبة تعترض سبيلك وتعوقك عن التقدم في هذا الفن والنجاح فيه.
وما ظنك برجل يريد أن يعلمك المشي مثلا، فلا يحفل بتدريبك عليه، بل يدع ذلك جانبا؛ ويبدأ بتعريفك كل دقيقة وجليلة من عضل الساق، وسر تركيبها، وعمل كل منها أثناء السير، وتوقف تحريك تلك العضلة على تحريك هذه، إلى آخر ذلك البحث المضني الشاق الذي لا يعنى به إلا المختصون من الأطباء بدراسة التشريح.
إنك تستطيع أن تدرك - بأدنى تأمل - أنك في غير حاجة إلى تفهم كل هذه المباحث العويصة، وأنك في حاجة إلى التمرين - قبل كل شيء - وأن التدريب وحده هو خير الطرق لتعويدك المشي، وحسبك إذا شئت أن تعرف أسماء العضل الرئيسي في الساق تاركا بقية التفاصيل إلى الأطباء المختصين.
ولقد تعلم الناس المشي - منذ آلاف السنين - قبل أن يعرفوا أسماء هذه العضل، ولم يكلفهم ذلك أكثر من محاكاة غيرهم وتقليدهم في ذلك.
واعلم يا ولدي أن المشي والكلام والكتابة غاية في اليسر، وأن كلا من هذه الأشياء الثلاثة لا يكتسب بغير المرانة، وأن على هذه المرانة وحدها يتوقف سر النجاح فيها جميعا.
إن في هذه الكتب - التي يضعها مؤلفوها لتعليم الإنشاء - كثيرا من العجائب إن لم أقل السخافات، مثال ذلك:
اكتب ثلاث جمل في كل منها فعل يتعدى إلى مفعولين، أو ثلاثة مفاعيل، أو نحو ذلك، أنشئ ست جمل مبتدأة أولاها بحرف ألف، وثانيتها بحرف باء ... إلخ. هذا نظام غير طبيعي، وهو نوع من التمارين الإنشائية المتكلفة التي لا تنطبق على حاجتنا في أداء أغراضنا ومعانينا في الحياة العملية، فإن أول شرط في الكتابة أن تكون طبيعية كالكلام والمشي، ولا جرم أن الإنسان - إذا تكلم أو كتب - لا يعنى بأمثال هذه السفاسف، وهو لا يتكلم - أو يكتب - إلا معبرا عما يدور بخلده من المعاني والأغراض، ومن ثم تواتيه الكلمات والجمل - عفو الخاطر - حتى يتم موضوعه دون أن يحفل مطلقا بجعل هذه الجملة قصيرة أو طويلة، فيها أفعال تتعدى إلى مفعول واحد أو ثلاثة مفاعيل، مبتدأة بحرف جيم أو حرف زاي، إلى آخر هذه الصغائر!
وموجز القول أن الإعراب والإنشاء متعارضان كل التعارض، وأن نظام هذا وطبيعته مناقضة كل المناقضة لنظام ذلك وطبيعته.
Página desconocida