ولما كان الورع كف اليد، ظاهرًا، عن الشيء الضار، كانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس، لم يصح الورع ظاهرا إلا أن تقع في النفس روعة باطنة من تناول ذلك الشيء.
ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصرة القلب، لم يصح أن تقع روعة النفس إلا عن تبصر القلب في الشيء الضار، كما لا تنكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره، حتى إن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المنتظف من المستقذرات، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا، تستقذرهم أهل البصائر، كما يستقذرون هم دود جيف المزابل.
ولما كان الحرام ما يضر العبد في جسمه، كالميتة، تيسر على المتبصر كف يده عنها، لما يدري من مضرتها بجسمه، وكذلك الدم المسفوح، لأنه ميتة بانفصاله عن الحي، ومفارقته لروح الحياة، التي تخالطه في العروق، وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير، لأنه رجس، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان، وذلك لأن من اغتذى جسمه من لحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان، وتخلق من أخلاقه، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق، من الإباء والحران والمكر، والإقدام على ما يعاين فيه الهلاك، ومتابعة الفساد، والانكباب على ما يقبل عليه من أدنى الأشياء، على ما ظهرت في خلقته آياته، فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق.
وكذلك ما يضر بهما وبالعقل، كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس، وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس، ولذلك هي جماع الإثم، فالمتبصر في المحرمات يأنف
1 / 94