The Tatars from the Beginning to Ain Jalut
التتار من البداية إلى عين جالوت
Géneros
قصة قطز أثناء حكمه ووفاته ﵀
هذه هي قصة قطز ﵀، وبقي في القصة مفاجأة، وهي الفصل الأخير العجيب في قصة قطز ﵀، والمفاجأة هي أنه لم يبق قطز ﵀ في كرسي الحكم إلا (١١) شهرًا و(١٧) يومًا فقط، ولم يكمل السنة، فكل هذا التاريخ المجيد والإعداد المتقن والتربية العالية والانتصار المذهل والنتائج الهائلة والآثار العظيمة كان في أقل من سنة، فقد مات قطز ﵀ بعد انتصار عين جالوت بـ (٥٠) يومًا فقط، ومع أنه حكم هذه الفترة اليسيرة إلا أنه كان فعلًا من أعظم رجال الأرض؛ فقيمة الرجال وعظمة الأبطال لا تقاسان أبدًا بطول العمر ولا بكثرة المال ولا باتساع السلطان، وإنما المقياس الصحيح الصادق يكون بالأعمال الخالدة التي تغير من وجه التاريخ ومن جغرافية العالم، وهي في ذات الوقت تثقل في ميزان الله ﷿.
وسلوا أنفسكم من قطز إذا لم يتمسك بشرع الله ﷿، وينتصر في عين جالوت بفضل تمسكه بهذا الشرع، وانسجامه في السير في طريق الله ﷿؟ فمن قطز بغير هذا الطريق؟ لا شك أن التاريخ كان سيغفل اسمه كما أغفل أسماء الكثيرين الذين كانوا كغثاء السيل، بل كانوا وبالًا على شعوبهم وأوطانهم مع حكمهم الفترات الطويلة والأعمار المديدة.
لا شك أن حفر الاسم في سجل التاريخ يحتاج إلى رجال عظماء، وليس بالضرورة أن يحتاج إلى وقت طويل، والناس تعتقد أن التغيير لا بد أن يأخذ فترات طويلة جدًا، ولكن الحق الذي رأيناه في هذه القصة غير ذلك، فالتغيير لا يعتمد على طول الزمن، وإنما يعتمد على نوعية الرجال المغيرين، وإن وجد هؤلاء العظماء فالنصر قريب، والتغيير ممكن بل أكيد، وإن لم يوجد أمثال هؤلاء فقد تمر على الأمة عشرات السنين ولا تتقدم خطوة، بل تتأخر خطوات.
وقد كان الشيخ العز بن عبد السلام ﵀ يخشى على الأمة أن تنهار بعد أن فقدت قطز ﵀ بهذه السرعة، ويخشى عليها أن يضيع منها النصر الكبير، فقال بعد موت قطز وهو يبكي بشدة: رحم الله شبابه، لو عاش طويلًا لجدد للإسلام شبابه.
وقد جدد قطز فعلًا للإسلام شبابه، فمع أنه لم يعش طويلًا إلا أن دولة المماليك ظلت قرابة الثلاثة قرون تذود عن حمى المسلمين، وترفع راية الإسلام، فقد وضع قطز ﵀ الأساس المتين، وعليه سيبني الآخرون بناءً راسخًا، وبغير الأساس من المستحيل أن يرتفع البناء.
ويقول الشيخ العز بن عبد السلام ﵀: ما ولي أمر المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز ﵀ من يعادل قطز ﵀ صلاحًا وعدلًا.
هذه هي قيمة قطز في الميدان الإسلامي.
وأما كيف صنع قطز ﵀ هذا المجد؟ فقد صنعه ﵀ بكتاب الله وبحديث رسول الله ﷺ، وسيبقى واضحًا جليًا أمام الناس أجمعين: أن أعظم معجزات هذا الدين هي صناعة الرجال، وإلا خبروني بالله عليكم من عمر بغير الإسلام؟ من خالد بغير الإسلام؟ ومن طارق بن زياد بغير الإسلام؟ ومن قطز بغير الإسلام؟ وكتاب الله بحمد الله بين أيدينا، وكذلك حديث رسول الله ﷺ، فقد حفظهما الله لنا، وسيظلان كذلك إلى يوم الدين، ولن تضل الأمة أبدًا ما دامت متمسكة بهما، فقد روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله ﷺ قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه)، فمعين الأمة لا ينضب أبدًا، والله ﷿ الذي خلق خالدًا والقعقاع وطارقًا وصلاحًا وقطز سيخلق لهذه الأمة دومًا رجالًا يغيرون من واقعها، ويجددون لها دينها وشبابها، ويبعثون في نفوس أبنائها الأمل، ويقودونها بإذن الله إلى صدارة الأمم وقيادة العالمين، بل ويقودونها إن شاء الله إلى جنات النعيم، ففي الإسلام عز الدنيا والآخرة.
وبعد: فقد انتهت قصة التتار، وانتهت قصة عين جالوت، ومات الصالحون والطالحون، ومات الجند الظالمون والمؤمنون، ومرت الأعوام والقرون، وذهبت الديار والرجال والقلاع والحصون، وذهبت الأفراح والأتراح، وذهبت الضحكات والدموع، وذهب كل شيء ولم تبق إلا العبرة، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف:١١١]، وبقي كلام رسول الله ﷺ الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ﵁ قال: (تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته،
12 / 18