247

The Tatars from the Beginning to Ain Jalut

التتار من البداية إلى عين جالوت

Géneros

العظماء وصناعة التاريخ
من المؤرخين من يشكك بأن التاريخ يصنعه إنسان بعينه، وأن الإنسان الفرد لا يقوى على تغيير المجتمعات وحركة التاريخ، ولكن التاريخ نفسه يثبت عكس ذلك، فقد تغيرت حركة التاريخ تمامًا في أزمان كثيرة وفي أماكن متعددة بظهور أشخاص بعينهم، ولا أقول: إنها تغيرت بحياة رسول أو نبي فهذا واضح مفهوم، ووجود الوحي والتوجيه الرباني المباشر يجعل المقارنة مع بقية فترات التاريخ مستحيلة، ولكن أقول: إن حركة التاريخ تتغير بأشخاص معينة ليسوا بأنبياء ولا رسل، فقد تغيرت حركة التاريخ بوجود أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه، وحروب الردة شاهد على ذلك، وتغيرت حركة التاريخ بوجود عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه، وراجعوا فتوح الإسلام، وتغيرت حركة التاريخ بوجود عمر بن عبد العزيز ﵀ وموسى بن نصير وعبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود، صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح وعبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين وغيرهم كثير جدًا ﵏ جميعًا، وعلى الرغم من أنهم يظهرون على فترات متباعدة، إلا أن أثرهم يمتد إلى آماد بعيدة.
وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، ولكن هذه الراحلة إن وجدت فيا سعادة أهل الأرض بوجودها.
وروى أبو داود عن أبي هريرة ﵃ قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وقطز لا شك أنه كان من هؤلاء المجددين، فإن شئت فتحدث عن إيمانه وخشوعه، وإن شئت فتحدث عن عفته وعفافه، وعن كفاءته ومهارته، وعن صدقه وإخلاصه، وعن جهاده وتضحيته، وعن قوته وبأسه، وعن صبره ومصابرته، وعن حلمه وتواضعه، وعن علمه وخبرته.
فقد كان رجلًا مجددًا بمعنى الكلمة.
وكان كما وصفه الإمام الذهبي ﵀ في سير أعلام النبلاء حيث قال: كان فارسًا شجاعًا سائسًا دينًا، محببًا إلى الرعية، هزم التتار وطهر الشام منهم يوم عين جالوت، ويسلم له إن شاء الله جهاده، وكان شابًا أشقر، وافر اللحية، تام الشكل، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابه بالجنة ورضي عنه.
ووصفه ابن كثير ﵀ في البداية والنهاية بقوله: كان شجاعًا بطلًا كثير الخير، ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرًا.
ويعلق المؤرخون المسلمون دائمًا على مسألة حب الناس للشخص، وحب الرعية للزعيم، فهذا مقياس دقيق جدًا من مقاييس العظمة الحقيقية، فالصالحون من هذه الأمة لا يحبون إلا صالحًا، ولا يبغضون إلا فاسدًا، ومن أجمع الصالحون على حبه فهو محبوب عند الله ﷿، ومن أجمعوا على بغضه فهو بغيض عند الله ﷿، وهذا كلام الحبيب المصطفى ﷺ، فقد روى مسلم عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أُحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض).
وهكذا نرى بوضوح في حركة التاريخ أن هناك رجالًا بعينهم يغيرون فعلًا من مسار التاريخ، ولكن مع وضوح هذا الأمر وجلائه أمام أعيننا في كل صفحات التاريخ، فإن العجيب أن الناس دائمًا يبحثون عن هذا الرجل في خارج بيوتهم وشوارعهم ومدنهم، ويعتقدون دائمًا أن هذا الرجل سيأتي من مكان بعيد وزمان بعيد، بل لعله يأتي من خارج الأرض، ولا يعد كل واحد منا نفسه وأهله وأبناءه وإخوانه ليكونوا هذا الرجل المغير، فلماذا لا تكون أنت قطز؟ ولماذا لا يكون ابنك قطز؟ ولماذا لا يكون هو أخاك؟ إننا ندرس التاريخ لكي نسير على درب الصالحين ونتجنب دروب الفاسدين، فلماذا لا نسير على خطوات قطز ﵀ الواضحة الثابتة لنصل إلى عين جالوت، في زمان كثر فيه أشباه التتار؟ ووالله ما عاد لدينا عذر، فقد أقيمت علينا الحجة، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال:٤٢].

12 / 17