حتى إذا كان رسول الله ﷺ بين مكة والمدينة في وسط الطريق، نزلت سورة الفتح (^١) قال عمر: فما نشبت أن سمعت مناديا ينادي: يا عمر، أين عمر؟، قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء. فجئت إلى رسول الله ﷺ فسلمت عليه، فقال: "يا ابن الخطاب، لقد أنزل علي هذه الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: ﴿إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطًا مستقيمًا، وينصرك الله نصرًا عزيزًا﴾. فقرأها رسول الله ﷺ على عمر إلى آخرها. فقال عمر: يا رسول الله، أَوَ فتح هو؟، قال: " نعم ". فطابت نفسه ورجع.
وأنزل الله ﷿ فيها: ﴿هم الذين كفروا، وصدوكم عن المسجد الحرام، والهدي معكوفًا أن يبلغ محله، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم، أن تطئوهم، فتصيبكم منهم معرة (^٢) بغير علم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا (^٣) لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا، إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية﴾ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، وحالوا بينهم وبين البيت.
(^١) فما فُتِح في الإسلام فَتْحٌ قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس، كلم بعضهم بعضًا، والتقوا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. وكان مقدمة الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجًا، وكانت الهدنة مفتاحًا لذلك، ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح، سميت فتحًا، فإن الفتح في اللغة: فتح المغلق، والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين، وفي الصورة الباطنة، عزًا لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم، اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
(^٢) المعرة: الأمر القبيح المكروه، والأذى.
(^٣) أي: لو تميزوا.
1 / 302