انتتر الرجل واقفا ممتقع الوجه وصاح به: يا وقح يا مجرم يا مدمن!
انقض بلا وعي على النشافة ورماه بها فأصابت صدره فوق رباط الرقبة. ضغط الرجل على زر الجرس وهو يرتعد، فصاح أنيس: إن نطقت بكلمة أخرى قتلتك!
أحاط به صمت ثقيل في مكتبه ولكنه لم ير أحدا. جلس ساهما منفصلا تماما عما حوله، حتى الألم لم يعد يشعر به، وقبيل الانصراف اقترب منه زميله وهمس في إشفاق: يؤسفني أن أخبرك بأن أمرا قد صدر بوقفك عن العمل وإحالتك إلى النيابة الإدارية.
17
استسلم للمقادير، وقال إن شر البلية ما يضحك. وهو يتناول غداءه أخبره عم عبده بأنه لم يجد شيئا عند التاجر وبأنهم أخطئوا في إغفال نصيحته. والعمل؟ سيجرب حظه عند تاجر آخر، ولكنه غير متأكد من نتيجة مسعاه. ها هي المصائب تتجمع كسحب الشتاء. واستلقى على فراشه وراح يطالع فصولا من عصر الشهداء. قرأ طويلا ولكن النوم لم يأت. سقط شهيد في إثر شهيد ولكن النوم لم يأت. وكره الرقاد فقام يتسلى بإعداد المجلس. عندما تتكاثر المصائب يمحو بعضها بعضا، وتحل بك سعادة جنونية غريبة المذاق، وتستطيع أن تضحك من قلب لم يعد يعرف الخوف، ولنا فوق ذلك نزهة لطيفة في النيابة الإدارية. ما اسمك بالكامل: أنيس زكي ابن آدم وحواء. سنك: ولدت بعد مولد الأرض بألف مليون سنة. وظيفتك: برومثيوس مسطولا. مرتبك: ما قيمته خمس وعشرون كيلو من اللحم البلدي. والتاجر على أي حال يجب أن يوجد. ودخل الشرفة فجذب سمعه صوت عم عبده وهو يؤم المصلين لصلاة العصر. تقدمهم كالطود واصطفوا خلفه كالأقزام ما بين خفير عوامة وقروي وخادم. ومخرت النيل قافلة من المراكب الشراعية محملة بالأحجار. وتتابعت الأمواج سمراء ضاربة للاخضرار في هدوء رتيب كأن الطمأنينة تحكم الكون. واستوت على الشاطئ أشجار الأكاسيا كالبركات مستقلة بكون آخر.
وجاء عم عبده عقب الصلاة ولكنه وجد المجلس جاهزا. ورجع أنيس إلى الصالة وهو يقول له مداعبا: تطاردني يا عجوز! - هه؟ - رأيتك في المنام تطاردني. - خيرا إن شاء الله. - ماذا تصنع لو طردتك من العوامة؟
وهو يضحك: جميع الناس يحبون عم عبده. - أتحب الدنيا يا عجوز؟ - أحب كل ما خلق الرحمن. - ولكنها كريهة أحيانا، أليس كذلك؟ - الدنيا حلوة ربنا يطول عمرك. - إياك وأن ترجع خالي اليدين. - ربنا موجود.
وتلقت العوامة الهزة المألوفة، فنظر أنيس نحو الباب ليرى القادم المبكر. وما كاد عم عبده يختفي حتى ظهرت سمارة، متجهمة شاحبة الوجه، تعكس عيناها توجسا وقلقا وقد ركد ماء الشباب في وجهها. صافحته في آلية، ثم جلسا متباعدين. وانتبهت إلى المجلس المعد بغرابة وتمتمت: أيمكن أن تمضي الحياة كما كانت؟ - لا شيء يكون كما كان.
قالت وهي تغمض عينيها: لم أنم أمس دقيقة واحدة. - ولا أنا.
فتأوهت قائلة: مات في جانب لا يعوض. - الحق أن الموت يطاردنا بشدة منذ أمس.
Página desconocida