ثرثرة فوق النيل
ثرثرة فوق النيل
ثرثرة فوق النيل
ثرثرة فوق النيل
تأليف
نجيب محفوظ
ثرثرة فوق النيل
1
أبريل، شهر الغبار والأكاذيب. الحجرة الطويلة العالية السقف مخزن كئيب لدخان السجائر. الملفات تنعم براحة الموت فوق الأرفف. ويا لها من تسلية أن تلاحظ الموظف من جدية مظهره وهو يؤدي عملا تافها! التسجيل في السراكي، الحفظ في الملفات، الصادر والوارد. النمل والصراصير والعنكبوت ورائحة الغبار المتسللة من النوافذ المغلقة. وسأله رئيس القلم: هل أتممت البيان المطلوب؟
فأجاب بلسان متراخ: نعم، ورفعته للمدير العام.
Página desconocida
فرماه بنظرة نافذة لاحت كإشعاع بلوري من وراء نظارته السميكة. هل ضبطه متلبسا بابتسامة بلهاء غير مبررة؟ ولكن هذه السخافات يجب أن تساغ في أبريل، شهر الغبار والأكاذيب.
ودبت حركة عجيبة في رئيس القلم فشملت أعضاءه الظاهرة فوق المكتب. حركة تموجية بطيئة ولكنها ذات أثر حاسم. راح ينتفخ رويدا فيمتد الانتفاخ من الصدر إلى الرقبة، فإلى الوجه، ثم الرأس. حملق أنيس زكي في رئيسه بعينين جامدتين. وإذا بالانتفاخ البادئ أصلا بالصدر يتضخم فيزدرد الرقبة والرأس، ماحيا جميع القسمات والملامح، مكونا من الرجل في النهاية كرة ضخمة من اللحم. ويبدو أن وزنه خف بطريقة مذهلة؛ فمضت الكرة تصعد ببطء أول الأمر، ثم بسرعة متدرجة حتى طارت كمنطاد والتصقت بالسقف وهي تتأرجح. وسأله رئيس القلم: لماذا تنظر إلى السقف يا أنيس أفندي؟
آه. ها هو يضبطه متلبسا مرة أخرى. ورمقته الأعين بإشفاق واستهزاء. واهتزت الرءوس في رثاء احتفاء بملاحظة الرئيس وتأييدا لها. وإذن فلتشهد النجوم على ذلك. حتى الهاموش والضفادع تعامله معاملة أكرم وألطف. أما الحية الرقطاء فقد أدت خدمة لا تتكرر لملكة مصر القديمة. أنتم وحدكم أيها الزملاء لا خير فيكم. والعزاء عندما نلتمس العزاء في قول ذلك الصديق الذي قال: «فلتقم أنت في العوامة. لن تتكلف مليما واحدا من إيجارها، وعليك أن تعد لنا كل شيء.»
وبتصميم مفاجئ راح يسرك مجموعة من الخطابات. السيد المحترم. إشارة إلى كتابكم رقم 1911 المؤرخ في 2 من فبراير 1964م، وملحقه رقم 2008 المؤرخ في 28 من مارس 1964م، أتشرف بالإفادة. ومع رائحة الغبار المتسللة ترامت من راديو في الطريق أغنية: «يا اما القمر على الباب». فتوقفت يده عن الكتاب وغمغم: «الله!» فقال زميله الأيمن: يا بختك بفراغ البال!
يا أولاد الأقدمية المطلقة! في انتظار حلم لن يتحقق تحترفون البهلوانية. وأنا بينكم معجزة تخترق الفضاء الخارجي بغير صاروخ.
ودخل الساعي فسرت في بدنه رعدة رغبة، فقال له: واحد سادة.
فأجاب الساعي وهو يقف أمام مكتبه: ستجده على مكتبك عندما ترجع من مقابلة سعادة المدير العام.
غادر الحجرة بقامته الطويلة الضخمة بحكم ضخامة عظامه، لا بسبب أي درجة من الامتلاء.
في حجرة المدير وقف أمام مكتبه خاشعا، وظل رأس المدير الأصلع مكبا على أوراق يراجعها عارضا لعينيه ظهر قارب مقلوب. وطارد بالبقية الباقية له من إرادته أي خاطر يمكن أن يعبث به فيوقعه في مأزق وخيم العواقب. ورفع الرجل وجها مدببا مغضونا، ثم رمقه بنظرة شوكية. أي خطأ يمكن أن يتسرب إلى البيان الذي نقله بعناية خارقة؟! - طلبت منك بيانا مفصلا عن حركة الوارد في الشهر الماضي. - نعم يا سعادة البك وقد قدمته لسعادتك. - أهو هذا؟
نظر إلى البيان فقرأ على الغلاف بخط يده: «مذكرة عن حركة الوارد خلال شهر مارس مرفوعة إلى السيد مدير عام المحفوظات». - هو يا أفندم. - انظر واقرأ.
Página desconocida
رأى أسطرا مكتوبة بوضوح يليها فراغ أبيض. قلب الأوراق في ذهول، ثم حملق في وجه المدير العام كالأبله.
قال الرجل بحنق: اقرأ. - سيدي المدير .. لقد كتبتها حرفا حرفا. - خبرني كيف اختفت؟ - الحق أنه لغز غير قابل للتفسير. - ولكن أمامك آثار سن القلم! - سن القلم؟ - أعطني قلمك الساحر!
وتناول القلم بحركة حادة، وراح يرسم خطوطا على غلاف البيان، ولكنه لم يرسم خطا واحدا. - ليس به نقطة حبر واحدة!
تجلى الوجوم في صفحة وجهه العريض، فقال المدير بمرارة: بدأت بكتابة هذه الأسطر، ثم فرغ الحبر، ولكنك استمررت في الكتابة.
لم ينبس بكلمة. - لم تنتبه إلى أن القلم لا يكتب.
حرك يده حركة حائرة. - خبرني يا سيد أنيس كيف أمكن أن يحدث ذلك؟
أجل كيف؟ كيف دبت الحياة لأول مرة في طحالب فجوات الصخور بأعماق المحيط؟! - لست أعمى فيما أظن يا سيد أنيس؟
أحنى رأسه مستسلما. - سأجيب أنا عنك. إنك لم تر الصفحة لأنك مسطول! - يا سعادة ... - هذه هي الحقيقة، حقيقة معروفة للجميع، حتى السعاة والفراشين. وأنا لست واعظا، ولا ولي أمرك. افعل بنفسك ما تشاء، ولكن من حقي أن أطالبك بأن تمتنع وقت العمل عن البلبعة. - يا سعادة ... - دعنا من السعادة والتعاسة. حقق لي هذا الرجاء المتواضع وهو ألا تبلبع في أثناء العمل. - يشهد الله أني مريض! - إنك المريض الأبدي. - لا تصدق ما ... - كفاية! انظر في عينيك. - هو المرض ولا شيء سواه. - ما رأيت في عينيك إلا الاحمرار والظلام والثقل. - لا تستمع إلى كلام ... - عيناك تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية خلق الله.
ثم ندت عن يديه المغطاتين بشعيرات بيضاء شعثاء حركة وعيد، وقال بنبرة حادة: للصبر حدود؛ فلا تستسلم للتدهور بلا حدود. وأنت رجل في الأربعين، وهي سن العقل؛ فكف عن العبث.
تراجع خطوتين استعدادا للذهاب، فقال الرجل: سأخصم من مرتبك يومين فقط، ولكن احذر أن تعود.
Página desconocida
وسمعه وهو يمضي نحو الباب يقول بازدراء: متى تفرق بين الحكومة والغرزة؟!
وبرجوعه إلى الإدارة ارتفعت الرءوس نحوه مستطلعة. تجاهلهم وجلس ينظر إلى فنجان القهوة. وشعر بزميله وهو يميل نحوه ليسأل سؤالا في الغالب، فتمتم في ضجر: كن في حالك.
وأخرج من الدرج محبرة وراح يملأ القلم. عليه أن يعيد البيان من جديد. حركة الوارد. لا حركة البتة في الحقيقة. حركة دائرية حول محور جامد. حركة دائرية تتسلى بالعبث. حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار. في غيبوبة الدوار تختفي جميع الأشياء الثمينة. من بين هذه الأشياء الطب والعلم والقانون، والأهل المنسيون في القرية الطيبة. والزوجة والابنة الصغيرة تحت غشاء الأرض. وكلمات مشتعلة بالحماس دفنت تحت ركام من الثلج. ولم يبق في الطريق رجل. وأغلقت الأبواب والنوافذ. وثار الغبار لوقع سنابك الخيل. وصاح المماليك صيحات الفرح في رحلة الرماية، كلما عثروا على آدمي في مرجوش أو الجمالية أقاموا منه هدفا لتدريبهم. وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح المجنون، وتصرخ الثكلى: «الرحمة يا مملوك!» فينقض عليها الصائد في يوم اللهو. بردت القهوة وتغير مذاقها، وما زال المملوك يضحك ملء شدقيه. وحل الصداع مكان الخيال وما زال المملوك يضحك. وهم يطلقون اللحى ويثيرون الغبار، ويفرحون بالأبهة والتعذيب.
ودب نشاط مرح في الحجرة القاتمة مؤذنا بوقت الانصراف.
2
استوت العوامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه. بين فراغ إلى اليمين احتلته عوامة دهرا قبل أن يجرفها التيار ذات يوم، ومصلى إلى اليسار مقام على لسان عريض من الشاطئ مطوق بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية. دخل أنيس زكي من باب خشبي أبيض يمتد إلى جانبيه سياج من شجيرات البنفسج والياسمين، فاستقبله عم عبده الخفير قائما، يعلو بقامته العملاقة هامة كوخه الطيني المسقوف بالأخشاب وسعف النخيل. ومضى إلى الصقالة فوق ممشى مبلط تكتنفه من الناحيتين أرض معشوشبة، يتوسط يمناها حوض من الجرجير، وتقوم في أقصى اليسرى خميلة من اللبلاب ترامت كخلفية لشجرة جوافة فارعة. وانهلت أشعة الشمس ملحة حامية من خلال سقيفة من أغصان الكافور منطرحة فوق الحديقة الصغيرة من أشجارها المغروسة في الطريق.
خلع ملابسه وجلس بجلبابه الأبيض فوق عتبة الشرفة المطلة على النيل يستقبل نسمة لطيفة، مستسلما للمساتها الحانية، جاريا ببصره فوق الماء المنبسط كأنه مستقر ساكن لا يتموج ولا يتلألأ، ولكنه موصل جيد لأصوات السكان في عوامات الشاطئ الآخر في صفها الطويل تحت أغصان الجازورينا والأكاسيا. وتنهد بصوت مسموع، فسأله عم عبده وهو يعد المائدة الصغيرة الملتصقة بالجدار الأيمن على مبعدة مترين من الفريجيدير النورج: خيرا؟
فتمتم ملتفتا نحوه: صادف الكيف جوا فاسدا مقرفا. - ولكنك تعود آخر الأمر إلى جوك الطيب.
دائما ينتزع إعجابه كشيء ضخم قديم عريق في القدم. وبحيوية النظرة المنبثقة من دائرة التجاعيد الصلبة. وربما أرهبه عمق الحفائر، أو هالة الشعر الأبيض الكث البارز من جيب جلبابه كأزهار البلح. أما جلبابه الدمور المنسدل كغطاء تمثال فينسدل على اللحم بلا عائق. وما اللحم إلا جلد على عظم. ولكن أي عظم؟! هيكل عملاق يناطح رأسه سقف العوامة، ويشع كونه جاذبية لا تقاوم. رمز حقيقي للمقاومة حيال الموت؛ لذلك يحب كثيرا محادثته رغم أن المعاشرة بينهما لم تجاوز الشهر.
وقام إلى السفرة واتخذ مجلسه، وراح يأكل قطعة من الكوستليتة ممسكا بطرف الريشة وهو ينظر إلى الجدار الخشبي المطلي بغراء سماوي، ويتابع برصا صغيرا زحف مسرعا فوق الجدار ثم انزوى وراء مفتاح الكهرباء، وذكره البرص برئيس القلم، ولكن لماذا؟ وألح عليه سؤال مباغت: ترى هل يوجد للمعز لدين الله الفاطمي ورثة يمكن أن يطالبوا ذات يوم بملكية القاهرة؟ - كم عمرك يا عم عبده؟
Página desconocida
كان يقف وراء البارافان الحاجب للباب الخارجي مطلا عليه من عل كأنه شجرة سرو سارحة في السحاب، وابتسم كأنما لم يأخذ السؤال مأخذ الجد: عمري!
فأكد سؤاله بهزة من رأسه وهو يتمطق، فعاد العجوز يقول: من أدراني؟
لست خبيرا في تقدير الأعمار، ولكن الراجح أنه كان يسعى فوق الأرض قبل أن تغرس أول شجرة في شارع النيل. ولم يزل قويا بالقياس إلى سنه لدرجة تفوق الخيال.
يتفقد الفناطيس، ويجذب العوامة بحبالها تبعا للأحوال فتطيعه، ويسقي الزرع، ويؤم المصلين، ويحسن طهي الطعام. - هل تعيش وحدك دائما في الكوخ؟ - إنه بالكاد يسعني وحدي. - من أي بلد جئت يا عم عبده؟ - أووه! - أليس لك من أقارب في القاهرة؟ - لا أحد. - نحن شبيهان في ذلك على الأقل، أما طعامك فلذيذ. - تشكر! - إنك تأكل أكثر مما يجوز لشخص في سنك. - آكل ما أستطيع أن أهضمه.
ونظر إلى العظام المتخلفة من الكوستليتة وقال إن المدير العام لن يبقى منه ذات يوم إلا عظام كهذه العظام، وكم يود أن يشهد محاسبته يوم الحساب! وراح يقشر موزة مواصلا تحقيقه: متى خدمت في العوامة؟ - مذ جيء بها إلى مرساها. - متى كان ذلك؟ - أووه! - وصاحبها الأول أهو صاحبها اليوم؟ - تتابع عليها كثيرون. - وعملك هل يعجبك؟
أجاب بزهو: أنا العوامة؛ لأني أنا الحبال والفناطيس، وإذا سهوت عما يجب لحظة غرقت وجرفها التيار.
فضحك لاعتزازه الساذج الجذاب بنفسه، ورنا إليه مليا، ثم سأل: ما أهم شيء في الدنيا؟ - الصحة والعافية.
شيء غامض ساحر في الإجابة أضحكه طويلا، وعاد يسأل: متى عشقت امرأة آخر مرة؟ - أووه! - وبعد العشق ألم تجد شيئا يسرك؟ - قرة عيني في الصلاة. - جميل صوتك وأنت تؤذن.
ثم بنبرة مرحة: ولست دون ذلك جمالا حين تذهب لتجيء بالكيف، أو تغيب لتعود بفتاة من فتيات الليل.
فقهقه مائلا برأسه المغطى بطاقية بيضاء إلى الوراء ولكنه لم يجب. - أليس كذلك؟
Página desconocida
فأجاب وهو يمسح بيده الكبيرة على وجهه: أنا خادم السادة.
كلا. وهو العوامة كما قال. الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة والأذان.
وقام متأبطا المنشفة فدخل من باب جانبي في ذات الجدار إلى الحوض ليغسل يديه، وعاد وهو يقول لنفسه إن الإفراط وحده كان السبب في أن أكثر الخلفاء لم يعمروا طويلا.
ورأى عم عبده منهمكا في تنظيف المائدة منحني الظهر كنخلة مقوسة، فسأله مداعبا: ألم تر عفريتا في حياتك؟ - رأيت كل شيء.
فغمز بعينه متسائلا: ألم تسكن أسرة شريفة هذه العوامة أبدا؟ - أووه! - يا خفير اللذات! لو لم تحب هذه الحياة لهجرتها من أول يوم. - لكني بنيت المصلى بيدي!
ونظر إلى الكتب المصفوفة فوق الأرفف التي تشغل الجدار الطويل إلى يسار الداخل.
مكتبة التاريخ منذ العصر الخالي حتى عصر الذرة. مجال خياله وكنز أحلامه. وتناول كيفما اتفق كتاب ك. ك. عن الرهبنة في العصر القبطي ليطالع فيه ساعة أو ساعتين قبل القيلولة كعادته كل يوم. وفرغ عم عبده من عمله فاقترب منه مستطلعا آخر تعليماته قبل أن يذهب، عند ذاك سأله: ماذا يجري في الخارج يا عم عبده؟ - كالعادة يا سيدي. - ألا جديد هناك؟ - لم لا تخرج يا سيدي؟ - كل يوم أذهب إلى الوزارة. - أعني أن تخرج للفرجة.
فضحك قائلا: عيناي تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية عباد الله!
وصرفه وهو يوصيه بأن يوقظه قبيل المغرب إذا غلبه النوم.
3
Página desconocida
أعد المجلس كأحسن ما يكون. صفت الشلت على صورة هلال كبير فيما يلي الشرفة . وفي نقطة الوسط من الهلال استوت صينية نحاسية كبيرة، جمعت الجوزة ولوازمها. وهبط المغيب فوق الأشجار والماء، فانتشر في الجو حلم هادئ. وآبت أسراب الحمام البيضاء تطير ذراعا فوق النيل. تربع أنيس وراء الصينية رانيا إلى المغيب بعينين ناعستين، متذوقا بمودة رائحة الماء الدسمة وملامح الدنيا، محافظة على هيئتها بوجه عام، ولكن عندما يسري سحر الفص المذاب في القهوة السادة فسوف تتغير أشياء؛ ستحل الأشكال المجردة والتكعيبية والسريالية والوحشية مكان الجازورينا والكافور والأكاسيا وعرائس العوامات، أما الإنسان فيرتد إلى العصر الطحلبي. ولكن ما هي الأسباب التي حولت طائفة من المصريين إلى رهبان؟
بل ما هي آخر نكتة سمعتها عن راهب وإسكاف؟
وسرت هزة خفيفة في العوامة بفعل قدم تسير فوق الصقالة، فتأهب لاستقبال القادم. أقبلت فتاة معتدلة القامة ذات شعر ذهبي. مضت إلى الشرفة وهي تحييه بمرح فتمتم: أهلا بوزارة الخارجية.
ليلى زيدان صديقة الأعوام العشرة الماضية، عانس في الخامسة والثلاثين كما ينبغي لرائدة في فضاء الحرية مرقت من بؤرة محافظة. وأنت لم تمسها ولكن مسها الكبر. هذه التجاعيد الخفيفة كالزغب حول طرف العين والفم، ومسحة من الجفاف القاسي المقفر لإناء لم يترع بماء. ولم تزل بها ملاحة تشتهى في البشرة الصافية رغم غلظ في أرنبة الأنف ونذير غامض يزحف مهددا بالخراب، وكانت في عصر خوفو ترعى الغنم في شبه جزيرة سيناء، ولكنها لم تترك أثرا إذ لدغها ثعبان أعمى فقضى عليها.
قالت دون أن تلتفت إليه كأنما تخاطب النيل: يوم شاق في الوزارة. ترجمت عشرين صفحة فولسكاب. - وكيف حال السياسة الخارجية؟ - ماذا تتوقع؟ - أنا لا أطلب إلا الستر.
غادرت موقفها إلى أقصى شلتة في الجناح الأيمن للمجلس، ثم جلست وهي تقول: المنظر كما هو كل يوم؛ عم عبده جالس في الحديقة كتمثال، وأنت هنا تعد الجوزة! - ذلك أن على الإنسان أن يعمل.
وأذعن لإحساس مترنح فتمثل له المساء بشرا عابثا قد عمر الملايين من السنين. وراح يعرض بامرأة عابدة للحب، كلما هجرها محب ارتمت بين أحضان آخر . وقال: إن ذاك سلوك يمكن أن تفسر به أوجه القمر المتتابعة من المحاق إلى البدر.
فابتسمت ابتسامة باردة، وقالت بسخرية مقلدة نبرته السابقة: ذلك أن على المرأة أن تحب!
وغمغمت «وغد»، فقرأ في وجهها نذيرا خفيفا بالغضب، ولكنه لم يعثر على أثر للكراهية، فآمن بأنها لا تقاس في لهوها بامرأة مثل فيكتوريا ملكة العصر المحافظ المشحون بالتقاليد.
وسألها دون جدية ما: لم لا تتخذين مني رفيقا؟
Página desconocida
ولما ألح عليها بعينيه أجابت: إنك إذا استعملت الحب يوما كمبتدأ في جملة مفيدة فستنسى حتما الخبر إلى الأبد!
وتذكر كم كان متفوقا في اللغة العربية مثل المدير العام الذي يشهد له بذلك قراره بخصم يومين من مرتبه، لا لشيء إلا لأنه كتب صفحة بيضاء. وكما قالت له ذات يوم: «أنت بلا قلب»؛ فقد ذهب الأصدقاء ولم يبق في العوامة منهم إلا خالد عزوز وليلى زيدان. ودون أي تمهيد قبض على ساعدها وقال: «أنت الليلة لي أنا.» لماذا خالد دائما؟ وخالد نفسه ورثك بعد هجر رجب لك. وإذن فالليلة لي أنا. وارتفع صوته غاضبا مع أذان الفجر. إذن عم عبده في الخارج، وصرخت أنت كالمجنون في الداخل. وبسط خالد راحتيه ضارعا وهو يقول: «فضحتنا.»
وضحكت ليلى أول الأمر، ثم بكت أخيرا، وطرحت مسألة غاية في الفلسفة، فقيل إنها تحب خالد، وإنها لذلك لا يمكن أن تذعن لرغبته هو رغم صداقتهما، وإلا كانت بغيا. وصاح ليلتها أن الأذان أيسر على الفهم من تلك الألغاز.
وقالت ليلى ناشدة تصفية الجو: الصداقة أهم وهي التي لها البقاء. - ولك طول البقاء!
وكرس كرسيا يدخنانه معا في فترة الانتظار، فجذبت نفسا بشراهة، ثم سعلت طويلا. وردد ما يقوله عادة من أن الكرسي الأول هو كرسي السعال، ثم يجيء الفرج بعد ذلك. وقال لنفسه إنه لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه إله.
واهتزت العوامة بقوة، وترامت أصوات مختلفة من الخارج، فنظر نحو المدخل المحجوب بالبارافان فرأى الأصدقاء يتتابعون في حيوية؛ أحمد نصر، ومصطفى راشد، وعلي السيد، وخالد عزوز. مساء الخير، مساء الجمال. وجلس خالد إلى جانب ليلى، أما علي السيد فقد ارتمى إلى يمين أنيس هاتفا: أدركنا.
فراح أنيس يكرس ويرص، ثم دارت الجوزة. وتساءل مصطفى راشد: هل من أخبار عن رجب؟
فأجاب أنيس وهو يخمن: قال بالتليفون إنه في الاستوديو، وإنه سيحضر فور الانتهاء من العمل.
وتألقت الجمرات في المجمرة بفعل النسائم المتدفقة من الشرفة. وبلغ نشاط أنيس أقصى مداه، واكتسى وجهه الطويل العريض بغبطة مستقرة وقال: إن الذي جعل من تاريخ الإنسانية مقبرة فاخرة تزدان بها أرفف المكتبات لا يضن عليها بلحظات مضمخة بالمسرة.
ونظر خالد عزوز إلى علي السيد متسائلا: هل عند الصحافة من أخبار جديدة؟
Página desconocida
فأومأ علي بذقنه نحو ليلى زيدان قائلا: عند وزارة الخارجية. - ولكنني سمعت أنباء مذهلة حقا.
فقال أنيس ساخرا: لا توجعوا رءوسنا، ما أكثر ما نسمع! ولكن ها هي الدنيا باقية كما كانت، ولا شيء يحدث على الإطلاق.
فقال مصطفى راشد محركا تفاحة آدم: وفضلا عن ذلك فإن الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهم الدنيا في شيء.
فقال أنيس زكي: ما دامت الجوزة دائرة، فماذا يهمكم؟
فرمقه خالد بإعجاب قائلا: خذوا الحكمة من أفواه المساطيل. - اسمعوا ما حصل لي اليوم مع المدير العام.
وأثارت حكاية قلمه عاصفة من الضحك حتى علق عليها علي السيد قائلا: بمثل ذلك القلم تدون معاهدات السلام.
واصلت الجوزة دورانها المنغوم المشتعل، وانعقدت هالة من الهاموش حول مصباح النيون، أما خارج الشرفة فقد استقرت الظلمة واختفى النيل إلا أشكالا هندسية منتظمة وغير منتظمة تعكسها مصابيح الطريق في الشاطئ الآخر، ونوافذ العوامات المضاءة. وتجلت صلعة المدير العام كظهر قارب مقلوب في قبضة الظلام. ووضح تماما أنه من سلالة الهكسوس، فوجب أن يرتد إلى الصحراء. وأسوأ ما يمكن أن تتوقع هو أن تنتهي السهرة كما انتهى شباب ليلى زيدان الأول، وكالرماد الزاحف على جواهر الجمرات. ومن يا ترى الرجل الذي قال: إن الثورات يدبرها الدهاة، وينفذها الشجعان، ثم يكسبها الجبناء؟
وجاء عم عبده فأخذ الجوزة ليغير ماءها، ثم أعادها وذهب دون أن ينبس. وخلع خالد نظارته المذهبة فمسحها وهو ينوه بإعجابه بالرجل العجوز. وخرج أحمد نصر عن صمته المألوف قائلا: إنه من نسل الديناصور!
فقال مصطفى راشد: لنحمد الله على أنه في أرذل العمر، وإلا ما ترك لنا امرأة لنهنأ بها.
وأعاد أنيس على أسماعهم الحديث الذي دار بينه وبين الرجل ظهر اليوم، فقال علي السيد: إن العالم في حاجة إلى رجل في عملاقيته لتستقر سياسته.
Página desconocida
وحل صمت مؤقت فارتفعت قرقرة الجوزة، وترامى من الخارج نقيق ضفدع وصراخ صرار الليل. ومن خلال الدخان المنتشر استكنت يد ليلى في يد خالد. أصدقاء العمر، والعزاء. وأنف أحمد نصر الطويل الأقنى لا يضاهيه في شكله سوى أنف علي السيد، وإن نهض الأخير في وجه أعرض وأميل للبياض. وتكلم الظلام خارج الشرفة فقال: لا تكترث لشيء. انحدر صوته مع شعاع نجم كابي الاحمرار قطع المسافة إلى غرزتنا في مائة مليون سنة ضوئية. وقال أيضا لا تجعل من الحياة عبئا. أجل حتى المدير العام نفسه سيختفي ذات يوم كما اختفى الحبر من قلمك. ولم يعد للقلب من هم يحمله مذ دفن في التراب أعز ما كان يملكه. وإذا أردت حقا ارتكاب حماقة للفت الأنظار إليك؛ فتجرد من ثيابك وتبختر في ميدان الأوبرا، وهناك ستجد إبراهيم باشا فوق جواده وهو يشير إلى فندق الكونتننتال، كأطرف دعاية للسياحة في بلادنا. - هل حقا سنموت يوما ما؟ - انتظر حتى تذاع نشرة الأخبار. - أنيس بك يتفلسف. - والحق أنه جاء بسؤال لم يسأله أحد من قبل!
تساءلت ليلى زيدان: ما آخر نكتة؟
فأجاب مصطفى راشد: لم يعد هناك من نكات مذ أصبحت حياتنا نكتة سمجة.
ورنا إلى الظلمة خارج الشرفة فرأى حوتا هائلا يقترب في هدوء من العوامة. إنه ليس بأغرب ما رأى في النيل عند جثوم الليل، لكنه فغر فاه هذه المرة كأنما يعتزم التهام العوامة. وتواصل الحديث بين المساطيل بلامبالاة، فقرر أن ينتظر ما يحدث بلامبالاة، وإذا بالحوت يتوقف عن التقدم ، وإذا به يغمز بعينه وهو يقول: «أنا الحوت الذي نجى يونس.» ثم تراجع واختفى. وعند ذاك ضحك أنيس. وسألته ليلى زيدان عما يضحكه، فأجاب: خيالات غريبة. - وما لنا نحن لا نرى شيئا؟
فأجاب وهو لا يكف عن العمل: ذلك أن الأمر كما قال الشيخ الكبير: «إن المتلفت لا يصل.»
وانهالت التعليقات بلا ضابط: لا شيخ لنا يا دجال. - ولا يوجد متر مربع من الأرض بمنجاة من الزلزال. - وهو لا يخلو كذلك من الرقص والغناء. - إذا أردت أن تضحك من القلب حقا فانظر إلى الأرض من فوق. - يا بخت الذين مستقرهم فوق! - ولكن بصدور اللائحة المالية الجديدة سيهدأ كل بال. - هل تطبق اللائحة على الحيوان أيضا؟ - روعي فيها أن تطب على الحيوان أولا ... - وها هو القمر ينتظر المهاجرين. - وأخشى ما أخشاه أن يضيق الله بنا. - كما ضاق كل شيء بكل شيء. - وكما يضيق رجب بعشيقاته. - وكما يضيق الضيق بالضيق. - والحل، ألا يوجد حل؟ - بلى، علينا أن نتماسك حتى نغير وجه الأرض. - أو نبقى فيما نحن فيه وهو خير وأبقى.
واهتزت العوامة بقدم آتية فتوقعوا ظهور رجب، ولكن دخلت امرأة مرحة الحيوية لا يعيب جسمها الممتلئ إلا أن نصفه الأعلى أضخم قليلا من الأسفل. سنية كامل! قلبت بينهم عينين رماديتين، وتبادلت معهم القبلات. وأجلسها علي السيد إلى جانبه وهو يقول: لم نرك من رمضان الماضي!
وقبل يدها مرتين، ثم تساءل: زيارة عابرة؟
فقالت بنبرة حنون تنطق الراء غينا: زيارة دائمة. - هذا يعني أن زوجك قد هجرك!
فقالت وهي تتناول الجوزة: أو أنني هجرته.
Página desconocida
ونشت سحابة شرهة وهي تقول إشباعا لحب الاستطلاع الذي اكتنفها: ضبطته يغازل جارة جديدة! - يا خبر أحمر! - ولعلع صوتي حتى سمعه سابع جار! - برافو! - وتركت البنت والأولاد وذهبت إلى أختي في المعادي. - أمر مؤسف ولكنه ضروري لتجديد الحياة الزوجية. - وأول ما خطر لي بعد ذلك أن أزور عوامتي. - عين الصواب، والعين بالعين.
وأومأ مصطفى راشد إلى علي السيد وهو يقول لها: جاء دور الزوج الاحتياطي.
وتساءل أنيس غاضبا: لماذا لا يكون دوري أنا هذه المرة؟
فقال علي السيد ملاطفا: ولكني احتياطي سنية كامل منذ قديم. - وأنا! - أنت سيدنا وتاج رأسنا وولي نعمتنا، ولو كنت تهتم بالحب لكان لك منه ما تشاء وأكثر. - أنت كاذب.
فأشار إلى الجوزة قائلا: بل لا وقت عندك للحب. - أوغاد! سأقص عليكم ما حصل لي مع المدير العام. - لكنك قصصته بتفاصيله، أنسيت يا ولي النعم؟! - أوغاد. هذا يعني أن الحياة ستمضي قبل أن نستوعب ما يمر بنا.
ودارت الجوزة مختصة سنية كامل برعاية أكبر بصفتها لم تنسطل من رمضان الماضي. وقال أنيس لنفسه إنها سمراء وعصبية وتحب الضحك، ولا تنسى أولادها حتى في غيبوبة الحب والسطل، وتعود في النهاية إلى زوجها، لكنها تعاشره وتهجره عاما، وتهجره عاما، وتقسم دائما أن الحق عليه. وجاء بها رجب أول مرة، كما جاء يوما بليلى زيدان؛ ذلك أنه إله الجنس وممون عوامتنا بالنساء. عرفت له جدا قديما كان يسعى في الغابات قبل أن يقام بناء واحد على ظهر الأرض. كان يدفن في أحضان النساء مخاوفه من الحيوان والظلام والمجهول والموت. كان له رادار في عينيه وراديو في أذنيه وقنبلة مجسمة في قبضة يده. وحقق انتصارات عجيبة قبل أن يتهاوى هالكا، وأما حفيده رجب ...
واهتزت العوامة، وترامى صوت رجب القاضي وهو يقول مخاطبا شخصا معه: «على مهلك يا عزيزتي.»
حل في نظراتهم الاهتمام، فتمتم خالد: لعلها ممثلة جاء بها من الاستوديو.
وظهر من وراء البارافان رجب بقوامه الممشوق وسمرته الداكنة وقسماته الرشيقة، تتقدمه فتاة دون العشرين عمرا، سمراء، تنتظم وجهها المستدير قسمات صغيرة دقيقة تنطق بالخفة. ولا شك أنه قرأ في وجوه أصدقائه دهشة لحداثة سنها، فقال باسما بنبرته الموسيقية: آنسة سناء الرشيدي، طالبة بكلية الآداب.
4
Página desconocida
تركزت الأعين على القادمة الجديدة، ولكنها لم ترتبك، وأجابت بنظرة باسمة جريئة.
وطوق رجب خاصرتها بذراعه، وسار بها إلى مجلسه فجلس ثم أجلسها إلى جانبه وهو يقول: أدركني يا ولي النعم!
فتساءل أحمد: أمام الآنسة؟
فقال مستنكرا: لا يجوز الكذب أمام معجبة صادقة!
وجذب نفسا طويلا عميقا قويا حتى توهجت دقاق الجمرات فوق الكرسي، نافثة لسانا راقصا من اللهب. أغمض عينيه تلذذا، ثم فتحهما وهو يقول لسناء: دعيني أقدم لك الأصدقاء الذين سيصيرون منذ الليلة أسرتك.
وانتبه إلى وجود سنية كامل لأول مرة فصافحها بحرارة، وخمن أسباب مجيئها فوافقت بضحكة، ثم راح يقدمها قائلا: من بنات المير دي دييه. زوجة وأم. امرأة ممتازة حقا، وفي أوقات الكدر العائلي تعود إلى أصدقائها القدماء. سيدة مجربة عرفت الأنوثة عذراء وزوجا وأما؛ فهي تعد كنزا من الخبرة للفتيات الصغيرات في عوامتنا.
وندت أصوات ضحك، وابتسمت سناء، أما سنية فرمته بنظرة احتجاج لم تبلغ درجة الغضب، وتحول إلى ليلى زيدان قائلا: آنسة ليلى زيدان، خريجة الجامعة الأمريكية، مترجمة بالخارجية، جمال وثقافة إلى مركز باهر في تاريخ المرأة الرائدة في بلادنا، وعلى فكرة فإن شعرها ذهبي حقيقة، لا زيف فيه ولا صباغة.
وتحول إلى أنيس زكي المنهمك في عمله قائلا: أنيس زكي، موظف بوزارة الصحة، ولي أمر عوامتنا، وزير شئون الكيف، رجل مثقف كحضرتك وهذه مكتبته، وقد طاف بكليات الطب والعلوم والحقوق، فمضى بعلومها دون شهاداتها كأي رجل لا تهمه المظاهر، من أسرة ريفية محترمة، ولكنه يعيش منذ دهر وحيدا في القاهرة، كأنه إنسان عالمي، ولا تسيئي الظن بسكوته إذا لم يحادثك كثيرا؛ فهو يهيم في الملكوت!
والتفت إلى أحمد نصر قائلا: أحمد نصر، مدير حسابات الشئون. موظف خطير، ومرجع في عديد من الخبرات كالبيع والشراء وكثير من الشئون العملية المفيدة. وله ابنة في مثل سنك، ولكنه زوج شاذ يستحق الدراسة؛ تصوري أنه زوج منذ عشرين عاما، لم يخن زوجه مرة واحدة، ولم يمل عشرتها، ويزداد تعلقا بحياته الزوجية؛ لذلك أقترح أن يكون موضع دراسة في المؤتمر الطبي القادم.
وأشار إلى مصطفى راشد مستطردا: الأستاذ مصطفى راشد المحامي المعروف. محام ناجح وفيلسوف أيضا. متزوج من مفتشة بوزارة التربية، وهو يتطلع بصدق إلى المطلق، وسوف ينجح في إدراكه ذات ليلة، ولكن خذي حذرك منه فهو يقول إنه ما زال يفتقد حتى اليوم أنموذجه المفضل من النساء.
Página desconocida
وربت على ظهر علي السيد قائلا: الأستاذ علي السيد، الناقد الفني المعروف، طبعا قرأت له كثيرا، وأحب أن أخبرك بأنه يحلم كثيرا بمدينة فاضلة خيالية، أما عن واقعه فهو متزوج من اثنتين، وصديق سنية كامل، والبقية تأتي.
وأخيرا أومأ إلى خالد عزوز وهو يقول: الأستاذ خالد عزوز، في الصف الأول من كتاب القصة القصيرة عندنا. يملك عمارة وفيلا وسيارة وأسهما في مذهب الفن للفن، فضلا عن ولد وبنت، وله فلسفة خاصة لا أدري كيف أسميها، ولكن الإباحية من سماتها الظاهرة.
وابتسم إليها كاشفا عن أسنان بيضاء نضيدة، ثم تمتم: لم يبق من عوامتنا إلا عم عبده الذي مررنا بشبحه في الحديقة ونحن في طريقنا إلى هنا، وسوف تعرفينه بطبيعة الحال، وما من أحد في شارع النيل إلا ويعرفه.
ونادى أنيس عم عبده وأمره بتغيير ماء الجوزة، فمضى بها من الباب الجانبي، ثم أعادها بعد قليل وذهب، اتسعت عينا سناء عجبا لضخامته، فقال رجب: من حسن الحظ أنه مثال الطاعة، وإلا فلو شاء لأغرقنا جميعا.
لا خوف من الغرق ما دام الحوت في الماء، ويد الفتاة القاصرة صغيرة كيد نابليون، ولكن أظافرها حمراء مدببة كمقدم قارب سباق، وبوجودها تكتمل مجموعة قانون العقوبات المستحقة على عوامتنا.
وها هو الظلام قد بدأ يتكلم.
تساءل مصطفى راشد محركا تفاحة آدم: وما تخصص الآنسة في الآداب؟
فأجابت بنبرة كغزل البنات: التاريخ.
فتأوه أنيس: الله!
فصاح به رجب: ليس تاريخها بتاريخك الدامي، ولكنها معنية بالأشياء الحلوة. - ليس في التاريخ أشياء حلوة. - كغرام أنطونيو وكليوباترا. - كان غراما داميا. - على أي حال لم يقتصر كله على السيف والحية.
Página desconocida
وبدت سناء قلقة، ونظرت نحو البارافان متسائلة: ألا تخافون البوليس؟
فتساءل مصطفى راشد باسما: بوليس الآداب؟
فقالت بعد أن سكت الضحك: والمباحث أيضا؟
فقال علي السيد: لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن؛ فقد انتهى بنا الأمر إلى ألا نخاف شيئا. - ولكن الباب مفتوح! - في الخارج عم عبده، وهو كفيل برد أي اعتداء .
وقال لها رجب باسما: لا تقلقي يا نور العين؛ فالدولة منهمكة في البناء، ولديها ما يشغلها عن إزعاجنا.
وقدم لها مصطفى راشد الجوزة قائلا: جربي هذا النوع من الشجاعة.
ولكنها اعتذرت برقة، فقال رجب: خطوة خطوة، لقد بدأ الإنسان بأظافره وانتهى بالصاروخ. لفوا لها سيجارة.
وفي دقيقتين قدمت لها سيجارة فتناولتها بشيء من الحذر، ولكنها رشقتها بين شفتيها. ورمقها أحمد نصر بإشفاق، فقال أنيس لنفسه إنه يخاف في الحقيقة على ابنته، ولو عاشت ابنتي لكانت قرينة لسناء.
ولكن ما قيمة أن تبقى أو أن تذهب، أو أن تعمر كسلحفاة؟ ولما كان الزمن التاريخي لا شيئا بالقياس إلى الزمن الكوني؛ فسناء معاصرة في الواقع لحواء، ويوما ستحمل لنا مياه النيل شيئا جديدا يستحسن ألا نسميه، فقال له صوت الظلام: «أحسنت.» ولا أستبعد أن أسمع ذات ليلة نفس الصوت وهو يأمرني بعمل خارق يذهل له من لا يؤمن بالمعجزات. وقد قال العلم في النجوم كلمته، ولكن ما هي في الحقيقة إلا أفراد عالم آثروا الوحدة فتباعدوا عن بعضهم آلاف السنين الضوئية. فيا أي شيء افعل شيئا فقد طحننا اللاشيء!
وسألها أحمد نصر بحنان: وهل تجدين وقتا للمذاكرة؟
Página desconocida
فأجاب رجب: طبعا، ولكنها مولعة بالفن أيضا.
فحذرته بسبابتها قائلة: لا تجعل مني موضوعا للسمر. - ويل لمن تحدثه نفسه بشيء من ذلك.
فتساءل أحمد نصر: تريدين أن تكوني ممثلة؟
فابتسمت دون معارضة فاستطرد: ولكن ...
فقاطعه رجب: اسكت يا رجعي. إن أشنع تهمة في عصرنا هي الرجعية.
وأمسك بأصبعيه ذقنها، فأمال وجهها إليه، ثم قال وهو يتفحصها باهتمام: دعيني أدرس وجهك. جميل، تضمر نظرته قوة خفية. بلحة مسكرة ذات نواة صلبة، ونظرة فتاة قاصر، ولكنها عند التقطيب تشع دهاء امرأة، أي دور يصلح لك؟ لعله دور الفتاة في سيناريو لغز البحيرة!
سألته باهتمام: ما دورها على وجه التحديد؟ - فتاة بدوية تحب صيادا ماكرا ممن يتخذون من الحب لهوا، يستهين بها أول الأمر، ولكنها تؤدبه وتمشيه على العجين. - هل أصلح له حقا؟ - إنما أنطق عن غريزة فنية يؤمن بها المنتجون والموزعون معا. لحظة من فضلك، زمي شفتيك، أريني كيف تقبلين. احذري الخجل، الخجل عدو فن التمثيل. أمام الجميع، قبلة حقيقية بكل معنى الكلمة، قبلة يجب أن يتحسن بعدها الموقف الدولي.
وطوقها بذراعيه القويتين الطويلتين، وتلاقت شفتاهما بقوة وحرارة في صمت سكتت فيه الأشياء حتى القرقرة، ثم صاح مصطفى راشد: هذه لمحة من المطلق الذي أرهق نفسي في البحث عنه.
وقال خالد عزوز بحماس متدفق: أيها السادة، أهنئكم. يجب أن نهنئ أنفسنا جميعا. يجب أن نحيي هذه اللحظة الحضارية الرائعة، والساعة يمكن أن نقول إن الفاشستية قد اندحرت تماما، وإن بديهيات إقليدس قد تلاشت، فتقبلي يا سناء - بلا ألقاب من الآن فصاعدا - إعجابي.
فقالت ليلى زيدان باسمة: دع لأحد غيرك الكلام إكراما لي.
Página desconocida
قال متأسفا: الغيرة ليست غريزة كما يقول الجاهلون، ولكنها تراث إقطاعي!
لست بغيا. اللعنة! يا رائحة النيل المضمخة بعبير رحلة طينية مرهقة. وثمة شجرة معمرة في البرازيل استوت على سطح الأرض قبل أن يوجد الهرم. هل أنا وحدي بين هؤلاء المساطيل الذي يضاحك هذه الموجة المستهترة؟ هل أنا وحدي الذي أسمعها وهي تهمس لي إن دق الباب أربعين دقة يتحقق لك ما لا يمكن أن يتحقق؟ فمتى ألعب بالمجموعة الشمسية لعب الهواة بالكرة؟ وذات يوم دفعت إلى معركة دامية، وأنا أخلص بين متخاصمين.
ومرق خارج الشرفة خفاش كالرصاصة، وراح يتأمل نقوش الصينية النحاسية المرسومة على هيئة دوائر متداخلة تفصل بينها مساحات محفورة بالترتر قد غشاها الرماد ونفايات المعسل. وغفا غفوة قصيرة حيث يجلس، ولما فتح عينيه وجد مصطفى راشد وأحمد نصر قد ذهبا. وأغلقت الحجرة المطلة على الحديقة على ليلى وخالد، والحجرة الوسطى على سنية وعلي السيد، أما رجب وسناء فقد وقفا في الشرفة يتناجيان. لم تبق خالية إلا حجرته، وأغلب الظن أنها ستغلق بابها في وجهه هذه الليلة. وتناجى العروسان: كلا. - كلا؟! جواب لا يليق بعصرنا! - المفروض أنني أذاكر عند صديقة. - فليكن الدرس عند صديق!
ومد ساقه فصدم الجوزة فألقاها على جانبها، فسال لعابها الأسود وتدفق نحو عتبة الشرفة.
لا أهمية لشيء. حتى الراحة لا معنى لها. ولم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة.
وإذا بقامة عم عبده تحجب ضوء المصباح الغارق في الهاموش: آن الأوان؟ - نعم.
ومضى يجمع الأدوات ويكنس النفايات بهمة عالية، ثم نظر إليه متسائلا: متى تذهب إلى حجرتك؟ - فيها عروس جديدة! - أووه! - ألا يعجبك الحال؟
فضحك قائلا: فتيات شارع النيل ألطف وأرخص.
فقهقه أنيس طويلا حتى جرى صوته مدويا فوق سطح النيل وقال: يا جاهل، وهل هؤلاء كأولئك؟ - عندهن أعضاء أكثر؟ - كلا، ولكنهن سيدات محترمات. - أووه! - لا يبعن أنفسهن، ولكنهن يمنحن ويأخذن كالرجال سواء بسواء. - أووه! - أووه! - وهل لذلك ستنام في الشرفة حتى يغسلك الندى؟ - ما أجمل أن يغسلنا الندى!
فحياه مبتعدا وهو يقول: أنا ذاهب لصلاة الفجر.
Página desconocida
ونظر إلى النجوم وراح يحصي منها ما يستطيع عده. وأرهقه العد حتى جاءته نسمة عطرة من حديقة القصر. وهارون الرشيد جالس على أريكة تحت شجرة مشمش، والجواري يلعبن بين يديه، وأنت تصب له الخمر من إبريق من الذهب. ورق أمير المؤمنين حتى صار أصفى من الهواء، وقال لك: هات ما عندك.
ولم يكن عندك شيء فقلت قد هلكت، ولكن الجارية ضربت أوتار العود وغنت:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشية أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خل عينيك تدمعا
فطرب الرشيد حتى ضرب بيديه ورجليه، فقلت: ها هي فرصة لتهرب. وانسحبت بخفة، ولكن الحارس العملاق لمحك فاتجه نحوك فجريت فجرى وراءك شاهرا سيفه فصرخت مستغيثا بآل رسول الله، فأقسم ليرمين بك في سجن بينهم.
5
استسلم للغروب بجسد منتعش بعد دش بارد. وانتشر في الجو النعاس والهدوء الشامل، وأسراب الحمام ترسم فوق النيل أفقا أبيض. لو في الإمكان أن يدعو المدير العام إلى العوامة لضمن لنفسه هدوءا كالغروب، ولاستل من قبضته البرنزية أشواكها المؤذية.
وحسا آخر حسوة من الفنجان السادة الممزوج بالسحر، ولعق بلسانه الرواسب.
Página desconocida
وجاء الأصدقاء تباعا كما جاء رجب وسناء. طيلة أسبوع وهما متلازمان. وآنست سناء أخيرا إلى الجوزة حتى همس أحمد نصر في أذن رجب: «البنت صغيرة!» ولكنه أجابه همسا أيضا وهو مرتكز بكوعه على ركبة أنيس: «لست أول فنان في حياتها!» وجعلت ليلى زيدان تردد: «الويل لمن تحترم الحب في عصر لا يكن للحب احتراما!» ولم يجد أحمد نصر من يفضي إليه بأفكاره المحافظة إلا أنيس المسالم، فمال على أذنه قائلا: جميل أن تدعى ساقطة الأمس بفيلسوفة اليوم!
فأجابه أنيس: هذا ما آل إليه حال الفلسفة بصفة عامة.
وفرقع علي السيد بأصابعه ملفتا الأنظار إليه، ثم قال بجدية: على فكرة يجب أن أبلغكم رسالة قبل أن تنسطلوا.
فاتجهت إليه بعض الأنظار، فقال بصوت واضح: سمارة بهجت ترغب في زيارة العوامة!
استقرت عليه الأبصار في اهتمام شامل، حتى أنيس نفسه وإن لم يكف عن العمل: الصحفية؟ - زميلتي الجميلة النابهة!
انقضت فترة صمت للاستيعاب والهضم، وتجلت في الأعين نظرات غامضة، حتى تساءل أحمد نصر: لكن لماذا ترغب في زيارتنا؟ - أنا المسئول عن إثارة اهتمامها بكم بأحاديثي العريضة عن العوامة!
فقال رجب القاضي: أنت طويل اللسان، ولكن أتحب صاحبتك العوامات؟! - ليس الأمر كذلك، ولكنها تعرف أو تسمع عن أكثر من شخص في العوامة. أنا مثلا صديق وزميل، خالد عزوز من قصصه، وأنت من أفلامك. - هل عندها فكرة عما يدور هنا؟ - تقريبا، وجونا ليس بالغريب عليها بحكم عملها وخبرتها بالحياة. - إذا حكمنا عليها بما تكتب فهي جادة لدرجة الرعب. - وإنها لكذلك في الواقع، ولكن في كل إنسان جانب ينشد العلاقات الإنسانية العادية.
فتساءل أحمد نصر في شيء من الضيق: هل لها جولات مماثلة؟ - أظن ذلك. هي ودود حقا وتحب الناس.
فقال أحمد نصر أيضا: ولكنها ستصادر حريتنا. - لا ... لا ... لا، لا تحمل هما من هذه الناحية. - هل تشاركنا فيما نحن فيه؟ - إلى حد ما؛ أعني في الأمور البريئة. - البريئة! هذا يعني أننا سنكون موضوع تحقيق صحفي!
فقال بتوكيد: إنها قادمة للتعارف لا لشيء آخر.
Página desconocida
لا تهتم بالموضوع أكثر من ذلك وإلا ضاع التدخين هباء. وتذكر كيف استقبل الفرس أول نبأ عن الغزو العربي. وابتسم. ورأى على سطح الصينية عديدا من الهاموش الهالك، فخطر له أن يسأل: إلى أي نوع من الكائنات ينتمي الهاموش؟
اعترض السؤال أفكارهم في تطفل مزعج، ولكن مصطفى راشد أجاب ساخرا: من الحيوانات الثديية.
واستطرد علي السيد قائلا: ما على الرسول إلا البلاغ، فإذا لم يرق لكم دعوتها.
لكن رجب قاطعه قائلا: لم نسمع رأي الجنس الآخر؟
ولم تبد ليلى زيدان اعتراضا، ولا سنية كامل، أما سناء فقالت: لندع الرأي لأنيس وأحمد ومصطفى؛ فهم في حاجة إلى صديقة!
ولكن علي السيد اعترض قائلا: لا ... لا يصح التفكير في ذلك، لا تحرجوني وحياة أمكم.
فتساءلت سناء وهي تزيح بأنملتها خصلة ضالة عن حاجبها: إذن لم تود أن تجيء؟ - قلت ما فيه الكفاية.
فتساءل أنيس: إذا كان الهاموش من الحيوانات الثديية، فما وجه الإصرار على أن صاحبتك ليست من ذلك النوع؟
فقال علي السيد موجها خطابه للجميع دون توقف عند مقاطعة أنيس: حريتكم مكفولة في كل شيء، في القول والفعل، في التدخين والبذاءة، لا تحقيق ولا دراسة، ولا أي نوع من المكر الصحفي، ثقوا بذلك كل الثقة، ولكن لا يليق أن تعامل معاملة امرأة عابثة! أعني أنها آنسة فاضلة، كأي واحدة منكن، لا تقبل أن تعامل كامرأة مستهترة.
فسألته سنية بحدة: ماذا تعني بامرأة عابثة؟! - أعني أنها آنسة فاضلة، كأي واحدة منكن، لا تقبل أن تعامل كامرأة مستهترة ...
Página desconocida
فقال أحمد نصر: الحق أني لا أفهم شيئا. - هذا هو المتوقع منك دائما أيها القرن التاسع عشر، ولكن الجميع يفهمونني بلا صعوبة على الإطلاق.
فقال خالد عزوز: لعلها رغم مقالاتها الأسبوعية برجوازية قحة. - ليست من البرجوازية في شيء مما تعنيه.
وقال مصطفى راشد: قدم لنا عنها فذلكة مفيدة. - حسن، هي في الخامسة والعشرين. ليسانس لغة إنجليزية، وقد حصلت عليه وهي دون العشرين بقليل. صحفية ممتازة أكبر بكثير من سنها، وذات آمال أدبية ترجو أن تتحقق ذات يوم، ممن يأخذن الحياة مأخذ الجد، وإن تكن لطيفة المعشر. ومعروف أنها رفضت زواجا برجوازيا فاخرا رغم مرتبها الصغير. - لماذا؟ - الرجل دون الأربعين. مدير مؤسسة. صاحب عمارة كخالد عزوز، فضلا عن أنه قريب لها من ناحية الأب، ولكنها لم تكن تحبه فيما أعتقد.
فقال خالد: إذا صح الحكم عليها من قلمها فهي فتاة متطرفة. - قل إنها تقدمية، ولكنها صادقة مخلصة. - هل اعتقلت مرة؟ - كلا، إنها زميلتي منذ عينت في مجلة كل شيء. - لعلها اعتقلت وهي طالبة؟ - لا أظن، وإلا كنت عرفته في أثناء أحاديثنا الطويلة. على أي حال لا أقطع في ذلك برأي.
فتساءلت سناء: ماذا يضطركم إلى استضافة امرأة خطرة لا يمكن أن تعدنا بأي تسلية؟
فقالت ليلى زيدان: يجب أن تأتي؛ نحن في حاجة إلى دم من نوع جديد.
فقال علي السيد: اتفقوا على رأي، إنها الآن في النادي، فإذا شئتم دعوتها بالتليفون.
فسأله أنيس: هل أخبرتها بأن الذي يجمعنا ها هنا هو الموت؟
لم يجبه، ولكنه اقترح أخذ الأصوات، وضحك أنيس لذكريات محنطة، واقترح أن يدعى عم عبده للإدلاء بصوته، وطوق رجب سناء بذراعيه، على حين نهض علي السيد إلى التليفون.
6
Página desconocida