وسمعه وهو يمضي نحو الباب يقول بازدراء: متى تفرق بين الحكومة والغرزة؟!
وبرجوعه إلى الإدارة ارتفعت الرءوس نحوه مستطلعة. تجاهلهم وجلس ينظر إلى فنجان القهوة. وشعر بزميله وهو يميل نحوه ليسأل سؤالا في الغالب، فتمتم في ضجر: كن في حالك.
وأخرج من الدرج محبرة وراح يملأ القلم. عليه أن يعيد البيان من جديد. حركة الوارد. لا حركة البتة في الحقيقة. حركة دائرية حول محور جامد. حركة دائرية تتسلى بالعبث. حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار. في غيبوبة الدوار تختفي جميع الأشياء الثمينة. من بين هذه الأشياء الطب والعلم والقانون، والأهل المنسيون في القرية الطيبة. والزوجة والابنة الصغيرة تحت غشاء الأرض. وكلمات مشتعلة بالحماس دفنت تحت ركام من الثلج. ولم يبق في الطريق رجل. وأغلقت الأبواب والنوافذ. وثار الغبار لوقع سنابك الخيل. وصاح المماليك صيحات الفرح في رحلة الرماية، كلما عثروا على آدمي في مرجوش أو الجمالية أقاموا منه هدفا لتدريبهم. وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح المجنون، وتصرخ الثكلى: «الرحمة يا مملوك!» فينقض عليها الصائد في يوم اللهو. بردت القهوة وتغير مذاقها، وما زال المملوك يضحك ملء شدقيه. وحل الصداع مكان الخيال وما زال المملوك يضحك. وهم يطلقون اللحى ويثيرون الغبار، ويفرحون بالأبهة والتعذيب.
ودب نشاط مرح في الحجرة القاتمة مؤذنا بوقت الانصراف.
2
استوت العوامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه. بين فراغ إلى اليمين احتلته عوامة دهرا قبل أن يجرفها التيار ذات يوم، ومصلى إلى اليسار مقام على لسان عريض من الشاطئ مطوق بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية. دخل أنيس زكي من باب خشبي أبيض يمتد إلى جانبيه سياج من شجيرات البنفسج والياسمين، فاستقبله عم عبده الخفير قائما، يعلو بقامته العملاقة هامة كوخه الطيني المسقوف بالأخشاب وسعف النخيل. ومضى إلى الصقالة فوق ممشى مبلط تكتنفه من الناحيتين أرض معشوشبة، يتوسط يمناها حوض من الجرجير، وتقوم في أقصى اليسرى خميلة من اللبلاب ترامت كخلفية لشجرة جوافة فارعة. وانهلت أشعة الشمس ملحة حامية من خلال سقيفة من أغصان الكافور منطرحة فوق الحديقة الصغيرة من أشجارها المغروسة في الطريق.
خلع ملابسه وجلس بجلبابه الأبيض فوق عتبة الشرفة المطلة على النيل يستقبل نسمة لطيفة، مستسلما للمساتها الحانية، جاريا ببصره فوق الماء المنبسط كأنه مستقر ساكن لا يتموج ولا يتلألأ، ولكنه موصل جيد لأصوات السكان في عوامات الشاطئ الآخر في صفها الطويل تحت أغصان الجازورينا والأكاسيا. وتنهد بصوت مسموع، فسأله عم عبده وهو يعد المائدة الصغيرة الملتصقة بالجدار الأيمن على مبعدة مترين من الفريجيدير النورج: خيرا؟
فتمتم ملتفتا نحوه: صادف الكيف جوا فاسدا مقرفا. - ولكنك تعود آخر الأمر إلى جوك الطيب.
دائما ينتزع إعجابه كشيء ضخم قديم عريق في القدم. وبحيوية النظرة المنبثقة من دائرة التجاعيد الصلبة. وربما أرهبه عمق الحفائر، أو هالة الشعر الأبيض الكث البارز من جيب جلبابه كأزهار البلح. أما جلبابه الدمور المنسدل كغطاء تمثال فينسدل على اللحم بلا عائق. وما اللحم إلا جلد على عظم. ولكن أي عظم؟! هيكل عملاق يناطح رأسه سقف العوامة، ويشع كونه جاذبية لا تقاوم. رمز حقيقي للمقاومة حيال الموت؛ لذلك يحب كثيرا محادثته رغم أن المعاشرة بينهما لم تجاوز الشهر.
وقام إلى السفرة واتخذ مجلسه، وراح يأكل قطعة من الكوستليتة ممسكا بطرف الريشة وهو ينظر إلى الجدار الخشبي المطلي بغراء سماوي، ويتابع برصا صغيرا زحف مسرعا فوق الجدار ثم انزوى وراء مفتاح الكهرباء، وذكره البرص برئيس القلم، ولكن لماذا؟ وألح عليه سؤال مباغت: ترى هل يوجد للمعز لدين الله الفاطمي ورثة يمكن أن يطالبوا ذات يوم بملكية القاهرة؟ - كم عمرك يا عم عبده؟
Página desconocida