كل رأي في أول أمره يطرق طروق الضعيف الغريب. فمن الناس من يستقبله بالإجلال، وهو الذي يرغب في حلاوة الجديد، ومنهم من يستقبله بالإعراض عنه والخوف منه خاشيا أن يكون ضيفه مجرما متنكرا. فإذا طال مكث الضيف بيننا لقيناه غير مأخذنا، فنعدم إذ عدمنا حلاوة الجدة، ذلك الخوف الذي استحوذ علينا من طلعته، فإن الضيف يكون قد نبذ من عاداته ما نبغض، وتلبس بما نحب، وكذلك المعنى إذا طال عليه القدم فارق غرابته بأن يفارق أكثره، لا شيء أكثر إفسادا لمعنى جديد مثل معنى قديم.
الخطأ يتسرب إلى المعنى الجديد من التناقل؛ لأنه إذا أراد امرؤ أن يفهمك شيئا لم تفهم كل ما يريد أن يفهمك، فالتفاهم الكامل لا يوجد بين عقلين متشابهين، ولكنه يوجد بين عقلين كل منهما هو الآخر، فالتفاهم الكامل من أجل ذلك مستحيل.
كيف يفهم الإنسان؟ ولم يلق المعنى على اثنين متشابهين في مقدار ذكائهما فيفهمان فهما مختلفا بعض الاختلاف؟ أما الفهم فسببه وقوع ما يعرض عليك على معان كنت قد اجتنيتها أو معان خرجت من توالد المعاني التي كنت قد اجتنيتها. فإذا تعارف المعروض والمجتبى تعارفا قليلا أو كثيرا فهمت المعروض بمقدار ذلك التعارف، فإذا تناكرا كل التناكر لم تقدر أن تفهمه، ومن هذا تعرف سبب اختلاف فهم اثنين لمعنى واحد، فإذا شئت أن تضرب مثلا من الألوان فقل: إن تعارف المعروض والمجتبى في ذهن الأول مثل تمازج الأصفر والأخضر، وإن تعارفهما في ذهن الثاني مثل تمازج الأصفر والأسود، وتستخرج من ذلك أن الحقيقة الواحدة هي حقائق متشابهة، فالحقيقة الواحدة في ذهني غيرها في ذهنك، بل هما حقيقتان متشابهتان، المرء ليس بفاهم كل ما تريد أن تفهمه.
والمعاني التي يخرجها التفكير خارجة بسبب توالد المعاني التي في ذهن المفكر، وهي كما علمت ناقصة، فيخرج المعنى المولود ناقصا، والتفكير نوعان: تفكير يقدر المفكر أن يعرف كيف خطا وسار، وتفكير لا يقدر المفكر أن يتتبع خطواته، وهذا النوع الثاني هو الذي يدعونه الإلهام، فقد يقول المرء كلمة لا يعرف معناها، غير أن يرى نفسه مدفوعا إلى قولها. فإذا وقعت في أذن غيره كانت مفتاح لبه، وربما خطر في ذهن أحدنا خاطر لا يعرف كيف خطر، فيجتهد في أن ينساه حتى إذا قرأ في بعض الكتب وجده مشروحا.
وروي أن بشارا الشاعر سمع أحد الناس يفسر بيتا من أبياته فأعجبه تفسيره، فقال لراويته: «ارو هذا المعنى لهذا البيت، فوالله ما عنيته.» هذه أشياء بالغة بنا أن نعتقد أن تلك النفس المودعة في كل فرد هي زي من أزياء روح الوجود، ومظهر من مظاهرها، ولا يروعك أيها القارئ قائل يقول: لو كانت نفوس الأفراد مظاهر من مظاهر روح الوجود لكانت كل واحدة أحنى على أختها منها وأحب لها ... أليس في نفس الإنسان صفات متضادة كل واحدة تهم بقتل الأخرى؟ وأضرب مثلا من أمثال ما روي عن بشار فأقول: إني نظمت منذ سنين هذين البيتين:
ما أشبه الحزن بالسرور
وأشبه المكث بالمرور
وما أخال الحياة إلا
كجولة الفكر في الضمير
أما شبه الحزن بالسرور فكبير من أجل أن كليهما ميزان للبقاء ومقياس للعمر؛ لأن تقسيم الزمن من صنعنا نحن نقسمه إلى دقائق وساعات، وليست الدقائق والساعات إلا ضحكات القلب وعبراته، فطول الزمن وقصره غير موقوف على طلوع الشمس وغروبها، ولكنه موقوف على إحساسنا بالحياة التي تنبض في عروقنا، وشعورنا بما يملأ صحيفة العمر من الحزن والسرور. قال إدسون: «أنكر ملك من ملوك مصر آية الإسراء قائلا: إن مسافة ما بين أول الإسراء وآخره شاسعة، والزمن الذي وقع الإسراء فيه قصير، فأتاه حكيم من قومه، وقال له: إني جاعل بينك وبين الشك سترا من الحجة. قال ما حجتك؟ قال: ائت بإناء كبير، فأتى به فملأه ماء وقال للملك: اخلع عمامتك وأدخل رأسك في الماء، ففعل الملك ذلك فحسب أنه غريق تقاذفته الأمواج حتى رمت به على شاطئ قريب، فجعل يمشي على تلك الأرض حتى لقيه أناس فاستجداهم فرحموه في غربته، وأخذوه وآووه وزوجوه من قومهم فتاة، فلبث معها سنين، وولدت له أبناء حسان الوجوه، ثم خرج يمشي على شاطئ البحر فتذكر ما كان فيه من العز والسلطان، فأسف على حياته الماضية، وذكر أن ضياع سلطانه كان من أجل إنكاره آية الإسراء، فقال: صل لله ركعتين عسى أن يقبل منك التوبة ويرجعك إلى ما كنت فيه من جلالة الملك، فخلع ثيابه ونزل في البحر ليغتسل ويتوضأ، ولكنه لما رفع رأسه وجد نفسه في وسط أتباعه وعساكره والحكيم بجانبه والإناء أمامه. فسأل الملك أتباعه، كم سنة غبت عنكم، فتعجبوا من قوله وقالوا: إنك ما لبثت أن وضعت رأسك في الإناء حتى رفعته ولم تغب عنا، فنظر الملك إلى الحكيم وقال: صدقت؛ هذه أبيض الحجج، وإنما ذكرت هذه القصة لتعرف أن طول الزمن وقصره غير موقوف على طلوع الشمس وغروبها.»
Página desconocida