من أجل ذلك كان اليأس قريبا من نفوس الشعراء؛ لأن عواطفهم أبدا مهيجة مشبوبة، وإنك ترى الواحد منهم يطنب في تقريظ الطلاقة والبشر والابتهاج والفرح، فإذا خلا إلى نفسه، فأرسل ما يثور فيها ترفيها لها، وجدت ذلك الثائر يأسا صريحا. هذا وردز ورث - شاعر الطبيعة الذي جعلها كتابه - إذا قرأت شعره حسبته الماء الزلال تحني عليه الأزهار، ولكنه إذا أفرغ ما يثور به صدره حسبت أن هذا الوجود لا صلاح له.
وهذا بيرنز الشاعر الذي قال فيه كارليل: إن المصائب كانت تصب فوقه فينثرها عنه كما ينثر الجواد الماء عن شعره، هذا الذي - إذا شئت - كان لي من أغانيه غذاء يفضل الغذاء - تلك الأغاني التي لو كانت معي في الصحراء ما أحسست بشؤم الحياة - هو بيرنز الذي يقول: «خلق الإنسان ليحزن.» وهذا بيرون الذي يقول فيه كارليل: لا تحسبوا أنكم تقرءون أشعار بيرون وإنما تقرءون أحزانه، كان لا يستقر في مكان من ملله الحياة، وكان أعظم لذاته أن ينفرد في الأرض الخلاء فيصرخ كي يسمع صدى صوته إذا رددته الجبال، فهو كما قال الحسن بن هانئ:
يرى الناس أعباء على جفن عينه
وإن حل في وادي أخ وحميم
فود بجدع الأنف لو أن ظهرها
من الناس أعرى من سراة أديم
فإنه هو الذي يقول في قصة دون جوان: «لا أرى شيئا يمنعنا من إتيان جريمة التناسل، غير الجوع والفاقة.» ذهب في هذا القول مذهب أبي العلاء المعري؛ إذ يقول «هذا جناء أبي علي.» لأشد ما عانت تلك النفوس العظيمة من اليأس؛ إذ كانت ترى في التناسل جريمة شنعاء ووزرا بليغا .
قال أحد جبابرة ملوك الرومان: وددت لو أن للناس جسما واحدا فأقطع رقبته بضربة واحدة من سيفي، فما أشبه ودادته بودادة أبي نواس! فإن كليهما يود فناء العالم، ولكن الأول يخرج من ودادته سليم الأنف، لا مثل خروج أبي نواس مجدوعها، قلنا: إن أصل تهيج البأس في نفوس المفكرين الإحساس بدناءة النفوس، واختلال شئون الحياة، ولكن أصل اليأس في أكثر الأحايين وقوع الحوادث بما يزعج النفس المطمئنة، فإذا لم تكن لها إرادة عظيمة تأسر بها عواطفها غلبها اليأس، ولليأس أصل آخر يرجع إلى ضعف في همة المرء وتقصيره عن عمل ما تفرضه عليه منزلته في الحياة، فإذا أحس بخذلان قواه وما يكون وراء ذلك من الأضرار بسعادته، تملكه الحزن ودب إليه اليأس من كل جانب.
أغلاط الحقائق
كلمة ما سارت في أذن إلا وخزتها، غير أذن من عرف أن كل حقيقة ناقصة حتى تقرن بأمثالها، ومن أجل ذلك كان في كل صواب شيء من الخطأ وفي كل خطأ شيء من الصواب. قال فيكتور هيجو: «كل أغلوطة لها جانبان؛ جانب مشرق وهو الخطأ، وجانب مظلم وهو الصواب.» وسبب هذا أن الإنسان الفرد غير مستقل بذاته، ومن كان هكذا كان كل معنى ينتجه ذهنه جزءا من معنى، وكل حقيقة يقع عليها جزءا من حقيقة، ومن أجل ذلك كان كل شيء في الوجود مرآة لكل شيء وتفسيرا له.
Página desconocida