فارتفع صوت صابر وهو يقول: إذن استيقظ من جحوده، أما أبي ...
ابتسم المحامي الشيخ قائلا: بهذه المناسبة هل تصدق أنني أحمل لك أنباء عن أبيك؟
هتف ذاهلا: لا! - بلى.
ثم مستطردا بعد وقفة قصيرة: ألم تسمع عن الصحفي الذي كان يوقع عموده اليومي بإمضاء «الصحفي المخضرم»؟ طبعا لا، فلقد انقطع عن العمل منذ عشرين عاما. وهو جار لي بمصر الجديدة، وكان قديما أستاذي بكلية الحقوق، ومن أفقه من عرفت في الشريعة، وقد جاءت سيرتك على لساني وأنا مجتمع به أول أمس، ولما قصصت عليه قصة أبيك قاطعني: أتقول سيد سيد الرحيمي، لكنني أعرفه!
فقلت له لعل المعني شخص آخر، فقال: سيد سيد الرحيمي، الوجيه الغني الجميل، وقد كان شابا في الخامسة والعشرين أو نحو ذلك منذ ثلاثين عاما.
هتف صابر: ألم ير الصورة في الصحف؟ - إنه الآن لا يعرف الصحف وفضلا عن ذلك فهو ضرير. - يا للخسارة! ولكن لا يمكن تجاهل التشابه في الاسم، والصفات، والعمر. - هذا ملحوظ بطبيعة الحال. - وأين يقيم؟ - للأسف لا يدري شيئا عن ذلك. - ألم يحدثك عن زواجه الأول؟
قال المحامي مبتسما: قال إنه لم يكن له من هواية في هذه الدنيا إلا الحب. - لكن أمي هجرته، وتلك حادثة لا يمكن أن تنسى. - في حياة رجل كالرحيمي، تعد فيها النساء بعدد الأيام، لا يمكن أن تعرف من الهاجر ومن المهجور. - أمي لم تحدثني عن ذلك الجانب من حياته. - ربما لم تعرفه. - ولكن الزواج علاقة لا تخفى. - قال علي برهان - أعني الصحفي المخضرم - إنه كان يتزوج كما كان يرافق، وكان يمارس الحب بشتى أنواعه؛ الجنسي والعذري، ولا يعتق ناضجة أو مراهقة، أرملة أو متزوجة أو مطلقة، فقيرة أو غنية، حتى الخادمات وجامعات الأعقاب والمتسولات! - يا للعجب! - نعم. - ألم يوقعه ذلك في متاعب؟ - كان يقهر المتاعب.
تساءل صابر بعينين حائرتين: ومهنته، ماذا كانت مهنته؟ - كان وما زال مليونيرا، لا عمل له إلا الحب، وكلما وقع في مأزق هاجر من مدينة إلى مدينة، مواصلا ممارسته لهوايته. - ولكن وثيقة زواج أمي ما زالت معي. - وربما وجدت وثائق أخرى لا حصر لها. - ألم ترفع عليه قضايا شرعية؟ - من يدري، ولكنه طليق وفي هذا ما يكفي.
فقال صابر بسخرية مرة: وقوانين الدولة؟ - لكنه لم يقع، وقال الأستاذ برهان إنه غوى مرة عذراء من أسرة كبيرة محافظة، ولكنه غادر القطر في اللحظة المناسبة. - ومتى رجع؟ - لم يرجع، تعلق فؤاده بالعالم الكبير، وراح ينتقل من بلد إلى بلد، بل من قارة إلى قارة، معتمدا على ملايينه، جاريا وراء النساء من كل شكل ولون. - وكيف عرف صاحبك ذلك؟ - كانت تصله منه رسائل على فترات متباعدة جدا. - وهل عنده فكرة الآن عن مكانه؟ - كلا، كانت الرسائل تجيئه بلا عنوان ليس عليها سوى اسم البلد؛ إذ إنه لا يحب الاستقرار في مكان أكثر من أيام. - لا شك أنه رجل مشهور في الخارج. - ذلك هو الراجح بالنسبة لأي مليونير، وإن قضى الحذر في مثل حالته باتخاذ أسماء وشخصيات شتى. - متى تسلم صاحبك آخر رسالة منه؟ - صاحبي لم يعد يذكر شيئا على وجه التحديد، ولا تنس أنه جاوز التسعين عمرا، ولكنه يذكر أنه تلقى رسائل منه من جميع القارات. - لكنه يعرف بلا شك كل شيء عن أسرته. - لا أسرة له في مصر، كان أبوه مهاجرا من الهند، وقد عرفه صاحبي في نادي الصفوة، فتوطدت بينهما أسباب الصداقة، وعن سبيله عرف ابنه الوحيد سيد، وهو ابن وحيد لا أخ له ولا أخت، وقد مات الأب منذ أربعين عاما تاركا لوريثه ملايين الجنيهات التي اقتناها من تجارة المشروبات الروحية، فلا أحد له في مصر إلا الذرية التي يحتمل أن يكون أنجبها في مغامراته العديدة. - مثلي أنا! - مثلك أنت إذا كان هو أباك حقا. - لا ينبغي أن أشك في ذلك بعد ما عرفت من خصاله.
ابتسم المحامي ملتزما الصمت. - خصاله هي خصالي، ولكن بينا يلهو هو فوق الكرة أنزوي أنا في السجن منتظرا حبل المشنقة. - لكنه لم يقتل! - صاحبك الضرير لا يعرف كل شيء. - هو على أي حال مليونير. - الأهم من ذلك أن قوانين الدولة لا تهدده. - لكنك كنت تعلم أنك فقير وخاضع لقوانين الدولة. - وكنت أعرف أيضا من يكون أبي. - وماذا كانت النهاية؟ - أجل للأسف، أمي عرفته خيرا من صاحبك المخضرم فاستطاعت أن تقتني ثروة طائلة وأن تتحدى القانون، ولولا سوء الحظ ... - لكنه لا يعرف سوء الحظ. - ولم يكن من المعقول أن أرضى بأن أعمل قوادا بعد أن عرفت أصلي. - لم تحسن تقليد الأصل. - بحثت عنه. - وباعترافك نسيته. - بسبب امرأة، وهو عذر خليق بأن يقبله. - لكن ليس هو حاكمك. - لكنه هو الذي نسيني. - ربما ظنك في براعته وأنك غير محتاج إليه. - لو لم تهجره أمي لكان لي ذلك. - لكنها هجرته. - وما ذنبي أنا؟ - لا ذنب لك في ذلك. - وذلك كان السبب الأول لجريمتي. - سبب بعيد جدا لا يعتد به عند تحديد المسئولية. - ولكنه أخطر من سبب يعرض صدفة مثل مقابلة كريمة. - سيظل القانون هو القانون.
Página desconocida