الطريق
الطريق
الطريق
الطريق
تأليف
نجيب محفوظ
الطريق
1
اغرورقت عيناه. رغم ضبطه لمشاعره وكراهيته أن يبكي أمام هؤلاء الرجال اغرورقت عيناه. وببصر مائع نظر إلى الجثمان وهو يحمل من النعش إلى فوهة القبر، بدا في كفنه نحيلا كأن لا وزن له، شد ما هزلت يا أماه! وتوارت عن ناظريه تماما فلم يعد يرى إلا ظلمة. وسطعته رائحة التراب، ومن حوله احتشد الرجال؛ ففاحت أنفاس كريهة وعرق، وفي الحوش خارج الحجرة ارتفع لغط النساء، وانفعل برائحة التراب حتى عافت نفسه كل شيء. وهم بالانحناء فوق القبر، ولكن يدا شدت على ذراعه وصوتا قال: تذكر ربك.
تقزز من ملمسه ولعنه من الأعماق. هذا خنزير كسائر من حوله من الخنازير. ولكن لحظة الوداع استردته بوخزة كالندم، وقال إن معاشرة ربع قرن من الزمان لا تعني في هذه اللحظة شيئا، ولا تساوي شيئا. وتردد من بعيد صوت كالعواء، ثم دخل الحجرة طابور من العميان فطوقوا القبر في نصف دائرة ثم جلسوا القرفصاء. وشعر بأعين كثيرة تحدق فيه أو تسترق إليه النظرات، إنه يعرف ما تعنيه هذه النظرات. وشد قامته الفارعة الرشيقة في عناد. يقولون لم يقف هكذا غريبا في منظره وملبسه كأنه ليس واحدا منا؟ لم نحته أمه عن بيئته ثم تركته وحيدا؟ إنهم لا يعزونك ولكنهم يدارون شماتتهم بك. ومذاق الحياة أمسى كالتراب. وبرز من الفوهة التربي ومساعده فوقفا فوق سطح الأرض مرة أخرى، وأقبلا يسدان القبر، ثم يسويان الأرض في نشاط وحيوية. ونادى السقاء على الماء. ورتل العميان. ثم ردد رئيسهم التلقين. وتساءل عما ستجيب به أمه! وقال إنها ستكون وحيدة حقا. وماذا يقول في ذلك الخنازير؟ ها هو الخشوع يغشى جباههم كسحابة صيف. وأدركه الضجر؛ فتاق إلى الوحدة في بيته، وألحت عليه رغبة في أن يعيد النظر في كل شيء. ستحدق الأسئلة المحرجة بأمه في ظلام القبر. ولن يساعدها أحد من هؤلاء الشياطين، ولكن يومكم سيجيء. وانخفضت الأصوات في نغمة حزينة موحية بالختام، ووقف الطابور في حال انتظار وتقدم التربي منه خطوات. عند ذاك قال الواقف إلى يمينه: دعه لي فلا تحاسبه، إني أدرى بهؤلاء الناس.
Página desconocida
وثار حنقه من جديد، ولكنه أدرك أن الطقوس قد انتهت، وتضاعف شعوره بالوحدة. وألقى على المقبرة نظرة شاملة فارتاح لأناقتها، وتراءى له بين قضبان النافذة اللبلاب والصبار والريحان التي تزركش جدار الفناء والأركان. كانت - رحمها الله - تحب الرفاهية فأعدتها للدارين، ولكن لم يبق لها إلا المقبرة. وتحرك الناس في بطء نحو الحوش، فمضى إلى الباب الخارجي ليودع المشيعين. وصافحته النساء أولا، ورغم ثياب الحداد والبكاء واللطم لم تختف من أعينهن نظرات الفجور، ولا زايلت وجوههن القحة وفلتات التهتك. وتتابع الرجال، شد حيلك وسعيكم مشكور، من تاجر مخدرات إلى بلطجي، ومن برمجي إلى قواد. وأتبعهم نظرة باردة وهو لا يشك في أنهم يبادلونه نفس العاطفة. ومع ذلك لم ينس أنه مدين لهم، وهو ما يؤكد سخطه دواما. وقال إنه قد انتهى منهم إلى الأبد ولكنه بلا نصير. وفي طريقه إلى مسكنه بشارع النبي دانيال لفحه هواء منعش معبق بأنفاس الخريف، وبدت السماء غامضة في مولد المغيب. مسكن النبي دانيال الذي شهد فترة بهيجة ناعمة من حياته، ولا أثر للراحلة في مسكنه إلا صوان كبير ونارجيلة مهملة تحت فراشها المهجور. وجلس في شرفة تطل على ملتقى النبي دانيال بسعد زغلول، يدخن سيجارة، فجذب بصره استعداد قائم في شقة على الجانب الآخر للطريق تسكنها أسرة إفرنجية، فثمة بوفيه رصت عليه القوارير وأوعية الثلج، وفي نهاية البهو تعانق رجل وامرأة بحرارة لا تناسب الوقت المبكر. وقال إنه ابتداء من اليوم سيعرف الحياة على حقيقتها. إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل، ولم يبق له إلا أمل غريب كالحلم. إنه مطالب منذ اليوم بتأمين حياته، وهي مسئولية لم يتحملها من قبل؛ إذ نهضت بها أمه وحدها، ففرغ هو طوال الوقت لإمتاع شبابه اليافع. وأمس فقط لم يكن يفكر في الموت بحال. في مثل هذه الساعة أو قبل ذلك بقليل جاء الحنطور بأمه فغادرته معتمدة على ذراعه، وسارت في خطوات متثاقلة متخاذلة من الإعياء والضعف، وقد وهنت، وهزلت، وكبرت ثلاثين عاما فوق عمرها الحقيقي الذي لم يجاوز الخمسين. هكذا تبدت بسيمة عمران في آخر صورة لها، وهي راجعة إلى بيت ابنها، أو البيت الذي أعدته لابنها، بعد أن قضت في السجن خمس سنوات. وتأوهت قائلة: أمك انتهت يا صابر.
فحملها بين ذراعيه دون مشقة وهو يقول: كلام فارغ، ما زلت في عز الشباب.
واستلقت على فراشها قبل أن تنزع قطعة من ملابسها، ثم أمالت وجهها نحو مرآة الصوان وقالت بحسرة وهي تنهج: أمك انتهت يا صابر، من يصدق أن هذا الوجه هو وجه بسيمة عمران!
أجل. في استدارة البدر كان. ووجنة موردة كالتفاح. وأما الجسد الجسيم الهائل فلم يكن ليهتز هزة واحدة عند القهقهة، وقهقهتها كانت تهتز لها المجالس. - لعنة الله على المرض.
فقالت وهي تجفف وجهها بكمها رغم لطافة الجو: ليس المرض ولكنه السجن، والمرض جاء من السجن، أمك لم تخلق لذلك، وقالوا الكبد والضغط والقلب، الله يمرض عيشتهم، ترى ألا يمكن أن أرجع إلى ما كنت؟ - وأحسن، عندك الراحة والطب. - والمال؟
وامتعض عند ذلك فلم ينبس، فسألته: ماذا تبقى لك منه؟
لم يخل من حذر وهو يجيب: شيء لا يذكر. - كنت حكيمة عندما كتبت بيت رأس التين باسمك، وإلا صادروه فيما صادروا من مالي. - ولكني بعته عندما نفدت نقودي كما قلت لك وقتها.
فتأوهت وهي تضع راحتها على يافوخها: آه يا رأسي، ليتك أبقيت عليه، كان في يدك مال كثير، ولكنني أنا التي عودتك على الحياة الحلوة، أردت أن تعيش مثل الأكابر، وأردت أن أترك لك ثروة لا يغرقها البحر، ثم ... - ثم ضاع كل شيء في خبطة واحدة. - نعم، منهم لله، انتقام وضيع من رجل وضيع. رجل طالما تنعم بنقودي، ثم حقد علي بسبب بنت لا تساوي ثلاثة ملاليم، فتذكر فجأة الواجب والقانون والأعراض وأوقع بي ابن الزانية؛ لذلك بصقت على وجهه في المحكمة.
وطلبت سيجارة بإشارة من يدها؛ فأشعل لها سيجارة وهو يقول: الأفضل ألا تدخني الآن ، هل كنت تدخنين هناك؟ - سجائر وحشيش وأفيون، ولكني كنت قلقة عليك دائما.
ودخنت رغم تهافتها، وجففت وجهها وعنقها بيدها الأخرى: وماذا عن مستقبلك يا بني؟ - كيف لي أن أدري؟ ليس أمامي إلا أن أعمل برمجيا، أو بلطجيا، أو قوادا! - أنت! - حق أنك علمتني حياة أجمل، ولكني أخشى ألا يكون ذلك في صالحي. - أنت لم تخلق للسجون! - وماذا في الدنيا غير هذه الأعمال؟
Página desconocida
ثم مستدركا في حدة: كم شمت بي الأعداء في غيابك! - صابر .. تجنب الغضب؛ إنه الغضب الذي أدخلني السجن، فما كان أسهل علي أن أرضي الوغد الذي غدر بي. - في كل مكان أصادف من يستحق السحق. - دعهم يقولون ما يشاءون ولكن لا تستعمل قبضتك.
فكور قبضته قائلا: لولا هذه القبضة لعرضوا بي في كل مكان، إن أحدا لم يجرؤ على ذكرك بسوء أمامي حتى وأنت في السجن!
فنفخت الدخان في غضب، وقالت: أمك أشرف من أمهاتهم، إني أعني ما أقول، ألا يعلمون أنه لولا أمهاتهم لبارت تجارتي!
ابتسم صابر رغم الكآبة الشاملة، فعادت تقول: إنهم مهرة في خداع الناس بمظاهرهم، الوجيه فلان .. المدير فلان .. الخواجا علان .. سيارات وملابس وسيجار .. كلمات حلوة .. روائح زكية .. لكنني أعرفهم على حقيقتهم، أعرفهم في حجرات النوم وهم مجردون من كل شيء إلا العيوب والفضائح، وعندي حكايات ونوادر لا تنفد، الأطفال الخبثاء القذرون الأشقياء، وقبل المحاكمة اتصل بي كثيرون منهم ورجوني بإلحاح ألا أذكر اسم أحد منهم ووعدوني بالبراءة، مثل هؤلاء لا يجوز أن يعيروك بأمك، فأمك أشرف من أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، وصدقني إنه لولا هؤلاء لبارت تجارتي.
عاوده الابتسام، فتأوهت قائلة: أين أيام الضحك أين؟ أمك أحبتك بكل قواها، ولك أعددت هذا المسكن الجميل بعيدا عن جوي كله، وأرسلت مالي يجري تحت قدميك، فإذا جاءتك مني إساءة لا حيلة لي فيها فلا ذنب لي، وليس في الرجال من له نصف جمالك ورشاقتك، غير أنه يجب أن تتجنب الغضب وأن تتعظ بما جرى لي.
رنا إلى تعاستها بحزن، ثم تمتم: سيعود كل شيء إلى أصله . - أصله؟! أنا انتهيت، بسيمة أيام زمان لن تعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحة تسمح بذلك ولا البوليس!
ونظر إلى الأرض قائلا: لم يبق من ثمن البيت إلا القليل! - وما العمل؟ يجب أن تعيش كما عودتك. - لكني لم أعرفك يائسة أبدا. - إلا هذه المرة! - إذن علي أن أعمل أو أن أقتل!
أطفأت السيجارة ثم أغمضت عينيها إعياء أو طلبا للتركيز، فقال صابر: لا بد من مخرج! - نعم طالما فكرت في ذلك وأنا في السجن!
ولأول مرة في حياته تزعزعت ثقته في أمه. واستطردت المرأة: أجل فكرت طويلا، ثم أقنعت نفسي بأنه لا يصح أن أصر على الاحتفاظ بك ما دام ذلك في غير مصلحتك.
حدجها بنظرة متسائلة من عينيه السوداوين فتمتمت بنبرة اعتراف منهزمة: أنت لا تفهم شيئا ولك حق، الواقع أن الحكومة صادرتك ساعة صادرت أموالي، لم يعد لي الحق في امتلاكك أنت أيضا. أدركت ذلك يوم صدور الحكم.
Página desconocida
وصمتت من شدة معاناة اليأس، ثم واصلت: معنى هذا أنه يجب أن تهجرني.
تساءل بامتعاض: إلى أين؟
أجابت بصوت لا يكاد يسمع: إلى أبيك!
رفع حاجبيه المقرونين في ذهول هاتفا: أبي؟!
فهزت رأسها علامة الإيجاب، فقال: لكنه ميت، أنت قلت إنه مات قبل مولدي. - قلت ذلك ولكنه ليس من الحقيقة في شيء! - أبي حي! شيء مذهل حقا، أبي حي!
وجعلت ترمقه بنظرة استياء، ومضى هو يقول: أبي حي! لكن لم أخفيت عني ذلك؟ - آه، جاء دور الحساب! - أبدا، ولكن ألا يحق لي أن أسأل؟ - أي أب في الدنيا كان يمكن أن يهيئ لك من أسباب السعادة بعض ما هيأت لك؟ - لا أنكر شيئا من هذا أبدا. - إذن فلا تحاسبني واستعد للبحث عنه! - البحث؟! - نعم، إني أتحدث عن رجل كنت امرأة له منذ ثلاثين عاما، ثم لم أعد أدري عنه شيئا.
قطب في حيرة وتهاوى جذعه الذي أطلقه الانفعال: أمي ما معنى هذا كله؟ - معناه أني أوجهك إلى المخرج الوحيد من ورطتك. - لعله قد مات! - ولعله حي! - وهل أضيع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده؟ - ولكنك لن تتأكد من وجوده إلا بالبحث، وهو خير على أي حال من بقائك بلا مال، ولا عمل، ولا أمل. - موقف غريب لن أحسد عليه. - بديله الوحيد أن تعمل برمجيا، أو بلطجيا، أو قوادا، أو قاتلا، فلا بد مما ليس منه بد! - وكيف يمكن أن أعثر عليه؟
تنهدت من الأعماق وهي تزداد تعاسة بالعودة إلى الماضي: أما اسمه فهو المسجل في شهادة ميلادك؛ سيد سيد الرحيمي، وقد أحبني منذ ثلاثين عاما وكان ذلك في القاهرة. - القاهرة! ليس أيضا في الإسكندرية! - إني أعلم أن مشكلتك الحقيقية ستكون في العثور عليه. - لم لم يبحث عني هو؟ - إنه لم يعلم بك.
قطب صابر، واستقرت في عينيه نظرة احتجاج مكفهرة، فقالت: انتظر، لا تنظر إلي هكذا، واسمع بقية الحديث عنه، إنه سيد ووجيه بكل معنى الكلمة، لا حد لثروته ولا نفوذه، لم يكن في ذلك الوقت إلا طالبا بالجامعة، ومع ذلك كانت الدنيا تهتز لدى محضره.
تابعها بنظرة تجلى فيها الاهتمام المشوب بالفتور، فقالت: أحبني، وكنت بنتا جميلة ضائعة، وحفظني سرا في قفص من ذهب. - تزوجك؟ - نعم، وما زلت أحتفظ بشهادة الزواج. - ثم طلقك؟
Página desconocida
تنهدت قائلة: بل هربت. - هربت؟ - هربت بعد معاشرة أعوام وأنا حبلى، هربت مع رجل من أعماق الطين!
بذهول وهو يهز رأسه: شيء لا يصدق! - وبعد قليل ستتهمني بأنني المسئولة عن ورطتك! - لن أتهمك بشيء؛ فحسبنا ما بنا، ولكن ألم يبحث عنك؟ - لا أدري، هربت إلى الإسكندرية، ثم لم أسمع عنه شيئا، وكثيرا ما توقعت أن ألقاه يوما في أحد بيوتي، ولكن عيني لم تقع عليه.
ضحك في فتور، ثم قال: وبعد ثلاثين عاما تدفعينني للبحث عنه! - اليأس يدفعنا إلى ما هو أغرب من ذلك، وستكون معك شهادة الزواج، وستكون معك أيضا صورة الزفاف، وسوف ترى بعينيك أنك صورة منه. - عجيب أن تحتفظي بالشهادة والصورة! - كنت أفكر في مستقبلك، وكنت فتاة فقيرة تعيش في كنف بلطجي، ولما أتاني صدقت نيتي على الاستئثار بك. - ومع ذلك لم تتخلصي من بقايا الذكريات.
جففت وجهها وعنقها بحركة حادة بعض الشيء، وقالت: هممت بذلك مرات ثم عدلت، كأن ركنا في كان يتنبأ بما سيقع.
راح يذرع الحجرة في حيرة، ثم وقف أمام السرير وهو يسأل: وإذا بعد الجهد والتعب أنكرني؟ - من يرى بهاء صورتك وينكرك؟!
عاد إلى الجلوس وهو يقول: القاهرة مدينة كبيرة وأنا لم أزرها من قبل. - من قال إنه اليوم في القاهرة؟ لم لا يكون في الإسكندرية، أو في أسيوط، أو دمنهور؟ الحق أنه لم يطلعني على حال من أحواله، أين هو اليوم؟ ماذا يعمل؟ أهو أعزب أم متزوج؟ الله وحده يعلم.
فلوح بيده كالغاضب، وقال: وكيف يراد مني العثور عليه؟ - ليس ذلك يسيرا بطبيعة الحال، ولكنه ليس بالمحال، وأنت لك معارف من ضباط البوليس والمحامين، وليس من شخصية كبيرة إلا ولها في القاهرة مقام. - أخشى أن ينفد مالي قبل العثور عليه. - لذلك يجب ألا تتوانى عن البحث.
وتفكر قليلا، ثم سأل: وهل هو يستحق يا ترى كل هذا التعب؟ - بلا أدنى شك يا بني، ستجد في كنفه الاحترام والكرامة، وسيحررك من ذل الحاجة إلى أي مخلوق بما سيهيئ لك من عمل غير البلطجة أو الجريمة، فتظفر آخر الأمر بالسلام. - وإن وجدته فقيرا! ألم تكوني أنت غنية لا يحيط بثروتك حصر؟ - أؤكد لك أن المال ليس إلا حسنة من حسناته، وقد كنت غنية حقا، ولكني لم أهيئ لك كرامة، ولا عملا، ولا سلاما، وكنت تسير ملوحا بلكمتك لتخرس الألسنة المتوثبة للنيل منك ومن أمك.
عاد إلى التفكير فخيل إليه أنه يحلم، ثم سألها: هل تؤمنين حقا بأنني سأعثر عليه؟ - شيء يحدثني بأنه حي، وأنك إذا لم تيئس أو تتوان فسوف تعثر عليه.
هز رأسه وهو بين الحيرة واليأس، وتمتم: هل حقا أمضي للبحث عنه؟ وإذا علم أعدائي بهذه الحكاية أفلن يجعلوا مني نادرة جنونية؟ - وماذا يقولون إذا وجدوك آخر الأمر قوادا؟ الحق أنه لا خيرة لك فيما أنت ذاهب إليه.
Página desconocida
أغمضت عينيها بعد ذلك وغمغمت: «إني تعبة جدا!» فرجاها أن تنام، على أن يستأنفا الحديث غدا. وخلع حذاءها ثم غطاها، ولكنها أزاحت الغطاء عن صدرها بحركة عصبية فلم يعده، وما لبث شخيرها أن تردد. واستيقظ حوالي التاسعة من صباح اليوم التالي بعد ليلة سهاد ممزقة بالفكر، وذهب إلى حجرتها ليوقظها فوجدها ميتة. ترى هل ماتت وهي نائمة، أو أنها نادته آخر الليل فلم يسمع؟ على أي حال وجدها ميتة وهي لم تزل بالملابس التي غادرت بها السجن. وها هو الآن يتفحص بعناية ودهشة صورة الزفاف. الصورة التي جمعت بين والديه منذ ثلاثين عاما. وها هو يركز بصره على صورة أبيه، على وجهه بالأخص. شاب جميل حقا، مفعم بالشباب والحيوية، ونظرته تفيض بالاعتداد بالنفس، ووجهه المائل للبياض، المستطيل الممتلئ، ذو الجبهة العالية، والطربوش المائل إلى اليمين، لا يمكن أن ينسى. ولم تكذب أمه حين قالت إنه صورة منه، ولكنه كما يكون القمر على الورق، صورة من القمر في كبد السماء.
وفي شقة الجيران أخذ المدعوون يتوافدون وأنغام الموسيقى تترامى، هذا وصوت القرآن يتلى في غرفة المرحومة. والآن أين هي الحقيقة؟ وأين هو الحلم؟ أمك التي ما تزال نبرتها تتردد في أذنك قد ماتت، وأبوك الميت يبعث في الحياة. وأنت المفلس المطارد بماض ملوث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام.
2
ليبق الأمر سرا، وإذا خاب مسعاه فليستعن بمعارفه. وليبدأ بالإسكندرية؛ فهذا طبيعي جدا، وإن يكن من المستبعد أن يقيم بها شخص كأبيه ولا تدري به أمه. واتخذ من دليل التليفون دليله. حرف السين، سيد، سيد، سيد، حتى استقرت عيناه على: سيد سيد الرحيمي. آه لو يدلله الحظ، ويعفيه من متاعب لا يدري مداها أحد. سيد سيد الرحيمي صاحب مكتبة المنشية. أين هذا من جاه أبيه؟ والمنشية كانت معبرا لأمه طيلة ربع قرن من الزمان، ولكن لعله يجد في الاسم مفتاحا للغزه. ووجد صاحب المكتبة في الخمسين من عمره، وذا سحنة لا تمت بسبب إلى صورة أبيه. وأخبره أنه يبحث عن سمي له، وأطلعه على صورته مخفيا صورة أمه بكفه، وقال الرجل: لا أعرف صاحب هذه الصورة.
ولما أوضح له أنها صورة التقطت منذ ثلاثين عاما، قال: ولا أذكر أني رأيته. - ألا يمكن أن يكون قريبا من بعيد؟ - نحن في الأصل من الإسكندرية، وجميع أهلي يقيمون هنا عدا بعض أقارب في الريف من ناحية الأم، ولكن ما سبب بحثك عنه؟
وارتبك لحظة ولكن سرعان ما أجاب: إنه صديق قديم للمرحوم أبي، أليس للرحيمي فروع في بلاد أخرى؟
وتفحصه بنظرة لم تخل من ريبة، وقال: الرحيمي هو جدي، ولا ينتسب إليه في أسرتنا إلا أنا وأختي، وليس لنا فروع من ناحيته خارج الإسكندرية.
ولا سبيل إلى الصبر أو الطمأنينة لمن لم يعد يملك سوى مائتين من الجنيهات. وهي تتناقص بمرور الساعات، ولا أمل بعدها في حياة كريمة. ومرضت عيناه من التفحص المركز للوجوه، وأعياه القلق. ولجأ إلى محام من معارفه يشاوره، فقال له: لعل له رقم تليفون سري.
وتطوع لمعاونته في الكشف عنه دون نتيجة، ثم قال له: اسأل مشايخ الحارات.
فقال صابر بإنكار: إنه وجيه بكل معنى الكلمة. - إن ثلاثين عاما خليقة بأن تفعل الأعاجيب، بل في نيتي أن أكلف صديقا من ضباط البوليس ليتحرى لك عنه في السجون. - السجون؟ - لم لا؟ السجن كالجامع مفتوح للجميع، وأحيانا يدخله إنسان لنبل في أخلاقه لا لاعوجاج.
Página desconocida
وضحك المحامي ضحكة مقتضبة، ثم قال: ولكن لنبدأ بالشهر العقاري فلعله من الأعيان المتخفين.
ولم يكن في كشف السجون اسمه، ولا في سجلات الملاك، فلم يجد مفرا من اللجوء إلى مشايخ الحارات. واستبعد إلى حين اقتراحا للمحامي بالإعلان في الصحف؛ إذ إن ذلك يذيع مشكلته العجيبة على الملأ، ويمكن أعداءه الكثيرين في الإسكندرية من العبث به، فأجل تنفيذ الفكرة إلى ما بعد مغادرة المدينة. ودار على مشايخ الحارات من العطارين إلى كرموس، ومن رأس التين إلى محرم بك. وكلما ذكر اسم سيد سيد الرحيمي سئل: ما عمله؟ - لا أدري عنه شيئا إلا أنه من الوجهاء وهذه صورته منذ ثلاثين عاما. - ولم تبحث عنه؟ - إنه صديق قديم لأبي وقد كلفت بالبحث عنه.
وتحدق فيه الأعين باستغراب: وهل أنت متأكد من أنه حي؟ - لست متأكدا من شيء. - وكيف عرفت أنه في الإسكندرية؟ - مجرد أمل ليس إلا.
ثم يجيئه الجواب النهائي كجدار السجن: غير معروف لدينا.
ولم ترتح عيناه لحظة واحدة من التهام الوجوه. ولم يشعر في دوامة الاستطلاع بخطى الخريف حتى أيقظه مطر مباغت عند لسان الكورنيش الموغل في البحر فانسحب مسرعا إلى الميرمار، ورفع عينيه إلى سماء أظلت جو الظهيرة بقطع من الليل. وسمع صوتا يقول مرحبا: تعال.
صافحها وجلس. - لم أتمكن من تعزيتك ولكني انتظرت أن تزور «الكنار». - ألست في حداد؟ - الكنار مكان مناسب للمحزونين، والجميع يتساءلون أين أنت؟
وتوقف المطر فوقف من فوره معتذرا بمشاغل؛ فقامت بدورها هامسة: خبرني هل أنت في ضائقة مالية؟
آه هل بدءوا يتقولون؟ وقالت بإغراء: مثلك لن يعز عليه المال إذا أراده.
فصافحها مرة أخرى ببرود ثم ذهب. مثلك لن يعز عليه المال! أجل فأذعن لنداء القوادة. ذلك ما يتمناه أعداؤك ولكن دونه الموت. وتساءل: ماذا بقي في الإسكندرية؟
وبسط راحتيه أمام قارئ الكف ولكنه لم يقل جديدا. وزار العارف بالله سيدي الشيخ زندي بعطفة الفراشة. تربع بين يديه في حجرة تحتانية مغلقة الشيش دواما فهي تعيش في مغيب متصل، وتتلوى في جوها سحائب البخور. وشم الشيخ منديله، ثم أحنى رأسه مستغرقا، ثم قال: من جد وصل.
Página desconocida
وترامى إليه هدير الموج من الأنفوشي، فقال بأمل: «بداية حسنة.» وقال الشيخ: وتعب كليالي الشتاء.
اليوم بسنة وكم هي باهظة التكاليف. - وستنال مطلوبك.
وفي جزع سأله: ما مطلوبي؟ - إنه ينتظرك بفارغ الصبر. - هل يدري بي؟ - إنه ينتظرك.
لعل أمه لم تقل له كل شيء. - إذن هو حي. - الحمد لله. - وأين أجده؟ فهذا ما يعنيني حقا! - الصبر. - لا يمكن الصبر إلى ما لا نهاية. - أنت في البدء. - في الإسكندرية؟
أغمض الرجل جفنيه، ثم تمتم: أبشرك بالصبر.
وقطب مغتاظا، ثم قال: لم تقل شيئا.
فقال الشيخ محولا عنه رأسه: قلت كل شيء.
وخرج إلى جو عاصف تركض فيه السحب مثقلة بالظلمات. وقال: دجالون وعاهرات، والنقود تبعثر بلا حساب. وعزم على بيع أثاث شقته تمهيدا للسفر إلى القاهرة.
وكان قد باع التحف الرشيقة في محنته ليواجه بثمنها نفقات معيشته الخيالية. وكره دعوة السماسرة إلى شقته، فقصد المعلمة نبوية صديقة أمه الحميمة، والشخصية الوحيدة التي لم يكرهها في ذلك الوسط. وقالت وهي تقدم له خرطوم النارجيلة: سأشتري أثاثك على العين والرأس، ولكن لماذا تهجر بلدك؟ - سأشق لي طريقا في القاهرة بعيدا عن الخلق. - الله يرحم أمك، أحبتك ودللتك فسدت في وجهك سبل الرزق.
وأدرك ما تعنيه فقال: لم أعد أصلح لهذه المهن. - وماذا تفعل في القاهرة؟ - صديق هناك وعدني خيرا.
Página desconocida
قالت باسمة عن ثغر ذهبي: أعمالنا لا تشين إلا المغرورين، طاوعني.
فبصق في موقد كبير ينفث بخور الهند.
وتعلق بصره بالإسكندرية والقطار يرج الأرض مبتعدا. رآها مدينة من الأطياف مغروسة في حلم الخريف تحت مظلة هائلة من السحب، وهواء بارد معبق بمطلع نوفمبر يجوب شوارعها الأنيقة شبه الخالية. وودعها هي وأمه، وذكريات ربع قرن من الزمان بزفرة طويلة ساخنة. وكيف يكون الحال لو أن من تبحث عنه قد خلفته وأنت لا تدري في ركن من الإسكندرية لم يبلغه مسعاك؟ ومن ضمن لك أن يكون حظك في القاهرة خيرا منه في الإسكندرية؟ وكم في البحر من أمواج! وكم في السماء من نجوم! وعجيب أن يكون بعيدا هذا البعد كله من تحمل روحه وجسده بين جنبيك. وما أبعدك عنه إلا شهوة عمياء انتزعتك من أحضانه لتلدك في ماخور. وكان يسألها عن أبيه فتجيبه: «كان موظفا محترما، ورجلا طيبا، ولكنه مات في ريعان الشباب.» وأهله أليس له أهل؟ فتجيبه: «لا أعرف له أهلا.» لذلك ظن طويلا أنه ابن رجل من البلطجية، وأنه ابن زنا. وأنت اليوم وحيد بلا أهل ولا أصدقاء كأنك من جنس غريب. وهاله الزحام في محطة مصر فألح عليه شعوره بالوحدة.
ونازعته نفسه إلى العودة في أول قطار، ولكنه أودع حقيبته الأمانات ، ثم خرج إلى الميدان والشمس تميل ميلة العصر. ودار رأسه مع السيارات والباصات والعابرين. وترامى الميدان في غاية من الاتساع وبلا شخصية، وتقابل فوق أديمه متناقضات من أشعة حامية وهواء لطيف، وشوارع مزدهرة وأخرى خربة. وقضى ساعة وهو يبحث عن فندق رخيص في الميدان وما حوله حتى وجد نفسه في شارع الفسقية ذي البواكي أمام فندق «القاهرة». وقف على الطوار المسقوف المقابل للفندق على كثب من شحاذ مستلق لصق الجدار يتغنى بمديح نبوي. وانعكس عليه من الشارع طابع عمل ودمامة وضجر لكثرة الدكاكين على الصفين، وعربات النقل، وأكوام البضائع، ولكنه أمل أن يجده أرخص فندق في الناحية. وهو مبنى قديم، ترابي الجدران، مكون من أربعة أدوار وعلية فوق السطح، وذو باب مرتفع مقوس الرأس كوجه باك، يفتح على مدخل مستطيل ينتهي إلى السلم، ويتوسطه مكتب جلس إليه رجل إلى جانبه امرأة. الرجل طاعن في السن، أما المرأة ... رباه إنها فتاة في عز الشباب تشد عينيه بقوة ليست بلا سبب؛ إنها توقظ مشاعر نائمة، وتنبه ذكريات مدفونة في الضباب. العطفة المبلطة الصاعدة من الأنفوشي المشبعة بهواء البحر، ورطوبته المالحة، وانفعالات الجنون الملفعة بالظلام. وسرعان ما توثقت علاقات خفية بينه وبين الفندق كأنما جاءه على ميعاد. ووجد نفسه يعبر الطريق نحوه مدفوعا برغبة في الاستطلاع والكشف وإن يكن غير مصدق لظنونه تماما، وصوت الشحاذ يتردد عاليا في نبرة أعجبته:
طه زينة مديحي
صاحب الوجه المليحي
النصارى واليهود
أسلموا على يديه
السمرة الرائقة النقية، والعينان اللوزيتان الدعجاوان، وبريقهما المضيء المفعم بالنبض والاقتحام. أين من هذا القطة المهزولة ذات الثوب الباهت الواحد وأظافرها الجارحة؟ إنها تذكره بها بعنف تاركة له تخيل ما صنع الزمن في عشر سنوات أو يزيد. والاسم القديم ضائع كأبيه، ولكن رائحة البحر تملأ خياشيمه، وها هو يرتجف لتذكر الليل البهيم، ورغم ذلك كله فقد ظل أبعد ما يكون عن اليقين. وبنت العطفة ذكرى عابرة لا قيمة لها، ولكنها تبعث الآن في صورة فريدة ذات سطوة خطيرة الشأن كبعث أبيه من الموت الذي جاء به من البحر إلى هذه المدينة المثيرة. استقبلت الفتاة القادم بنظرة قصيرة، ولكنها متغلغلة، ثم أدارت وجهها نحو استراحة الفندق إلى يمينها. ووقف صابر أمام المكتب والعجوز عاكف على دفتر يطالعه من خلال عدسة مكبرة يمسك مقبضها المعدني الصغير بيد مرتعشة.
ولم ينتبه العجوز إلى القادم؛ لشيخوخة حواسه فيما بدا، فأدام الشاب النظر إلى عارض الوجه الذي شغله، مكتشفا آيات تؤكد ظنونه، وآيات تبددها، ثم تحول الوجه إليه بنظرة ناقدة لانتهازيته، فربتت على ساعد الرجل لتنبهه، وعند ذاك بادره صابر قائلا: مساء الخير يا والدي.
Página desconocida
رفع الرجل إليه وجهه ويده لا تكف عن الارتعاش. وهو وجه من الصعب التنبؤ عن صورته الأصلية؛ إذ اختفى أديمه تحت قناع من الأخاديد والتجاعيد، وبرز أنفه مقوسا، حادا، مجدورا، واحتارت في عينيه الناضبتين نظرة باهتة ممصوصة كأنما لم تعد تعنى برؤية العالم. وقال صابر: إني أسأل عن سعر الحجرة. - ريال في الليلة. - ولمن يقيم أكثر من أسبوعين؟ - الريال عملة لا قيمة لها اليوم. - قد أقيم شهرا أو أكثر تبعا لمشيئة الله.
فأمسك الرجل عن الكلام إعراضا عن المساومة، وهنا رأى صابر طربوشه الطويل الغامق لأول مرة، وتمتم: كما تشاء.
وراح يملي عليه الاسم والمكان الذي جاء منه، ولما سئل عن عمله أجاب: من الأعيان!
وقدم له بطاقته الشخصية. وجعل يسترق النظر إلى الفتاة طوال انشغال العجوز بالبطاقة.
والتقت عيناهما مرة، ولكنه لم يقرأ فيهما المعنى الذي يتلهف عليه. وبسبب انفعاله وحده راح يقنع نفسه بأنها هي هي! ولفحه هواء البحر في الركن المظلم وهو نصف عار، وملأت أنفه رائحة القرنفل المنبعثة من الشعر المبعثر. وثمل بشعور تفاؤل عجيب، فقال إنه على نحو ذاك سيعثر على أبيه. والمؤكد بلا أدنى شك أن هذه الفتاة على استعداد لشيء ما. إنها تقف منه موقفا حياديا في الظاهر، ولكنها تخاطب ماضيه وأعماقه بألف لسان. ولا شك أن وراء هذه القشرة الناعمة الصامتة اللامبالية مدينة مسحورة. ولو كان الظرف غير الظرف لدعاها إلى الرقص، واحتواها بين ذراعيه، وقال لها بكل جرأة كيف يرضى بالعيش تحت هذا القبو من ترطب جسده بهواء البحر في عطفة القرشي! ورد العجوز إليه البطاقة قائلا: إذن فأنت من الإسكندرية؟
فهز رأسه بالإيجاب مبتسما، فغمغم الرجل بكلمات مبهمة، فقال بمكر راميا الفتاة بنظرة سريعة: أراهن على أنك تحب الإسكندرية.
وابتسم جانب فم العجوز وحده، وعلى خلاف توقعه أضربت الفتاة عن متابعته فشعر بخيبة، ثم خطر له أن يسأله: هل عرفت يوما سيد سيد الرحيمي؟
فضيق الرجل عينيه، ثم قال: غير مستبعد أني سمعت عنه.
تركز صابر في اهتمام أنساه كل شيء حتى الفتاة نفسها: متى وأين؟ - لا أذكر، لست متأكدا. - لكنه من كبار الوجهاء. - عرفت كثيرين منهم، ولكني لم أعد أذكر أحدا.
ومع أنه آثر ألا يزيد إلا أنه تمادى في التفاؤل، وقال إنه غير بعيد أن يهتدي إلى مكان أبيه اليوم أو غدا. والتقط في اللحظة المناسبة نظرة من عيني الفتاة قبل أن تستردهما. قرأ فيها شكا وما يشبه السخرية، وكأنها تتساءل عما دعا هذا الوجيه إلى النزول بفندقها المتواضع. ولم يضايقه ذلك وقال إن الحقيقة ستنجلي عندما تعرف مهمته، وسوف تعرف عاجلا أو آجلا. ترى هل تذكرته؟ وشعر بغرز الأظافر في ساعده عقب المطاردة البارعة التي بدأت من ساحل الصيادين بالأنفوشي واستقرت في الركن المظلم بعطفة القرشي، ولفح هواء البحر بدعابته القاسية نصفه العاري. ولكن أين كان أبوها في ذلك الوقت؟ ومتى انتقل بها إلى إدارة هذا الفندق؟ ونادت المرأة قائلة: عم محمد يا ساوي.
Página desconocida
فجاء عجوز من مجلسه عند الباب، عميق السمرة، مائل للقصر، دقيق الجسم. تتكون ملابسه من طاقية بيضاء، وجلباب رمادي مقلم، ومركوب؛ فأشارت المرأة إلى صابر قائلة: حجرة رقم 13.
ابتسم صابر لدى سماعه الرقم، ثم استأذن في الذهاب لإحضار حقيبته. ولما عاد تبع عم محمد الساوي إلى الحجرة في الدور الثالث. وغادرها الرجل، ثم دخل خادم يحمل الحقيبة. خادم بين الشباب والكهولة، سريع الحركة بدرجة لا تتناسب مع العمل الذي يؤديه، ضيق العينين جدا مستديرهما، صغير الرأس، يوحي منظره بالسذاجة. وسأله صابر عن اسمه فأجاب: علي سريقوس.
وآنس في نبرته امتنانا بدرجة أشعرته بالقدرة على امتلاكه وقتما يشاء. وسأله: هل العجوز الجالس إلى المكتب هو صاحب الفندق؟ - نعم. عم خليل أبو النجا.
وهم بسؤاله عن الفتاة، ولكنه كبح رغبته عن حكمة إلى حين، وحذر نفسه قائلا: إن السذاجة سلاح ذو حدين! ولما خلا له المكان شمله بنظرة سريعة فتركت في نفسه انطباعا بالقدم. السقف العالي والسرير ذو الأعمدة والكنصول، وقال إن أباه كان يعجب بهذا المنظر حينما أحب أمه. ودلف من نافذة عالية، وأطل على ميدان صغير في الطرف الشمالي من الشارع، تتوسطه فسقية تمج نافورتها رذاذا على غلمان مهللين. وأضاء المصباح ثم جلس على كنبة تركية قديمة. وراودته أخيلة جنسية، وتخللتها أحلام بالعثور على أبيه. أما نداء العينين اللوزيتين المضيئتين فعجيب كل العجب. ولعلها الآن تفكر في أمره وتتساءل. ولكن ليس ثمة ما يقطع بأنها هي هي. في زحمة المولد نهرته قائلة لا تقترب مني هكذا، فقال متظاهرا بالكبرياء لم تقلها بنت قبلك، فأجابت بكبرياء أشد: ولكني أقولها وأعيدها. وذهبت في صحبة امرأة شرسة والهواء يلعب بضفيرتيها، فأين كان عم خليل؟ وعيناك اليوم التقت بعينيها أكثر من مرة وتجلت معان، ولكن لم يلتمع بينهما ما يوحي بذكريات مشتركة. لم تقل عيناها إنها تذكر المجلس فوق سور الكورنيش عند قوارب الصيد المقلوبة، والأحاديث المفتعلة للتستر على الرغبات الجامحة، وقبلة خطفت أعقبتها معركة غير حامية. وعندما أعيتك الحيل صحت سأقتلع يوما أظافرك. أما يوم المطاردة الرائعة، وصراع الركن المظلم، وشذا القرنفل، والهواء المشبع برائحة البحر فكانت نصرا صريحا، ثم تلاه اختفاء وصمت، لا هي ولا الأم الشرسة، وأسف دام طويلا، حتى انتقلت أمك من حال إلى حال، واستقر بك المقام في الشقة الأنيقة ب «النبي دانيال». من أدراك أن لهذا الفندق علاقة بعطفة القرشي؟ وأن هذه الفتاة المثيرة هي تلك البنت القرنفلية؟ على أي حال فهذه الفتاة تثير عاصفة في دمك، وفي سواد مقلتيها ترى الليالي المعربدة بأنغامها الجنونية. وما أحوجك إلى دفء الشهوة المعزية في فترات الراحة من البحث! وقيمة ذلك تتضاعف للوحيد الذي لا أهل ولا صاحب له. وعندما تجيء المعجزة ستقول له: أنا صابر، صابر سيد سيد الرحيمي، هاك شهادة الميلاد، وهاك شهادة الزواج، وانظر جيدا في هذه الصورة!
عند ذاك سيفتح لك ذراعيه، وتنجاب عنك الوساوس إلى الأبد. وصرت امرأة أنيقة بكل معنى الكلمة. أين البنت المغطاة بملح البحر؟ أين رائحة غفلة العذراء؟
3
استيقظ مبكرا بعد ليلة لم ينم فيها سوى ثلاث ساعات. ووجد رغم ذلك نشاطا لم يحلم به من قبل. وفتح النافذة فلم ير المنظر الذي في غفلة توقعه، منظر عمارات النبي دانيال وسعد زغلول، وزرقة البحر على مرمى البصر، وهواء الإسكندرية العامر بالفتن. رأى سماء ملفعة بالسحب السمراء، وفي الأفق الشرقي نضح الستار ببياض ناصع، وعلى الأرض الخالية سعى فوج من العمال والباعة، وفي لمحة واحدة تجلت لمخيلته صورة أبيه، والوجه الدافئ المفعم بالإثارة، وجاءه علي سريقوس بالفطور إلى حجرته فأكل بشهوة عظيمة، ولما رجع الخادم ليحمل الصينية الفارغة، سأله: من الفتاة التي كانت تجلس إلى جانب عم خليل أمس؟ - زوجته!
ليعترف بأن هذا لم يجر له في بال، وكم بدا له مزعجا: من الإسكندرية؟ - لا أدري. - متى امتلك عم خليل هذا الفندق؟ - لا أدري، إني أعمل هنا منذ خمس سنوات فقط. - وهل كان وقتذاك متزوجا؟ - نعم.
هي بنت عطفة القرشي. اشتراها العجوز هناك من المرأة الشرسة، وصنع منها امرأة حسناء طاغية. ولكن عليه هو أن يتفرغ لمهمته قبل أن ينفد آخر ما يملك من نقود. ووجد عم خليل أبو النجا بمجلسه وراء المكتب وهو يحادث عم محمد الساوي الجالس إلى يمينه. ولمح في طريقه إليهما نفرا من النزلاء يجلسون في الاستراحة ما بين متناول لفطوره وقارئ لجريدة. جاء بكرسي أمام المكتب، ثم جلس رافعا يده بالتحية وهو يقول: عن إذنك دليل التليفون.
وفر الصفحات حتى عثر على حرف السين. سيد. سيد سيد. وسيد سيد الرحيمي. وخفق قلبه بقوة. هذا هو في مدينته. ليس كصاحب مكتبة المنشية. والمهنة؟ طبيب بميدان الأزهار وأستاذ بكلية الطب. كما يحدث للوجهاء وأبناء الوجهاء. واستخفه فرح فتمتم: الظاهر أن ربنا سيرضى عني.
Página desconocida
فنظر عم خليل بعينيه المذكرتين بالآخرة، فقال: الظاهر أني سأنجح في المهمة التي جئت من أجلها من الإسكندرية.
فغمغم العجوز: جميل أن ينجح الإنسان.
كما نجحت في شراء الفاتنة! ورآه ما زال ينظر إليه مستطلعا فقال: إني أبحث عن رجل هو كل شيء في حياتي.
فدعا له عم محمد الساوي قائلا: ربنا يحقق مقاصدك.
وقال عم خليل أبو النجا: لا يجيء أحد إلى هذا الفندق للإقامة، ولكن لمهمة تستغرق ليلة، أو أسبوعا، أو شهرا، ثم يمضي إلى حال سبيله. - هذا طبيعي جدا. - ولذلك فهم يتجاورون في الغرف والموائد والاستراحة، ويندر أن يعرف أحد منهم الآخر. - يخيل إلي أن عملك مسل جدا. - لا شيء مسل على الإطلاق.
ومغالطة الزمن أليست مسلية؟ وسمع وقع حذاء نسائي فأجل قيامه الذي هم به. وجاءت الزوجة مدملجة الجسم في جونلا سوداء، وبلوزة حمراء، مطوقة الرأس والخدين بإشارب أبيض منمنم. ووشى خطرانها باكتناز سوي هو الوسط المثالي بين النحافة والبدانة، فسرعان ما ثمل أنفه بعبير أنثوي مسكي عصف بعقله وقلبه. وهي وإن لم تبتسم إلا أن عينيها عكستا نظرة راضية موحية كأرض خصبة لم تزرع بعد. ونهض عم محمد الساوي وهو يحبك معطفا رماديا قديما، أما عم خليل فقد رفع إليها وجهه متمتما: نويت بالسلامة؟
فقالت بصوت حلقي دسم: فتك بعافية.
ومضت إلى الخارج يتبعها عم محمد الساوي. أنت سر من الأسرار يا عم خليل. ووجهك يصلح رمزا للموت كعلم القرصان. ولم يرتكب أناس الأخطاء بلا تبصر؟ وقام متظاهرا بالهدوء فحيا الرجل وغادر الفندق. وسبقته عيناه إلى كافة أنحاء الطريق حتى رأى المرأة والعجوز يميلان مع ميدان الفسقية فأسرع في مشيه حتى لحق بهما. والتفت عم محمد نحوه فابتسم كالمعتذر، وقال: لا تؤاخذني يا عم محمد، أود أن أعرف الطريق إلى ميدان الأزهار؟
والتفتت نحوه المرأة في شيء من الدهشة. ووقف عم محمد ليصف له طريق الوصول؛ فاضطرت المرأة إلى الانتظار. وتظاهر بالإنصات إلى كلام عم محمد دون أن يعي منه كلمة، وكلما وجد فرصة آمنة حدج المرأة بنظرة فتتلقاها بالرضى الهادئ المثير للطموح بلا دليل. ود أن يسألها عن القرنفل وملح البحر والظلام العاري، ولكن الساوي انتهى من شرحه، فشكره ثم ذهب. ترى أين هي ذاهبة مع كلب الحراسة؟ وألم تكن جرأته سابقة للأوان؟ إنه دائما جريء، غير أن الجرأة هذه المرة قد تفسد عليه البحث أو تعرقله. وبلغ ميدان الأزهار مستعينا بالمارة، ولم يجد في العيادة سوى التمرجي. وأخبره الرجل أن الطبيب يحضر عادة حوالي الثانية عشرة فجلس لينتظر. هل ترددت أنفاس أبيه في هذه الشقة؟ ها هو القلق يساوره والجزع، والأمل واليأس. وكلما تقدمت الساعة قل صبره. وإن وجد أباه حقا فكيف يكون موقفه منه؟ كيف يتصرف إن أنكره أو طرده؟ ولكنه سيستميت في الدفاع عن حقوقه؛ ولذلك تبدى في أحسن مظهر، ولم يخف عليه أن التمرجي رمقه باحترام وإعجاب! ولكنه تذكر أنه لعجلته واضطرابه لم يعرف اختصاص الدكتور! وخرج من حجرة الانتظار إلى الصالة فجلس في قبالة التمرجي وسأله: من فضلك ما اختصاص الدكتور؟ - القلب! حضرتك طبعا ... - أردت أن أتأكد، أصلي من الإسكندرية.
وشعر بسخافة أسئلته ولكنه لم يبال، بل عاد يسأله: هل عندك فكرة عن عمره؟
Página desconocida
فأجاب الرجل مندهشا: لا أدري عن ذلك شيئا! - ولكنك تفرق ولا شك بين الشباب والكهولة؟ - إنه أستاذ بالكلية. - وهل هو متزوج؟
أعلن التمرجي عن مدى استغرابه بضحكة، ثم قال: متزوج وأب، وله ابن طالب بالكلية.
عقبة! وأي عقبة تعترض أمله في القبول! وسيكون للأسرة رأي في العضو الجديد القادم من ماخور، ولا مؤهل له غير جماله المبذول للفجور. ولكن إصراره بلغ المنتهى. وجاء المرضى تباعا حتى امتلأت الحجرات. ثم دعاه التمرجي إلى حجرة الكشف. ونفخ سحب القلق والوساوس ودخل. رأى وجها لا يمكن أن يرجع بحال إلى أصل الصورة التي يحملها، ولكن من يتصور أن أمه - في آخر ليلة لها - يمكن أن ترجع إليها؟ وجلس أمام مكتب الدكتور وراح يجيب على أسئلته التي شرع في تدوينها في دفتر كبير: اسمي صابر سيد سيد الرحيمي.
ضحك الدكتور قائلا: عال، أنت إذن ابني، وما عمرك؟ - الواقع أنني لا أشكو مرضا على الإطلاق.
فحدجه بنظرة متسائلة، فقال: إني أبحث عن سيد سيد الرحيمي. - عني أنا؟ - لا أدري ولكن تفضل بالنظر في هذه الصورة.
تفحصها الدكتور، ثم هز رأسه بالنفي. - ليست صورة حضرتك؟
ضحك قائلا: بالتأكيد لا، ومن هذه الفتاة الجميلة؟ - أليس بأحد من أقربائك؟ لاحظ أن تاريخها يرجع إلى ثلاثين عاما مضت. - ولا هي لأحد أقربائي. - حضرتك من أسرة الرحيمي؟ - والدي سيد الرحيمي، كان موظفا بالبريد. - أليس للأسرة فروع لم تعرفها؟ - أسرتي محدودة أصلا وفرعا.
قام يائسا وهو يقول: آسف على إزعاجك، ولكنك ربما سمعت عن أحد الوجهاء بهذا الاسم؟ - لا أعرف وجيها بهذا الاسم، ولكن ما الحكاية بالضبط؟ - الحكاية أني أبحث عن وجيه يدعى سيد سيد الرحيمي، صاحب هذه الصورة منذ ثلاثين عاما. - لعله هنا أو هناك، وأنا على أي حال لست مرجعا في هذه الشئون.
وقضت نبراته بإنهاء الحديث؛ فحياه وانصرف. دخل أول قهوة صادفته فجلس إلى البار، ثم طلب براندي. ها هو يبدأ من جديد. وما إغراء دليل التليفون إلا خدعة سخيفة. وتبدد التفاؤل الوهمي الذي اجتاحه منذ رأى زوجة عم خليل. وتذكر سلسلة الأبحاث التي قام بها في الإسكندرية من الشهر العقاري، ومشايخ الحارات، وأولياء الله، ولكنه يحتاج لإعادة ذلك إلى مرشد ولا أحد له في القاهرة. لذلك استحسن أن يبدأ بالإعلان، ولعله أرخصها، وأسهلها، وأجداها. ونظر إلى الساقي العجوز وسأله: ألم تسمع عن سيد سيد الرحيمي؟ - دكتور في العمارة التالية. - كلا، أعني الوجيه سيد سيد الرحيمي؟
ردد الخواجا الاسم كأنه يلوكه في ذاكرته، ثم قال: لا أذكر زبونا بهذا الاسم. - ألم يحدث لك أن بحثت عن شخص وأنت تجهل مقامه؟
Página desconocida
أجاب وهو يمد بصره إلى لا شيء: ابن مفقود من أيام الحرب.
هز صابر معلنا عن أسفه، ثم قال: لكن الحرب انتهت وعرف مصير كل من اشترك فيها. - أن أعتبره مفقودا خير من التسليم بموته.
وسأل الخواجا عن موقع جريدة أبو الهول فوصفه له بميدان التحرير. ذكره مبناها الأبيض المربع، والفناء الذي تتوسطه فسقية بفيللا ثري يوناني بالأزاريطة. ومضى نحو الباب الداخلي فرأى فتاة واقفة على عتبته، وما لبثت أن أشارت إليه. دهش صابر وأحد إليها بصره، ولكن ساعيا مرق من جانبه متجها نحوها، فأدرك أن الإشارة لم تكن له. وسلمها الساعي شيئا ثم اختفى وراء الباب، ووجد صابر نفسه أمامها. رشيقة، نحيلة، لفت انتباهه في وجهها تناقض محبوب جمع بين سمرة البشرة وزرقة العينين، وتكوين الرأس والوجه غاية في الأناقة والبداعة، انبعث إليه منه شعور بالجذب والطمأنينة، ثم استعاد نشوة نبيذ بتافرنا وهو يسمع عزف كمان. وحياها باسما، ثم سألها عن قسم الإعلانات، فقالت بصوت موح بالثقة بالنفس: أنا ذاهبة إليه.
ولحظها منقبا عن موضع للإثارة، ولكن طرفه رد ممتلئا بالإعجاب وحده. ودخلا الإدارة فأشارت إلى رجل في الصدر حملت لافتة مكتبه اسم «إحسان الطنطاوي» فحياه، ثم دعاه الرجل إلى الجلوس على كرسي يقع بين مكتبه ومكتب الفتاة التي جاءت به. وأبان صابر عن مقصده قائلا إنه يرغب في الاهتداء إلى شخص يدعى سيد سيد الرحيمي، فتساءل الرجل: دكتور القلب؟
فأجاب بالنفي، وتوقع أن يسمع منه مزيدا عن الشخصيات التي تحمل هذا الاسم ولكنه لم يفعل، فقال: في الحق أنني لا أعرف سوى اسمه. - أليس لديك فكرة عن عمله أو مكانه؟ - كلا البتة، كل ما أعلمه عنه أنه من الوجهاء، ومحتمل أن تكون له مهنة تناسبه، ولكني لم أجد في الدليل إلا الدكتور. - قد يكون رقمه سريا، وقد يكون من أعيان الريف، وعلى أي حال فالإعلان أوجز سبيل إليه. - ليكن إعلانا صغيرا بقدر الإمكان، ويوميا لمدة أسبوع، في شكل دعوة للاتصال بي بفندق القاهرة سواء بالمراسلة أو بالتليفون. - لا بد من ذكر اسمك في الإعلان.
وفكر بسرعة وقلق، ثم تمتم: صابر سيد.
ولم تتحقق مخاوفه فراح الرجل يخطط صورة للإعلان، فلاحظ صابر أن الفتاة تتابع حديثه فلم يشك في أن غرابة الإعلان هي التي أغرتها بذلك. ورأى ثمة مكاتب أخر يجلس إليها موظفون وموظفات، وعرف اسم الفتاة «إلهام» وهي تخاطب به، وسمع إحسان الطنطاوي يسأله: ألا تشير إلى الغرض من إعلانك؟ - كلا.
ثم بعد هنيهة صمت: المؤسف أنني ظننت أن الذين يعرفونه في القاهرة لا حصر لهم، ولكني لم أجد حتى الآن أحدا يعرفه. - موضوعك غريب، الاسم وحده! وكيف تتأكد من هوية من يتقدم إليك مدعيا أنه سيد سيد الرحيمي؟ - لدي ما أستدل به على ذلك.
وقالت إلهام وقد غلبها حب الاستطلاع: في المسألة سر عجيب، كأسرار السينما.
فقال صابر باسما وهو يرحب في أعماقه بتدخلها في الحديث: أود أن يكشف بالسهولة التي تكشف بها أسرار السينما. - على الأقل أنت تعلم أنه وجيه من الوجهاء، فكيف عرفت ذلك؟
Página desconocida
سكت صابر مليا، فقال إحسان الطنطاوي بلهجة جدية: هذا سؤال على مستوى التحقيق.
آه، هذه الطفلة الكبيرة، لعلها على استعداد للميل إليه، وهي طاقة من عبير لطيف يدعو إلى استباحة الأسرار، ليست كالنار التي صهرته بالفندق، وقال: يا آنسة إلهام أنا رجل غريب في بلدكم. - غريب؟ - أجل، أنا في الأصل من الإسكندرية وجئت القاهرة أمس، فأنا غريب في بلدكم، ويهمني جدا العثور على ذلك الرجل، وإني أستبشر خيرا بوجهك!
ابتسمت بشجاعة الفتاة العاملة. ومرة أخرى تذكر نشوة النبيذ بتافرنا على أنغام الكمان.
4
غادر الجريدة وموظفو الإدارة يتأهبون للانصراف. خطر له أن ينتظر قليلا ليلقي نظرة أخيرة على إلهام، فوقف ضمن الواقفين تحت مظلة محطة للباص. إشعاعها اللطيف لم يزل ناشبا في خياله، وقد تخفف من عبء البحث إلى حين بوضع ثقته الكاملة في الإعلان. وجرى هواء مائل للبرودة في جو أبيض امتص لونه من سحاب ناصع البياض، فأضفى على الدنيا حلما رائقا. ورأى إلهام وسط مجموعة من الشبان والشابات وقفوا أمام الجريدة متبادلين كلمات سريعة وابتسامات قبل الافتراق، ثم عبرت الفتاة شارعا جانبيا للجريدة إلى محل صغير يدعى فتركوان واختفت داخله. تبعها بلا تردد، ثم نظر إلى الداخل من خلال حاجز زجاجي، فرآها جالسة إلى مائدة منفردة، وتبين حقيقة المحل وهو مطعم للشطائر ومشرب للعصير والقهوة. دخل كأنما يقصد البوفيه ثم لمحها - مصادفة - فتهلل وجهه، ومضى إلى مائدتها في أقصى المحل، والنادل يضع أمامها طبقا بالشطائر وكوبا من عصير البرتقال: مصادفة جميلة جدا، هل تسمحين لي بمشاطرتك المائدة؟
قالت دون حماس ودون فتور: تفضل.
وطلب غداء كغدائها، وزاد انتعاشا بإشعاعاتها التي ترفعه إلى مستوى غير مألوف في علاقاته مع الناس. وشعر ببهجة غريبة: لا شك أني أبدو ثقيلا، ولكن هكذا يبدو الغريب. - إني أرحب بالغرباء. - شكرا، أقصد أن لهفة الغريب على التعرف بالناس تنفرهم منه؟ - ليس في مشاركة عابرة كهذه ما ينفر إطلاقا.
وشكرها، ثم تناول أولى شطائره. - لعلك ذاهبة إلى السينما؟ - كلا، ولكننا نستأنف العمل في الجريدة بعد ساعتين أو أكثر قليلا، ولما كان بيتي في أقصى الجيزة والمواصلات كما تعلم، فإنني أفضل كثيرا أن أتناول طعامي هنا. - وهل تبقين هنا طول الوقت؟ - بعض الوقت، وأتمشى على النيل البعض الآخر.
وراحا يتناولان طعامهما. واسترق - كلما وجد فرصة - النظر إلى فيها وهو يمضغ الطعام، وإلى أصابع يديها، متمليا ما أمكن زرقة العينين في البشرة السمراء. - ماذا ترين في الإعلان، هل يحقق المقصود منه؟ - هو كذلك دائما.
قصد أن يوقظ حب استطلاعها، ولكنها لم تتماد في الكلام، فقال: كم تهمني النتيجة! - أحقا لا تعرف شيئا عن الرجل الذي تبحث عنه؟ - عندي صورة وبعض معلومات طفيفة.
Página desconocida
ثم بعد لحظة تفكير: إني موفد للبحث عنه من قبل والدي العجوز الذي كان يعرفه في الزمن القديم.
وقرأ في عينيها الصافيتين تساؤلا، فقال باسما: معاملات قديمة. - مالية؟ - لا تخلو من هذا الجانب الهام.
أن تحقق أحلام لم تخطر بالبال هو ما يطمعك في المستحيل، وهذه الفتاة من معدن يخلق النشوات. - لم أشعر من قبل بمثل هذا الشعور!
فرفعت حاجبين مقوسين متباعدين في تساؤل إنكاري، فقال مفسرا: الغربة، والأمل، وصحبتك اللطيفة. - فيما يتعلق بصحبتي أرجو ألا تكرر أقوالا أسمعها كثيرا ولم أجد لها معنى. - تسمعينها في الإدارة؟ - مثلا. - هل أنت سعيدة في العمل؟ - هه! - هل تتركينه للبيت في حينه؟ - إني أعتبره عملا لا محطة.
وفكرته الثابتة عن الجنس الآخر لا يمكن أن تتغير؛ هو في نظره سلسلة من المخلوقات الوحشية الفاتنة الباحثة عن الغرام بلا مبدأ. أمه، وقريناتها، وفتيات الكنار الليلي، وعطفة القرشي. وحتى نشوته الصاعدة إلى فوق لم تستطع أن تزعزع هذه الفكرة الثابتة، ومع ذلك لم يشأ أن يجردها - في خياله - من ثيابها، وهي عادة مزمنة لم تفارقه. تجريدها من الثياب غير مجد لأن سحرها لا يستقر بموضع بالذات؛ شائع كضوء القمر، وبه جانب مجهول تتعلق به الآمال كمستقر أبيه. ولن يتحقق سروره بها كسروره بالأخريات، أي بالبهلوانيات، والألفاظ الجارحة، والأفعال الشائنة، والعبث الهمجي الوقح. هي شيء فريد. وفي ساعات قلائل كشفت له عن طبيعة ثانية فيه، وعن ذوق لم يذق به الأشياء من قبل. - ومع ذلك فانظري إلى عنايتك بأظافرك!
لاح في وجهها الاحتجاج في صورة طابع جدي، وقالت: عنايتك بشعرك ليست دون ذلك! - اعتبري ملاحظتي طريقة غير مباشرة للإعجاب.
ثم مستدركا بنبرة اعتذار وهو ينظر إلى اللوز الوردي المغروس في البنان: عندما أعود إلى الإسكندرية سأحمل منك أجمل ذكريات القاهرة. - لم لم تعلن في فرع الجريدة بالإسكندرية؟ - الإعلان جزء من البحث ليس إلا.
وهم بأن يدفع ثمن الغداء لها، ولكنها أبت ذلك بإصرار، فعدل عنه قائلا: لو أردت أن تفعلي نفس الشيء لما رفضت.
فقالت ضاحكة: ولا هذه.
وفي مرآة مثبتة في الجدار الأيسر ضبطها وهي تتفحصه باهتمام، فارتاح لذلك جدا. ليكن تأثيره فيها كتأثيره في الأخريات. وتذكر الأسرار التي كشفها في ماضيه القصير فابتسم. النوافذ والغابات والروائح الفطرية الفاتنة. وقامت لتذهب فصافحها مودعا، ولكنه لم يتبعها رغم رغبته الشديدة في ذلك. وأدرك أنه من المحتمل جدا أن يطلع نزلاء الفندق وصاحبه على الإعلان، وأن علاقته بمن يبحث عنه لن تخفى على أحد. ولما أخبر خليل أبو النجا ومحمد الساوي عن المكالمة التليفونية المنتظرة قال العجوز: إذن أنت تبحث عن أبيك؟
Página desconocida
فتورد وجهه وأحنى رأسه بالإيجاب. - وكيف فقدته؟ - فقدته كما فقدني، وها أنا قد قدمت للبحث عنه. - لا شك أنها قصة عجيبة!
وتضايق من الأسئلة المطوقة، فقال: بل عادية جدا فأرجو استدعائي عند الطلب.
الشاب الذي يبحث عن أبيه، هكذا سيطلقون عليه، وسيقولون ويتقولون. وهز كتفيه استهانة. ولزم الاستراحة أكثر الوقت، وكلما رن التليفون تعلق به بصره. ووقعت مكالمات غير مجدية، فاتصل به سيد سيد الرحيمي الحلاق ببولاق، وثان مدرس لغة عربية، وثالث سائق ترام، وقابلهم واحدا فواحدا، كما قابل الدكتور من قبل، ولكن لم يكن لأحد منهم علاقة بمن يبحث عنه. أين من يبحث عنه إذن؟ ولم لم يتصل به كما فعل الآخرون؟ وإذا كان قد مات أفلم يترك ابنا أو قريبا؟ وتذكر نقوده التي تتناقص باستمرار بجزع شديد. ومن حوله جلس كثير من النزلاء، وتطايرت رائحة القهوة والسجائر، ولكن أحدا لم يلق إليه بالا، وكأن الإعلان لم يقرأه أحد وهو ما حمد الله عليه. ولكن ما عسى أن يصنع إذا تتابعت الأيام بلا نتيجة؟ ماذا لو نفد المال ولم يظهر الأب؟ أنت قواد أو بلطجي؟ وعهد النبي دانيال الذي مضى كعبير طيب بددته الريح. عرف حب الأم وإغداقها المال بلا حساب، وعرف مسرات الحياة بلا خوف أو ندم. وقالت الحياة جميلة وأنت زهرتها. وحتى عند الوعي بحقيقة الأمر خضعت لها باعتبارها مصدر كل شيء. وأنت ترقص في ملهى الكنار الليلي صاح مخمور أكل الغيظ قلبه: يا ابن بسيمة!
فكانت معركة دامية وتناثر الزجاج، ولا شيء يحمي السمعة السيئة إلا القبضة الحديدية. وما دامت بسيمة قد دفنت فلا أمل إلا إذا جاء الأب. وقال أحد القاعدين في الاستراحة: القطن! كل شيء يتوقف على القطن!
لم؟ أهو رحيمي آخر؟ وهو لولا الإعلان ما تصفح جريدة. حتى أنباء الذرة وغزو الفضاء جاءته عن طريق السكارى بملهى الكنار. وتساءل رجل آخر: وهذه الحرب التي تهدد العالم ألا تضمن لنا القطن؟ - لن تكون كالحروب الماضية. - أجل إنها لن تبقي على شيء. - القطن، والفول، والبهائم، والخلق.
فتساءل الصوت الأول: وأين الله خالق كل شيء وحافظه؟
أين الله حقا؟ هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قط. ولم تشده إلى الدين علاقة تذكر. ولا شهد النبي دانيال ممارسة عادة دينية واحدة؛ فهو يعيش في عصر ما قبل الدين. وقضي عليه بأن يمضي أجمل أوقات النهار بين ثرثارين أغلبهم من الريف، ورائحة السجائر تختلط دائما برائحة البصل الأخضر، وإذا اشتدت مرارة الصبر تسلى بتخيل إلهام أو زوجة عم خليل أبو النجا. والهواء ضروري جدا، والنار لا غنى عنها. وسوف يصمت إلى الأبد دون أن ينبس لسانه بجواب يخرجه من حيرته. وإذا لم يلب أبوه النداء أفليس من الخير أن تنفجر الذرة لتهلك كل شيء؟ الخوف، والجوع، والماضي الملوث؟ ومرة حانت منه التفاتة إلى التليفون فرأى زوجة عم خليل بمجلسها الذي رآها به أول مرة. إذن عادت! ودق قلبه باعثا حرارة جنونية في كافة المراكز المتلهفة؛ الجسم الصارخ، والنظرة المتآمرة مع الغرائز. ونسي التليفون والرحيمي وإلهام، وصعد إلى حجرته في الدور الثالث وانتظر وراء الباب. ثم سمع وقع أقدام صاعدة فخرج إلى الطرقة فالتقيا في منتصفها. وتظاهر بالمفاجأة، وقال: حمدا لله على سلامتك.
فشكرته بابتسامة، فقال: تركت خلفك وحشة حقيقية.
فجادت بهزة شكر من شعرها الأسود، وسارت في طريقها المفضي إلى سلم الدور الرابع، غير أنه همس بجرأة: الإسكندرية.
تباطأت حتى وقفت تقريبا على بعد ياردة منه متسائلة: الإسكندرية؟ - عطفة القرشي!
Página desconocida
قالت مقطبة: لا أفهم شيئا!
فقال بإصرار: إن كنت نسيت فأنا لا يمكن أن أنسى. - أنت مجنون؟
قالتها بثبات زعزع ثقته فتساءل: أليست ...
ولكنها قاطعته وهي تمضي في سبيلها: لعبة قديمة وسخيفة.
واستدرك قائلا قبل أن توغل في الابتعاد: على أي حال تقبلي إعجابي.
واعتمد على الدرابزين حتى يتمالك أنفاسه. حتى تبرد بعض الشيء النار الحامية. وتملكته لحظة جنون، فتمنى لو يهلك جميع من في الفندق ليخلو لهما وحدهما. كما عصف به الجنون ليلة المطاردة التي اندفعت من ساحل الصيادين بالأنفوشي. وإذا بعلي سريقوس يهبط السلم وهو يدندن بموال صعيدي فجره إلى موقفه بإشارة، وقال بمكر: سمعت صوتا يناديك لعله صوت الست. - الست؟ - حرم عم خليل! - كلا، لعلها الحجرة 16، أنا قادم من عند الست وهي تدخل شقتها. - ربما، وستتأكد بنفسك، ولكن هل تقيم الست في شقة؟ - شقة عم خليل فوق السطح. - وأين كانت طوال الأيام الماضية؟
عند أمها، إنها تزورها أياما كل شهر.
ورمق ظهر عم خليل - وهو نازل - باحتقار ومقت، وكره فكرة العودة إلى مجلسه بالاستراحة فغادر الفندق. تمتع بشمس ترسل أشعتها من سماء صافية، في جو يتيه ببرودة لطيفة محببة، ورغب في المشي بنهم، فمشى بلا هدف وهو يأسف على أنه لا يجد فراغ البال لمشاهدة القاهرة. وتذكر أن مدة الإعلان ستنتهي بعد يوم؛ فمضى إلى جريدة أبو الهول. والحق أنه كان يرصد ميعاد الذهاب إلى الجريدة ليرى إلهام من جديد. وجد إحسان الطنطاوي مشغولا بزبون، فصافح إلهام، ثم جلس على الكرسي بين المكتبين. توقفت عن دق الآلة الكاتبة وسألته: لا جديد؟
أجاب وهو يفيق نهائيا من لفحة الجحيم: مكالمات ومقابلات غير مجدية. - الصبر طيب.
تابع أصابعها فوق أحرف الآلة بارتياح خفف عنه متاعبه. وبدا عنقها طويلا وهي خالعة جاكتتها وفي صفحته اليسرى لاح خال. ورغم سعادته برؤيتها فاجأه حزن طارئ لا تفسير له. وتبين أن إحسان الطنطاوي ينجز إعلان وفاة، فحاصرته ذكريات الليلة الأخيرة لأمه. ووضحت له تعاسة مركزه في الوجود؛ إذ يعتمد كلية على شبيه بالسراب. وحانت في تلك اللحظة التفاتة سريعة من إلهام إليه؛ فانشرح صدره وتجاهل همومه. وفرغ إحسان الطنطاوي من إعلان الوفاة، فحياه قائلا بشيء من الخبث: تجديد؟
Página desconocida
ضحك وهو يحني رأسه في تسليم، ثم سأله: جاءني كثيرون، أما هو فلا حياة لمن تنادي، ما تفسير ذلك؟ - الإعلان من هذا النوع يتطلب المثابرة. - ولكن المفروض أن الرجل معروف على أوسع نطاق. - أنت لا تعرف سوى اسمه، وما عدا ذلك بالسماع عرفته، ولا يمكن أن تقطع في ذلك برأي حاسم، وأنا رجل عشت في مختلف الأوساط بالقاهرة زهاء ثلاثين عاما ولم أسمع عنه. - ولكني أصدق تماما من أرسلني للبحث عنه. - إذن ففي المسألة سر ستكشفه لك الأيام.
تفكر قليلا، ثم قال: عندي له صورة قديمة أخذت له منذ ثلاثين عاما. - نضيفها إذا شئت إلى الإعلان فتضاعف من فائدته.
وأراه الصورة فتفحصها، ثم تمتم بإعجاب: يا له من شخصية!
وانتظر صابر في إشفاق أن يلاحظ الرجل وجوه الشبه بينه وبين صاحب الصورة، ولكنه لم يلاحظ شيئا، ومضى يتحدث عن الإعلان الجديد وتكاليفه. ووافق صابر على الاقتراح مرغما، ثم غادر الجريدة وهو يفكر في نقوده التي تتناقص يوما بعد يوم، والتي سيضحي بعد نفادها معدما كمتسول. وذهب إلى فتركوان، فجلس إلى مائدة إلهام ينتظر. ولما رأته ترددت في شيء من الارتباك، ولكنه أزال ترددها بوقوفه مرحبا. وبمجرد أن جلست طلب الغداء من الشطائر والعصير، وتصرف بلا كلفة ليبدد دهشة اللقاء. وإذا بها تقول: رأيت الصورة! - حقا؟ - أنت تشبهه! - تعنين الرجل؟
هزت رأسها موافقة وهي ترمقه بارتياب، فلم يجد بدا من اختلاق كذبة جديدة، فقال: إنه أخي. - أخوك! معقول جدا، ولكن لماذا لم تقل ذلك من الأول؟
فابتسم ولم يجب، فسألته: ومن الفتاة الجميلة؟ - كانت زوجته رحمها الله. - آه، وهل ... أعني أخاك ... كيف ... - اختفى قبيل مولدي، خلاف ثم اختفاء كما يقع أحيانا، وأخيرا بعد ثلاثين عاما أرسلني أبي العجوز للبحث عنه. - حقا إنها قصة مثيرة، ولكن لم تعتقد أنه شخصية معروفة؟ - هكذا قال لي أبي، ولعله مجرد استنتاج، ولكن العجيب أن إحسان الطنطاوي لم يلاحظ الشبه بيننا عندما أريته الصورة! فهل حدثك عن ذلك بعد ذهابي؟ - كلا، رغم وضوح الشبه، ولكن رأس الأستاذ إحسان مشغول بالحسابات.
وجاءت أطباق الشطائر فبدأ الغداء. وعند ذاك قال معتذرا: آسف على تطفلي، ولكني وحيد في المدينة، والفراغ يوشك أن يقتلني.
فقبلت عذره بابتسامة، وسألته: كيف تمضي وقتك؟ - في الانتظار. - هذا ممل جدا، ثم إن البحث غير الانتظار. - نعم ولكنه لا يخلو من فترات انتظار. - وماذا تفعل في أوقات الانتظار؟ - لا شيء. - غير معقول.
فقال برجاء: من هنا تلمسين مدى حاجتي إلى صديق.
ووشى تورد وجنتيها بتشربها الإشارة، فتشجع قائلا: وأنت الصديق!
Página desconocida
شربت قليلا من الماء ثم واصلت الطعام، فتساءل: ما رأيك؟ - قد تكون مغاليا في ظنك. - هذه الشئون تعرف بالقلب. - يمكن أن نتقابل كلما جئت لتجديد الإعلان.
فضحك قائلا: إذن فأنت تريدينني أن أواصل الإعلان إلى الأبد؟ - ما دام يهمك العثور عليه. - هو ذلك، ولكن إذا أثبت الإعلان عقمه فسوف أستأنف البحث.
ورفعت كوب البرتقال، فرفع كوبه قائلا: صحتك. - أنت تشجعني على الحذر منك.
وشربا وهما يتبادلان الابتسام. وقال إنه ما كان يطاردها لو كانت مكان الأخرى عند ساحل الصيادين. وقال إنها عزيزة جدا وهو يحبها. ومن الفتاة الجميلة؟ عجيب موقع السؤال من أذنك. ولكنها لم ترها في الليلة الأخيرة. ولم تر كفنها النحيل ك «لا شيء».
وقال بدهاء: أشكرك جدا.
وجدت في الشكر فخا ولكنها لم تبد احتجاجا. وحل صمت سعيد فانغرست بذور التفاهم، وطريق البحث شاق ومحرق وطويل؛ فيحتاج إلى استراحة من الظل الظليل.
5
تعب البصر من تفحص الوجوه. وشوارع القاهرة الزاخرة بتيارات البشر والسيارات كأمواج البحر في الأيام العاصفة. وسحب الخريف الواردة من الإسكندرية يتبدد أكثرها قبل الوصول إلى سماء القاهرة، ولكن ذكريات الإسكندرية مشتعلة أبدا في القلب المنتظر. ولم تعد استراحة الفندق مرهقة مذ عادت المرأة من رحلتها، ولكنها في الحق معذبة. وليس نادرا أن ترى بمجلسها إلى جانب زوجها وأنت ترصدها من أقصى الاستراحة، ولها نظرة دسمة موحية تتفجر همساتها كالشرر. وكم من محاولات فاشلة بذلت للانفراد بها في طرقات السلم! وقد تدري بها من بعد فتفسدها عليك ثم تجيء إلى مجلسها ساخرة. وهي لا ترد ابتسامة وتتجاهل أي إشارة. ومن خلال حيرة ضبابية تلتمع بوارق إغراء لاسلكية. وكلما جن جنون الإثارة تمنى الهلاك لجميع من بالفندق لينقض عليها في الخلاء الصامت. في هذه الحالات الجنونية تنزوي إلهام في ركن كالندم عند طغيان الجريمة. ويفيق أحيانا على روائح السجائر والبصل وأحاديث القطن والقمح والحرب المدمرة. لعلهم مثلك يجرون وراء أمل شبيه بما يعدك به أبوك المفتقد. ومن صميم ذهوله استيقظ مرة على صوت محمد الساوي وهو يهتف: صابر أفندي .. تليفون!
وثب في انتباه حاد واندفع نحو المكتب. هل أخيرا؟ وتأهبت جميع حواسه لسماع الكلمة الموعودة. - آلو ... - حضرتك صاحب الإعلان؟
أجاب وهو يحس بدبيب دموع الراحة في أقصى مسالك عينيه: نعم، من حضرتك؟ - أنا الرجل الذي تطلب فيما أعتقد. - سيد سيد الرحيمي؟ - نعم! - هل الصورة صورتك؟ - نعم.
Página desconocida