ومشى في الشوارع مستسلما لجو نوفمبر اللطيف المنشط، حتى بلغ فندق القاهرة حوالي العصر. رأى عم خليل مهوم الرأس تحت طربوشه الطويل، وعم محمد الساوي مقتعدا كرسيه من خلاف عاقدا ذراعيه فوق مسنده. جلس في الاستراحة ساعة، ثم قام إلى التليفون فطلب إلهام، وقال لها: سأقابلك غدا في فتركوان فهل تأذنين؟ - بكل سرور، ولكن خيرا إن شاء الله؟ - كله خير، ولكني سأقابلك كلما أمكنني ذلك.
7
العزاء الحقيقي تجود به ظلمة النصف الثاني من الليل، عندما تعزف الأنفاس المترددة ألحانا من الغابات، عندما يسود النسيان المطلق الأرض والأفلاك؛ غذاء دسم وراحة أبدية لا كالقلق النشوان وعذاب الوحدة التي تخلفها وراءها إلهام. ولم تنقطع عنه ليلة واحدة، مذ أيقظه طرقها الحذر من نومه السكران. ومضت سيطرتها تزحف عليه كالزمن لا مهرب منه، وهو بفضل تجاربه السابقة يمثل دور المسيطر المتحفظ، ولكن كم تخونه اللحظات! وبهذه القوة لم تتمكن منه امرأة من قبل، ولم تشده بمثل هذه الأغلال. وهو لم يجد عندها استجابة واحدة؛ فلم يدر إلا الظن ما حقيقتها. فليلة ذابت في أحضانه وهمست في أذنه: لا حياة لي بدونك.
كذكريات الكنار الليلي على أنغام البحر، وتلك الليالي الظافرة في كل شيء. وربت على خدها بحنان وسيادة وهو يسبح بعزم ضد موجة تشده نحو أعماق الخضوع. هي كل شيء؛ الحب، والآمال التي بعثته يجري وراء الأب الضائع. وفي ليلة أخرى آنس منها تحفظا شاردا، واستسلاما خامدا؛ لا تعليق، ولا حماس، ولا نفور. عند ذاك سهد متفكرا حتى مطلع الفجر. ومن شدة ضيقة ناجى إلهام داعيا الروح الرقيق المنبثق منها كعبير فاتن لا اسم له. ويقول لنفسه إذا أرادت أن تتخذ مني أسيرا فعلى الدنيا السلام. أنت الجحيم إذا سيطرت. وعن مآسي السيطرة تستطيع أن تحكي عشرات القصص. ولكن الحياة من غيرها لا طعم لها؛ غثيان، وفتور كالرماد، ودون ذلك الجنون والدم. وكم كانت بسيطة عند ساحل الصيادين وإن لم تخل من مشاكسة، كموهبة كامنة لم تنضج بعد. ها أنت تسلكها في ذكريات الأنفوشي بعناد لا مبرر له ، وتلك حقيقة ضاعت كموجة في بحر. وهي ليست الحب وحده، ولكنها نسيان سحري لعذاب البحث العقيم عن الأب ويأسه، وهرب من دوامة القلق التي تخلقها إلهام، وهي في ذات الوقت لا تخلو من مزية أو أكثر اختصت بها إلهام أو الأب. وقال لها وهو يتعذب من تغيرها: لست كعادتك.
فسألته بسذاجة: هل تجدني أحيانا مختلفة؟
أماكرة هي أم ذاهلة؟ أنسيت لحن الاعتراف المعربد بالجنون؟
وأمك تكشفت لك مرة عن وجهين؛ حين طمع صديق في زيارتها بمسكن النبي دانيال طردته من شراعة الباب بقسوة وحشية، ثم خلت إلى نفسها وهي تسب وتلعن، ثم أغمضت عينيها إعياء، وتهاوت بلا حول، وأجهشت في البكاء.
وقال بلا اكتراث في الظاهر: حسبتك متوعكة.
فقالت ببساطة ولكن خيل إليه أنها تتحداه: إني على خير حال. - يسرني أن أسمع ذلك.
فداعبت خده براحتها قائلة في هدوء: ألا ترى أنك أعز عندي من الحياة نفسها؟
Página desconocida