شربت قليلا من الماء ثم واصلت الطعام، فتساءل: ما رأيك؟ - قد تكون مغاليا في ظنك. - هذه الشئون تعرف بالقلب. - يمكن أن نتقابل كلما جئت لتجديد الإعلان.
فضحك قائلا: إذن فأنت تريدينني أن أواصل الإعلان إلى الأبد؟ - ما دام يهمك العثور عليه. - هو ذلك، ولكن إذا أثبت الإعلان عقمه فسوف أستأنف البحث.
ورفعت كوب البرتقال، فرفع كوبه قائلا: صحتك. - أنت تشجعني على الحذر منك.
وشربا وهما يتبادلان الابتسام. وقال إنه ما كان يطاردها لو كانت مكان الأخرى عند ساحل الصيادين. وقال إنها عزيزة جدا وهو يحبها. ومن الفتاة الجميلة؟ عجيب موقع السؤال من أذنك. ولكنها لم ترها في الليلة الأخيرة. ولم تر كفنها النحيل ك «لا شيء».
وقال بدهاء: أشكرك جدا.
وجدت في الشكر فخا ولكنها لم تبد احتجاجا. وحل صمت سعيد فانغرست بذور التفاهم، وطريق البحث شاق ومحرق وطويل؛ فيحتاج إلى استراحة من الظل الظليل.
5
تعب البصر من تفحص الوجوه. وشوارع القاهرة الزاخرة بتيارات البشر والسيارات كأمواج البحر في الأيام العاصفة. وسحب الخريف الواردة من الإسكندرية يتبدد أكثرها قبل الوصول إلى سماء القاهرة، ولكن ذكريات الإسكندرية مشتعلة أبدا في القلب المنتظر. ولم تعد استراحة الفندق مرهقة مذ عادت المرأة من رحلتها، ولكنها في الحق معذبة. وليس نادرا أن ترى بمجلسها إلى جانب زوجها وأنت ترصدها من أقصى الاستراحة، ولها نظرة دسمة موحية تتفجر همساتها كالشرر. وكم من محاولات فاشلة بذلت للانفراد بها في طرقات السلم! وقد تدري بها من بعد فتفسدها عليك ثم تجيء إلى مجلسها ساخرة. وهي لا ترد ابتسامة وتتجاهل أي إشارة. ومن خلال حيرة ضبابية تلتمع بوارق إغراء لاسلكية. وكلما جن جنون الإثارة تمنى الهلاك لجميع من بالفندق لينقض عليها في الخلاء الصامت. في هذه الحالات الجنونية تنزوي إلهام في ركن كالندم عند طغيان الجريمة. ويفيق أحيانا على روائح السجائر والبصل وأحاديث القطن والقمح والحرب المدمرة. لعلهم مثلك يجرون وراء أمل شبيه بما يعدك به أبوك المفتقد. ومن صميم ذهوله استيقظ مرة على صوت محمد الساوي وهو يهتف: صابر أفندي .. تليفون!
وثب في انتباه حاد واندفع نحو المكتب. هل أخيرا؟ وتأهبت جميع حواسه لسماع الكلمة الموعودة. - آلو ... - حضرتك صاحب الإعلان؟
أجاب وهو يحس بدبيب دموع الراحة في أقصى مسالك عينيه: نعم، من حضرتك؟ - أنا الرجل الذي تطلب فيما أعتقد. - سيد سيد الرحيمي؟ - نعم! - هل الصورة صورتك؟ - نعم.
Página desconocida