Renovación del pensamiento árabe
تجديد الفكر العربي
Géneros
إننا جميعا لنسمع بما قد أصاب الشباب هناك من ذهول يشبه الهذيان لما يرونه ممتدا أمامهم من حياة جدباء، مهما أثرت جيوبهم بالمال وامتلأت بطونهم بالطعام والشراب، فتعمدوا الانسحاب، بالعقاقير المخدرة آنا، وبالانغماس في غيبوبة اليوجا آنا آخر ، أو هم قد يتعمدون الشذوذ، باصطناع العنف حينا، وبغرابة السلوك حينا آخر، وذلك كله يأسا منهم أن يوائموا بين أنفسهم وبين حياة ضيق العلم والصناعة خناقها، فلئن زادهم العلم وزادتهم الصناعة ثراء وقوة، فقد أفقداهم العيش في سلام ومصالحة مع صوت الضمير.
وإني لأزعم هنا، بأن الأخذ بثنائية النظر على النحو الذي قدمناه، قد يفتح أمامنا آفاقا مغلقة، فهي ثنائية تضع الإنسان على قدميه فوق الأرض، وترفع رأسه إلى السماء، أي أنها تتيح له أن يعيش لهما معا، فعلى الأرض يسعى علما وعملا، بكل ما يتطلبه العلم من دقة، وما يتطلبه العمل من صبر ودأب، وفي السماء يهتدي بالمثل التي ترسم أمامه لتكون له على الطريق أهدافا وغايات. العلم والقيم كلاهما - في أوروبا وأمريكا - ينبت من الأرض، كلاهما ينشد القوة والمنفعة، وأما الثنائية المقترحة فتجعل العلم نباتا ينبثق من الأرض وظواهرها، وتجعل القيم غيثا ينزل من السماء ووحيها، العلم نسبي يتغير مع التقدم، والقيم مطلقة تشخص إليها الأبصار، فهي ثابتة حيث الأسس وإن تغيرت من حيث التطبيق بتغير الظروف.
وأحسب كثيرين ممن عرفوا شيئا عما كنت أدعو إليه، قد يذكرونني في هذا الموضع، بأنني قد تنكرت لجانب من دعوتي؛ إذ كانت دعواي دائما هي أن القيم نسبية تتغير بتغير الثقافات، ولكني لا أراني قد بعدت كثيرا عما كررت الدعوة إليه؛ وذلك لأن ثبات القيمة في إطارها العام، لا ينفي تغير مضمونها بحسب تفصيلات العيش في عصر من العصور، فحرية الإنسان - مثلا - هي مبدأ مقطوع به، أو يجب أن يكون، لكن مضمون الحرية يتغير؛ لأنه يتسع مع نمو الإنسانية ونضجها.
قلت: إن الثنائية المقترحة تضمن لنا - أولا - أن نجمع بين العلم وكرامة الإنسان، وهي - ثانيا - تكفل لنا أن نضع الإنسان في موضعه الصحيح وبالنسبة الصحيحة، فلا تضخيم له ولا تهوين من شأنه، رد معي حول أرجاء العالم الفكري في عصرنا هذا، لنرى ماذا يكون موقفنا إزاء كل فلسفة نراها سائدة هنا أو هناك.
نذهب إلى العالم الأنجلوسكسوني - إنجلترا وأمريكا بصفة خاصة - فنجد الفلسفة السائدة فلسفة تحلل العلم وقضاياه، لترى متى تكون الصيغة العلمية المعينة صادقة ومتى لا تكون، لكنها لا تعبأ بالإنسان؛ إذ تترك أمر الإنسان للأدب والفن، فلنا عندئذ أن نقول لهم: لا، إننا نسايركم في فلسفة العلم، لكننا نوجب أن تضاف إليها فلسفة للإنسان الحي، الذي ينبض في صدره قلب، ويطمح في حياته إلى أبعد الغايات.
ونذهب إلى غربي أوروبا - فرنسا وألمانيا - فنجد الفلسفة هناك معنية بالإنسان على طريقة خاصة؛ إذ تكاد تجعل من الإنسان إلها على الأرض، تتعارض حريته المطلقة مع وجود الله، فنقول لهم عندئذ: لا، إننا نسايركم في اهتمامكم بالإنسان، لكننا بدل أن نجعل منه إلها كما تفعلون نجعله رسولا في الأرض لله، يشيع فيها ما قد شرعه له من قيم ومبادئ. ونذهب إلى شرقي أوروبا، فنجد اهتماما بالإنسان كذلك، ولكنه اهتمام - هذه المرة - بالنظم التي تدمج الأفراد في كل واحد، فنقول: لا، إننا نسايركم في وجوب أن تنظم العلاقات الاجتماعية على نحو يكفل للناس العدل والمساواة، ولكننا نحتم أن تضاف مسئولية الفرد أمام ربه وأمام ضميره. وقد نذهب إلى الهند، لنرى هناك فلسفة تدمج أفراد الناس في الكون العظيم، الذي يفرز الأفراد ويبتلعهم كأنهم الموج يظهر ويختفي على سطح المحيط، فنقول: لا، إننا نحرص على أن يكون كل فرد حقيقة قائمة برأسها، وجوهرا مستقلا قائما بذاته؛ لأنه مسئول عما يفعل وعما يدع.
ربما أكون قد أصبت التقدير أو أخطأته، فيما اقترحته ليكون أساسا لفلسفة عربية معاصرة، لكنني على أي الحالتين مؤمن بأنه لا مندوحة لنا على أن نزيل التعارض القائم اليوم في أرجاء الدنيا جميعا، بين العلم الذي يتقدم بخطوات كخطوات الجبابرة، وقيمة الإنسان التي تنهار بوثبات كوثبات الشياطين. (ب) ثنائية الطبيعة والفن
نريد للمواطن العربي أن يولد من جديد، ولادة تنقطع عندها خصائص الماضي وملامح الحاضر. والحق أن كل ولادة - لو استقام لها الطبع - هي حدث جديد، يضمن البقاء للأبوين، ثم يضيف إليهما جديدا يتميز به فردا بغير شبيه. ولو جاء الولد صورة لأبويه ، لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونبتها . فعجلات المطبعة قد تخرج لك من الأصل الواحد ألوف الصور، كل نسخة منها ككل نسخة، الخطأ هنا كالخطأ هناك، والصواب هنا كالصواب هناك، والصفحات تتماثل بداية ونهاية، وتتشابه أسطرا وسياقا. إنها كثرة عددية، لكنها كثرة تحكي الحكاية عينها، فالواحدة منها تغني عن سائرها، وما هكذا الحياة الخصبة الغنية الولود، فشجيرات التفاح تنتمي إلى أسرة واحدة، لكن أبت لها الحياة إلا أن تجيء كل شجيرة منها، وقد تميزت من أخواتها في شيء، قل أو كثر.
هذا هو الشأن في كل ولادة جديدة. أقول: لو استقام لها الطبع - طبع الحياة - لكن هذا الطبع قد لا يستقيم لها؛ إذ تفعل العوامل الدخيلة فعلها، فإذا أفراد البشر كأنهم التماثيل الصماء، سويت - في قالب واحد - من صلصال، قد يتوافر لها استواء البدن، فالساقان والذراعان كل في موضعه، والوجه تمت له قسماته وأجزاؤه: عينان وأذنان وأنف وفم، لكنها لم تزل برغم ذلك هي تماثيل الصلصال، جاءت كلها تكرارا مملا لأصل واحد، فإذا كان لصاحب الأصل ما للفنان الأصيل من فضل ومنزلة، فليست النسخات التي سويت على غراره بذات شأن يذكر، وإنما هي قطع من التقليد الرخيص، مكانها حوانيت العرض التي تبيع الواحدة بقرش أو قرشين.
ولكم شهد التاريخ فترات وفترات: فترات تمور بالحياة وتفور، وأخرى يصيبها من الجمود ما يشبه الموت، ففي الحالة الأولى يكثر الخلق والإبداع، ويكثر الأفراد الأعلام الذين لا يغني منهم أحد عن أحد. وفي الحالة الثانية تتشابه الفلاة، فكلها من حبات الرمل أو حصباء المدر. وإن شئت فانظر في التاريخ العربي القريب، إلى الثلاثة القرون التي امتدت به بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، والتي هي عصرنا المظلم، الذي توسط بين قديم خصب، وحاضر يحاول أن يكون خصبا. انظر في التاريخ العربي القريب إلى هذه الثلاثة القرون، تجدها سحابة واحدة دكناء، لفت في دخانها أفراد الناس فباتوا وكأنهم عجينة بشرية واحدة، لا فرق فيها بين قطعة وقطعة، كماء البحر تذوق طعمه كله إذا وضعت منه على لسانك قطرة، فكأنما الأناسي خلال تلك الفترة قد تحولوا أشباحا سودا في غرفة مظلمة، تدرك وجودها من همهمة تسمعها، لكنك لا تميز منها حرفا أو مقطعا.
Página desconocida