Renovación del pensamiento árabe
تجديد الفكر العربي
Géneros
تلك هي الوقفة الخلقية التي نقفها - نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها: إله خالق وعالم مخلوق، وفي هذا العالم إنسان متميز دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الذي أوحي به من الله، لكنه مع ذلك تصرف فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعة على فاعله، فإذا لم يكن للإنسان اختيار في الواجب المفروض بحكم الشريعة، فهو كامل الحرية في اختياره داخل هذا الإطار. وذلك شبيه بموقف الكاتب، يجد أمامه لغة حاضرة جاهزة، لم يكن له دخل في وضع مفرداتها وقواعد تركيبها، لكنه بعد ذلك حر فيما يأخذه منها وهو يكتب، فتكون عليه التبعة فيما يكتبه، خيرا بخير وشرا بشر.
وكما أن الصورة الكونية التي تصورناها، قد نتج عنها نظام خلقي نسير بمقتضاه، فكذلك ينتج عنها موقف خاص بنا فيما يتعلق بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فجمال الفن عند غيرنا هو في تشكيل اللون أو تشكيل الصوت أو تشكيل الحجر تشكيلات تمتع الحواس أولا وقبل أي شيء آخر، بصرا كانت الحاسة النشوانة (وذلك في حالة التصوير والنحت) أم سمعا (في حالة الموسيقى)، وأما الفن عندنا فهو في هندسة تشكيلاته، هندسة يطرب لها الذهن من وراء الحاسة المدركة. انظر إلى الفن العربي في زخارفه ورسومه، تجد أساسه البناء الهندسي، بناء تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى في ذلك البناء أنه إذا ما امتدت عين الرائي إلى أحد أطرافه، أحس الرائي أنه يستطيع أن يمد - بذهنه وخياله - تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهاية. وفي هذه الانطلاقة الذهنية، من الجزئي الذي أمامنا، إلى المطلق الذي ندركه بأذهاننا وإن لم ندركه بحواسنا، في هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية فيما أرى.
وهل نعدو الصواب كثيرا، إذا قلنا إن الأدب العربي، في شتى صوره وأشكاله، كان مداره الحكمة العامة الموجزة المركزة في حيز ضئيل من اللفظ؟ الحكمة العامة التي لا يتقيد صوابها بمكان معلوم وزمان محدود؛ لأنها تصدق على كل مكان وزمان. لقد تفرد الأدب العربي بهذا الإطلاق للقول إطلاقا يرتكز على اللمح الوامض كأنه لمعات البرق، على حين أن غيره من الآداب قد عني أول ما عني بالخبرة الذاتية التي تختلج بها نفس واحدة مفردة، هي نفس الأديب المعين، في لحظة معينة وفي موقف بذاته؛ ولذلك وجدت تلك الآداب أن القصة والمسرحية هما خير وسيلتين للتعبير؛ لأنهما تقيدان الخبرات الإنسانية في أشخاص بذواتهم، وفي حوار يدور حول أشياء ومواقف فريدة لا تتكرر. نعم، إن هذه الآداب الأخرى تبتغي الوصول إلى ما هو عام عن طريق ما هو فردي خاص، وأما الأدب العربي الأصيل فقد كان يستهدف العام بخطوة واحدة مباشرة، وحتى الشعر، الذي يفرض فيه أن يكون إعرابا عن ذات الشاعر - والشاعر بالطبع فرد واحد فريد - أقول إنه حتى الشعر عند العرب، كان مرماه البعيد أن يرسم النماذج المطلقة المثلى، ولم يكن أن يصور هذه الحالة الواحدة المعينة أو تلك، من الحالات الجزئية التي يزخر بها تيار الحياة الواقعة، فإذا وصف الشاعر العربي جوادا أو ناقة أو ما شاء أن يصف، وصفه كما ينبغي له أن يكون لا كما هو كائن بالفعل، بكل ما فيه من شائبة ونقص، وهذا يؤيد ما أزعمه هنا، من أن الروح العربية الأصيلة، وإن غاصت في تفصيلات العالم الأرضي بمواقفه وحادثاته، فهي مشرئبة دائما إلى الثابت الدائم الذي لا يتغير مع الأيام ولا يزول.
إن نظرتنا إلى الكون في صميمها، تفرق تفرقة واضحة بين عالمين: عالم الكائنات المتناهية - أعني الكائنات المقيدة في وجودها بمكان وزمان معينين - وعالم اللامتناهي، الذي يتعالى عن أية صفة تحدد له مكانا أو زمانا. هذه التفرقة الحادة الواضحة بين العالمين، لا تجدها في أية ثقافة أخرى بمثل الوضوح الناصع التي تجدها به عندنا. إن الأرض - عندنا - أرض، والسماء سماء، ولا اختلاط بينهما ولا خلط، وكل ما بنيهما من صلة هو أن السماء تهدي والأرض تهتدي. وأما الثقافات الأخرى، من الشرق الأقصى إلى أوروبا قديمها وحديثها، فتسيغ ضروبا أخرى من العلاقات بين الجانبين، كأن ترى اليونان الأقدمين - مثلا - يسيغون أن تنزل الآلهة إلى الأرض لتلهو مع البشر حينا ثم تعود إلى عليائها من جديد.
نعم لقد كان لنا في تاريخنا الفكري متصوفة، أقلقهم هذا الفصل الحاد بين الله والإنسان، فطفقوا يلتمسون وصلا بينهما على مذاهب مختلفة، ففريق يحل الله في الكون وفي الذات الإنسانية بحيث يجوز للإنسان عندئذ أن يقول «أنا الحق»، وفريق يصعد بالذات الإنسانية لتشهد الحق أو لتتحد به. فهذه كلها محاولات أراد بها أصحابها إلغاء المسافة الفارقة بين المتناهي واللامتناهي، لتصبح الحقيقة واحدة. لكن أمثال هذه الوقفات الصوفية - على رفعة قدرها وسمو شأنها - لا تعبر، فيما أعتقد، عن النظرة العربية في عمومها وصميمها.
ومن النظرة الثنائية إلى الكون، بالصورة التي قدمناها، نستطيع أن نستخلص لنا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية، فهذا التحليل للمعرفة - كما يكاد يجمع على ذلك مؤرخو الفلسفة جميعا - هو أهم ما تصدت له البحوث الفلسفية في الثلاثة القرون الأخيرة في أوروبا وأمريكا، وهي القرون التي تكون مرحلة التاريخ الحديث. ذلك أنك إذا تصورت العالم والإنسان طرفين، فلا بد أن تسأل نفسك: ترى كيف يتاح للإنسان أن يعرف العالم الذي حوله ، معرفة يركن إلى صوابها؟ وهنا ترى الفلاسفة على اختلاف شديد في التحليل، وهو اختلاف كثيرا ما يكون له أبلغ الأثر في الحياة العلمية نفسها؛ فهنالك المثاليون الذين يظنون أن المعرفة الجديرة بهذه التسمية، هي ما يبلغ حد اليقين. ولما كان اليقين لا يتوافر إلا للرياضة أو ما في حكمها من معرفة استنباطية، وجب أن تعالج الظواهر الطبيعية على أسس الرياضة ومناهجها. وهنالك التجريبيون الذين يذهبون إلى أن المعرفة العلمية محال أن تنبثق من الذهن وحده، وبالمنهج الرياضي وحده، بل لابد من تجربة نمارسها، وبالملاحظة أحيانا، وبإجراء التجارب المعملية أحيانا، حتى نخلص إلى قوانين الطبيعة في شتى ظواهرها.
وإني لأتساءل - على أساس نظرتنا الثنائية المقترحة - لماذا لا يكون للمعرفة نطاقان، لكل منهما وسيلة خاصة به؟ فإذا كان الأمر أمر الحقيقة المطلقة، جاءتنا المعرفة عن طريق، وإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءت المعرفة عن طريق آخر، ولا يجوز لأي من النطاقين أن يزاحم الآخر في وسائله. ولكم نشبت معارك بين أناس أرادوا تطبيق وسيلة العالم الأول على العالم الثاني، أو وسيلة العالم الثاني على العالم الأول، فكانوا يعانون من هذا الخلط شر ما يعاني من تشتت وبلبلة ولبس وغموض.
وإن الطريق لتستقيم أمامنا؛ إذ نحن جعلنا للعلوم الطبيعية منهجا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهجا آخر. أما منهج العلوم فقائم على مشاهدة الحواس وعلى إجراء التجارب وعلى سلامة التطبيق، فلا يعنينا من الدنيا إلا ظواهرها، بحيث لا يجوز لأنظارنا عندئذ أن تنفذ إلى ما وراء تلك الظواهر؛ لأنها بالنسبة للعلوم ليس لها وراء، فهي الظواهر وحدها - أعني ما يظهر للحواس الراصدة - هي الظواهر وحدها التي نتعقبها رصدا ووصفا وتحليلا وتصنيفا، لنستخلص منها ما عساه أن يكون هنالك من قوانين مطردة، تنتظم حدوثها ومجراها. وأما منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق، كالقيم الخلقية مثلا، فذلك شيء آخر، قد لا نلجأ فيه إلى شهادة الحواس، وإلى التجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي، أو إلى ما يسري بين الناس من عرف وتقليد.
ها نحن أولاء، قد عرضنا مبدأ للثنائية نزعم أنه ضارب بجذوره إلى أعماقنا الثقافية، وقد فرعنا عنه نتائج هامة؛ إذ فرعنا عنه نظرة إلى الإنسان تجعله فردا حرا مسئولا عما يفعل، لا يمحوه، ولا يطمسه، ولا يحد من فرديته كل يحيط به ليحتويه ويغمره، وفرعنا كذلك نظرة في الأخلاق، تجعل أساسها أداء الواجب، كما يفرضه الوحي أو يمليه الضمير، بغض النظر عن الفائدة العائدة من أدائه، ثم فرعنا نظرة في فلسفة الفن والأدب، تجعل الجمال الفني مرهونا بفاعلية ذهنية تبلغ بنا عالم المطلق والمجرد، وليس هو مقصورا على النشوة الناتجة عن الانطباع المباشر على الحواس، وفرعنا نظرة في المعرفة وتحليلها، تفرق بين معيارين، فمعيار منهما يقاس به ضرب من المعرفة، ومعيار آخر يقاس به ضرب آخر.
إن هذه الوقفة الفلسفية المقترحة، والتي أراها محققة لما يدور في أخلادنا من مبادئ، وإن لم نفصح عنه، ربما سدت فجوات كثيرة، مما يعيب المذاهب الفلسفية السائدة في غير بلادنا، فهي - أولا - تضمن لنا الجمع بين العلم وكرامة الإنسان، بعد أن رأينا الجمع بينهما متعذرا في أوروبا وأمريكا، فالعلم هناك قد أدى إلى صناعة، والصناعة تطورت حتى أسلمت أمرها إلى تقنيات دقيقة معقدة، وهذه بدورها قد جزأت الإنسان إلى شرائح رقيقة من التخصص، بحيث كادت حياة الفرد الواحد تنحصر في عملية واحدة يؤديها طيلة نهاره حتى ينهكه التعب ويأخذ منه الملل، فيغفو عن الطبيعة الحية من حوله، بل قد يسهو عن شئون أسرته نفسها؛ وبذلك تمزقت وحدته واشتدت غربته، فأصبح في دنياه شبحا عابرا، كأنه جاء إليه ضيفا ثقيلا، لا يرغب في بقائه إلا ريثما يكدح هذا الكدح الممل الرتيب.
Página desconocida