ولكن العجيب أو ربما لم يكن عجيبا، أن حسن لم يحاول يوما أن يمد أباه بشيء يعينه على الحياة مع أن المال كان يجري بين يديه سيلا لم يطف يوما بأحلامه، وبعد أن كان يعيش مع الأميرالاي في بيته ابتنى هو لنفسه فيلا خاصة، وطبعا أقامت فيها زوجته وحدها دون أهلها ودون ابنها، وإنما أقامت معهما ابنته التي أسماها جميلة.
أما حامد فقد فشا هو الآخر واعتلى مكانا سامقا، ربما لا يطاول مكانة حسن إلا أنه ليس بعيدا عنه كل البعد. وقد كان حامد بحاسته وبقدرته الفائقة على النفاق حريصا أن يجعل حسن راضيا عنه دائما كل الرضا. •••
كان عدلي جالسا في سميراميس في انتظار صديقه الصحفي فخري عبد النبي الذي كان يعمل تحت رئاسة حسن. وجاء فخري وهو ملتاع خائف لا يطيق أن يخفي من لوعته أو خوفه شيئا، ولم ينتظر عدلي أن يسأله، بل عاجله. - مصيبة سوداء. - ماذا! قل. - قرأت اليوم نعيا لعم حسن هنداوي. - نعم قرأته. - أنت أيضا؟ - وما العجيب في هذا؟ - يبدو أن أحدا لم يقرأه إلا أنا وأنت. - كيف؟ - كان من الطبيعي أن أذهب إلى العزاء، كلمت زملائي فإذا هم جميعا يرفضون الذهاب، منهم من يدعي المرض، ومنهم من يدعي الشجاعة والعزوف عن النفاق. فقلت أذهب وحدي والأمر الله. البلدة ليست بعيدة عن القاهرة، استأجرت سيارة أجرة وذهبت، ويا ليتني ما ذهبت!
وقال عدلي وطيف ابتسامة يتماوج على فمه: فعلا يا ليتك ما ذهبت. - أنت أيضا تعرف؟ - لو كنت سألتني لأخبرتك. - أأطلب منك أن تعزيه وأنا أعرف أنه حاول أن يعتقلك؟ - كنت سأرفض الذهاب، ولكن ليس من أجل هذا السبب. - فلماذا؟ - أكمل حكايتك. - ذهبت فوجدت العزاء بلا سرادق ولا حتى كراسي، وإنما جلسنا على الأرض وتحتنا شريط من الحصير، وكان أبو حسن يستقبل العزاء وعليه معطف حائل اللون يملأ الرتق جوانبه جميعا. - هذا هو السبب الذي رفض زملاؤك الذهاب من أجله. - أكلهم يعرفون؟ أليس هناك خائب غيري؟ - وفيم خوفك؟ - أن يعرف أنني عزيته.
وضحك عدلي وقهقه ثم انخرط في البكاء في حزن شديد، وأخذ فخري وكأنما خشي أن يكون صاحبه قد أصابه مس من الجنون. - الله! عدلي، عدلي ماذا بك؟
وتماسك عدلي وصمت وناوله صديقه كوب ماء وشرب ثم تكلم وكأنما ينعى نفسه. - أهذه هي مصر؟ يخاف فيه الشخص أن يعرف رئيسه أنه عزاه وعرف أنه سافل مع أبيه وضيع ساقط المروءة. كان من الطبيعي أن يخاف الشخص إذا لم يقم بواجب العزاء، أما أن تخاف - وأنت محق - لأنك قمت بالواجب فواضيعة مصر! ولا يخاف الشخص الذي لم يقم بواجبه أو ببعض واجبه نحو أبيه أصل وجوده وصاحب اسمه، وتكون أنت يا من قمت بواجبك مرءوسا ويكون الآخر رئيسا! فلأي شيء صنع البكاء إذا لم يكن صنع لهذا الذي ترويه، وهو أهون ما نراه؟
كيف أعيش في مصر؟ لقد جربت أن أنافق وفشلت، لا شجاعة مني، ولكن طبيعة تكويني ترفض أن تتيح لي هذه الميزة التي تتمتع بها الكثرة ممن أعرفهم.
ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قمت فيه بمراجعة دفاتر رجل الأعمال الشهير مرجان علوان الذي نجا من التأميم لسبب لا يعرفه أحد. ربما كان له الآخر عم كعمي. المهم راجعت دفاتره فوجدت أنه لص من أكبر اللصوص الذين نسمع عنهم، ووقفت أمام دفاتره حائرا - مكتب الدكتور فكري ليس فيه مثل هذا، وإن كان فيه ما عملت معه، أو لما قبل هو أن أعمل معه، ولكنني أيضا لا أستطيع أن أرفض الزبون برأيي المفرد، فهذا قرار يجب أن يتخذه صاحب المكتب نفسه الموجود الآن بالكويت.
كان علي أن ألقى مرجان، وجاء الرجل في الموعد المحدد. - أنت يا عدلي بك رجل سمعتك مثل الجنيه الذهب. - ألف شكر. - وليس هذا غريبا على من له أصلك، واسم أبيك نار على علم. - ألف شكر يا مرجان بك. - وأنا والحمد لله رجل لا أقبل مليما حراما. وأنت اطلعت على دفاتري، ومثلك لا تخفى عليه خافيه ولو كان فيها، لا قدر الله، شيء لا ترضى عنه ...
ومضى الرجل يتحدث عن الشرف الذي يتمتع به وعفة اليد، وكيف أنه لا يأكل على الحكومة مليما واحدا، وثبت أنه يملك مع ذمة اللص جرأته على الحق. وعزمت في نفسي أن أؤيد كل كلمة يقولها عن نفسه، وبدأت أرتب الحديث. استغفر الله يا مرجان بك، أنت رجل فوق كل الشبهات ولا يجرؤ أحد أن يشك في ذمتك ... إلى آخر هذا الحديث الذي تواضع المنافقون على قوله لكل اللصوص، فأنا أعرفه ولست أغباه. كان المهم فقط أن أقوله؛ فأنا لم أقله قط لمن لا يستحقه. ظللت أتمرن على الكلام طوال الفترة التي يتكلم فيها مرجان عن ضميره اليقظ ويده الشريفة وذمته النقية. ولم يكن حديثه قصيرا، فالفترة التي أتيحت لي للتمرين لم تكن قصيرة حتى إذا سكت مرجان وجدتني أقول في عفوية وانطلاق دون أي ريث من تفكير: الحقيقة يا مرجان بك إنك أكبر لص التقيت به في حياتي.
Página desconocida