وقام فتوح أشبه ما يكون بكلب يطيع أمر صاحبه، وتدلى المسدس في ذراعه المرتخية وخرج، وقبل أن يغلق حفني الباب وراءه صاحت وسيلة: ضع هذا البتاع في جيبك.
ورآه حفني وهو يصدع بالأمر مثل آلة ضغط صاحبها على الزر المناسب للحركة التي يريدها منها. وأغلق حفني الباب وارتمى على كرسي مرتعدا ما يزال يكاد لا يصدق ما رآه منذ لحظات، وأحضرت له وسيلة بعض الماء، وراحت ترش على رأسه كولونيا وهي تضحك ضحكا شديدا وهي تقول: لم أكن أتصور أنك خواف إلى هذه الدرجة. - خواف! يا ست أنت مش واخدة بالك من اللي حصل ولا دا كان حلم؟! - بل حقيقة. - أمال ربنا عمل الخوف ليه إذا لم يكن للموقف الذي كنا فيه؟! - عمله لغيرك الذين لا يغامرون مع زوجات الآخرين. - طول عمري أغامر مع زوجات الآخرين ولم يحصل لي شيء من هذا مطلقا. - ألست أنت الذي أردت أن تعرف عني كل شيء؟! - معرفة مهببة. - ألم تنبسط؟ - وهل هناك انبساط في العالم يساوي هذا الذي كنا فيه؟ - اهدأ، اهدأ. - إنما قولي لي أنت، ما كل هذا الهدوء؟ - ألم تعرف؟ - أكاد أعرف. - ماذا؟ - ليست هذه المرة الأولى. - ولا أظنها ستكون الأخيرة. - ما حكايتك؟ - هذا الرجل تزوجني من اثنتي عشرة سنة. كنت أنا لم أكمل العشرين، وكان هو في الستين وقد جاوزها. الزواج الحقيقي لم يدم بيننا أكثر من سنتين. - ولماذا قبلت الزواج منه؟ - أبي كان غنيا وأضاع أمواله كلها، وطمع أن يعينه هذا الرجل على الحياة، والبنت منا لا تملك من أمر نفسها شيئا. - إذن ... - وهل فيها إذن؟ كان من حقي أن أستجيب للطبيعة، وكنت في أول الأمر أحاذر أن يعرف، ولكنه عرف، وفي كل مرة أتعرف بشخص جديد تتكرر هذه التمثيلية. - ماذا سيفعل معك حين تعودين إلى المنزل؟ - أنا عادة لا أعود في نفس الليلة التي يقدم فيها هذا العرض الذي شهدته. - إذن ... - هل عندك مانع أن أقيم معك بضعة أيام؟ - أهلا وسهلا، ولكن ماذا بعد بضعة الأيام هذه؟ - أعود إلى المنزل. - وزوجك؟ - يستقبلني وكأني عائدة من مشوار لم يستغرق أكثر من ساعة، وكأن الذي جرى ما كان، ونستأنف حياتنا، هو يعرف أني أخونه، وأنا أعرف أنه يعرف، ولا يذكر أحد منا للآخر شيئا. - ولماذا لم تقولي لي هذا قبل أن تدهمني المفاجأة التي كدت فيها أن أفقد حياتي؟ - من مسدسه؟ - من الخوف. - أحببت أنا أيضا أن أعرف شيئا عن مقدار شجاعتك. - يا ست وهل قلت لك أني جنرال؟! - أنت في حجرة النوم أعظم من جنرال. - في حجرة النوم، إنما أمام المسدس أنا أقل من قطة. - عرفنا. - الحمد لله إنكم عرفتم. •••
وفي اليوم التالي ووسيلة لا تزال في بيته قصد إلى بيت عبد الفتاح صدقي. - لا بد أن أتزوج فورا. - ماذا؟ - ألم تسمع؟ - المصيبة أنني سمعت. - وما المصيبة في هذا؟ - كلمتك مائة مرة أن تتزوج وكنت ترفض. - والآن قبلت. - أنا عندي العروسة، ولكن لن أخبرك عنها إلا إذا قلت لي ما الذي غير رأيك بهذه السرعة؟ - أنا الآن في الأربعين وأستطيع أن أكون زوجا صالحا لسنوات عديدة، ولا أريد أن ينزل علي قضاء الله بالزواج وأنا أكبر من هذه السن. - كلام معقول. - خشيت أن أصاب وأنا في الشيخوخة بحمى الزواج وأصبح أضحوكة أمام نفسي وأمام زوجتي. - لا بد أن شيئا قد حصل لك بالأمس. - حصل أو لم يحصل لا يهم، أنا أريد أن أتزوج. - وأنا عندي عروستك. - من؟ - ابنتي سناء. - أنا في عرض النبي، أنا أعرف سناء وهي طفلة. - أنت دخلت بيتي منذ كم سنة؟ - أظن منذ حوالي عشر سنوات. - هو كذلك فعلا. سناء كان عندها في ذلك الحين سبعة عشر عاما. - حقا؟ - طبعا. أنت لم تكن تنظر لها لأنك كنت في الثلاثين من عمرك وقطعت السمكة وذيلها. - وهي تأخرت في الزواج لأنها كانت مخطوبة لابن عمتها. - وأنت تعرف أنه استشهد في فلسطين، وأنا أريد أن أخرجها من حزنها عليه. - لا يزال الفرق بيني وبينها حوالي ثلاثة عشر عاما. - كل زواجاتنا تتمتع بهذا الفرق. - والله معقول. ولكن كيف تقبلني زوجا وأنت تعرف عني ما تعرف؟ - أنت شبعت من النسوان، وأنا أطمئن على ابنتي بين يدي رجل في مثل تجربتك. - على بركة الله. - نقرأ الفاتحة. - بل لا بد أن يقرأها عني حلمي أخي. - هكذا يكون كلام العائلات، وهو كذلك.
وتزوج حفني من سناء.
الفصل الرابع عشر
حين عاد حسن من الجبهة كانت تحيط به أجواء غريبة كل الغرابة على الذين يعرفونه؛ فقد أصبح يحاول أن يضفي على نفسه نوعا من الأهمية، وأصبح فايز يهتم بأمره بعض الاهتمام، الأمر الذي لم يكن أحد يتصور أن يحدث أبدا، بل والأعجب من ذلك أنه أصبح يشارك فايز سهراته بعد أن كان يعدها له فقط دون أن يجرأ على التفكير في مشاركته فيها.
وقد أصبح شديد العناية بملبسه في الحدود التي تتيحها له دخوله المختلفة، والتي ما زالت قليلة مع ذلك.
وقد توثقت صلة حسن بالأميرالاي وهبي عبد المولى، وصار يتردد على بيته في انتظام. وكان للأميرالاي وهبي ابنة في الثلاثين من عمرها وكانت تكبر حسن ببعض سنوات، ولكنه وجد أن فرصة زواجه منها لن تتكرر، ومن أين له أن يجد ابنة أميرالاي إلا أن تكون زوجة سابقة مات عنها زوجها وترك لها طفلا. - يا ترى يا سعادة البك أطمع في هذا الشرف. - والله يا حسن يا ابني تعرف أن بنتي كانت متزوجة، وقد أصبح لها وحدها الحق أن تقبل الزواج مرة أخرى أو ترفضه. - البركة فيك يا سعادة البك.
ووافقت الست بديعة وهبي على الزواج، وطبعا لم يفكر حسن أن يدعو أباه إلى العرس، ولكنه دعا إليه - طبعا - حلمي باشا وأخاه حفني وعبد الفتاح صدقي وعدلي. ودعا أيضا شخصا ربما تكون قد نسيته وهو حامد العراقي الذي عاد من فرنسا ومعه زوجة فرنسية، فقد انتهز فرصة وجوده في باريس ووثق أنهم هناك لن يعرفوا شيئا عن جده أو جدته أو الطريقة التي تعلم بها، وأين يمكن أن تتوه هذه الأعراق العميقة الجذور في تربة وش البركة إذا لم يدركها التيه في باريس؟
وهكذا تزوج هو أيضا وشهدت زوجته مادلين زواج زميله حسن. وقدم فايز إلى حسن مائة جنيه هدية زواج له استطاع أن يشتري منها حلة العرس. وبدأت مطالع حياة جديدة تسفر عن وجهها الحسن بعد وجه شائه لم تكن الحياة تطالعه إلا به. وحين انتهى العرس جلست أسرة الأميرالاي وهبي بك تذكر ما كان من المدعوين ومن أمر الراقصة ومن أمر النقوط. وإن لم يكن الحفل كبيرا ولكن الحديث عنه كان موفورا. وغمزت الست حكمت اليازرجي زوجة وهبي لزوجها بعينها، وتلقى الإشارة وأحسن فهمها. - ألا قل لي يا حسين يا بني. - نعم يا سعادة البك.
Página desconocida