شاع في الصحافة جميعا تلك الصلة التي استحكمت حلقاتها بين الأميرة فضيلة وحفني. ورأى حفني عجبا، راح الصحفيون من جميع الجرائد يتقاطرون على حفني. ولكن سبقهم جميعا إليه اثنان من العاملين معه في المجلة. لم يكن واحد منهما يلقي إليه اهتماما أو يحاول أن يتعرف به. ولكنهما فجأة حين عرفا بتلك الصلة الجديدة أقبلا عليه إقبالة غير قادرة ولا متمرسة؛ فقد كان كلاهما في أول حياته الصحفية، وإن شئت قلت في أول الحياة كلها، ولكن هذان الصحفيان حقيقان أن نعرف عنهما كل شيء، وإني بأمرهما على علم اليقين.
فأما أولهما فهو حامد العراقي. وليست كلمة العراقي تلك جنسيته وإنما هي اسم، والسبب فيه غاية في الغرابة!
قدمت قبل مولد أبيه جارية من العراق أدركها قانون منع الرق فصارت راقصة في الأفراح والموالد، واستعملت معها مغنية مصرية كان لا بد لها منها حتى يتاح لها أن تسمع سيدات هذا العصر الغناء، فقد كان لا يغني عند الحريم إلا المغنيات، وكان من الطبيعي أن تطلق على هذه المغنية اسما فنيا فأطلقته، فإذا هو سعاد العراقية. وحين تزوجت سعاد نسب ابنها إلى الجانب الأكثر شهرة، فإذا اسم ابنها وجيه العراقي لا وجيه القماش، كما كان ينبغي أن يكون. مع أن القماش كان أيضا من أهل الفن، فقد كان طبال الفرقة التي تغني فيها العراقية، ولكن أين الطبال من مغنية الفرقة!
أنجب وجيه العراقي الذي عمل قاهيا بوش البركة فوزي العراقي الذي صمم أبوه أن يبعده عن الوسط تماما، فعلمه حتى نال الشهادة الابتدائية، وسعى له عند زبائن بالمقهى حتى عين موظفا بوزارة الأوقاف، وأصبح يحمل اسم فوزي أفندي العراقي، وأنجب فارس حديثنا هذا حامد العراقي. وقد لقي حامد من شظف العيش ما جعله يكره الدنيا جميعا، فجوانحه كلها حقد وسخيمة، ونفسه تأكل نفسه حتى شب ولم يشب، فهو مشروع إنسان لم يكتمل خلقه ولم تكتمل نفسه، فهو قصير غاية القصر، ضامر كل الضمور، وإن تهيأ لك أن تطلع على داخله لوجدته أعظم قماءة من جسمه.
أصر أبوه أن يعلمه ويتم تعليمه، وكانت دون ذلك أهوال. واستنجد فوزي أفندي بكل ذي أكرومة حتى استطاع أن يحصل على إعانة من الأوقاف كانت هي أحد المصدرين اللذين كان لهما الفضل في تعليم حامد، أما المصدر الثاني فقد كان مبلغا من المال يجود به كل شهر وجيه العراقي على حفيده حامد. وهكذا شب حامد وتعلم على موردين من المال عجيب أن يقترب أحدهما من الآخر، وعجيب أن ينسجما في مجرى واحد، وكل منهما قادم من مصدر بعيد كل البعد عن المصدر الآخر؛ فقد اجتمع على تنشئته وتربيته وتعليمه مال الصدقة قادما من الأوقاف، ومال السحت قادما من وش البركة.
وأكمل حامد العراقي تعليمه وتخرج في كلية الحقوق، وكان ترتيبه متقدما، فكان طبيعيا أن يسعى جهده ليعين في النيابة العامة أمل خريجي الحقوق جميعا، ولكن وقفت دون ذلك عقبات لا يستطيع أن يتخطاها به أحد حتى ولا زبائن جده بوش البركة. وكيف لمن كان جده قاهيا وجدته راقصة أن يصبح عضوا بالنيابة؟ هيهات! راح حامد يبحث عن وظيفة أخرى، ولكن الوظائف لم تكن ميسورة في ذلك الحين، فالأبواب أمامه مغلقة. كان الحقد قد تمكن من نفس حامد وعظم سخطه على المجتمع. فأي ذنب جناه هو حتى تحيطه الحياة بكل هذا القذر الذي يحيط به والذي يحول بينه وبين أن يبلغ من المكانة ما يصل إليه من هم أقل علما.
راح حامد في هوة الفراغ التي تطالعه من الحياة يقرأ، وكان بروح الحقد التي طمت على نفسه يعرف ما يريد أن يقرأ. وبدأ يكتب واتجه بكتابته إلى مجلة الفن؛ فقد كان فيها أبواب لا تخلو من الجرأة، وهو يريد حقده أن يفشو في كتاباته ومقالاته بعد أن فاضت به مشاعره.
ومهاجمة المجتمع والمستقر من شئونه أمر حبيب إلى نفس أصحاب الصحف؛ فكل هجوم حبيب إلى القراء، فالفاشلون في المجتمع أكثر من الناجحين، وقديما قال الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخا
وأم الصقر مقلات نزور
Página desconocida