قال ابن فورجة: قد أكثر الكلام في هذا البيت، وقوله: تشبيهي بما، وقالوا ليس) ما (من حروف التشبيه، ولم يؤت في الجواب بطائل، فأما ابن جني فقال: الذي كان يجيب به إذا سئل عن هذا أن يقول: تفسيره كأن قائلًا قال ما يشبه؟ فيقول الآخر كأنه الأسد، أو كأنه الأرقم، ونحو ذلك فقال هو معرضا عن هذا القول) أمط عنك تشبيهي بما وكأنه (، فجاء بحرف التشبيه، وهو كأن، وبلفظ) ما (التي كانت سؤالًا، وقد تكلم في هذا البيت القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني فقال هذا مما سئل عنه أبو الطيب فذكر أن) ما (تأتي لتحقيق التشبيه، تقول عبد الله الأسد، وما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد، كما قال الشاعر:
ومَا هنْدُ إلاّ مُهْرَةُ عَرَبّيةُ ... سَليلَةُ أفْراسٍ تَجَلَّلَهاَ بَغلُ
وقال لبيد:
ومَا المَرْءُ إلاّ كالشِهابِ وضوئهِ ... يحَوُرُ رَمادًا بعد إذْ هو سَاطِعُ
ثم قال: وأقول: إن التشبيه بما محال، وإنما وقع التشبيه في هذه المواضع التي ذكرها بحروفه، وإذا قال) وما المرء إلاّ كالشهاب (فإنما المفيد للتشبيه الكاف، وإنما) ما (للنفي نفت أن يكون المرء إلا كالشهاب، وإذا قال) وما هند إلا مهرة عربية (فإن) ما (دخلت على ابتداء وخبر، وكان الأصل هند مهرة عربية، وهو في تحقيق المعنى عائد إلى تقريب الشبه، وإن كان اللفظ مبانيًا للفظ، ثم نفى أن يكون إلا كذلك، فليس بمنكر أن ينسب التشبيه إلى ما إذا كان له هذا الأثر، وباب الشعراء أوسع من أن يضيق عن مثله، والذي عندي ما أقوله، وهو فائدتي من الشيخ أبي العلاء، سقاه الله وحياه، وليس هو مما استنبطته، وهو أن يكون يعني) ما (التي تصحب كأن إذا قلت: كأنما زيد الأسد، ألا ترى أنها كثرت حتى تكلم النحويون فيها إذا حالت بينها وبين الاسم، وقصروا عليها فصولًا كثيرة من كتب النحو، وقد صارت في نعت قوم لازمة لكأن حتى ما تفارقها وما عندي أن أبا الطيب أراد غيرها والله أعلم بالغيب.
وقال الأحسائي:) ما (تكون نكرة بمعنى شيء، وتكون معرفة بمعنى الذي، فيقول أمط عنك تشبيهي بشيء من الأشياء ولا بكأنه شيء.
ومن التي أولها:
أحْيا وأيْسَرُ ما قاسَيْتُ ما قَتَلا ... والبينُ جارَ على ضَعْفِي ومَا عَدَلا
قال الشيخ أبو العلاء ﵀ أحيا (يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الشاعر أخبر عن نفسه فقال أحيا أي أعيش، وأيسر ما قاسيت ما قتل.
والآخر: أن يكون) أحيا (في معنى أفعل الذي يراد به التفضيل، أي أشد ما يكون في إحياء الإنسان وأيسر ما قاسيت شيء قاتل، وكان الكلام على التقديم والتأخير، كأنه قال: ما قتل أي الشيء الذي يقتل أحيا وأيسر ما ألقاه وإذا حمل على هذا الوجه فقد حذف المضاف إليه في قوله أحيا، لأنه أراد أحيا ما لاقيت وإنما يستعمل ذلك في الشعر ولو قلت في الكلام المنثور أكرم وأفضل الناس زيد، تريد أكرم الناس زيد وأفضلهم لقبح ذلك، وفيه شبه من قول الفرزدق:
يا مَنْ رأَى عَارِضًا أرقتُ له ... بينَ ذراعيْ وجَبْهةِ الأسَدِ
أراد بين ذراعي الأسد وجبهته.
قَيْلُ بمَنْبِجَ مَثْواهُ ونَائِلُهُ ... في الأُفْقِ يَسألُ عمنَّ غَيرهُ سألا
قال الشيخ ﵀: منبج إن كان اسمًا عربيًا فهو مأخوذ من قولهم نبج إذا رفع صوته، ويوم النباج يوم من أيام العرب، ويقال إن النباج مواضع مرتفعة والقيل ملك دون الملك الأعظم، وقوله) يسأل عمن غيره سألا (كأنه يسأل عنه ليغنيه أو ليعاتبه إذا لم يسأل هذا الممدوح.
ومن التي أولها:
قِفا تَرَيا وَدْقِي فَهاتا المَخايِلُ ... ولا تَخْشَيا خُلْفًا لما أنا قائِلُ
قال الشيخ ﵀ الودق (هاهنا المطر، وقيل هو خروج القطر من الغيم بكثرة، وعن ابن عباس ﵄ أن الودق مثل الدخان يخرج مع القطر من الغيم، والمخايل جمع مخيلة وهي السحابة التي يخال فيها المطر، والمعنى قفا تريا ما أفعل فقد رأيتما دلائله.
وآخَرُ قُطْنُ مِن يَدَيْهِ الجنادلُ قال الشيخ: أي لا أحفل به ولا يقدر لي على مضرة، فكأن الجنادل إذا رماني بها قطن من لينها، فأقول فاسد.
شاَقتْكَ ظُعْنُ الحَيّ يومَ تَحَملّوُا ... فَتَكَّنسوا قُطْنًا تصِرُّ خِيامُها
1 / 71