قال أبو العلاء: العباد يتركون ما في الدنيا من اللذات رغبة فيما هو أعظم منه، وذلك ما يرجون من ثواب الآخرة، فنحن في قصد هذا الممدوح لنا مذهب العباد، لأنا قد زهدنا في غيره من الملوك. وإنما زهدنا فيهم كثرة ما نرجوه من الرغائب التي لا نجدها لديهم، وهذا من اللفظ الذي ظاهره عموم ومعناه خصوص.
فَتىً فاتَتِ العَدوَى من النَّاسِ عَينُهُ ... فما أرمَدَتْ أَجفانهُ كَثرةُ الرُّمْدِ
قال الشيخ: يزعمون أن الجرب والرمد والثوباء من المعديات، وقالوا في المثل: هو أعدى من الثوباء، وإنما ضرب الرمد هاهنا مثلا لما في الناس من العيوب، أي أن فيهم البخلاء والجبناء ومن هو قليل اللب فما أعدوه بما فيهم من الأشياء المذمومة.
يُغَيَرُ ألوَانَ اللَّيالي على العِدَا ... بِمَنشورَةِ الرّاياتِ مَنصُوَرةِ الجُندِ
قال ابن جني: يقول من عادة الليل أن يكون أسود، فإذا سار بعساكره فيه وأبلق بريق الحديد عليه بما يسايره من النيران، أما للاستضاءة وإما لإحراق أعدائه انجابت الظلمة فتغير لون الليلة ببريق الحديد، وهذا قريب من قول أبي تمام:
قَومٌ إذا اسوَدَّ الزَّمانُ تَوضَّحُوا ... فيه فغُودِرَ وَهوَ مِنهم أبلَقُ
وقال الأحسائي: يعني أنه يضيء الليالي السود بلمعان السيوف والمشاعل، وسود الليالي المقمرة بالعجاج ودخان القرى وما جرى مجراه، ويطول الليالي القصار بالخوف والذعر، ويقتصر الليالي الطوال بالسرور واللذات، فهو مغير ألوان الليالي وأحوالها.
يَغِضْنَ إذا ما عدْنَ في مُتفاقِدٍ ... من الكُثرِ غَانٍ بالعَبيدِ عَن الحَشدِ
قال ابن جني: يغضن أي تدخل الكتائب التي أنفذها للفارة، إذا عادت إلى معظم جيشه، في عسكر متفاقد من الكثرة، فتختفي فيه، كما يغيض الماء في الأرض، ومعنى متفاقد أن الشيء يطلب فيه فلا يوجد من كثرته، أي يخفي بعضه بعضا لاضطرابه وتموجه، وقوله) غان بالعبيد عن الحشد (أي قد استغنى الجيش العظيم بعبيد صاحبه وبرئيسه عن الحشد للرجال الغرباء، والحشد الجمع، أي جميع رجال هذا العسكر العظيم عبيد الممدوح.
حَثَتُ كلُّ أرضٍ تُربَةً في غُبارِهِ ... فَهُنَّ عَليهِ كالطَّريقِ في البُردِ
قال ابن جني: أي إذا مر هذا العسكر بأرض سوداء علاه غبار أسود، وإذا مر بأرض حمراء علاه تراب أحمر، وإذا مر بأرض غبراء علاه غبار أغبر، فقد صارت عليه هذه الألوان كطرائق وألوان في برد بصفة تبعد السرية لأنه يمر بأرضين وترب مختلفة، ويقال حثوت التراب وحشيته حثوا وحثيا قالت امرأة لبنتها:
الحُصْنُ أدنَى لو تأيَّيتِهِ ... من حَثيِكِ التُّرْبَ على الرَّاكبِ
قال الشيخ أبو العلاء: قالت جارية لأمها:
يا أمّتَا أبصَرني راكِبٌ ... في بلدٍ مُسحَنفرٍ لاَغِبِ
فَظَلْتُ أحثُوا التُّربَ في وجهِهِ ... خَوفًا وأحمِي حَوزَة الغَائِبِ
فأجابتها أمها بالبيت المتقدم.
وكلُّ شريكٍ في السُّرورِ بِمُصحِبي ... أرَى بعدَهُ من لا يَرَى مثلَهُ بَعدِي
قال ابن جني: قوله) كل شريك (أي من يشاركني في السرور بمصحبي عنده إذا عدت إليه من أهل وغيرهم، فرأى ما قد افدتنيه وحظيت به منك، أرى أنا بعده منك يا ابن العميد إنسانا لا يرى هو مثله بعد مفارقتي إياه، إذ لا نظير لك في الدنيا جميعا.
وقال أبو العلاء: الهاء في قوله) أرى بعده (عائدة على المصحب، وقد يجوز أن تكون عائدة على شريك، والهاء في) مثله (عائدة على الشريك.
وقال الأحسائي: وروى بمصحبي، أي ويصيرني كل شريك في السرور بمصبحي في أهلي، أرى بعده أي بعد فراقي له من لا يرى مثله بعدي، أي أنا أرى ابن العميد بعد فراقي هذا الشريك، وهو لا يرى مثل ابن العميد بعد فراقي، وإذا رأيت من لا يراه فقد خنته في المسرة لأنه شريكي فيها.
ومن التي أولها: أزَائِرٌ يا خَيالُ أم عائِدْ قال أبو العلاء: وهي مما لم يذكره الخليل من الأوزان لأن العرب عنده لم تستعمله وقد ذكره غيره، وخروجه من ثاني المنسرح، وقوله أزائر خبر مقدم محذوف المبتدأ، كأنه قال أزائر أنت يا خيال؟.
وَجُدْتُ فيه بِمَا يَشِحُّ بهِ ... مِنَ الشَّتِيتِ المُؤَشَّرِ البارِدْ
1 / 36