قال ابن فورجة: هذا البيت ظاهر المعنى، وقد تكلف له القاضي أبو الحسن ما كان غنيا عنه، وذكر أنه عيب بهذا، وقيل أن العود يعني الطيب ليس بذي رائحة فيفي عند الشم أو يفزع إليه من نتن ثم قال: وقد قال المحتج عنه إنما يعني أنه لا يباشر الموت قبض روحه بيده تقززا وإستقذارا، فيحمل عودا من الأعواد التي هي قضبان أو قطعة خشب من أي شجر كانت ليقبضها به، ولعمري أن المتوهم على أبي الطيب أنه يعني عود الطيب لعاجز، وأن الاحتجاج عنه والنفخ دونه من الكلف التي كفاها الله، وهذا الشيخ أبو الفتح فسر هذا البيت فقال: أي لا يباشر الموت أنفسهم وقت قبضه إياها ضربه مثلا، هذا كلامه ألا تراه أورد غرض الرجل بدءا من غير تعريج على محال أو توهم لغير الواجب، وما أغوى القاضي إلا ذكره للنتن، فحسب ألا بد من طيب يقابل النتن، وقد علم أن أبا الطيب جد عالم أن العرب لم تسم العود المتبخر به عودا، إلا أنه بعض العيدان وجنس منها، وأنهم لا يوردونه هذا المورد إلا إذا كان في الكلام ما يدل على الغرض ولم نسمع أحدا من الشعراء ولا في نثر من نثر الفصحاء: أخذت بيدي عودا من الأعواد، وناولني فلان عودا على معنى لفظ التنكير، واملراد هذا الطيب وإنما يقولون: أخذت مندلا وألوة، أو مجمرا أو العود معرفا في الأسماء التي تختص به، والعود الذي عليه الأوتار هذه سبيله لا يقال أخذت عودا فيعلم أنك عنيت البربط إلا في الكلام ما يدل عليه كقول بشار:
إذا قَلّدَتْ أطرافُها العُودَ زَلزَلَتْ ... قُلوبًا دَعَاها للصَبَابةِ دَاعِ
العَبدُ لَيسَ لُحرٍّ صَالِحٍ بأخٍ ... لَو أنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولُودُ
قال أبو العلاء: لو أن هذا الكلام منثور لكان الأحسن أن يقول ولو أنه بالواو كما يقال: لا تركن إلى عبد، ولو أنك قد وليت تربيته، وحذف الواو للضرورة وإقامة الوزن. وقال ابن فورجة: هذا يعرض بابن طغج، يقول كان لا يجب أن تركن إليه ولا تتخذه أخا وصاحبا لو أنه حر وولد في ثياب حر، والهاء في قوله لو أنه عائدة إلى ابن طغج، كأنه يقول لو كان حرا لما اتخذ العبد أخا، يريد هو ولد زنى ولولا ذاك لما رضي بهذه الهضيمة، يغريه به ويذمه على تسليطه.
إنَّ أمرًا أمَةٌ حُبْلَى تُدَبِّرُهُ ... لُمستَضَامٌ سَخِينُ العَينِ مَفئُودُ
قال ابن جني: يعرض بالإخشيد ويريد بالأمة الحبلى كافورا، ومفئود بلا عقل كأنه قد أصيب فؤاده.
وَعندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ ... إنَّ المَنيَّةَ عِندَ الذُّلِّ قِندِيدُ
قال أبو العلاء: القنديد شراب من عنب يطبخ وتطرح فيه أفاويه، فأما القند فمعروف أنه ضرب من السكر، يقال: قندت السويق فهو مقنود وقندته. قال الشاعر:
أهَاجَتكَ أظَعَانٌ تَحَملنَ غدوةً ... بكرمانَ يُصبَحنَ السَّويقَ المقَنَّدا
واشتقاق القنديد من القند فيما يوجبه القياس.
ومن التي أولها:
جاءَ نَورزُنا وأنتَ مُرَادُهْ
كُلّما استُلَّ ضَاحَكَتْهُ إياةٌ ... تَزعُمُ الشَّمسُ أنَّها أرادُهْ
قال أبو العلاء: إياة الشمس ضوءها، وقال قوم الإياة عين الشمس، قال طرفة:
سَقَتْهُ إياةُ الشَّمسِ إلا لِثِاتِهِ ... أُسِفّ وَلم تكدِمْ عليهِ بإثِمدِ
يريد أن نور الشمس إذا قابل فرند هذا السيف حدث بينهما أنوار، تزعم الشمس أنها أرآده هذا الحسام وإنما ذلك زعم لا حقيقة له، واكثر ما يستعمل الزعم فيما لا يثبت، كما قال الله سبحانه:) زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا (أي ليس الأكر كذلك. وقال الضبي:
زَعَمتُ تُماضِرُ أنَّني إمَّا أمُتْ ... يَسدُدْ بُنَيُّوها الأصاغِرُ خَلتي
أي أنها تدعي ذلك وليس هو على ما تزعم.
وقال ابن فورجة: الشمس مؤنثة ولا ذكر ههنا ترجع إليه الهاء في أرآدة السيف. وإياة نكرة يحتاج بها إلى ضمير يرجع إليها في باقي الكلام، أو صفة، وأن كانت الهاء في) أنها (راجعة. فالهاء في أرآدة أما للشمس وأما للسيف، وأن كانت الهاء في أنها للشمس فالهاء في) أرآدة (لا تصلح أن ترجع إلى إياة لأنها مؤنثة فيها علامة تأنيث، وأرآد جمع والشمس وإيادة معا موحدان، والذي عندي في هذا البيت أنه ذكر الشمس إذ ليس تأنيثها حقيقيا، واضطرته القافية إلى تذكيره وقد فعلت العرب مثل ذلك كثيرا. يقول القائل:
1 / 33