رَعَى اللهُ عِيسًا فارقَتنا وَفَوقَها ... مَها كُلُّها يُولي بِجفَنَيهِ خَدُّهُ
قال الأحسائي: رد الضمير في) جفنيه وخده (إلى لفظ كل لا إلى المها، ومعنى يولي أي قد بكت للوداع ثم بكت للفراق والدمع الثاني هو الولي والأول الوسمي.
بِوَادٍ بِهِ ما بالقُلُوبِ كأنَّهُ ... وقَدْ رَحَلُوا جِيدٌ تَناثَر عِقدُهُ
قال أبو العلاء: أدعى أن الوادي إذا ساروا عنه يجد لفراقهم كما يجد الآدميون فيه من الأسف كما في قلوب الإنس، وكأنه لما رحلوا جيد انتشر عقده، فقد بقي عاطلا، وهذا المعنى الواضح. وقد يجوز أن يعني بقوله) بواد به ما بالقلوب (أنهن في الوادي ممثلات كما أنهن في قلوبنا كذلك.
قال ابن فورجة: قال أبو الفتح: قوله) به ما بالقلوب (أي قد قتله الوجد لفقدهم، فيجري هذا مجرى قوله أيضا:
لا تَحسَبُوا رَبعَكُم ولا طَلَلَهْ ... أوَّلَ حَيّ فِراقُكُمْ قَتَلَهْ
ومعنى هذا البيت: لأن هذا الوادي به من الوحشة لرحيل هؤلاء الأظعان عنه ما بقلوبنا، فأما قول أبي الفتح أي قتله الوجد لفقدهم فليس في البيت ما يدل على القتل، ولا القتل مما يتوجه على القلب دون غيره من الأعضاء، ولا أدري من أين أتى بهذه اللفظة الأجنبية في تفسير هذا البيت الظاهر!.
أنا اليَوم مِنْ غِلمانِهِ في عَشِيرَةٍ ... لَنا وَالِدٌ مِنهُ يُفدِّيه وُلدُهُ
قال ابن فورجة: قد كان يجب أن يقول في عشيرة لهم والد منه، إلا أن له عادة في قطع الكلام الأول قبل استيفاء الفائدة وإتمام الخبر، وهو كثير في كلامهم ولو لم يأت إلا قول الله تعالى:) الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (. وقوله تعالى:) والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (لكفى وأقنع، إذ ليس في الخبر ما يرجع إلى الأول) والذين (من الأسماء النواقص، فإذا جاء ذلك في أسماء محتاجة إلى صلاتها فهي في غيرها أولى، ومثل هذا من الشعر القديم قول الراجز:
يا أبجَرَ بنَ أبجَرٍ يا أنتَا ... أنتَ الذي طلّقتَ عامَ جُعتَا
قَدْ أحسَنَ اللهُ وقدْ أسأتَا ومثله:
وأنتِ التي حَبَّبتِ شَغبًا إلى بَدَا ... إليَّ وأوطَانِي بِلاَدٌ سِوَاهُما
قال الشيخ أبو الفتح: كلمته غير مرة في هذا فأعتصم بأنه إذا أعاد الذكر على لفظ الخطاب كان أبلغ وأمدح من أن يرده على لفظ الغيبة، ولعمري أنه لكما ذكر ولكن الحمل على المعنى عندنا لا يسوغ في كل موضع ولا يحسن، هذا كلام ابن جني. وقال أيضا: ولولا أنا سمعنا مثله في الشعر للعرب لرددناه، فقوله) لنا والد منه يفديه ولده (يريد أن الجاري في العادة أن يفدي الوالد ولده لفظا أن تقول فديته، فيقول أبو الطيب: كافور لنا بمنزلة الوالد، إلا أنا نحن نفديه ولا يفدينا هو. كأنه يردي بلفظ الوالد التعريض له بأنه مخصي وأنه ربي ولد ابن طفج تربية الوالد، وكرر ذلك فقال:
إنَّما أنتَ وَالدٌ والأبُ القَا ... طِعُ أحنَى من قَاطِعِ الأولاَدِ
وقال:
وأنتَ الذي رَبَّيتَ ذَا المُلكِ مُرضَعا ... وليسَ لَهُ أُمُّ سِوَاكَ ولا أبُ
سَبائِكُ كافُورٍ وعِقيانُهُ الّذِي ... بِصُمّ القَنَا لا بالأصَابِعِ نَقدُهُ
قال ابن جني: يقول فيها سبائك كافور وذهبه، أي لا ذهب هناك ولا سبائك، وإنما هناك غلمان مختارون وأصحاب مصطفون اختارهم بعد أن أمتحنهم بالطعان بين يديه، وجربهم فأقامهم مقام ماله وذخائره، لأنه بهم يصل إلى مطالبه كما يصل بالمال، ولم يرد المال في الحقيقة.
فيا أيُّها المَنصُورُ بالجَدّ سَعيُهُ ... ويا أيُّها المَنصُورُ بالسَّعي جَدُّهُ
قال أبو العلاء: أراد أن الممدوح قد جمع بين الجد الذي هو الحظ، وبين الجد الذي هو السعي في طلب المكارم، فكل واحدة من الخلتين تنصر الأخرى، لأن المجدود إذا اتكل على جده ولم يسع في طلب المكارم كان ذلك يقضي عليه، وإذا سعى وهو غير مجدود لم يصل إلى خير، لأن المثل السائر) غثني بجدك لا بكدك (.
وألقى الفَمَ الضِّحَّاكَ أعلمُ أنَّهُ ... قَرِيبٌ بذي الكَفِّ المُفَدَّاةِ عَهدُهُ
1 / 31