لم لما ظهر الإسلام وترقى أمره وارتفع قدره واشتهر إنزال القرآن الناسخ لجميع الأديان اضطرب اليهود ووقعوا فيما وقعوا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن أنزل عليه من الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم: أخونا جبريل - صلوات الرحمن عليه - قالوا: هو عدونا القديم، ليس هذا أول ظهوره بالعداوة، بل ظهر علينا بالعداوة من قبل مرارا، وهو بصدد نسخ ديننا.
قال سبحانه وتعالى مخاطبا لنبيه: { قل } يا أكمل الرسل { من كان عدوا لجبريل } أي: لمن يدعي عداوة أمايننا جبرائيل بواسطة إنزال القرآن، أولئك لا وجه لاتخاذكم جبرائيل عدوا { فإنه } إنما { نزله } أي: القرآن { على قلبك } يا أكمل الرسل الذي هو وعاء الإيمان والإسلام ومهبط الوحي والإلهام { بإذن الله } المنزل إلقاء إليه، وأمره إياه بتنزيل لا من عند نفسه حتى يتخذوه عدوا، وإن اتخذوه عدوا فاتخذوا الله المنزل عدوا مع أنه لا وجه للعداوة أصالا؛ لكون المنزل عيه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب المنزلة { وهدى } يهتدي به إلى طريق الإيمان والتوحيد { وبشرى } بالنعيم الدائم الباقي { للمؤمنين } [البقرة: 97] المهتدين به، جعلنا الله ممن اقتضى أثرهم.
قل لهم أيضا يا أكمل الرسل: { من كان عدوا لله } ينقض عهوده، وعدم الامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه { وملائكته } بنسبتهم إلى أشيائهم منزوهون عنها { ورسله } بالتكذيب والقتل والاستهزاء والإهانة، وخصوصا من الملائكة { وجبريل وميكل } كلا الأمينين عند الله بنسبة الخيانة والعداوة إليهما فهو كافر بالله بثبوت واحد منهما { فإن الله عدو للكافرين } [البقرة: 98] بكفرهم وإصرارهم وعنادهم.
{ و } من جملة كفرهم وعنادهم أنهم { لقد أنزلنآ } من غاية لطفنا وجودنا { إليك } يا من وسعت مظهريته جميع أوصافنا وأخلاقنا { آيات } دلائل { بينات } واضحات لطريق المعرفة والإيمان والتوحيد والإيقان فكفروا بها وكذبوها { وما يكفر بهآ } مع وضوحها وجلائها { إلا الفاسقون } [البقرة: 99] الخارجون عن ربتة العبودية؛ لعدم الانقياد بالكتاب والنبي بل بالإنزال بل بالمنزل ألم يكونوا فاسقين دائما؟!
{ أوكلما عاهدوا عهدا } وثيقا مؤكدا { نبذه } نقضه { فريق منهم } لفسقه ثم سرى نقضه إلى الكل فنقضوا جميعا { بل أكثرهم لا يؤمنون } [البقرة: 100] ينقادون بالعهد والكتاب والنبي أو أمره.
[2.101-106]
{ و } أيضا من جملة عتوهم أنهم { لمآ جآءهم رسول } مرسل { من عند الله } المرسل للرسل لهداية الناس إلى التوحيد مع أنه { مصدق لما معهم } من الكتب المنزلة على الرسل، الهادي لارتفاع التعدد والاختلاف عن أهل التوحيد مع أن مجيء هذا الرسول منزل مثبت في كتابهم الذي يدعون الإيمان به { نبذ } طرح { فريق من الذين أوتوا الكتب } وهو اليهود { كتب الله } هو التوراة التي أدعوا الإيمان بها { ورآء ظهورهم } ولم يلتفتوا إليه ولم يتوجهوا نحوه بل صاروا من غاية عداوتهم وعنادهم مع الرسول المبعوث { كأنهم لا يعلمون } [البقرة: 101] ولا يقرأون كتابهم أصلا.
{ و } بعدما نبذوا التوراة وراء ظهورهم؛ لاشتمالها على أوصافك وظهورك يا أكمل الرسل أخذوا في معارضتك بالسحر { اتبعوا ما تتلوا } تنسب وتفتري { الشيطين } المردة من الجن { على ملك سليمن } بأن استيلاءه وتسلطه وتسخير الجن والإنس والوحوش والطيور والريح، إنما تم بالسحر { و } الحال أنه { ما كفر } وسحر { سليمن } قط بل أمره على الوحي والإلهام الوارد الغيبي { ولكن الشيطين } يسترقون من الملائكة وينسبون الأمور إلى الوسائط أصالة، بواسطة ذلك { كفروا } وبعدما كفروا { يعلمون الناس السحر } أي: الذي يسترقن منهم { و } خصوصا ما يسترقون من { مآ أنزل على الملكين } المحبوسين { ببابل } المسميان: { هروت ومروت } مع أن المنزل إليهما مكر الله مع عباده وابتلاهم وفتنهم { وما يعلمان من أحد حتى يقولا } له طريقة وكيفية، بل يقول لمن ظهر له بالسحر: { إنما نحن فتنة } من الله وابتلاء لعباده { فلا تكفر } بنسبة الأمور إلينا، ولا تكفر بصدد التعليم أيضا { فيتعلمون } المسترقون { منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } مما يورث قطع المحبة والعلاقة المستلزمين لحفظ النسب إضرارا للدين والإيمان { و } الحال أنهم { ما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله } ومشيئته وتقديره؛ إذ لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء.
وهم مع إذعانهم العلم والعقل { ويتعلمون ما يضرهم } ضرارا فاحشا في النشأة الأولى والأخرى { ولا ينفعهم } نفعا فيهما أصلا { و } الله { لقد علموا } أي: اليهود { لمن اشتراه } أي: استبدله؛ أي: كتاب الله بالسحر { ما له } للمستبدل { في الآخرة من خلق } نصيب لا متنعوا عن الاستبدال، لكنهم لم يعلموا فاستبدلوا، فثبت أنهم ليسوا من العقلاء العالمين، وبعدما عيرهم سبحانه بما عيرهم وجهلهم، كرر تعييرهم مبالغة وتذكيرا للمتذكرين بها، فقال مقسما: { و } الله { لبئس ما شروا } وأباحوا { به أنفسهم } حقائقها ومعارفها ولذاتها الروحانية بالسحر المبني على الكفر بالله وكتبه ورسله وملائكته؛ لأن المشهور من أصحاب السحر أن سحرهم لا يؤثر بالكفر والخباثة والكثافة { لو كانوا يعلمون } [البقرة: 102] يفهمون قباحته لما ارتكبوا، لكنهم لم يعلموا فارتكبوا، فثبت أيضا جهلهم وسخافتهم.
ومن غاية جهلهم أيضا أنهم يدعون الإيمان بالله وبالرسول والكتب { ولو أنهم آمنوا } يوما بالله وكتبه ورسله بلا تفريق بين الكتب والرسل { واتقوا } عن القبائح الأخروية جميعا بلا رخصة { لمثوبة } فائدة جليلة عائدة إليهم { من عند الله } عندهم { خير } من الدنيا ومزخرفاتها ولذاتها الفانية كما هو عند المؤمنين الموقنين بوحدانيته { لو كانوا يعلمون } [البقرة: 103] خيريته لم يكفروا بعده، لكنهم كفروا فثبت جهلهم وغباوتهم أيضا.
Página desconocida