سافرا إلى الإسكندرية وحدهما، وبقيت الأم في رأس البر، وأقاما أياما في فندق اللوفر حتى عثر عيسى على شقة في سيدي جابر بالدور السابع من عمارة مطلة على البحر، وكان المصيف على وشك الوداع، حف به صخب الشباب، واستقبلت السماء أسراب السحائب البيضاء، وتهيأ الجو للهدوء والتأمل، وقدرية بدت سعيدة حقا رغم توعكها، وواظبت على العلاج والرجيم على ولعها المأثور بالطعام، وقالت: إذا كان ذلك سيخفف من وزنها فبها ونعمت، وتحمس عيسى للمشي وتجنب الدهنيات ما أمكن ليسترد رشاقته، واتفق الرأي بينهما على أن يشرع في العمل حال عودته إلى القاهرة. وقد استقر الرأي على فتح مكتب، وإن لم يبد ارتياحه لذلك، قال: شد ما أتمنى حياة أخرى.
فحملقت بعينيها البقريتين في وجهه متسائلة، فبادر يقول: لا تقلقي، هذا مجرد حلم، أود أن أعيش في الريف بعيدا عن القاهرة، فلا أراها إلا في المناسبات، وأن أقضي نهاري في عملي بالحقل وليلي في شرفة مطلة على الفضاء والصمت.
فقالت بقلق: ولكن لا علاقة لنا بالريف. - إنه مجرد حلم.
ومرت الأيام في ضجر، ولم يجن من الشواطئ شبه الخالية إلا الوحشة، وبخاصة وأن قدرية آثرت البقاء في البيت أكثر الوقت بسبب صحتها، وكان يمشي حتى تكل قدماه، ويجلس إذا جلس في فردوس جليم تعلقا بالذكريات، وقال لنفسه إن عصره قد انتهى وإنه لن يندمج في الحياة مرة أخرى بنفس الحال التي كان عليها من قبل، وإنه يرتبط بامرأة ليسرقها لا ليحبها. وتساءل: متى يندثر العالم؟ وتساءل أيضا: ألا توجد أفكار من نوع آخر تفتح للصدر الحياة؟!
ووجد أمامه رجلا من قراء الكف في زي هندي، يحدق في وجهه بعينين براقتين وهو بمجلسه التقليدي بالفردوس، وبسط للرجل كفه فسحب هذا مقعدا وجلس أمامه وعكف في الحال على قراءة خطوط راحته، وراح ينتظر صوت الغيب في استسلام باسم، وارتفع صوت الرجل قائلا: عمرك طويل وستنجو من مرض خطير.
ثم بعد تأمل: وستتزوج مرتين وتنجب ذرية.
فانتبه باهتمام، فاستطرد الرجل قائلا: وفي حياتك تقلبات كثيرة، ولكن لا خوف عليك بفضل إرادتك الحديدية، ولكنك ستتعرض لخطر الغرق في البحر! - البحر؟! - هكذا يقول الكف، وأنت رجل طموح بلا هوادة، وستجد دائما رزقك موفورا، ولكن عصبيتك تفسد عليك صفو حياتك في كثير من الأحايين.
وقام الرجل وهو يحني له رأسه تحية، وعندما هم بالابتعاد سأله بلا وعي: وما المخرج؟
فالتفت إليه الرجل متسائلا، فاستسخف عيسى نفسه، ولوح له بيده شاكرا.
وعند المساء مضى يتمشى على الكورنيش حتى بلغ كامب شيزار، وعند سلسلة من المقاهي والدكاكين ملتصقة بطول الطوار في مهرجان من الأنوار، وقعت عيناه على وجه ريري! توقف عن السير على الكورنيش وهو يحد بصره بانتباه الخائف، فتوكد لديه أنها ريري دون غيرها، جلست على كرسي المديرة أو المالكة وراء صندوق الماركات بمحل صغير لبيع الدندرمة وشطائر الفول والطعمية، وأسند ظهره إلى سور الكورنيش في موضع بعيد عن الضوء، وراح يمعن النظر في وجهها بدهشة، وهو لا يخلو من ضيق لذكرى سلوكه معها الذي دهمه بقسوة ونبوه عن الذوق، ريري .. ريري دون غيرها ... ولكنها لم تعد البنت الصغيرة، كلا، إنها امرأة بكل معنى الكلمة، وذات شخصية يستشعرها النادل الذي يتحرك باستمرار بالطلبات بينها وبين الزبائن، امرأة جادة ومديرة حقا، ومن عجب أن تمشي بهذه الناحية طوال عشرين يوما متتابعة دون أن يلتفت إلى هذا المحل الصغير الذي قرأ اسمه الآن بوضوح «خذ واشكر»، وفي المرات القلائل التي صيف فيها في الإسكندرية كان يتذكرها ويخاف فكرة مقابلتها، سواء وحده أو مع زوجه وأصدقائه، ولكنه لم ير لها أثرا حتى ظنها قد رحلت عن البلدة أو عن الدنيا جميعا. وكيف تأتى لها أن تجلس هذا المجلس، وهل خمسة أعوام تكفي - بلا حرب عالمية - لبلوغ هذه الدرجة؟ لا شك أن أبلتها في الإبراهيمية تحسدها على هذا التقدم السريع الذي لا تحلم به قريناتها! وقف في شبه الظلام لا يحول عنها عينيه، ويستحضر في ذهنه علاقتهما القديمة التي طويت في زوايا النسيان إلى الأبد، ويتعجب من زيف العلاقات البشرية. وقال إننا نجرب الموت - ونحن لا ندري - مرات ومرات في أثناء حياتنا قبل أن يدركنا الموت النهائي، وما أشبه ريري في مجلسها بالمحل بالنادي السعدي حين يمر أمامه أحيانا أو ببيت الأمة، جميعها حيوات قضي عليها بالموت المبكر ولا يجني منها إلا الحسرات.
Página desconocida