السمان والخريف
السمان والخريف
السمان والخريف
السمان والخريف
تأليف
نجيب محفوظ
السمان والخريف
1
وقف القطار ولكنه لم يجد أحدا في انتظاره. أين السكرتير؟ أين موظفو المكتب؟ أين السعاة؟ وأجال بصره في المكان والناس بلا جدوى، ماذا جرى؟! هل دار رأس القاهرة تحت ضربة القنال الآثمة؟! وغادر موقفه عند مقدمة العربة، فسار حاملا حقيبته الصغيرة نحو الخارج وهو يقطب استياء، ثم ساوره قلق. وتفحص الوجوه بدافع غريزي فوجدها تعكس انقباضا مخيفا، وتحركت في أعماقه غريزة تتنبأ بالمخاوف. أهي مذبحة الأمس بالقنال أم أحزان جديدة تزحف؟ هل يسأل الناس عما وراءهم؟! ولم ينتظره أحد، ولا واحد من مكتبه شذ عن هذا السلوك العجيب! يا لها من أيام غريبة حقا، ولم تزل ذكريات القنال ناشبة في رأسه بكل حدة، المشاهد الدامية، مذبحة رجال البوليس، البطولة العزلاء. ولم يزل صوت الشاب الفدائي يخرق أذنه وهو يصيح غاضبا: أين أنتم .. أين الحكومة .. ألستم أنتم الذين أعلنتم الجهاد؟!
فقال في حرج شديد: بلى، ولهذا تجدني أمامك في هذا الخلاء.
Página desconocida
فصرخ في غضب أشد: نريد سلاحا، لم تقترون علينا؟! - اليد قصيرة، وموقف الحكومة دقيق. - وموقفنا نحن! .. وموقف الأهالي الذين خربت بيوتهم؟! - أعلم ذلك، كلنا نعلم ذلك، صبرا، وسنبذل أقصى ما نستطيع. - أم تقنعون بالفرجة؟!
يا لها من غضبة كالنار، ولكن ماذا في القاهرة؟
لا عربة واحدة لتنقله، وفي ميدان المحطة جماهير تجري في كل اتجاه. الغضب يشتعل في الوجوه واللعنات تنصب على الإنجليز. الجو بارد والسماء متوارية خلف سحاب متجهم والهواء ساكن لا حياة فيه، الدكاكين مغلقة كالحداد، وعند الآفاق تصاعد دخان كثيف.
ماذا في القاهرة؟!
وتقدم في حذر، وأشار إلى رجل يقترب ثم سأله: ماذا في البلد؟
فأجابه في ذهول: القيامة قامت!
فسأله في إلحاح: تعني مظاهرات احتجاج؟!
فهتف وهو يأخذ في الجري: أعني النار والخراب.
وواصل تقدمه الحذر البطيء وهو يتفحص ما حوله، وتساءل في دهش: «أين البوليس؟ أين الجيش؟» وفي شارع إبراهيم تجلت حقيقة اليوم بصورة أبشع، خلا الميدان للغاضبين، انفجر مكنون اللاوعي كالبركان ، صراخ جنوني كالعواء، انقضاض على أي قائم على الجانبين، بترول يراق، حرائق تشتعل، أبواب تحطم، بضائع تنتثر، تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة، الجنون نفسه بلا رقيب. ها هي القاهرة تثور ولكنها تثور على نفسها. إنها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها، إنها تنتحر، وتساءل في فزع ماذا وراء ذلك كله؟! واستفحل نشاط غريزته التي تتنبأ بالمخاوف، وأيقن أن مأساة حقيقية سيرفع عنها ستار الغد، ثمة خطر يتهدد صميم حياتنا، يتهددنا نحن لا الإنجليز، يتهدد القاهرة والمعركة القائمة في القنال والحكومة، ويتهدده هو باعتباره جزءا من هذه الحكومة. هذا الطوفان سيقتلع الحكومة والحزب وشخصه في النهاية. هيهات أن يعتصر هذا الخوف من قلبه، هيهات أن يتناساه رغم دوامة الجنون المحدقة به، كأنها أقوى من الجنون والخراب والنار. وإنه ليؤمن بغريزته بهذا إيمانا قاتلا. هي نذيره في أوقات الأزمات السياسية وقبيل الإقالات المتعددة التي أطاحت بحزبه عن كراسي الحكم المرة تلو المرة، لعلها النهاية. وستكون نهاية مميتة لم تسبق بمثيل لها من قبل.
ومضى يقترب من قلب المدينة في ذهول تام. صمم على أن يطلع على كل شيء. إنه مسئول، ومهما يكن من ثانوية مركزه نسبيا فهو مسئول ويجب أن يرى كل شيء بعينه، الضوضاء فوق كل احتمال، كأن كل ذرة في الأرض تصرخ. اللهيب ينطلق من كل موقع، إنه يرقص في النوافذ، يقعقع في الأسقف، يصفر في الجدران، يطير في الجو، والدخان يتربع مكان السماء. رائحة الحريق تقتحم الأنوف كعصارة جهنمية من الخشب والأقمشة وزيوت شتى. هتافات غامضة كأنما تنبثق من الدخان، غلمان يخربون كل شيء في نشوة وبلا مبالاة، جدران تنهار مفجرة رعدا. الغضب المكتوم، اليأس المضغوط، الضيق المتكتل، كل أولئك حطم القمقم وانطلق كزوبعة من الشياطين وقال لنفسه إن أشياء كثيرة يجب أن تحرق ولكن ليست القاهرة. أنتم لا تدرون ماذا تفعلون. إن فرقة كاملة من الإنجليز لتعجز عن إحداث عشر هذا الخراب، انتهت معركة القنال، خسرنا المعركة، قلبي المجرب بالمحن لا يكذب، الحكومة بلا جنود والنار تجري بلا عقبة. هل تلتهم النيران المدينة الكبرى؟ هل يمسي ثلاثة ملايين من البشر بلا مأوى؟ هل ينعق الخراب والمرض والفوضى ويرجع الجيش البريطاني ليعيد الأمن إلى نصابه؟ هل ينسى الناس في محنة الخراب الاستقلال والوطنية والآمال العريضة؟ إن القلق يدب في جذور قلبه كالنمل، وتسود الدنيا في عينيه اللتين زايلهما الطموح والمجد، وعند الأركان في الشوارع الرئيسية لبد رجال يحرضون: احرق ... خرب ... يحيا الوطن!
Página desconocida
تفحصهم باهتمام وحنق، ود لو يستطيع أن يقنعهم، ولم يمكنه التيار المتضارب من الوقوف قبالتهم لحظة. إنهم وجوه غريبة لا هي من حزبه ولا من الأحزاب الأخر. إنها وجوه غريبة تفوح منها رائحة الغدر، وخيل إليه أن في الجو رائحة عفنة أشد كآبة من الدخان، وزفر مع اليأس والذهول غضبا: احرق ... خرب ... يحيا الوطن!
يا للأوغاد! هل تذهب دماء القنال هدرا؟ وأرواح جنود البوليس وضباطهم؟ إن كل ما هو قيم وجميل يبدو أنه سيصير هباء، كيف السبيل إلى الوزارة ليقابل المسئولين؟ ليس في الطرقات إلا حطام سيارات، ليس في الجو إلا حمرة قانية تحتدم تحت سواد. ماذا يقول للفدائي الغاضب لقلة السلاح إذا اطلع على هذا المشهد الغادر الدامي؟ ما عسى أن يقول لو سمع نداء المؤامرة؟ - احرق ... خرب ... يحيا الوطن!
النار والخراب والدخان شعارات اليوم الفظيعة، ولكن الخيانة اللابدة في الأركان أفظع. وتلاطمته أمواج الثائرين الجنونية، فازدرد ريقه مرات بمعطفه الرصاصي الطويل، ولفظته. وقد اختل توازنه واصطكت بساقيه حقيبته وهو يشد على مقبضها بقوة مستميتة، وتلاشت من رأسه نقاط التقرير الذي كان عليه أن يرفعه إلى الوزير عن سير المعركة ومطالب الفدائيين. وفكر في المستقبل على ضوء العاصمة المحترقة فلاح لعينيه كالدخان، وتذكر وهو يميل إلى منعطف أقل وحشية حديث عضو الشيوخ المعمم الذي قال معلقا على إلغاء المعاهدة: انتهينا والأمر لله!
وغضب وقتذاك وهو يجلس لصقه بالنادي وصاح: هكذا أنتم أيها الشيوخ لا يهمكم إلا مصالحكم!
فقال له بتوكيد وبلهجة لم تخل من سخرية: هذه هي النهاية والأمر لله!
فارتفع صوته في حماس : ليس في كل ماضينا المجيد موقف كهذا.
فعبث الشيخ بشاربه، وقال بحزن: بلى، كأيام سعد، ولكنها النهاية.
شيخ مجرب طوى عهد الحماس ولكن ها هي القاهرة تحترق، وهؤلاء الغادرون في الأركان ما أكثرهم! واليد قصيرة إذا اقترنت ببصيرة، فليسكر صاحبها بنقيع الأحزان حتى يغرق. وفي الفضاء المكتظ بشظايا الخراب تجسد الحزن كأنه وحش قتيل. ونال منه الإعياء فقرر أن يشق الطريق إلى مسكنه، وخيل إليه أن دهرا طويلا سيمضي كالسلحفاة قبل أن يلمح مشارف الدقي.
2
عند جثوم الليل ذهب إلى سراي شكري باشا عبد الحليم على مسيرة ربع ساعة من مسكنه بحي الدقي. واستقبله الباشا في حجرة مكتبه، فجلسا على مقعدين متقاربين، وبدا الباشا في المقعد الكبير شبه ضائع بجسمه النحيل القصير، ولكن وجهه الصغير المستدير الناعم عكس اكفهرارا مغلفا بهدوء الشيخوخة، وأعلنت بدلته الرمادية الإنجليزية عن أناقة عريقة، واستقام طربوشه الأحمر الفاتح على رأس لم يبق فوق سطحه شعرة واحدة. تبودلت كلمات الترحيب في عجلة دلت على خطورة الموقف، وشعر عيسى بحرج أول الأمر لما علمه من تطلع الباشا إلى الوزارة، ولما تردد من شهر أو أكثر عن ترشيحه لها في أول تعديل وزاري. وأفدح الخسائر ما أصاب الجانبين الشخصي والعام في وقت واحد. ترى كيف يفكر هذا الشيخ الذي انتظر الوزارة طويلا؟ هذا الشيخ الذي هبط نشاطه في مكتبه إلى الحد الأدنى، والذي لم يعد له من عمل حقيقي سوى نشاطه باللجنة المالية بمجلس الشيوخ. رثى له كما يرثي لنفسه، ورنا إليه بنظرة مترددة كنوع من العزاء وهو يجلس على المقعد بقامته الرشيقة وقد استرد وجهه - بعد الراحة في بيته - رونق الشباب رغم جريان الهم في تقاسيمه. وقال الباشا وهو يدير خاتم الزواج حول بنصره: سنؤرخ بهذا اليوم طويلا.
Página desconocida
فقال عيسى متشوقا لمعرفة أي جديد: شهدت جانبا منه، يا له من يوم أسود!
وأحنى رأسه الكبير المستطيل حتى ترامت صفحة شعره المجعد أمام عيني الباشا، ثم رفعه مقطبا ليتطلع إليه بوجهه المثلث الذي ينبسط عند الجبين ويضيق رويدا حتى يرتكز على ذقن مدبب، وتساءل الباشا: إذن جئت والقاهرة تحترق؟ - نعم، كانت الجحيم نفسه يا باشا. - يا خسارة! ... وكيف وجدت الحال هناك؟ - الشبان في غاية من الحماس ولكنهم في حاجة ماسة إلى السلاح، أما مذبحة البوليس فقد هزت القلوب هزا. - معركة ظالمة مشئومة.
فقال عيسى بضيق: نعم، إننا ندفع دفعا نحو ...
وتلاشت الكلمة الأخيرة بين شفتيه في إشفاق فتلاقت أعينهما في كآبة، وسأله الباشا: ماذا يقول الناس عنا؟ - الروح الوطنية عالية جدا، أما أعداؤنا فيقولون إننا افتعلنا معركة لنشغل الناس بها عنا.
فانحرف جانب فيه في احتقار قائلا: سيجدون دائما ما يقولونه، أوغاد ... أوغاد!
وبينهما قام خوان، وفوق الخوان إبريق مفضض وطبق بسكوت، فطلب الباشا إلى عيسى - دون كلفة - أن يملأ قدحين، وراحا يحتسيان بلا لذة، وفي أثناء ذلك امتد بصر عيسى إلى صورة سعد زغلول المعلقة في الجدار فوق المكتب الفخم إلى يمين مجلسهما، وقال عيسى: تصور سعادتك أنني لم أستطع الاتصال بوزيري حتى الآن.
فربت الباشا على شاربه الفضي برقة وقال: قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟ .. لا أحد يدري، أين البوليس؟ .. لا أحد يدري، أين الجيش؟ .. لا أحد يدري؟ اختفى الأمن وزحف الشيطان. - ترى هل ما زالت النار مشتعلة؟!
مد الباشا ساقيه حتى طوقتا أرجل الخوان الأبنوسية فاشتد لمعان حذائه الأسود تحت سمت النجفة البلورية الرباعية الأذرع، وحانت من عيسى التفاتة إلى المدفأة المركبة في الجدار فأعجب بشفافية لهيبها الأحمر المتراقص وتذكر المجوس، ثم سرعان ما استملح الدفء الذي يهبه بجود، وجرت عيناه برشاقة على الأثاث الكلاسيكي المجلل بالوقار والفخامة وأحزان الوداع فتذكر مرثية أنطونيو فوق جثة قيصر، أما شكري باشا عبد الحليم فأجابه في كسل متعمد: آن للنار أن تنطفئ بعد أن أدت الخدمة المطلوبة!
فالتمعت عينا الشاب العسليتان المستديرتان، ثم قال مستدرجا محدثه إلى المزيد: لعله الغضب الأهوج.
ابتسم الباشا عن طاقم نضيد وقال: كان غضب، وكان وراء الغضب حقد، أما الغضب فأهوج حقا، وأما الحقد فذو خطة مرسومة. - وكيف يقع هذا ونحن في الحكم؟
Página desconocida
ضحك الباشا ضحكة جافة مختزلة، وقال: هذا اليوم كالليل المتراكم السحب، انتظر حتى نعرف أين الرأس وأين القدم.
وتطاول عيسى في توتر ثم زفر حتى أرعش أهداب غطاء الخوان المخملي، ثم تمتم متسائلا: الأحزاب؟
فانحرف إلى أسفل جانبا الفم الدقيق في ازدراء، وقال: هي أضعف من أن تدبر أمرا! - من إذن؟
تساءل وريبة ذات معنى تتجلى في عينيه، فقال الباشا: الأمر ليس بالوضوح الذي تظنه، قد تتسلل من السراي تعليمات معينة، قد يمرح جواسيس الإنجليز ويعيثون فسادا، ولكن يخيل إلي أن المد بدأ طبيعيا جدا ثم انتهز النهازون الفرص.
وبغتة ثارت المخاوف الراسبة في أعماقه فزلزلت قلبه فتساءل: وماذا عن مصير المعركة؟
عاد الباشا إلى العبث بشاربه الفضي، ورفع عينيه إلى السقف التي تضيء أركانه الأربعة أنوار متوارية وراء أجنحة مذهبة، ثم أعادها إلى وجه الشاب، وهما تعكسان غموضا وكآبة دون أن ينبس، فقال عيسى مطاردا القلق الذي يعذبه: الويل لمن تسول له نفسه العبث بجهادنا!
فلم يبد الحماس في وجه الباشا ولا التفاؤل واكتفى بأن قال: هذا يوم خطير له ما بعده.
فقال عيسى بصوت فاتر منهزم: للمرة الثانية في هذا اليوم أتذكر قول الشيخ عبد التواب السلهوبي إثر المعاهدة: «انتهينا والأمر لله.»
فابتسم الباشا قائلا: إننا لا ننتهي أبدا، فقد نسقط ولكننا نعود أقوى مما كنا.
ورن التليفون، وكان المتحدث حرم الباشا من الدور الأعلى، وتجلى الاهتمام في وجه الباشا إلى أقصى حد، وأعاد السماعة وهو يقول: أعلنت الأحكام العرفية.
Página desconocida
ومضت فترة ذهول حتى قطعها عيسى مغمغما: لعلها ضرورة للقبض على المجرمين.
لكنه رأى الباشا غارقا في التفكير الحزين فاستدرك متأسفا: أحكام عرفية في عهدنا! .. يا له من حدث مؤسف!
فقال الباشا: وهي لم تعلن من أجل عهدنا!
3
قال عيسى: صدر قرار بنقلي من وظيفة مدير مكتب الوزير إلى المحفوظات!
رفعت إليه أمه وجها نحيلا يشبه وجهه لدرجة كبيرة، وبخاصة في هيئته المثلثة ولكنه كثير الغضون، وللشيخوخة في عينيه وفمه ولحييه معاقل، ثم قالت: ليست المرة الأولى، لا تحزن، ستعود إلى ما كنت وأحسن، وربنا يصلح الحال.
كانا يقعدان في حجرة الجلوس ذات الشرفة المطلة على شارع حليم بالدقي، وكان زجاج الشرفة العريض مغلقا دفعا للبرد، وأغصان صفصافة تصعد وتهبط خلفه في حركة وانية، وامتدت وراء ذلك السحب وتكاثفت وتجهمت كالسياسة، وكانت الوزارة قد أقيلت، فأقصته الوزارة الجديدة فيمن أقصت من موظفين عن الوظائف الرئيسية، وبخاصة من كانت لهم علاقة بمعركة القنال، وتعد هذه الأحداث عادية أو شبه عادية عند الأم لكثرة حدوثها. وهي لا تصدمها صدمة اليأس لأنها ألفت أن يعقب المد جزر في صالح ابنها المحبوب. ورغم شيخوختها وأميتها فهي تتابع الحياة السياسية وتدرك من أمورها ما يسمح به موقف عيسى وما يؤثر في حياته جذبا ودفعا. هي به فخور وتؤمن بكل كلمة يقولها، وتعجب بما حقق من نجاح يفوق الخيال، خيالها وخيال المرحوم والده الذي عاش ومات موظفا صغيرا مغمورا، عيسى يشق طريقه رغم شلالات السياسة وزوابعها، يغطس أحيانا حتى يظن به الغرق، ولكنه يقب محرزا درجة جديدة من التفوق، وهذا المسكن الجميل بالدقي آية على نجاحه وصموده، وأثاثه متعة تبهر البصر، وفي مناسبات غير نادرة يشرفه بالزيارة باشوات ووزراء. وتتساءل المرأة وأصابعها المتحجرة تقدس الله على حبات المسبحة الحجازية: أما لهذه الحال من نهاية تستقر فيها على خير؟! وهل هي وليدة ظروف معقدة عسيرة على الفهم أو هي إصابات نافذة لأعين شريرة؟!
وقال عيسى في فتور: من العجيب أننا لا نكاد نستقر في الحكم عاما حتى يقذف بنا خارجه أربعا، ونحن نحن الحكام الشرعيون ولا حكام شرعيين غيرنا في البلد.
فقالت بإيمان وإصرار: المهم الصحة والعافية.
فابتسم ابتسامة ساخرة مريرة، ولكنه لم يشأ أن يعلن عن مرارته. وعلى العكس من ذلك قال بلهجة ذات دلالة: المهم أن أنتهز فرصة العزلة لأعنى بشئوني الخاصة.
Página desconocida
فاختلجت عيناها الكليلتان في اهتمام وقالت بارتياح صاف لأول مرة: نعم. تعجبني، آن لك أن تتزوج، فتاتك في الانتظار، وأبوها العظيم لم يضن بموافقته.
فضحك متسائلا: ألم يكن الأجمل أن أتزوج وأنا متمتع بالجاه والسلطان؟!
فابتسمت عن طاقم لاح بريقه كياسمينة منسية في حديقة اقتلعت أشجارها وقالت: مركزك كبير، وهم يعلمون أنك مرشح لأعلى المناصب، وعلي بك سليمان يفهم الأمور جيدا، ثم إنه قريبك. وكان يحب المرحوم والدك أكثر من أي شيء في العالم.
هذا كله حق، علي بك سليمان ابن خال والده. وأسرته تمثل الغصن المورق في شجرة أسرته الجرداء، غني من سلالة غنية، ومستشار خطير، فضلا عن أنه من رجال السراي. وعندما يدعم نفسه بمصاهرته سيجد في مرفئه استقرارا إذا عبثت عواصف السياسة بقاربه. الخسائر التي تجيئه من الحزب أطول عمرا من مكاسبه. وسلوى فتاة ممتازة حقا، لا وجه للمقارنة بينها وبين ابنة عمه التي سعت أسرتها طويلا لتزويجها منه، وأم سلوى امرأة ممتازة أيضا، وهي ميالة للمحافظة على ندرة ذلك في طبقتها. ومن حسن حظه أنها حسنة الظن جدا بمستقبله، حتى تخيلته وزيرا أقرب مما يتصور. وعندما فاتحها في مطلب زواجه من كريمتها صارحته قائلة إنها لا يهمها المال ولكن يهمها المركز، أوليست الدرجة الثانية امتيازا حقيقيا لشاب في الثلاثين من عمره؟ وهي لها تقدير خاص للشبان المتعلمين في الخارج، وهو وإن لم يتعلم في الخارج إلا أنه خدم عاما في سفارة لندن، وسافر ملحقا بسكرتارية وفد المفاوضات. وطاب له أن يستحضر صورة سلوى بجمالها البلقاني المغري كالكريم شانتيي، واعتدها منة من الله أنها ليست من فتيات النوادي ولا من معتنقات فلسفة العصر. وقال لوالدته: تصوري أنني لم أكن رأيتها منذ الصغر! - هذا تقصير منك. انهماكك في العمل ليس بالعذر الكافي؛ فمن كان له قريب كعلي بك سليمان وجب عليه أن يوثق علاقته به. - كنت ألقاه في الخارج. لم أكن أفكر في الزواج.
وهو قد طلب يدها من والدها وليس له عن صورتها إلا فكرة غامضة غاية الغموض، ولكنه وجدها آية، وسرعان ما أحبها من كل قلبه، وتهيأ لاختيار الألفاظ المناسبة للإفصاح عن عواطفه الجديدة أمام أمه. ولكن دخلت أم شلبي لتعلن عن حضور حسين ابن عمه لزيارته. وتجاذبت قلبه عواطف متناقضة، ولكن غلب عليه النفور الخليق بمن يكابد حسرات الهزيمة.
وقدم حسن علي الدباغ منطلق الأسارير، ربعة متين البنيان، مربع الرأس، عميق الملامح، عريض الذقن، ويمتاز بعينين صافيتين ذكيتين، وأنف حاد مدبب، قبل يد امرأة عمه، وصافح عيسى بحرارة لم تخفف من نفوره، ثم جلس إلى جانبه وهو يطلب الشاي. هو على وجه التقريب يماثل عيسى عمرا، غير أنه في الدرجة الخامسة، على حين دفعت السياسة عيسى إلى الدرجة الثانية، ومع أنه من حملة بكالوريوس التجارة إلا أنه لم يجد عملا إلا في القرعة العسكرية، وسألته أم عيسى: كيف حالكم؟ - بخير، أمي بخير وأختي بخير.
ازداد عيسى نفورا عند ذكر الأخت، لا لشيء كريه فيها، ولكن لكونها أخت هذا الغريم والمنافس القديم. كانا متنافسين ومتلازمين وتبادلا عواطف حادة مؤلمة. السياسة وحدها التي حسمت ما بينهما من أسباب التنازع، فرفعت عيسى إلى مركزه المرموق، على حين تدرج حسن ببطء في طريقه الوعر، وفترت العلاقات بعض الشيء، ورسبت العواطف في الأعماق، ولكن حسن لم ينقطع عن ابن عمه أبدا بل تمنى لو يزوجه من أخته. ومن عجب أن حسن فكر جادا في الذهاب إلى قريبه علي بك سليمان ليطلب منه يد ابنته عقب عيسى بأيام، وضحك عيسى ازدراء عندما نمى إليه الخبر، وقال لنفسه: «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.» ولكنه كان يضمر له إعجابا رغم نفوره منه لقوة شخصيته ووفرة ذكائه، وقال حسن بأريحية: سمعت عن نقلك إلى المحفوظات، لا تحزن، أنت رجل مخلوق للشدائد.
فدخلت الأم في الحديث قائلة بحماس: لا داعي للحزن، هذا ما أقوله دائما، وهؤلاء الناس لماذا يتركون الكبار وينتقمون من الأبناء!
وتعقد عيسى بمواساة حسن فقال باعتزاز: نحن قوم اعتدنا السجن والضرب، فما أهون عقاب اليوم!
ومضى حسن يرشف الشاي في سعادة وهو يبتسم ويقول بلهجة تنذر بالهجوم: أنتم تسجنون وتضربون حقا ولكن الآخرين يتاجرون.
Página desconocida
وأدرك عيسى من يعنيهم بقوله «الآخرين» فتحفز لمعركة. وغادرت الأم لتصلي المغرب، وقال عيسى منذرا : أنت تعلم بمنزلة الآخرين في نفسي فحذار!
فقال حسن بتحد باسم: إن كل شيء ينهار بسرعة، ومن الخير أن ندعه ينهار، هذا القديم كله يجب أن يجتث من جذوره!
فتساءل عيسى في حدة: وقضيتنا الوطنية من يبقى لها؟ - أتظن أن هؤلاء الشيوخ المخرفين الفاسدين هم الذين سيحلونها؟ - أنت لا تستطيع أن تراهم على حقيقتهم. - الحقيقة أنني أراهم على حقيقتهم. - أنت تردد باستمرار أقوال الصحف المعادية!
فقال بثقة مثيرة للحنق: أنا لا أومن إلا بالواقع، وعلى الشباب أن يعتمد على نفسه!
فدارى عيسى حنقه قائلا: دعوة هدم خطيرة، لولا الخونة لأوقفنا الملك عند حدوده الدستورية ولحققنا الاستقلال.
أتى حسن على القدح وابتسم بغية تلطيف الجو، ثم قال برقة: أنت رجل مخلص، وإخلاصك يحملك على الولاء لأناس لا يستحقون الولاء. صدقني، لقد عم الفساد، لا هم لأحد من أصحاب السلطات اليوم إلا الإثراء المحرم، إننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟!
وترامى إليهما صوت الأم وهي تكبر، وخفف عيسى من حدته مراعاة للضيافة، ولم تكن قوة تستطيع أن تحمله على التسليم بما يقول غريمه ولو معاندة له، ولكن اجتاحه حزن عميق، الدنيا تتغير، وآلهته يتفتتون بين يديه. وحسن من جانبه غير الحديث، فتكلم عن خسائر الحريق وتقدير التعويضات وموقف الإنجليز والاعتقالات المستمرة، ولكن ما لبث أن عاد يقول: دلني على ركن واحد لم ينضح بالفساد؟
ما أبغض أفكاره! محنق حاد مثير للكدر، وحادثة قديمة برزت في وعيه بلا مناسبة، وكان بصحبة أبيه في زيارة لبيت علي بك سليمان، فوجد نفسه وحيدا في حجرة السفرة، ولمح قطعة شيكولاتة في درج نصف مفتوح فدس يده فسرقها. حدث ذلك منذ حوالي ربع قرن، فيا للذكرى، أما حسن فلا يكف عن الهجوم كعادته دائما فتبا له. وسأله بفتور: ماذا تريدون؟ - دما جديدا طاهرا. - من أين؟
فضحك عن أسنان لؤلؤية صارخة بالصحة والعافية وقال: البلد لم يمت بعد.
فتساءل عيسى بحدة: دلني على ركن يستحق الثقة غير حزبنا!
Página desconocida
رماه بنظرة ساخرة دون أن ينبس، وعلا صوت العجوز في الخارج بسيل من الأدعية، فعاد عيسى يتساءل: ما العمل إذن؟ - نؤيد الشيطان إذا تطوع لإنقاذ السفينة. - لكن الشيطان لا يتطوع لإنقاذ شيء.
ونظر في غير اكتراث إلى السماء الغارقة في الدكنة ليريح قلبه من نظرات خصمه، فقال حسن: يجب أن يذهب الإنجليز والملك والأحزاب وأن نبدأ من جديد.
فضحك عيسى في مرارة ثم قال: حريق القاهرة أثبت أن الخونة أقوى من الحكومة والشعب معا.
ورجعت الأم وهي تقول: ألا يوجد حديث آخر؟
بدا خداها محتقنين وشبه متورمين، واتخذت مجلسها السابق وهي تسأل حسن: وأنت متى تتزوج؟
وتذكر عيسى تقدمه الجريء لخطبة سلوى فاشتد امتعاضه. فقير لكنه جريء، وطمع - ولا شك - في مالها كآخر وسيلة لانتشاله من متاعبه. أما حسن فأجاب: الأحداث الهامة تقع فجأة وبلا سابق إنذار. - وأمك متى نراها؟ - آه، مسكنكم بعيد عن روض الفرج، ولكنها ستجيء حتما.
ثم سأل عيسى وهو يتهيأ للقيام: أين تذهب هذا المساء؟
فأجاب بتحد ولكن في هدوء: إلى النادي.
فنهض حسن وهو يقول: أستودعك الله .. وإلى اللقاء!
4
Página desconocida
يوم الخطبة في قصر علي بك سليمان بهليوبوليس يوم يستحق الذكر، لم يكن ثمة فاصل حقيقي بين الجنسين، فقد احتلا بهوين متصلين بمدخل مشترك يعد في ذاته تحفة زخرفية، وأم عيسى وسلفتها أم حسن جلستا بين المدعوات في البهو الأحمر، وجلس في البهو الأخضر - بين المدعوين من الأهل والأقارب - أصدقاء عيسى الحميمون سمير عبد الباقي وعباس صديق وإبراهيم خيرت وابن عمه حسن، على حين استقبل البهو الكبير المتصل بالمدخل كبار المدعوين من أصدقاء علي بك سليمان وجملتهم من رجال السراي أو من رجال القضاء، كذلك معارف عيسى من رجال الحزب، وانكمشت أم عيسى وسلفتها تحت غمرة الأنوار الساطعة. فهذه الدنيا لا ينتميان إليها بسبب. ورغم الفستان النفيس التي تزينت به أم عيسى، ورغم وقار الشيخوخة، ورغم ضعف الحواس، وبخاصة البصر والسمع الذي أوهن انفعالها بالجو، رغم ذلك كله فقد لاذت بالانطواء ولم تحاول في مجلسها أن تمارس أي مظهر خليق بأم العريس، وعنيت سوسن هانم حرم علي بك بمؤانستها عناية خاصة لتذهب عنها الوحشة؛ فهي تحبها من قديم أو مذ كانت عروسا لعلي بك سليمان، وحبها للعجوز كان ضمن الأسباب التي جعلتها توافق على قبول عيسى، وسوسن هانم في أواسط الحلقة الخامسة ولكن لم يبق من جمالها إلا مسحة بسبب مرض الكبد المزمن وسوء حالة الكلية، ولكن طولها وعرضها وبهاءها الفطري أورثتها مزايا باهرة لا تبيد، وجعلت تقول لأم عيسى في لطف بديع: لا تنسي أنك في بيتك.
وهجم حسن على أصدقاء عيسى في مناقشة سياسية رغم معرفته البسيطة بهم. وتابعه عيسى من بعيد بعض الوقت وكان يظن أنه سيحجم عن شهود الحفل، فعجب لشأنه واقتنع بأنه يستطيع أن يتحدى الزمن نفسه إذا أراد، ولكن عيسى لم يستقر بمكان.
وخص مدعويه من الحزب بأخص مجاملاته، ولم يكن الجو في البهو الكبير يخلو من حرج، فقد واجه رجال الحزب رجال السراي، ومع أن البعض ربطت بينهم مودات قديمة إلا أن الأغلبية من الطرفين تجاهلت بعضها البعض، ولعب علي بك سليمان دوره بكل لباقة، ورحب بالجميع على قدم المساواة، رغم أنه هو نفسه من رجال السراي، كان محاميا وسطا حتى رشحته السراي لوظيفة مستشار في إحدى الحركات القضائية، ولم يعرف بلون حزبي ثابت، ولكنه اكتسى بشتى الألوان كقوس قزح، ثم انضم إلى حزب الاتحاد في الوقت المناسب، وسار في الركب الملكي حتى اعتلى أسمى مركز في القضاء، ومع أنه يقترب من الستين إلا أنه يتمتع بصحة وحيوية نادرتين. طويل القامة في استقامة رياضية بديعة، وعيناه السوداوان تحت حاجبيه الغزيرين الأسودين يهبانه جاذبية لا تقاوم، ودعم حياته في مطلعها بمصاهرة آل همت - أسرة سوسن هانم - فمد رقعة أرضه وأصل الأرستقراطية في ذريته، وراح يضحك ويداعب مدعويه جميعا قائلا: من تفرقهم السياسة فلتجمعهم الأفراح!
وهمس شكري باشا عبد الحليم في أذن عيسى: ألا ترى أن قريبك يعترف في دعابته بأن رجال الملك - والملك بالتالي - ليسوا فوق الأحزاب؟!
ومال الشيخ عبد الستار السلهوبي برأسه نحوهما ليسمع الهمس في اللحظة المناسبة، ثم ضحك ضحكة صامتة وهمس بدوره: إذن فلتكن الأحزاب فوق الملك!
ومد بصره في حذر إلى صورة الملك المعلقة بالجدار الأوسط للبهو، فابتسم عيسى قائلا: لا تخف، فإن اللعنات تنصب عليه في المقاهي جهرة.
ولكن مرارة السياسة ذابت في شربات الحفل، عيسى نفسه - وهو مخلوق سياسي قبل كل شيء - أسلم نفسه بكليته إلى لذة الوجدان. ازين كأحسن ما يكون، وتجلى وجهه ذو الهيئة المثلثة في أنقى مظهر، وصفت عيناه المستديرتان، ولم تكن فرحته بمصاهرة المال والجاه لتذكر إلى فرحة قلبه بعروسه، وأمله الصادق في حياة هانئة حقا، وغد مفعم بالمسرات، ومستقبل واعد بمجد حقيقي، وتناسى حريق القاهرة وإقالة الوزارة ونقله إلى المحفوظات، والفتور المحزن الذي اجتاح الحماس الشعبي، والتقاعس الذي طوق الجهات الرسمية نحو الأماني الوطنية والكآبة الدكناء التي خضبت الآفاق رغم انتشاء الحياة بمباهج الربيع. وكان عليه ألا يستقر في مكان أكثر مما يجب، الأمر الذي وافق رأسه المشتت بالانفعال. ومضى إلى سوسن هانم، فتفقدا البوفيه معا وألقيا نظرة أخيرة على صورته المكتملة الزاخرة بالألوان، ثم قصد إلى البهو الأخضر فجلس بين أصدقائه الأعزاء الذين ود لو يبقى بينهم حتى تدعوه اللحظة الحاسمة. وقال إبراهيم خيرت وهو يسدد النظر إلى البهو الأحمر: ما أكثر اللحوم البيضاء وما أجملها!
فتساءل عباس صديق مازحا: هل تقصد الحاجة أم عيسى؟
ونظر عيسى إلى أمه في فستانها النفيس المحتشم فارتاح إلى تفوقها على أم حسن في الوقار رغم وسامة الأخيرة، وشكا عباس صديق إليه حسن قائلا: ابن عمك أعنف من حريق القاهرة!
فضحك حسن طويلا، وعاد عباس يقول له بنبرة الناصح: تزوج أنت أيضا وسوف تقتنع بأن الحزبية ليست أسوأ الأشياء.
Página desconocida
وإذا بسمير عبد الباقي يقول: الحالة مضطربة جدا!
فأدرك الجميع أنه يتكلم في السياسة، وقال عيسى: هذا أمر محقق.
فقال سمير بتوكيد: لكنها مضطربة أكثر من الظاهر المعروف.
فقال حسن ساخرا: ربنا يكرمك! - يقال إن الملك سيستأجر جنودا مرتزقة لأنه لم يعد يثق بأحد!
فقال عباس صديق ضاحكا: ليس أدل على سوء الحال من قول أحد الأحرار الدستوريين إنه يفضل عودة الوفد على تفسخ الوضع الراهن!
وقال حسن بإصرار: أسأل الله المزيد من الاضطراب والتفسخ!
دعي عيسى إلى الداخل لإعلان الخطبة، فتعلقت به الأبصار وساد الصمت، وصمت حسن أثقل الصمت، وانطلقت زغرودة سمعها كل من في القصر، وطافت سلوى بين أمها وخطيبها بجميع الحاضرين قبل أن تتخذ مجلسها المجلل بالورود في البهو الأحمر. جميلة حقا. عيون أبيها ركبت في وجه بدري شفاف البياض. واقتبست من أمها طولها الفارع البهي، وعنقها الطويل النحيل، ولكن انبعثت من عينيها نظرة رطيبة طيبة توحي بالوداعة والخلو التام تقريبا من الذكاء والحرارة، وجعلت تلتفت نحو أمها بصفة مستمرة كأنما تستلهمها الإرشاد والمعونة أو أنها تعاني في أعماقها بوادر أزمة الانفصال عنها في خوف وعدم ارتياح، أما فستانها فقد تحدث المدعوون عنه طويلا.
وتواصل الحفل ففني جميع ما اكتظ به البوفيه من الشطائر والحلوى والأشربة، وأخذ المدعوون في الانصراف محملين بعلب الحلوى، ثم خلت حجرة الجلوس المطلة على شارع البارون بفراندا ضخمة للخطيبين وسوسن هانم، وانتشر الليل في جو ربيعي صاف، وامتدت عمالقة الأشجار المحدقة بالبستان مترنحة سابحة في أمواج الضوء الساطع المتدفق من المصابيح الكهربائية، وهبت نسائم مرطبة ببرودة حنونة منعشة.
وقال عيسى: إني أعتبر اليوم غاية سعادتي.
فهمست باسمة في حياء: أشكرك .. وأرجو أن أعرب لك عن مشاعري عندما أجد الشجاعة الكافية.
Página desconocida
وتفحصتهما سوسن هانم بسعادة وهي تقول: ستتم سعادتنا بزواجكما في يوليو بإذن الله.
وتساءل عيسى: متى يتاح له عناقها؟! وثمل بسعادة دسمة لحد القلق، وقال لنفسه إنه يترسم خطى علي بك سليمان، وسوف يفوز في النهاية بمركز كمركزه، ولم يكن ذاق الحب إلا مرة وهو تلميذ بالثانوية، أحب يومذاك ممرضة على محطة الترام الصباحية واندفع بجنون، ولكن والده شكمه وروضه. ها هو اليوم بعد مرور حياة غير قصيرة، وبعد أن امتحنته الدنيا بالسجن والضرب والمطاردة والرفع والخفض، ها هو يخطب بعد انقطاع عن رؤية خطيبته لا يقل عن عشرة أعوام، ولكنه في الوقت نفسه عرف الحب وأترع برحيقه، وكان يقبض بيديه على سعادة مضمونة، وقال لها: أنت يا عزيزتي صورة من والدتك، ولذلك فخيالي عاجز عن تصور سعادتي.
فضحكت سوسن هانم قائلة: أرجو أن تذكر كلامك هذا للمستقبل، فإنه يقال إننا - الحموات - لا نسمع الكلام الجميل إلا في هذه المناسبة.
وضحكت سلوى ضحكة رقيقة جدا، فازداد عيسى سعادة وملكته فجأة رغبة في التباهي فسألها: ترى هل يضايقك العيش في الخارج لو دفعتنا الظروف مستقبلا للعمل في السلك السياسي؟
فأجابت عنها أمها قائلة: سلوى متخرجة في المدرسة الألمانية.
فابتسم معلنا عن ارتياحه، ثم غمغم: لتكن الحياة سعيدة، شهدنا في حياتنا آلاما حقيقية، فلتكن سعادتنا حقيقية أيضا!
5
قال عيسى لسلوى: في حياتنا سر يجب أن تعرفيه.
وهما يجلسان في الفراندا المفعمة بعبير الورد والقرنفل، والمغيب يقترب نصف مسدل الجفنين، والشمس تسحب أهدابها من هامات القصور، والربيع يتنفس شبابا رائقا، وهما في خلوة خلقها اختفاء سوسن هانم إلى حين، يشربان الليمون من دورق بلوري على ترابيزة من القش الملون. وغمغمت سلوى متسائلة: سر؟!
فارتفع نصفه الأعلى ابتداء من حاجبيه المستقيمين، كما يفعل وهو يتأهب للحديث أو للخطابة، ثم قال: نعم، تظنين أنني تقدمت لخطبتك دون سابق رؤية، ولكنني في الحق أحببتك حبا عظيما قبل عشرة أعوام، كنت وقتذاك في العاشرة وكنت أنا في العشرين، وكنا نقيم في بيت والداتي بالوايلية، وأنتم كنتم في الهرم، وكان والدك - المحامي وقتذاك - على صلة وثيقة بأبي ويتبادلان الزيارة كثيرا، وكنت جميلة جدا كما أنت اليوم، فوقعت في غرامك، ألا تذكرين تلك الأيام؟!
Página desconocida
فتكتمت ضحكة بالعض على باطن شفتها وقالت: قليلا، أذكر أنني رأيت صواريخ مولد النبي مرة عندكم، ولكني لا أذكر ذلك الغرام.
فضحك وهو يطوح برأسه إلى الوراء في حركة خاصة مقلدا دون قصد أحد باشوات الحزب، وقال: ولا أحد يذكر، ولكن المرحوم والدي ضبطني مرة وأنا أحدق فيك بشغف وأخرى وأنا أقبلك! - لا! - نعم .. قبلة بريئة تناسب طفولتك. - لكنك لم تكن طفلا . - لكنك كنت طفلة! ما علينا، قال لي والدي عند ذلك: اجتهد وأنت تتزوجها، كن شابا لائقا بها وأنا أزوجك منها! فسألته عن مدى اللياقة المطلوبة، فقال لي: إن علي بك سليمان قريبه وحبيبه ولكن يجب أن تحوز القبول عند سوسن هانم، وهي غنية لا تهمها الثروة، ولكنها تريد لكريمتها شابا ناجحا، قاضيا مثلا، والحق أن كثيرين بهرهم صعودي السريع حتى صرت من كبار الموظفين، بل ومن رجال السياسة في هذه السن المبكرة، ولكن أحدا لم يفطن إلى البواعث الحقيقية وراء ذلك النشاط الفذ.
فبسطت بحركة رشيقة مروحة عاجية صغيرة، حتى تكشف صفحتها عن صورة بطة في الماء، وقالت في سخرية وديعة: هذا رغم أنك لم تزرنا طوال عشرة أعوام!
فقال جادا: لا تنسي أن والدك اختير مستشارا بعد ذلك، فعمل أعواما ما بين أسيوط والإسكندرية، ولا تنسي انغماسي في السياسة بعد ذلك.
فقالت وهي تبتسم في دلال: وكيف عرفت أن العشرة الأعوام لم تصنع مني شيئا رديئا؟ - قلبي! أنا أومن بشعور القلب، ولما رأيتك تضاعف إيماني به، وعليه فخطبتنا في ظاهرها تقليدية، ولكنها تطوي في أعماقها قصة حب، وإن يكن حبا من جانب واحد.
وهمست وهي تنظر بعيدا: على أي حال لم تعد كذلك!
ضم ذقنها بين أصابع يده، وأدار وجهها بلطف، ومال برأسه حتى تلاقت شفتاه المشوقتان بشفتيها الرقيقتين في نبضة متبادلة، وارتد وهو يبتسم في سعادة حقيقية، وراح ينظر إلى مجامع أصص الزهور في الفرندا بعينين غمرتهما العاطفة كما يغمر الضباب زجاج النافذة. والقصة بعد ذلك ليست اختلاقا على طول الخط، طالما أعجب بجمالها في ذلك العهد البعيد، وهو وإن لم يكن نسيها عشرة أعوام إلا أنه يحبها الآن حبا حقيقيا، فما الضير في سد الفجوة بكذبة بيضاء تشع حكمة وتضفي على علاقتهما جمالا ساحرا! ولكن المحبوبة لا تريد أن تنفصل عن أمها، كأن القابلة نسيت أن تقطع حبلها السري في حينه، وهو يتوجس من ذلك خيفة أحيانا، ويتطلع بإلحاح إلى اليوم الذي يتم له امتلاكها حقا، ونظرة الاسترشاد أو الاستئذان التي توليها إياها عند مقاطع الحديث تقلقه بعض الشيء، ولكن سعادته اكتسحت ذلك كله كما تكتسح الموجة العالية نفايات الساحل ثم تتركه أملس صافيا، وفقرها المدقع في تجارب الحياة العادية أسعده. ولعله تملق شعوره بالاستعلاء، كما لذه حنينها الدائم إلى الموسيقى واطلاعها الغني على الرحلات، وقال: حبك كنز ثمين لا يقدر بثمن، وعندما جئت لمقابلتك أول مرة سألت الله أن أقع من نفسك موقعا حسنا. - كنت أراك قبل ذلك في الصحف.
فقال بارتياح: لو توقعت ذلك في حينه لاستعددت استعدادا أكثر عناية للتصوير. - هذا لا يهم البتة، ولكن سمعت أيضا عن «شقاوتك» في السياسة.
فضحك مطوحا برأسه إلى الوراء مرة أخرى على طريقة ذلك الباشا، وقال: ترى ما رأيك في ذلك؟ .. أنا صديق عتيد لهراوات البوليس، وزنزانات الأقسام، والرفت، والمطاردة، ترى ما رأيك في ذلك؟!
فعضت باطن شفتيها مرة أخرى وقالت: بابا يقول ...
Página desconocida
وسرعان ما قاطعها: لا داعي للاستشهاد ببابا في هذا الشأن، أنا أعرف مقدما رأيه، فهو من رجال الجانب الآخر، وأنت لا تهتمين إلا بالموسيقى وكتب الرحلات .. عليك من الآن فصاعدا أن تعدي نفسك لدور زوجة الرجل السياسي بكل معنى الكلمة.
ورجعت سوسن هانم إلى الحجرة، فوقفت أمامها وهي تقول بلهجة من يفضي بنتيجة مسعى قام به: ليكن الأمر كما تشاء.
فوقف الشاب ببدلته الشاركسكين الناصعة البياض وهو يقول: شكرا يا هانم.
ثم جلسا وهو يستطرد: ليكن الزواج إذا في أغسطس، ثم نسافر إلى أوروبا بعد ذلك مباشرة.
وتلاقت النظرات في ارتياح، وغاب آخر شعاع من الشمس، وربت عيسى على ركبتيه فجأة، ثم قال مخاطبا سوسن هانم: كنت أحادث سلوى عن غرامي بها منذ عشرة أعوام.
فرفعت المرأة حاجبيها دهشة، وقالت لابنتها محذرة: لا تصدقي كل شيء يا سلوى، خطيبك سياسي وأنا أدرى بهؤلاء السياسيين!
وأغرق ثلاثتهم في الضحك.
6
كان عيسى يتناول فطوره حين توقف الراديو عن إرساله المعتاد ليذيع بيان الجيش في صباح 23 يوليو.
لم يفقه معنى ما تلقته أذناه بادئ الأمر، ثم وثب من مجلسه ليحملق في الراديو وهو يلعق شفتيه. وترادفت الكلمات الغريبة لتصنع جملا مذهلة سرعان ما تنفجر الدهشة عند استيعاب معانيها، ودار رأسه كمن يخرج بغتة من ظلمة عمياء إلى نور باهر، وراح يتساءل: ما معنى هذا! ما معنى هذا؟!
Página desconocida
ومضى إلى حجرة الجلوس، فجلس إلى جانب أمه وهو يقول: أنباء خطيرة جدا!
رفعت العجوز إليه عينيها الضعيفتين، فقال: الجيش يتحدى الملك!
وهضمت المرأة الخبر بعسر شديد، ثم تساءلت: كأيام عرابي باشا؟!
آه .. كيف لم يرد هذا المعنى على ذهنه؟! حقا إنه في نهاية من الاضطراب، وتمتم: نعم، كأيام عرابي.
فسألته بقلق: وهل تقوم الحرب؟
آه .. ماذا سيقع حقا؟! ليس في القاهرة الآن شخصية واحدة يمكن الرجوع إليها لاستقاء الأنباء، وإذا كان هو لم يقم في إجازة، فما ذلك إلا لأنه أجل إجازته لحين سفره إلى الخارج. - كلا، للجيش مطالب، وسوف تتحقق مطالبه، هذا كل ما في الأمر.
وسافر إلى الإسكندرية، ها هو الطاغية يتلقى صفعة فولاذية، لتكن صفعة بقوة طغيانه، فلتكن قاضية، وليحترق باجترار آثامه. انظر إلى عواقب غيك وحماقتك، ولكن أين تقف هذه الحركة؟! وما الدور الذي سيلعبه الحزب؟ الأمل أحيانا يسكره، وأحيانا يدوخه إحساس كالذي يخالج الكلاب قبيل الزلازل، ووجد عبد الحليم باشا شكري في أثنيوس مرتديا بدلة بيضاء من الحرير الطبيعي، مغروزا في عروة جاكتتها وردة حمراء قانية، وأمامه قدح من البيرة الاستوت، لم يبق فيها إلا رغوة كاليود، وقال له الباشا وهو يضيق عينيه في فتور: دعك من مطالب الجيش، الحركة أكبر من ذلك، المطالب يمكن أن تتحقق اليوم ثم يشنق مقدموها غدا، كلا يا أستاذ، ولكن من الصعب جدا التكهن بما وراء ذلك. - أليس عند سعادتك أخبار؟ - الحوادث أسرع من التنبؤ، كان يجلس مكانك منذ ساعة مستر جودوين الصحفي الإنجليزي، وقد أكد لي أن الملك قد انتهى.
فاستكان للدهشة الطاغية دقيقة ثم تساءل: أليس لنا علاقة بهذا الأمر؟ - لا يمكن الجزم بشيء من هؤلاء الضباط؟ ولا تنس أن زعماءنا في الخارج. - قد يكون لسفرهم علاقة بالحركة.
وأبى وجهه أن يتفاءل، واكتفى بأن قال بصوت لا يكاد يسمع: قد!
وأكثرا من الكلام وأعاداه دون أن يضيفا إليه جديدا، ولكنه انقلب غاية في ذاته وجدا فيها متنفسا عن القلق.
Página desconocida
وفي فيلته بسيدي بشر، استلقى علي بك سليمان على كرسي خيزران هزاز، شاحب الوجه، مغضن الجبين بعبوسة ثابتة، وفي عينيه نظرة مريضة خسرت جمالها الطبيعي وكبرياءها المأثور، ولما رآه مقبلا تطلع إليه باهتمام شديد وسأله بلهفة: ما وراءك؟
وجلس عيسى وهو يشعر بثقل نظرات الرجل وزوجه وكريمته، ثم قال بهدوء ظاهري واعتزاز خفي بما سيضيفه إلى الموقف من جديد: الملك انتهى.
وانطفأ آخر قبس في عيني الرجل، وألقى نظرة عليلة على البحر المعربد من خلال الشرفة، ثم تساءل: وأنت .. أعني أنتم .. هل أنتم موافقون؟
استمتع بلحظة اعتزاز كاذب، تأرجحت فوق جرح أليم، وتمتم: الملك عدونا التقليدي.
اعتدل البك في جلسته، وسأله: هل للحزب علاقة بما يحدث؟
ود لو يستطيع أن يجيب بالإيجاب أمام الأعين المحدقة، ولكنه قال وهو يداري تعاسته: لا أدري عن هذا شيئا. - لكنك تستطيع أن تدري بلا شك. - ولا أحد ممن قابلتهم يدري، وزعماؤنا الحقيقيون في الخارج كما تعلم سعادتك.
فنفخ الرجل بضيق شديد، وقال: نسينا بسرعة درس عرابي، وعما قليل سيزحف الإنجليز.
فتساءل عيسى قلقا: هل من أنباء عن ذلك؟
فلوح الرجل بيده ساخطا، على حين سألته سوسن هانم: ألا يحسن أن نذهب إلى العزبة؟
فأجابها بفتور: لا أحد يدري ما هو الأحسن.
Página desconocida
وانطلقت الأحداث حتى غادر الملك البلاد، وشهد عيسى ذلك في الإسكندرية، ورأى بعينيه تحركات الجيش، كما رأى المظاهرات الصاخبة، وعانى طوال الوقت من عواطف متضاربة أطاحت به في دوامة ما لها من قرار، شعر بفرحة كبرى عزت على التصديق والتأمل، وشفت صدره من آلام المقت المكبوت، ولكن هذه الفرحة لم تنطلق إلى ما لا نهاية، وإنما ارتطمت بسحائب دكناء كدرت بعض الشيء صفاءها، أهو رد الفعل الطبيعي لكل شعور عنيف؟ أم هو رثاء تجود به النفس المطمئنة أمام جثة غريمها الجبار؟ أم إن تحقيق هدف من أهدافنا الكبرى يعني في الوقت ذاته زوال سبب من أسباب حماسنا للوجود؟ أم إنه عز عليه أن يتحقق هذا النصر الكبير من غير أن يكون لحزبه الفضل الأول فيه؟
وهكذا وجد زوار عبد الحليم باشا شكري في قصره بزيزنيا، كانوا مزيجا من السرور والوجوم والقلق، وراح الباشا يقول: سبحان من له الدوام.
وبطريقته الخطابية في الحديث، قال الشيخ عبد الستار السلهوبي، عضو الشيوخ: انتهى فاروق، ولكننا نريد أن نطمئن على أنفسنا.
وتمطت موجة من الضحك العصبي الخالي من السرور الحقيقي، غير أن عيسى تساءل، وهو يجلس إلى جانب أصدقائه سمير عبد الباقي، وعباس صديق، وإبراهيم خيرت: ماذا عن المستقبل؟
فأجابه عبد الحليم باشا شكري متجاهلا الغرض الحقيقي من السؤال: سيكون خيرا من الماضي بلا ريب!
فقال الشيخ عبد الستار السلهوبي: لعله يسأل عن مستقبلنا نحن!
فقال الباشا بوجه غير معبر كما يجدر بسياسي عتيق: سيكون لنا دورنا بغير جدال.
واهتز جذع الشيخ عبد الستار كالمقرئ في الفترات المتخللة للتلاوة، ثم قال بعنف: هذه الحركة ليست في صالحنا .. إني أشم الخطر على بعد آلاف الأميال، يوم ألغيت المعاهدة خسرنا الملك والإنجليز، واليوم سنخسر كل شيء.
فقال سمير عبد الباقي: نحن آخر من يتوقع الخطر، أو هذا ما ينبغي.
وقال إبراهيم خيرت: إن ما حدث اليوم هو ما كنا نفعله لو ملكنا القوة اللازمة.
Página desconocida
فقال الشيخ عبد الستار ساخرا: ولكننا لم نفعله يا سي عمر!
وتجمع الماضي في خيال عيسى كقبضة عنيفة مفعمة بالجلال والحزن، وحدثه قلبه بأن ذلك الماضي يتبلور الآن في صورة فقاعة لن تلبث أن تنفجر، وأن وجها جديدا من الحياة يسفر عن صفحته رويدا رويدا حافلا بالجدة والغرابة، وأن بوسعه أن يتعرف على هذا الوجه لأنه سبق له أن لمحه هنا أو هناك، ولكن من أين لهذا الوجه أن يتعرف عليه هو داخل الفقاعة المتفجرة؟ ثم استراحت عيناه عند صورة فنية معلقة على الجدار فوق المدفأة الباردة، تعرض زنجية غليظة الشفتين جاحظة العينين في غير دمامة، تحدق في وجهه بنظرة حسية وقحة ناطقة بالإغراء والتحدي.
7
وشحن الجو باحتمالات شتى متناقضة، ولكنها اتفقت جميعا على انتزاع الطمأنينة من نفسه، فكابد حياته بأعصاب عارية، وبات تأجيل زواجه أمرا محتوما حتى تستقر الأرض تحت قدميه، وحتى يسترد حموه وعيه. وانتصبت علامات الاستفهام أمام عينيه وأعين أصحابه كالرايات السود على السواحل عند هياج البحر، ومضغوا الشائعات كالعلقم، ثم علم أن حسن ابن عمه اختير لوظيفة مهمة، وأن الباب انفتح أمامه إلى مراكز أهم وأخطر، مما قطع بأنه من أهل الدنيا الجديدة وقد صعقه الخبر أشد مما صعقته الأحداث، ولبث مدة لا يدري كيف يبلغه أمه، ولكن العجوز لم تفهم الأمور على حقيقتها وقالت ببلاهة: سيأتي دورك، لا تحزن، أنت تستحق كل خير.
وقال لنفسه: ما أجمل أن يعيش الإنسان بعيدا عن منطقة الوعي! ثم أعلن عن نظام التطهير، وقرأه بانتباه جنوني ومرارة ويأس، سيدركه الدمار الذي يحيق بالأحزاب والزعماء، ستقتلع الجذور التي تثبته بأرضه جذرا بعد جذر، وما أغرب ما يقع اليوم مما لم يكن يتخيله أحد، ها هو صديقه إبراهيم خيرت المحامي وعضو مجلس النواب السابق يتحمس للثورة بقلمه في أكثر من صحيفة كأنه ضابط من رجالها! ويهاجم الأحزاب - وحزبه ضمنها طبعا - والعهد البائد كأنما لم يكن أحد رجاله. وعباس صديق آمن مطمئن غير مكترث للأحداث إذا وجد ظهرا يحميه في العهد الجديد بل واصل طموحه إلى الترقي بأمل أقوى مما كان، سمير عبد الباقي وحده الذي شاركه القلق والخوف والمصير، وهو شاب نحيل رقيق قمحي البشرة، تشع من عينيه الخضراوين نظرة حالمة فوجد عنده بعض العزاء، وسأله: كيف تتصور أن يكون مصيرنا؟
فقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة: الطرد أقل ما ينتظرنا.
فسأله بحلق جاف: ما عسى أن نفعل؟ - معاش لا قيمة له، ولكننا قد نجد عملا في شركة. - ترى هل يتيسر لنا ذلك، وهل نجد الشجاعة لنبدأ من أول الطريق من جديد؟!
وهز الآخر رأسا لا يعد الشيب نادرة في سواده وغمغم بلا روح : عسى أن تكذب الأحداث ظنوننا.
وتراكمت الشكاوى في لجنة التطهير كالزبالة، وعلم عيسى أن كثيرا منها يستهدف القضاء عليه. ولم يستغرب ذلك بطبيعة الحال، فإن أعداءه من المسئولين في الوزارة أكثر من أصدقائه، وأضاف إليهم الحاقدين والحاسدين والذين يتطوعون للشر عند أي مناسبة، بل من هؤلاء وأولئك من تحداه علنا في الوزارة بلا سبب، ومن عرض به ساخرا وجها لوجه، وحتى بعض مرءوسيه استباح لنفسه الاستهانة به، حتى انقلبت الوزارة ركنا من الجحيم.
ثم استدعي للمثول أمام لجنة التطهير، وكانت اللجنة تجلس وراء مائدة خضراء امتدت في عرض الحجرة بمكتب المستشار القانوني للوزارة، واحتلت السكرتارية الجناح الأيمن، على حين دعي هو للجلوس أمام الأعضاء في الناحية المقابلة من المائدة، لمح مكان صورة الملك أخرى تحمل اسم الله، ونقل بصره بين الوجوه فعرف في ممثل مجلس الدولة زميلا قديما في لجنة الطلبة كاد يهلك معه يوما في مظاهرة أمام بيت الأمة، فبل منظره ريقه، ولكن الأعين جعلت تنظر إليه برزانة أو تلقي على الأضابير نظرات، ولم يبد على أحد منهم أنه زامله يوما، بالرغم من وجود مراقب المستخدمين ومدير الإدارة العامة بينهم، وكان شخصه يهز كثيرين من أعضاء اللجنة في الماضي، حتى وحزبه خارج الحكم، ولكن حلت الحيدة الباردة محل العرفان والعاطفة، وسرى في جو الحجرة الكبيرة عالية السقف ذات الجداران القاتمة المشبعة برائحة السجائر العطنة روح رهبة ثلجية، ومن خلال زجاج الباب المغلق انقضت حدأة على الشرفة الخارجية ثم ارتفعت بسرعة خاطفة وهي تطلق صوتا كالنواح.
Página desconocida
وحدجه الرئيس بنظرة طويلة من نظارته الكحلية المذهبة وقال: أرجو أن تطمئن كل الاطمئنان إلى عدالتنا فهي لا تبتغي إلا وجه الحق وحده.
فقال بهدوء باسم ليستر يأسه: لا شك عندي في ذلك. - وأحب أن تعلم أن المهمة التي كلفنا بها غايتها المصلحة العامة لا الانتقام ولا أي غرض آخر.
فقال وهو يهبط درجات جديدة في أحضان اليأس: لا شك عندي في ذلك أيضا.
وصدرت إشارة إلى السكرتارية فتليت العرائض تباعا، بعضها موجه من موظفين، والبعض الآخر من عمد، وانقلب صوت قارئ العرائض رتيبا كملقن الأموات، وأغمض عيسى عينيه ابتغاء تركيز أشد، ولكن التهم جميعا انصبت على تعيين العمد بالحزبية والهدايا، فتشتت في التكرار تركيزه، وذاب في الظلمة التي اختارها. ومن خلال ضباب أحمر انغرزت في أذنيه السهام، ورغم الجهد المبذول للتركيز اعترضته الذاكرة بصورة قديمة جدا مخضلة كأعشاب الطفولة اليانعة وهو عائد من ملعب كرة في الخلاء المحدق بالوايلية في يوم انهل مطره كالسيل، فلم يجد ما يحتمي به من انفعال السماء إلا أسفل عربة زبالة، وتساءل عن معنى هذا كله، وفتح عينيه فرأى الوجوه وهي تتموج، وللحظة قصيرة خيل إليه أن فردة شارب المستشار اليسرى موصولة بفردة شارب ممثل مجلس الدولة اليمنى، وسئل عن رأيه، أي رأي؟! وقال بحدة قاهرة: كلام فارغ، أريد دليلا واحدا.
وامتلأ قوة، ولكنه سرعان ما باخ وتهاوى كورقة خضار ذابلة صفراء. قال الرئيس: كان الوزير يعتمد ترشيحاتك، فأنت أول مسئول. - كان ذلك ضمن واجباتي، وقد أديته بما يرضي ضميري. - هل من سبب غير الحزبية يمكن أن يفسر لنا عزل وتعيين العمد؟
فقال وهو يحاول أن يسيطر على لهاثه وتهدجه: لتكن الحزبية هي السبب، ألم تكن من مقومات حياتنا الماضية؟ - هل أنت مقتنع بصحة تصرفاتك؟ - أرى أنها كانت طبيعية جدا.
فتساءل الرجل وهو يلعب بالباركر في يده: والهدايا؟!
فاندفع يقول بحدة: قلت إنه كلام فارغ، أريد دليلا واحدا.
وتليت أسماء الشهود من العمد أنفسهم، فهتف: ما قيمة الدس الوضيع؟
ثم استدعي موظفون ممن عملوا معه على فترات متتابعة، فأدلوا بأقوالهم، وعرضت عليه توقيعات بخط يده لترقية موظفين بصفة استثنائية، ولأداء خدمات في الري والزراعة، وبعضها يوصي بمجرمين ريفيين ممن تربطهم صلات الرعاية أو القربى بنواب سابقين. وامتد الوقت حتى فقدت الأشياء ألوانها، وصاح بعصبية: دلوني على موظف واحد يستحق البقاء!
Página desconocida
وتصدى له عضو في اللجنة لم يعرفه من قبل، فتكلم بعنف عن واجبات الموظف نحو الشعب، ثم قال: الثورة صادقة العزم على تطهير الجهاز الحكومي من كافة أنواع الفساد، وأؤكد لك أن المستقبل لن يرى مصريا واحدا مهضوم الحق، ولا مصريا واحدا يؤثر بأي لون من ألوان الخير أو الامتياز لانتمائه إلى فرد أو أسرة أو هيئة.
ونصحه شيئا من أعماقه بألا يتعرض لمناقشة هذا العضو، فلاذ بالصمت، واستمر التحقيق حتى الرابعة مساء، ثم غادر اللجنة كعود جاف مقصف اخترمته دودة عاتية! واخترق إلى الدقي طرقات غرقت - كقارة أطلس - بجميع أبعادها وأحيائها وجمادها تحت أمواج ذاته الهائجة المتلاطمة، حتى لم يعد يرى أو يسمع أو يعي إلا القلق الشيطاني بأشواكه الحادة ومكره القاسي، وتساءلت الأم العجوز: لم لا تحدث في أمرك ابن عمك وهو منهم؟
لدغته وصيتها فانفجرت في عينيه نظرة جنونية من الغضب.
8
واستدعاه مراقب المستخدمين ليبلغه قرار إحالته إلى المعاش مع ضم سنتين إلى مدة خدمته، وهو نفس المراقب الذي كتب مذكرات ترقياته الاستثنائية التي توجت بترقيته إلى الدرجة الثانية ... ولعله ما زال يحتفظ بمشروع مذكرة لترقيته إلى الدرجة الأولى كانت قد أعدت لرفعها إلى مجلس الوزراء قبيل إلغاء المعاهدة بأسبوع واحد، ثم لم تحظ بفرصة لاعتمادها في غمار الأحداث التي أعقبت إلغاء المعاهدة، ولم يكن للرجل لون حزبي ولكنه لم يشك لحظة في كراهيته له لتساويه معه في الدرجة رغم فارق السن الشاسع بينهما، وتأثر المراقب بمأساة الموقف فانتهز خلو الحجرة من أي مستمع وقال له: لا يعلم إلا الله مدى حزني يا أستاذ عيسى!
فشكره وهو على يقين من مدى كذبه، فثمانية أعوام في معاشرة الموظفين كافية جدا ليجيد ترجمة مصطلحاتهم المحفوظة في المجاملات إلى معانيها الحقيقية. وها هو ملف خدمته مطروحا على مكتبه، وها هو اسمه مخطوطا على غلافه بالفارسي «عيسى إبراهيم الدباغ»، فرآه بعين الخيال وهو يلقى في الدفترخانة ليقبر هنالك إلى الأبد بكل ما يسجل في أوراقه من توقيعات تاريخية تشهد له بالامتياز وتبشره بأسعد مستقبل. وسأل عن مقدار معاشه فأجاب المراقب: اثنا عشر جنيها، ولكنك ستقبض مرتبك كاملا لمدة عامين.
وغادر الوزارة بعينين تحملقان في داخل رأسه. أيقن الآن أنه قضي عليه بأن يعاني التاريخ في إحدى لحظات عنفه، حين ينسى وهو يثب وثبة خطيرة مخلوقاته التي يحملها فوق ظهره، فلا يبالي أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوي، ومشى طويلا في دفء الشمس دون هدف، وفي غفلة تامة عن الشوارع التي يخبط فيها. تذكر البوديجا قهوته المختارة، فمضى إليها. في مثل هذا الوقت من الظهيرة ليس ثمة أمل في أن يجد في مجلسه أحدا من أصدقائه فراح يحتسي الشاي وحيدا وصورته في إحدى المرايا المصقولة تؤانسه، رغم كآبة منظرها. ووجد الجماعة تلعب النرد وتتحمس حتى الجنون لما يجيء به الزهر، وجد فيها أصدق مثال للامبالاة التي تلقت بها الدنيا كارثته، فتحول عنها وعن الغارقين في دخان النارجيلة إلى صورته الكئيبة. لو نطقت هذه الصورة لوجدت حقا من يفهمني، خبرني ماذا فعلت، ولم لم تقرأ المستقبل إذ هو على بعد ساعات منك، على حين تؤكد أخبارا وقعت فوق سطح الأرض منذ ملايين السنين. وهذا الوجه ذو الرأس الكبير والهيئة المثلثة الذي مدحه أحد الشعراء فشبهه بدلتا النيل، وهذا الوجه الذي كان مرشحا للصفحات الأولى من الصحف، ما باله يندثر كالديناصور عملاق الأساطير البائدة! وكالشاي الذي تحتسيه المقتلع من أرضه الطيبة في سيلان ليستقر آخر الأمر في مجاري القاهرة. وإذا علوت بضعة آلاف من الأقدام في الفضاء فلن ترى فوق سطح الأرض حيا ولن تسمع صوتا، إذ يذوب كل شيء في حقارة رهيبة كونية، والماضي الضخم الذي ما زالت أنفاسه تتردد على وجهك تقطع القرائن بأنه سيتحلل وشيكا ويتعفن ولن تبقى منه إلا على رائحة كريهة.
وارتفع صوت يقول في عصبية: قلبي يحدثني بأنني سأجدك هنا.
وأقبل سمير عبد الباقي فجلس إلى جانبه بوجه شاحب ونظرة منكسرة كأنما تطالعه من وراء القضبان، وفرح عيسى به فرحة جعلته يشد على يده بقوة نابضة بالاستغاثة، وعاد سمير يؤكد: قلبي يحدثني بأنني سأجدك هنا!
فضحك عيسى ضحكة عالية اختلج لها جفنا صاحب القهوة وراء طاولته ثم قال: ولن تجدني منذ اليوم إلا هنا!
Página desconocida