ونصحه السمسار بأن يتساهل بعض الشيء، ولكنه رفض بعناد؛ لحاجته الماسة إلى تأمين مستقبله، ولسوف يضمن - إذا قبض نصيبه من ثمن البيت - مستوى من المعيشة كمستواه الحالي لعشرة أعوام على الأقل، وقد تتفتح له أبواب عمل مناسب في أثناء هذه الفترة الطويلة، ولم تعارض موقفه أخت من أخواته الثلاث، وتركن له مطلق الحرية في القبول أو الرفض ومضت أيام حتى أدركه الجزع، ولكن السمسار جاءه ليزف إليه بشرى قبول السيدة للثمن المطلوب، ومن ثرثرة السمسار عرف أن عنايات هانم أرملة مأمور بوليس، ولكن الثروة ورثتها عن أبيها، وأن ابنتها قدرية هي وحيدتها، مطلقة منذ خمس سنوات ولم تنجب أطفالا، وقد مضى إلى زيارة السيدة في مسكنها بعمارة تمتلكها بميدان السكاكيني، ودل أثاث المسكن الكلاسيكي الفاخر على عراقة حقيقية في الجاه، وتم الاتفاق على الإجراءات في جلسة ودية، وقال عيسى بلباقة وهو يشير إلى صورة المرحوم: أنا أعرف المرحوم، سمعت عنه أول عهدي بالعمل، ما أقنعني بشهامته ووطنيته.
وأحدث كلامه أثرا طيبا جدا في نفس المرأتين ... ودعته عنايات هانم للبقاء بعض الوقت، وما لبث أن جاءت خادم بالشاي والحلوى الفاخرة، وأعربت العجوز عن سعادتها إذ مكنتها المصادفات من استضافة شخص من المعجبين بالمرحوم، ولكن عيسى لم يأنس منها أريحية تبرر هذا الكرم، وحدس أن الدعوة موجهة لحساب الابنة التي جلست في هدوء، تملأ فراغ المقعد بجدارة، وترمقه بين حين وآخر بنظرة ناعسة، وقالت عنايات: وأيام الخدمة بالأقاليم لا تنسى، أيام مليئة بالخير، ونال المرحوم تقدير سعد زغلول فنقله إلى الداخلية عام 1923، ولكنه تعرض لأسوأ أنواع المعاملات في عهود الانقلاب.
ثم أثنت على صدق فراسته، واستشهدت على ذلك قائلة: عندما تقدم زوج قدرية لخطبتها أعرب المرحوم عن عدم ارتياحه له، ولكني تشبثت به، فكنت المسئولة عن سوء حظ ابنتي!
تلقى عيسى الفكرة بارتياح، ثم تساءل: ترى كيف كان ذلك؟ - كان من أسرة، ولكنه ذو خلق منحرف، ابنتي طيبة، وست بيت، وكريمة الأخلاق، فلم تقبل بطبيعة الحال أن يجعل من بيتها خمارة وملعبا للقمار!
فتأسف عيسى قائلا: يا للحظ السيئ، ولكن ربنا يعوض صبرها خيرا.
ومضى وقت غير قصير في ثرثرة هادفة، وجعل عيسى يتساءل عن مدى قدرته على استساغة امرأة كقدرية، يمكن أن يعتبرها نوعا من التأمين مدى الحياة، وسوف يجدها بلا ريب حظا طيبا إذا قدرت على ضوء ما عاناه من تقلب الدهر، وعندما غادر البيت اطمأن إلى أنه قد استأثر باهتمام المرأتين لدرجة لا بأس بها، وقال لنفسه في غير قليل من الأسى: قدرية في حاجة إلى رجل، وأنا في حاجة إلى امرأة. ورسم خطة للتحري عن قدرية كالعادة.
وقررت التحريات أنها تزوجت ثلاث مرات لا مرة واحدة، الأولى لم تستغرق إلا شهرا، إذ كتب كتابها على قريب لوالدها، وقبل أن تتم الدخلة وضح لهم طمعه في مالها ونفعيته المفضوحة فحمله أبوها على تطليقها، والثانية استهلكت أربعة أعوام أو خمسة، ولم تقبل الأم أن تهبها من مالها شيئا رغم مطالبة الزوج بذلك وإلحاحه عليه، لاقتناعها بأنه يستطيع أن ينهض بمسئولياته دون مساعدة منها، وأن مطالبه غير معقولة وناطقة بسوء نية، فانتهى النزاع بالطلاق، والثالثة استمرت أعواما ستة، وبشرت بالدوام، وبخاصة بعد أن غيرت الأم سياستها وأغدقت على ابنتها من مالها ما كفاها وأكثر، ولكن الزوج كان يرغب في إنجاب أطفال، ولم تسعفه قدرية في ذلك ولا وعدت به، قياسا على حياتها الزوجية السابقة، فتزوج الرجل سرا، ثم انكشف سره فاعترى الحياة تنغيص لم يستطع تحمله إلى ما لا نهاية، فكان الطلاق الثالث.
هذه هي قصة قدرية، غير أن عيسى لم يعرضها بتفاصيلها في ركن البوديجا، ولكنه قال: امرأة لا بأس بها ترغب في الزواج مني!
فتحولت إليه الأعين، كأنها بوصلات تنجذب إلى قطب، فقال بارتياح ممزوج بزهو: من أسرة عريقة وغنية.
فقال عباس صديق بصوته الرنان، كأنما يعلن الخبر على الملأ: الصفقة الأخيرة هي المطلوبة!
Página desconocida