وقد ذكر «كوليروس» أن احتراف اسپينوزا لصناعة العدسات كان إخلاصا منه للتقاليد اليهودية القديمة، التي تحث اليهود على تعلم حرفة يعيشون منها، إلى جانب معرفته للشرع الديني؛ إذ إن هذه المهنة تجنب الإنسان الشر وتقوم سلوكه. وهكذا فإن اسپينوزا، تبعا لهذا الرأي، لم ينس هذه النصيحة حتى بعد انفصاله عن مجتمع اليهود. ويؤيد هذا التعليل «براون»، ويضيف إليه أمثلة متعددة لبعض من كبار المفكرين اليهود كانوا صناعا يدويين،
6
ولكن «فوير
Feuer » يعترض بقوة على هذا التعليل، فيثبت أن عددا قليلا من يهود أمستردام هم الذين كانوا يشتغلون بحرفة يدوية، وأن القيم السائدة بين هذه الطائفة كانت هي القيم التجارية، ويضيف إلى ذلك قوله: «إن اسپينوزا لم يبحث عن حرفة يدوية يرتزق منها عندما كان التأثير اليهودي أقوى ما يكون عليه، وإنما أصبح صانعا عندما ترك الأعمال التجارية وكنيس أمستردام.»
7
وإذن فالتعليل الصحيح لاحتراف اسپينوزا مهنة صقل العدسات وارتزاقه منها هو رغبته المتعمدة في التخلي عن القيم التجارية السائدة بين الطائفة اليهودية التي انفصل عنها. ومن المؤكد أن ذلك القرار لم يكن هينا بالنسبة إليه؛ إذ إنه على عكس ما قيل عنه وقتا ما، لم يكن فقيرا معدما، بل كانت لأسرته أعمالها التجارية الناجحة. والواقع أن البحث الحديث الذي أخذ يجلو ببطء شديد غوامض حياة اسپينوزا، يتجه إلى القضاء تدريجيا على أسطورة فقر اسپينوزا هذه؛ فقد انضم اسپينوزا منذ صباه إلى أبيه في إدارة أعماله، وعندما توفي أبوه، أصبح مديرا لهذه الأعمال، وبذلك اكتمل اندماجه في عالم الاقتصاد وأخذه بالقيم التجارية في عصره.
ويكاد يكون من المؤكد أن اسپينوزا قد أدرك، في وقت نضوجه الفكري، أن من المحال عليه أن يجمع بين هذه القيم التجارية وبين المثل الفكرية التي تزايدت سيطرتها على ذهنه بالتدريج، فقد كان عليه أن يختار بين أمرين: إما أن يجعل كسب المال غاية لحياته، أو أن يقمع في نفسه الرغبة في كسب المال حتى يستطيع التفرغ لرسالته الفكرية. وبعد تفكير لا بد أنه كان طويلا، انتهى إلى إيثار الثقافة الروحية على المال، فتخلى عن الأعمال التجارية التي ورثها عن أبيه.
وتشهد بداية كتابه في «إصلاح العقل» بحدوث هذا التحول بكل وضوح؛ فهو لا ينكر أنه كان مهتما بالمال في أوائل حياته، ولكنه يؤكد أنه قد انصرف عن هذا الاتجاه حالما أدرك خطره على حياته الفكرية: «فقد بدا لأول وهلة أنه ليس من الحكمة أن يتنازل المرء عما هو في متناول يده من أجل شيء لم يكن عندئذ موثوقا به؛ إذ كنت أستطيع إدراك الفوائد التي تجنى من الجاه والثروة، وكنت أعلم أنني سأضطر إلى التخلي عن السعي وراء هذه الغايات إذا ما أردت أن أكرس حياتي جديا للبحث وراء شيء مختلف جديد.» وفي القاعدة المؤقتة الثالثة من تلك القواعد التي وضعها لحياته، يذكر أنه قد زهد في المال بحيث لا يريد أن يحتفظ منه إلا بما يلزم لحفظ الحياة والصحة.
وهنا ينبغي أن نفرق بين زهد اسپينوزا هذا وبين أنواع أخرى من الزهد؛ فهناك فلاسفة يزهدون لأنهم طبيعة حالهم محرومون، غير أن اسپينوزا كان يملك كل الوسائل التي تكفل له ثراء هائلا، ومع ذلك تركها بمحض إرادته. وهناك أيضا زهد ناجم عن إنكار للماديات وعزوف عن المتع وعن نظرة سوداوية إلى كل ما هو بهيج في الحياة، ولكن اسپينوزا لم يكن من أصحاب هذا الاتجاه على الإطلاق؛ فهو لم يحتقر العالم المادي ولم يترفع عن متع الحياة، بل لقد سوى بين العالم المادي وبين العالم الروحي تماما، أو على الأصح محا التفرقة بينهما، ودعا صراحة في الكثير من كتاباته إلى الإقبال إيجابيا على متع الحياة. فلا بد إذن أن زهده كان راجعا إلى نظرة معينة في العلاقة بين اتخاذ المال غاية وبين السعي إلى الكمال العقلي، وهي علاقة كانت في رأيه تنافرا تاما؛ فزهده في هذه الحالة كان أشبه بزهد العلماء لإغراقهم في بحوثهم، غير مقترن بأية نظرة سلبية إلى الأوجه الأخرى لحياة الإنسان.
وأخيرا، فإن كثيرا من المفكرين يدعون إلى الزهد في المال بألسنتهم ويتهافتون عليه بأفعالهم. أما اسپينوزا فقد طبق ذلك على حياته بالفعل، وبطريقة تدعو إلى الإعجاب؛ فبعد وفاة أبيه، حاولت شقيقتاه سلبه حقه في الميراث، فاحتكم إلى القضاء، الذي حكم لصالحه، وبعد صدور الحكم فاجأ الجميع بتنازله عن نصيبه في الميراث - إلا سريرا متينا وستارة، كما يقول كوليروس. وهناك احتمال قوي في أن يكون تنازله هذا عن الميراث تعبيرا منه عن عدم إيمانه بفكرة وراثة المال ذاتها؛ فحرص، قبل تنازله، على أن يثبت حقه شرعيا، ثم تنازل بعد ذلك، متعمدا أن يثبت عدم اهتمامه بالقانون أو الشريعة القائمة، وأن يؤكد أنه تنازل إيمانا منه بالمبدأ ذاته، رغم كون القانون مؤيدا له، ويقال أيضا إن صديقه «سيمون ديڨريس
Página desconocida