وكان يوما يعول عليه بعض إخوانه المودين أن يدخل منزله فيساعده ويبسط ويأكل من طيبات ما أضيف به، ويترك لصاحب المنزل شيئا يأكله تارة يلقمه بيده، وتارة يقول: هذا لك، وهذا لأهل بيتك، لأجل التبرك، فيدخل على أهل البيت الكل منهم بركات ومسرات ودعوات قبل الطعام وبعده، وكان إذا وضع تحته شيء من اللحم قطعتين أو ثلاث وهو يريد لا(1) يأكل إلا واحدة، فإن كانت منفردة أخذها، وإن لم ينتبه، فإن تنبه أحد من إخوانه أن يبددوهن لكي يأخذ ما أحب، وإلا ترك الجميع، وكذلك عناقيد العنب، خشية أن يقبض فوق ما يدخل فاه؛ لأنه بنا نفسه على ذلك منذ ابتدائه إلى انتهائه ، لا يقبض كتابا إلا ممن عرف ورعه، ولا يقبض طعاما إلا ما يواريه إلى فيه، ولا يقبض ثوبا إلا ما يستر عورته من ابتداء نشئه، وكذا(2) كان أهله رضي الله عنهم، وكذلك كان يعاقب نفسه إذا أنس منها مللا وكللا بأن يحلف ألا أذاقها طعاما أياما، أو سأل عما لا يعنيه، أو أجاب فيما لا يعنيه فيتنبه في اللحظة والساعة، ويتدارك ما قيل عنده وما قال، فيؤدب نفسه بذلك. سمعته يوما يقول: ما رأيت مثل أخي الفقيه أحمد بن منصور رحمه الله تعالى في المراقبة في الخطاب، كان إذا خرجت من فيه اللفظة لاحظها وانزعج إن لم تكن لله، رحمهم الله تعالى كان إذا عرف ذلك منه سأله بعض إخوانه بالله أن يفطر، أو يتناول شيئا من الإدام، فيعز عليه السؤال فيتناول أو يفطر وهو يبكي، وتارة يغشى عليه ويسقط ويبقى ملقى في الأرض على جنبه ساعة، وتارة ساعتين، وتارة بين الصلاتين، أملى علي بعض إخوانه هذه الأبيات:
فما لهم همة تسمو إلى أحد
يا حسن مطلبهم للواحد الصمد
ولا المطاعم في (3) اللذات والولد
ولا التلذذ في الأموال والعدد ... قوم همومهم بالله قدعلقت
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف
Página 88