فتشعر أن التزام الالف في هذه الآيات في أواخر الفواصل قد جعل من هذا النظم العالي أدبا عاليا وفنا رفيعا، هذا شئ من دلائل الاعجاز في لغة التنزيل العزيز، وبمثل هذا يشعر قارئ سورة الشمس حين يقرأ من قوله تعالى: والشمس وضحها (١) والقمر إذا تلها (٢) والنهار إذا جلها (٣) واليل إذا يغشها (٤) أو يقرأ في سورة الضحى: والضحى (١) واليل إذا سجى (٢) ما ودعك ربك وما قلى (٣) وإنك لتقف الموقف نفسه، حين تنتقل إلى سورة تلتزم فيها القافية، على نحو محكم أشد الاحكام، كما في سورة المدثر، في قوله تعالى: يأيها المدثر (١) قم فأنذر (٢) وربك فكبر (٣) وثيابك فطهر (٤) والرجز فاهجر (٥) ولا تمنن تستكثر (٦) ولربك فاصبر (٧) وقد يتأتى الغرض الفني في الاسلوب القرآني بغير هذه الفواصل المسجوعة، وذلك أن يقصد إلى ضرب من التناسب الذي يحقق الغرض، ألا ترى في قوله تعالى في سورة الانسان: إنآ أعتدنا للكفرين سلسلا وأغللا وسعيرا (٤) أنهم قرأوا " سلاسلا " بالتنوين، فقال المفسرون: قرئ بتنوين (سلاسل) ووجهه أن تكون هذه النون بدلا من ألف الاطلاق ... ولا أرى أن هذا التوجيه النحوي مقنع مفيد، والذي أراه أن حرص المعربين على الاخذ بالتناسب سهل عليهم تنوين غير المنون، إخضاعا له ليكون مناسبا لقوله " أغلالا وسعيرا " وكلاهما منون، وأن تجئ الآية على هذا النسق من التنوين أوقع لدى طائفة من القراء. ومن هذا ما جاء في السورة نفسها: وأكواب كانت قواريرا (١٥) قواريرا لقد قرئت بترك تنوينها، وهو أمر يخدم التناسب الذي أشرنا إليه، وهو الاصل - أيضا - وقرئ تنوين الاول خاصة بدلا من ألف الاطلاق، لانها فاصلة، وتنوين الثانية كالاولى إتباعا لها، ولم يقرأ أحد بتنوين الثانية وترك الاولى. وهذه القراءات تثبت أن الحرص على التناسب أساس فيها. ومن المفيد أن أشير أن الجهابذة البلغاء قد درجوا على هذا النهج في أدبهم، فكانت لهم عناية بالقافية والفواصل والتناسب، وإليك مما كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ إلى عبد الله بن عباس ﵁ فقال: " أما بعد فإن الانسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلت دنياك فرحا، ولا بما فاتك منها ترحا، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، وكأن قد، والسلام ".
1 / 11