وواسطة الشم أيضا جسم لا رائحة له كالهواء والماء يحمل رائحة المشمومات، وقد اختلف الناس فى الرائحة، فمنهم من زعم انها تتأدى بمخالطة شىء من جرم ذى الرائحة يتحلل فيتبخر فيخالط المتوسط ومنهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من المتوسط من غير أن يخالطه شىء من جرم ذى الرائحة متحلل عنه، ومنهم من قال إنها تتأدى من غير مخالطة شىء من جرم ومن غير استحالة من المتوسط، ومعنى هذا أن الجسم ذا الرائحة يفعل فى الجسم عديم الرائحة وبينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل فى المتوسط بل يكون المتوسط ممكنا من فعل ذلك فى هذا على ما يقال فى تأدى الأصوات والألوان، فحرى بنا أن نحقق هذا ونتأمله، ولكن لكل واحد من المدعين لشىء من هذه المذاهب حجة، فالقائل بالبخار والدخان يحتج ويقول إنه لو لم تكن الرائحة تسطع بسبب تحلل شىء ما كانت الحرارة وما يهيج الحرارة من الدلك والتبخير وما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح ولا كان البرد يخفيها، فبين أن الرائحة إنما تصل إلى الشم ببخار يتبخر من ذى الرائحة ويخالط الهواء وينفذ فيه، ولهذا إذا استقصيت تشمم التفاحة ذبلت لكثرة ما يتحلل منها، والقائلون بالاستحالة حتجوا وقالوا إنه لو كانت الروائح التى تملأ المحافل إنما تكون بتحلل شىء لوجب أن يكون الشىء ذو الرائحة ينقص وزنه ويقل حجمه مع تحلل ما يتحلل منه، وقال أصحاب التأدية خصوصا إنه لا يمكننا أن نقول إن البخار يتحلل من ذى الرائحة فيسافر مائة فرسخ فما فوقه، ولا أيضا يمكننا أن نحكم أن ذا الرائحة أشد إحالة للأجسام من النار فى تسخينها، والنار القوية إنما تسخن ما حولها إلى حد وإذا بلغ ذلك غلوة فهو أمر عظيم، وقد نجد من وصول الروائح إلى بلاد بعيدة ما يزيل الشك فى أن وصولها لم يكن بسبب بخار انتشر أو استحالة فشت، فقد علم أن بلاد اليونانيين والمغاربة لا يرى فيها رخمة البتة ولا تأوى إليها وبينها وبين البلاد المرخمة مسافة كبيرة تقارب ما ذكرناه، وقد اتفق فى بعض السنين أن وقعت ملحمة بتلك البلاد فسافرت الرخم إلى الجيف ولا دليل لها إلا الرائحة، فكون الرائحة قد دلت من مسافة بعدها بعد لا يجوز معه أن يقال إن الأبخرة أو الاستحالات من الهواء وصلت إليها،
Página 79