كان الناس شتى في آحادهم وجماعاتهم وعقائدهم وتفكيرهم في هذا العالم وإدراكهم إياه؛ نفس الواحد شتى بأهوائها وأوهامها وخرافاتها، والجماعة شتى متنافرة بما تشت له نفس الواحد، والأمم شتى متقاتلة بما تشت به الجماعة، فجاء الكتاب المجيد فوحد النفس ووحد الأمم، ووحد العالم كله بتوحيد الله الخالق المسيطر على العالم سيطرة واحدة لا اضطراب فيها ولا انقطاع، والمتصل بكل نفس اتصالا لا تباين فيه ولا تفاوت. ونادى هذا الكتاب في الناس أن كل العالم متوجه إلى هذا الواحد، وكل الناس قبلتهم هذا الواحد، وأشاع التوحيد في كل شيء في السماء والأرض:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
ومن هذا التوحيد توحدت الأمم على اختلاف أوطانها وأزمانها:
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .
فمتى يشعر الناس بهذه الوحدة ويعتقدون التوحيد خالصا، ويدركون في سرائرهم هذه البينات في الآية:
ولله يسجد من في السماوات والأرض ، وفي أخواتها من الآيات؟
الخميس 26 شوال/10 أغسطس
تفاوت العقول
تتشابه أجناس الحيوان وفصائله، ويقل التخالف بينها، ولكن الإنسان - وقد هيئ لرقي لا يحد - تتفاوت شعوبه وآحاده تفاوتا بعيدا؛ من عامي جاهل ضيق الفكر خامد الوجدان، إلى فيلسوف يحاول أن يحيط فكره بالأرض والسموات، ويبلغ بإدراكه أبعد الغايات، وشاعر ينبض قلبه بكل معنى دقيق وشعور رقيق، وكأن قلبه الخليقة كلها، فهو يترجم عن جمال ظاهر وخفي، ويتناول أبعد الحقائق في صور قريبة، وأروع الأفكار في أساليب شعرية حبيبة، وعالم يصحب الطبيعة يتعرف أخبارها، ويستكنه أسرارها، وما يزال يرفع حجابا بعد حجاب، ويطلع على نظام بعد نظام، ويفضي به طريق إلى طريق، وباب إلى باب إلى غير نهاية.
فإن قرنت الإنسان الجاهل بواحد من هؤلاء، فبينهما أبعد مما بين الأرض والسماء. ثم إن قست، فوق الجهلاء، عالما بعالم ومفكرا بمفكر، وجدت بينهما درجات كالتي بين الجهال والعلماء أو أكثر ... وهكذا. فالفكرة البعيدة من عقل قريبة إلى آخر، والعلم الميسر لفكر مستعص على غيره. وربما يبدو أمر لمفكر محالا، وهو عند مفكر جائز، وعند آخر واقع. ولعل أعلى درجات عقولنا وأسمى مستوى أفكارنا، هي في الحقيقة وفي غيب الله كالعقل العامي والفكر السوقي قياسا إلى ما يمكن أن يكون، وما استسر في علم الله المكنون. فاحذروا أيها المفكرون ضلال الفكر وخداعه، ولا تظنوا ما تدركون نهاية النهايات، وغاية الغايات.
Página desconocida