وقليل من المفكرين من يبتكر ويزيد أو ينقد وينقص، أو يمحو ويثبت، وأقل من هؤلاء من يأتي بمذهب محدث، وطريق مبدع، وفلسفة أنف.
ولم يبلغ أحد من هؤلاء ما بلغ إلا بعد أن علمه من سبقه، وهداه من سار قبله، ولكنه لم يقف على الغاية التي بلغها سابقوه، ولا قنع بالدرجة التي ارتقى إليها معلموه.
فليس يصح في الأذهان ما روي عن الفيلسوف الفرنسي ديكارت أنه قال: لا أريد أن أعرف أحدا قبل ديكارت. فلو لم يعرف أحدا قبله لبدأ الفكر الإنساني ولبث أحقابا ينظم فكرة إلى فكرة حتى مات حيث بدأ.
لا نستطيع أن نستقل بعقولنا وأفكارنا، ونتجاهل من تقدمنا. ولكنا نستطيع أن يكون لنا رأي ونقد، وتعديل وجرح، وهدم وبناء، وأن نقبل ونرد وننظر ونجتهد.
الطريقة المثلى أن نتعلم من غيرنا ولا نفقد أنفسنا.
السبت 4 ذي الحجة/16 سبتمبر
الضعيف أمير الرفقة
قرأت في صحيفة يومية أن متانة السلسلة على قدر أضعف حلقة فيها، وقفت على هذا الكلام معجبا به، متأملا فيه، قلت: أجل! هب سلسلة فيها عشرون حلقة، تسع عشرة منها متينة إن علقت في إحداها مائة قنطار لم تنفصم؛ ولكن الحلقة الباقية واهنة لا تحمل قنطارا فالسلسلة كلها واهية إن علقت بها قنطارا انقطعت.
وعلى هذا القياس الجماعة من الناس أو الأمة، لا تقدر قوتها بالأقوياء الأصحاء فحسب، بل تقدر بالضعفاء المرضى كذلك، بما كانت الجماعة المتعاونة سلسلة متماسكة.
وتذكرت وأنا أردد الفكر في هذا الكلام أني قرأت حديثا أو قولا مأثورا هو: الضعيف أمير الرفقة، فرأيت هذا الكلام وذاك متصلين، متقاربين على اختلاف ظاهرهما. فالرفاق المسافرون لا يسيرون بسير الأقوى والأصح بل بسير الأضعف والأمرض، فهم يرعون الضعيف في حلهم ورحيلهم وسيرهم، يتخيرون الوقت الملائم والطريق الميسرة والمنزل الموافق ... وهكذا. الضعيف أمير رفاقه يتبعونه ولا يتبعهم، ويسيرون كما يشاء لا كما يشاءون. وكذلك ينبغي أن يعنى الناس بجوانب الضعف فيهم فلن تجديهم معها قوة الجوانب القوية. ينبغي أن يعنى الفرد بالضعيف من أعضائه، والواهن من أخلاقه، وتعنى الأمة بالضعيف من فئاتها، والمختل من أحوالها. فمن خدعته القوة عن الضعف، وأنسته الصحة المرض، زاد على الأيام وهنا ومرضا، حتى يكون حرضا أو يكون من الهالكين.
Página desconocida