ثم انتهى إلى قرار قائلا لنفسه: بئس هذا الأمر! إن هذين الطفلين يجب أن يمارسا الحياة في هذا العالم، يجب أن يتمرسا بها، يجب أن يتعلما العطاء ويتحملا ما تأتي به الأيام، وإني لأقسم بربي إن الناس لا يعطون، بل يأخذون، ويأخذون دائما في هذا العالم الملعون.
وانفطر قلبه صائحا وهو يلقي الشجرة بكل قوته: يا له من عالم ملعون فاسد قذر!
ورأت فرانسي الشجرة تندفع من بين يديه، ومرت لحظة من تلك اللحظات التي يغيب فيها شعور الإنسان بالزمان والمكان، وتوقف العالم كله ساكنا لا يتحرك، حينما انطلق شيء قاتم بشع في الفضاء، واندفعت الشجرة نحو فرانسي ماحية من ذاكرتها كل إحساس بالحياة التي عاشتها، ولم تر شيئا، أجل لم تر شيئا إلا ظلاما مطبقا وكتلة تكبر وهي تنطلق نحوها، وترنحت فرانسي حين ارتطمت بها الشجرة، وخر نيلي على ركبتيه، ولكنها جذبته بعنف بالغ قبل أن يسقط على الأرض، وسمع صوت خفيف شديد حين استقرت الشجرة.
وأحست فرانسي أن كل شيء غدا قاتما أخضر يكتنفه الشوك، ثم شعرت بألم حاد في جانب رأسها، حيث ارتطمت بها ساق الشجرة، وأحست بنيلي وهو يرتعد.
وحين جر بعض الصبية الكبار الشجرة بعيدا، وجدوا فرانسي وأخاها واقفين، ويد كل منهما في يد الآخر، وكان الدم ينبعث من خدوش في وجه نيلي، فبدا أقرب إلى الطفولة مما كان بعينيه الزرقاوين الحائرتين وبشرته الشقراء، التي بدت للعين أكثر جلاء بالقياس إلى الدم الأحمر الصافي، ولكنهما كانا يبتسمان! ولم لا؟ ألم يفوزا بأكبر شجرة في الحي؟ وصاح بعض الصبية مهللين «مرحى! مرحى!» وصفق قليل من البالغين، ومدحهما بائع الشجرة صائحا: والآن ابتعدا عن الشر، واذهبا من هنا بشجرتكما أيها القذران!
وكانت فرانسي قد سمعت ألفاظ الوعيد والسباب منذ وعت الكلام، ولم يكن للبذاءة وفحش القول مدلولهما المألوف بين هؤلاء الناس، وإنما كانت تعبيرات انفعالية ينطق بها الأميون الذين لا يعرفون إلا كلمات قليلة ويستخدمونها كأنها لهجة من اللهجات، كانت العبارات تدل على معان كثيرة تتوقف على طريقة التعبير عنها ونغمة الحديث بها؛ ولهذا فإن فرانسي ابتسمت ابتسامة عريضة للرجل الطيب حين سمعته يرميهما بالقذرين، فقد أدركت أنه يعني حقا: مع السلامة، رعاكما الله.
ولم يكن جر الشجرة بالأمر اليسير، فقد اقتضاهما ذلك أن يشداها شبرا شبرا إلى البيت، واعترض طريقهما صبي، وجرى بجوارهما وهو يصرخ: الركوب مجانا! الجميع يركبون!
وراح يقفز على الشجرة ويجعلهما يجرانه معها، ولكنه مل اللعبة آخر الأمر وتركهما وانصرف.
وكان من الخير لهما على نحو ما أن ينفقا هذا الوقت الطويل في جر الشجرة إلى البيت، فقد ساعدهما ذلك على أن يتذوقا لذة النصر، وأشرق وجه فرانسي حين سمعت امرأة تقول: لم أر قط شجرة كبيرة كهذه!
ونادى من خلفهما رجل قائلا: أيها الطفلان! لا بد أنكما سرقتما خزانة مال لتشتريا مثل هذه الشجرة الكبيرة!
Página desconocida