وخنقها البكاء فأمسكت عن الكلام مرغمة، ولما استردت أنفاسها استطردت تقول: هل تتصور يا أبي أن كامل يستطيع أن يعيش بعيدا عن أمه؟! إن يدي هاتين تطعمانه وتلبسانه وتنيمانه، إنه يخاف خياله، وإنه لتفزعه زفرات الصراصير، فكيف يأذن الشرع بأن ينتزع مثل هذا الطفل من أحضان أمه؟!
وقطب جدي متبرما، وبدا وكأنه ضاق بشكواها، بيد أن وجهه لم يكن مرآة صادقة لقلبه، وكثيرا ما كان يبدو ساخطا والقلب منه ندي بالرحمة، ولم يزد وقتذاك على أن قال: كفاك شكوى وبكاء، إن قسم له أن يمكث بيننا مكث، وإن أراد الله أن يذهب إلى أبيه فلا راد لقضائه!
ذاك كان قوله، أما صنيعه فكان شيئا آخر؛ فقد حزم أمره يوما ومضى إلى أبي ليفاوضه في شأن استبقائي في كفالته، والحق أن جدي كان يحبني حبا بالغا .. أحبني لأني كنت أنيس شيخوخته، والطفولة تحرك في الشيخوخة أعماق الصدور، وأحبني لحبه أمي التي لبثت إلى جانبه بعد وفاة جدتي ترعاه بحنانها وعطفها وحبها. ذهب الشيخ إلى أبي وانتظرنا وأيدينا على قلوبنا. ومر وقت الانتظار على أمي في عذاب لا يمكن أن أنساه مهما امتد بي العمر. لم يكن ليقر لها قرار أو يسكن لها جانب، وجعلت تخاطبني حينا وتخاطب نفسها أحيانا، ودعتني مرات إلى مشاركتها في الابتهال إلى الله أن يكلل مسعى جدي بالنجاح. ومضيت أرقبها بعينين محزونتين حتى انتقلت عدوى قلقها إلى صدري، فاستعبرت باكيا. انتظرنا طويلا - أو هكذا خيل إلينا - يشملنا حزن وقلق، تسبح أعيننا دمعا، وتلهج ألسنتنا بالدعاء، حتى سمعنا جرس حنطور فهرعنا إلى الشرفة، فرأينا جدي وهو يقطع فناء البيت بخطاه الثقال .. وعدنا إلى الباب ففتحناه، ودخل جدي صامتا وهو يحدجنا بنظرة لم ندرك لها معنى.
ومضى إلى حجرته فتبعناه وقد خانت أمي الشجاعة أن تسأله عما وراءه، وراحت تهمس بصوت متهدج: يا ربي .. يا ربي! وخلع طربوشه بأناة وهو يتحامى عيني أمي، ثم جلس على مقعد كبير قريب من فراشه، ثم ألقى علينا نظرة طويلة وقال بصوته الأجش وكأنما يخاطب نفسه: رجل مجرم! .. ماذا كنت تنتظرين من رجل مجرم؟!
وابيض وجه أمي وارتعشت شفتاها، ولاح في عينيها القنوط، وجعلت أردد بصري بين جدي وأمي في قلق وخوف. وتركنا جدي لشقائنا هنيهة، ثم رثى لنا فرفع عن وجهه نقاب التجهم، وقهقه ضاحكا، وقال بصوت ينم عن الظفر: لا تقتلي نفسك كمدا يا أم راضية؛ فقد أذعن الشيطان بغير تعب طويل.
بهتنا بادئ الأمر، ثم تهللت وجوهنا بشرا، وتلألأ نور الفرح في عيني أمي، ثم جثت على ركبتيها أمام جدي وأشبعت يده تقبيلا وهي تقول بلهفة: حقا؟ .. حقا؟ .. هل رحم الله قلبي الكسير؟
وأخذ جدي يفتل شاربه في ارتياح، بينما عادت أمي تسأله بنفس اللهفة: أرأيت راضية ومدحت؟
فهز رأسه آسفا وقال: كانا في المدرسة!
فدعت لهما دعاء حارا وعيناها تغرورقان. ولم يكن جدي يزورهما لكراهيته لأبي، ولأنه لم يكن ينتظر استقبالا كريما في بيته. ثم قص جدي كيف قابل أبي في الفراندا وبين يديه زجاجة خمر وكأس مترعة، وكيف تلقاه بدهشة واستغراب، وكيف أنه لم يعد له من عمل في الحياة إلا الشراب، ولعل اضمحلاله ذاك الذي جعله ينقاد لاقتراحه متنازلا عن عناده القديم.
وقد بدا أول الأمر وكأنه يرتاب فيما يلقى على سمعه، فلما أن تبينه ضحك في سخرية وازدراء من غير ما معاندة أو غضب، وقال ببساطة: لا دماغ لي للتربية، ولأكون مرضعة من جديد. خله عندك إذا شئت، ولكن لا تطالبني بمليم واحد، هذا شرط صريح، وإذا طولبت بمليم واحد فيما يستقبل من الأيام انتزعته منكم، فلا تقع عليه أعينكم ما حييت.
Página desconocida